الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البدل
هذا هو النوع الرابع من أنواع التابع، وهو "البدل" وأخذ أولاً في تعريفه بالحد فقال:
التابع المقصود بالحكم بلا
…
واسطةٍ هو المسمى بدلا
فقوله: "التابع" هو الجنس الأقرب، وقوله:"المقصود بالحكم" يعني أنه الذي قصد بالإخبار عنه في الحقيقة دون متبوعه.
فإذا قلت: قام زيد أخوك، فـ (أخوك) هو المقصود بالحكم عليه، والإخبار عنه بالقيام، ومعنى كونه المقصود بالحكم أن البدل يقصد لمعنيين:
أحدهما: أن يريد المتكلم ذكر المقصود بالحكم بخصوصه، فيأتي أولاً بما يعمه وغيره، ثم يأتي بالمخصوص قصدًا للتأكيد، كقولك: رأيت قومك ناسًا منهم.
والثاني: أن يريد الإبهام على المخاطب، ثم يبدو له أن يبين، أو يتوهم أن المخاطب عالم بما يريد، ثم يشك في علمه، فيأتي بالاسم الآخر / على جهة البيان.
ويلحق بذلك معنى ثالث، وهو أن يذكر المقصود بالحكم، ثم يبدو له، فيضرب عنه إلى غيره. لكونه غالطا أو ناسيا أو لمعنى آخر.
وعلى كل تقدير فالبدل هو المقصود بالحكم، وما قبله في حكم الملغى وإن لم يكن كذلك.
ثم كونه مقصودا بالحكم يشمل وجهين:
أحدهما: كونه محكومًا عليه وهو الخبر عنه، كما في المثال المتقدم، فالمخبر عنه يقال فيه: إنه مقصود بالحكم.
والثاني: كونه محكومًا به، فإنك تقول: هذا زيد أخوك فـ (أخوك) مقصود بالحكم به إذًا، والمحكوم عليه (هذا) و (أخوك) مقصود أيضا بالحكم، أي بكونه محكوما به، ولابد من تحميله المعنيين معا، وإلا كان قاصرا عن الغرض المقصود.
وتحرز بهذا القيد من "النعت" و"التوكيد" و"عطف البيان" فإن كل واحد منها ليس هو المقصود بالحكم، وإنما وضعه لبيان الأول أو لمعنًى يصلح له، والأول هو المقصود بالحكم لا الثاني.
وكذلك يخرج له بهذا القيد المعطوف بالواو والفاء ونحوهما، لأن قوله:"التابع المقصود بالحكم" هكذا معرفا باللام - مؤذن عند طائفة بالحصر، فإذا قلت: العالم زيد، فمعناه أنه مختص بالعلم، والمقصور عليه العلم، فكذلك هذا يكون معناه أن المختص بقصد الحكم هو المسمى بدلا، فعلى هذا كل تابعٍ ليس بمختص بأنه مقصود بالحكم خارج بهذا القيد عن كونه بدلا، فيخرج المعطوف بالحروف المشركة في المعنى، لأن كل واحد من التابع والمتبوع فيها مقصود بالحكم، لم يختص به التابع دون المتبوع، وهذا ظاهر جدا.
وقوله: "بلا واسطةٍ" تحرز من المعطوف بـ (بل، ولكن) ونحوهما، فإن المعطوف بها هو المقصود بالحكم دون الأول.
فإذا قلت: قام زيد بل عمرو، فـ (عمرو) وهو المقصود بالحكم دون (زيد) وكذلك قولك: ما قام زيد لكن عمرو، لأن (لكن) أوجبت لما بعدها ما تحقق بطلانه
لما قبلها، وكذلك (أم) المنقطعة والإضرابية، وكذلك (أو) إذا كان مبتدأ كلامك معها على اليقين، ثم داخلك الشك نحو: قام زيد، أو عمرو، فالشك كالإبطال لليقين الأول.
فكل واحد من هذه الحروف قد صير الثاني هو المقصود بالحكم، وهو الواسطة، فلو لم يقل "بلا واسطة" لدخل عليه ذلك كله.
ولأجل هذا المعنى فيها جعل سيبويه العطف بها من باب البدل، وبوب عليها وعلى باب "بدل الإضراب" بابًا واحدًا لاجتماعهما في معنى الإضراب. فلما كان رسمه البدل يشمل هذا كله احترز منه بقوله:"بلا واسطة".
وقوله: "هو المسمى بدلا" يعني المسمى في الاصطلاح الأشهر للنحويين في هذا، إشارًة إلى تسمية سيبويه المعطوف بـ (بل، ولكن، وأو) بدلاً ليس باصطلاحٍ نحوى اشتهر، وإنما هو اعتبار معنوي حين اتفق مع (بدل الإضراب) في المعنى.
قال سيبويه: لما ذكر بدل الغلط والنسيان والإضراب: قولك: مررت برجلٍ حمارٍ، ومثل / ذلك قولك: لا بل حمارٍ، ومن ذلك: مررت برجلٍ بل حمارٍ، وهو على تفسير: مررت برجلٍ حمارٍ.
قال: ومن ذلك: ما مرت برجلٍ بل حمارٍ، وما مررت برجلٍ ولكن حمارٍ، أبدلت الآخر من الأول، وجعلته مكانه.
ثم قال: ومن البدل أيضا قولك: مررت برجلٍ أو امرأةٍ، وإنما ابتدأ بيقين، ثم جعل مكانه شكًا أبدله منه، فصار الأول والآخر الإدعاء فيهما سواء.
قال: فهذا شبيه بقوله: ما مررت بزيدٍ ولكن عمروٍ، ابتدأ بنفيه، ثم جعل مكانه يقينًا، فهذا كله - من سيبويه تفسير معنوي لا تقرير اصطلاحي، فلهذا حقق الناظم في تقرير البدل اصطلاحًا ما حقق.
و"التابع" مبتدأ أو "المقصود بالحكم" صفة له و"بلا واسطةٍ" في موضع الحال من ضمير "المقصود" وخبر المبتدأ قوله: "هو المسمى بدلا".
مطابقًا أو بعضًا أو ما يشتمل
…
عليه يلفى أو كمعطوفٍ ببل
(مطابقا) مفعول ثان لـ (يلفى) أي يوجد البدل أربعة أقسامٍ ترجع إلى خمسة:
أحدها "المطابق" يريد: موافقًا للأول، ومساويًا له في معناه، وهذا هو "بدل الكل من الكل" ويسمى أيضا: بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة، وذلك نحو: قام زيد أخوك، ورأيت عمرًا أباك، إذا كان (زيد) هو الأخ و (عمرو) هو الأب.
ومنه في القرآن الكريم: } اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم {وقال: } إن للمتقين مفازًا حدائق وأعنابً {. وقال: } وإنك لتهدي إلى
صراطٍ مستقيمٍ صراط الله الذي له ما في السماوت وما في الأرض {. وقال} لنسفعًا بالناصية ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ {.
ومنه في الشعر قول كثير، أنشده سيبويه:
وكنت كذى رجلين رجلٍ صحيحةٍ
…
ورجلٍ رمى فيها الزمان فشلت
وهو كثير.
والثاني "البعض" يريد بعض الأول، ويسمى "بدل البعض من الكل" وذلك نحو: رأيت قومك أكثرهم، وصرفت وجوهها أولها.
ومنه في الكتاب العزيز: } ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {فـ"من استطاع" خصوص من "الناس" لأن منهم المستطيع وغير المستطيع.
ومنه قوله تعالى: } قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم {.
وأنشد سيبويه:
وكأنه لهق السراة كأنه
…
ما حاجبيه معين بسواد
فـ (حاجبيه) بدل من هاء (كأنه) وهو كثير أيضا.
والثالث "ما يشتمل عليه" يعني ما يشتمل الأول المتبوع عليه، أو ما يشتمل هو على الأول، وهذا هو المسمى "بدل الاشتمال" أي لا يكون هو الأول، ولا بعضًا منه، نحو قولك: أعجبني زيد حسنه، وانتفعت بزيدٍ علمه.
ومنه قوله تعالى: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. وأنشد سيبويه:
وذكرت تقتد برد مائها
…
وعتك البول على أنسائها
وأنشد لعبدة بن الطبيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ
…
ولكنه بنيان قومٍ تهدما
وأنشد أيضاً لعدى بن زيد:
ذريني إن أمرك لن يطاعا
…
وما ألفيتني حلمي مضاعا
/ وأتى بعبارة "بدل الاشتمال" محتملةً لمذهبين، إذ الناس مختلفون في معنى "بدل الاشتمال".
فمنهم من قال: إن الأول هو المشتمل على الثاني، ومعنى كونه مشتملاً عليه أنه يصح العبارة بلفظه عنه، والاستغناء عن البدل وأنت تعنيه.
فإذا قلت: أعجبني زيد حسنه فـ (زيد) مشتمل على (الحس) بمعنى أنه يصح أن تقول: أعجبني زيد، مكتفيًا به عن ذكر (الحسن) وأنت تعينه، وعلى هذا تقول:
أعجبني زيد علمه، ونفعني زيد علمه أو كرمه، وساءني زيد فقره، وكرهت المنزل ضيقه.
ومنه الآية: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {.
وهذا المذهب يحتمله كلام الناظم، على أن يكون الضمير في (يشتمل) عائدًا على المبدل منه، وفي (عليه) على "ما" وهي عبارة عن بدل الاشتمال، كأنه قال: أو ما يشتمل عليه.
وعلى هذا المعنى لا يقال: أعجبني زيد عبده، لأنه لا يقال: أعجبني زيد، وأنت تعني عبده، وكذلك لا يقال: سلب زيد عبده، ويجوز أن يقال: سلب زيد ثوبه، وعلى هذا النمط قس ما يرد عليك. قالوا: وهذا المذهب يظهر من الفارسي في "الأيضاح" وهو مذهب السيرافي.
ومنهم من قال: إن الثاني مشتمل على الأول، ويقوى ذلك في بعض المثل: سرق زيد ثوبه، فـ (الثوب) هو المشتمل على (زيد) لا على العكس.
وهذا المذهب أيضًا يحتمله كلام الناظم على أن يكون الضمير في "يشتمل" هو العائد على "ما" وفي "عليه" عائدًا على المبدل منه.
ولم يرتضه في "التسهيل" لأن نحو: أعجبني زيد كلامه وفصاحته، وكرهت عمرًا ضجره، وساءني خالد سوء خلقه، ونحو ذلك - ليس الثاني فيه مشتملاً على الأول، فالظاهر الأول.
وثم مذهب ثالث، أن العامل هو المشتمل على البدل، بمعنى أن معنى العامل متعلق به، وإن تعلق في اللفظ بغيره، نحو أعجبتني الجارية حسنها، فالإعجاب متعلق بالجارية، وهو في المعنى متعلق بالحسن، ولأجل ذلك قالوا: أعجبني الجارية حسنها، بغير علامةٍ في الأكثر، وهو أقرب من الذي قبله، إلا أن بدل البعض بهذا المعنى داخل فيه، لأن المعنى معلق بالبدل لا بالمبدل منه، فيلزم أن يسمى بدل البعض بدل اشتمال.
وارتضى هذا المذهب ابن أبي الربيع، وسلم أن بدل البعض والاشتمال في الحقيقة، سواء، إلا أن بدل البعض خص بهذه التسمية، وأبقوا التسمية على الآخر، ولا يحتمل كلام الناظم هذا المذهب.
والنوع الرابع من أنواع البدل: الذي يشبه المعطوف بـ (بل) يريد أنه يشبهه من جهة المعنى، ويصح فيه وقوع (بل) فيكون معطوفا بها، ويخرج عن باب البدل إلى باب العطف.
وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البدل غير المبدل منه، لأن المعطوف بـ (بل) كذلك، إلا أن هذا النوع على قسمين حسبما ذكر في قوله على إثر ذلك:
/ وذا للإضراب أعز إن قصدًا صحب
…
ودون قصدٍ غلط به سلب
"هذا" إشارة إلى أقرب مذكور، وهو الشبيه بالمعطوف بـ (بل) والعزو: النسبة، عزوته إلى الشيء أعزوه عزوًا، وعزيته أعزيه عزيًا، إذا نسبته إليه.
فيعني أن هذا النوع إما أن يصحب ذكره قصد الذكر مع المبدل منه، بحيث يكون المبدل منه مقصود الذكر أولاً، ثم يبدل منه، أولا يصحب ذلك.
فإن صحب ذلك القصد فهو البدل المعزو للإضراب، أي المسمى بدل "الإضراب" وقد يسمى أيضا "بدل بداء".
وأضرب الناظم عن هذه العبارة لإبهامها في التسمية إذا أضيف البدل إلى كلام من لا يليق به البداء.
وهذا البدل يقع في الكلام الفصيح، ومنه في الحديث: "إن الرجل
ليصلي الصلاة، وما كتب لها منها نصفها ثلثها ربعها، إلى العشر" والأظهر في قوله:(تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره) أن يكون من هذا، وكذلك قول عمر رضي الله عنه: صلى رجل في إزارٍ ورداءٍ، في إزارٍ وقميصٍ، في إزارٍ وقباءٍ.
وإن لم يصحب القصد، فإن تبعيته للمبدل منه إنما هي ليسلب بها الغلط العارض للمتكلم، ويسمى "بدل الغلط" بمعنى أن المتكلم ينسب الحكم إلى غير من هوله، ثم يتنبه، فيضرب عما ذكر، ويأتي بمن هوله كقولك: رأيت رجلاً حمارًا، إذا كنت قد رأيت الحمار، ثم أردت أن تخبر عنه، فغلطت، فأخبرت عن الرجل، ثم استدركت إزالة الغلط بذكر الحمار.
وقالوا: إن هذا الضرب لا يقع في كلامٍ فصيح، ولا هو أصل كلام، وإنما يقع في سبق اللسان، والأولى فيه أن يؤتى بـ (بل) ثم (أتى) بأربعة أمثلة لأربعة أنواع وهي في قوله:
كزره خالدًا وقبله اليدا
…
واعرفه حقه وخذ نبلاً مدى
فـ (زره خالدًا) لبدل الكل من الكل، وهو من إبدال الظاهر المعرفة من الضمير الغائب، و (قبله اليدا) لبدل البعض، وبدل البعض لابد فيه من ضميرٍ عائد على المبدل منه، كما قال في:"اعرفه حقه" في بدل الاشتمال، فتقول: قبلت زيدًا يده، وقبلت زيدًا اليد منه، وقبلت زيدًا يدًا له أو منه.
إلا أنه قد يجوز حذف المجرور، فيبقي البدل مقدرا معه الضمير، كما يجوز ذلك في خبر المبتدأ، وفي باب الصفة المشبهة نحو: } فإن الجنة هي المأوي {يريد: له، وقوله: } جنات عدنٍ مفتحةً لهم الأبواب {يريد: منها
(واعرفه حقه) لبدل الاشتمال، لأن خالدا مشتمل على الحق.
و"خذ نبلاً مدى" لبدل الإضراب إن فرضت البدل قد صحب القصد، أو لبدل الغلط إن فرضت عدم القصد، فالقسمان يفترقان بالقصد وعدمه، كما نص / عليه.
والمدى: جمع مدية وهي الشفرة، هذا تمام الكلام على الإبدال.
وبقي النظر فيها في مواضع:
أحدها: أن الناس شرطوا في صحة (بدل الاشتمال) شرطين:
أحدهما: أن يكون الفعل عند إسناده إلى الأول يستدعى الثاني ويكاد يعطيه، فالكلام قد ظهر منه عدم الاكتفاء بالأول، وسبقية التشوف إلى الثاني، وإليه أشار الشلوبين بقوله: إن من شرط بدل الاشتمال أن يكون الثاني مفهومًا من الأول.
ومنه قول الله تعالى: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. فمعلوم أن السؤال لم يتوجه إلى الشهر الحرام من حيث هو شهر؛ بل إلى أمرٍ واقع فيه، وكذلك سائر المثل.
فإذا قلت: (أعجبني الجارية حسنها) جاز، ونحو ذلك.
والثاني: أن يكون الفعل يصح إسناده إلى الأول مقتصرًا عليه مع إرادة الثاني، فإن لم يصح إسناده إلى الأول مسكوتًا عن الثاني، وإن قصد المجاز، فيمتنع البدل فلا تقول: أسرجت القوم دابتهم؛ إذ لا يصح فيه إسناد الفعل إلى الأول مقتصرا عليه وإن كان الثاني مفهوما من الأول، وأن الفعل يشير إلى الثاني ويفهمه، لأنك لا تقول: أسرجت القوم، وأنت تريد: أسرجت دابتهم، بخلاف قولك: سرق عبد الله ثوبه، أو نفعني زيد علمه، فإن البدل فيه سائغ، لجواز قولك: سرق عبد الله ونفعني زيد.
فهذان شرطان في (بدل الاشتمال) لابد منهما، وقد يستغني عن الشرط الأول بالثاني لأنه لا يستغنى بالمبدل منه عن المبدل إلا وهو دال عليه، وإياه شرط في "الشرح" خاصة.
وكذلك أيضا بدل البعض، لابد من جواز الاستغناء فيه بالأول مع إرادة الثاني وفهمه منه، فتقول: جدع زيد أنفه، لأنك تقول: جدع زيد، وأنت تريد: جدع أنفه، ولا تقول: قطع زيد أنفه، لأنك لا تقول: قطع زيد، وأنت تريد: قطع أنفه، كما لا تقول: قتل زيد أخوه، كما لأنك لا تقول: قتل زيد، وأنت تريد: قتل أخوه وكل هذا لم يذكره الناظم.
وقد منع النحويون أن يقال: مررت بأربعة رجالٍ صريعٍ وجريحٍ، أو مررت بأربعةٍ رجلٍ وامرأةٍ على البدل، بل يجب القطع، ويمتنع الإتباع على (بدل البعض) قالوا: لأنه لا يصح إطلاق الأربعة والمراد اثنان، فيجب القطع على قصعد التبعيض.
وكذلك إذا قلت: رأيت رجالاً زيدًا وعمرًا، لا يجوز الإتباع؛ بل يجب
القطع، فتقول: رأيت رجالاً زيد وعمرو، وإن جاء خلاف ذلك فشاذ نحو ما قال النابغة:
توهمت آياتٍ لها فعرفتها
…
لستة أعوامٍ وذا العام سابع
رماد ككحل العين لأيا أبينه
…
ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع
يروى برفع "رماد، ونؤى" ونصبهما.
وقد أجاز ابن خروف الإتباع في المسألة على بدل / البعض، ولم يذكر سيبويه إلا القطع. ووجه المنع، على ما تقدم، ظاهر.
فالحاصل أن الناظم قصر في هذا الفصل، ثم ختمه بمثال يقتضى خلاف ذلك، وهو قوله:"اعرفه حقه" إذ يشكل أن يقال: عرفت زيدًا، إذا عرفت حقه، لصحة تسلط العرفان على نفس زيدٍ، وأن لا يراد الثاني.
والثاني: من مواضع النظر أن إطلاقه يقتضي أن "بدل الغلط" صحيح كثير؛ إذ لم يقيده بقلة؛ بل أردفه في الإطلاق بـ (بدل الإضراب)
فإن فهم من إطلاقه في الإضراب الشياع والكثرة، فليفهم له مثل ذلك في بدل الغلط، وإذ ذاك يكون مخالفًا لما نص عليه غيره.
والثالث: أنه ترك من أقسام النوع الرابع قسمًا ثالثا، وهو "بدل النسيان" فقد ذكره الناس، وفرقوا بينه وبين الغلط، فإن النسيان مختص بالقلب، والغلط مختص باللسان.
فإذا قلت: رأيت رجلاً حمارًا، فقد يكون مرادك ذكر الحمار قصدًا، ولكن اللسان غلط، فنطق بزيد، فأبذدل منه الحمار، وقد يكون مرادك ذكر زيدٍ اعتقادًا أنه المرئي، ولم يكن هو المرئي في الحقيقة؛ بل الحمار، ثم لما ذكرت زيدًا تذكرت أن المرئي كان الحمار، فأبدلته منه، وهذا فرق واضح.
وقد ذكر سيبويه الغلط والنسيان فقال وإنما يجوز: رأيت زيدًا أباه، ورأيت زيدًا عمرًا، أن يكون أراد أن يقول: رأيت عمرًا، أو رأيت أبا زيدٍ، فغلط أو نسى.
ثم استدرك كلامه بعد، فأتى بـ (أو) في قوله:"فغلط أو نسى" فجعلهما قسمين. ثم أنه في "التسهيل" لم يذكر بدل النسيان كذلك.
والجواب عن الأول أن يقال: لعله لا يقول باشتراط ذلك الشرط ولاسيما ومثالاه في بدل البعض والاشتمال لا يظهر منهما ذلك، وقد تبين في "اعرفه حقه".
وكذلك قوله: (قبله اليد) إذ لا يقال: قبلت المرأة، إذا قبلت يدها، كما لا يقال: قطع زيد، إذا قطع أنفه، إلى غير ذلك من الأمثلة، فكأنه لم ير اشتراط ذلك الشرط ويكون مستنده في ذلك ما ذهب إليه ابن خروف: مررت
بأربعة صريعٍ وجريحٍ، من إجازة البدل وإن كان الأول لا يطلق فيه ويراد الثاني.
وهذا الجواب مشكل فانظر فيه.
وعن الثاني أن سيبويه ذكر بدل الغلط والنسيان، ولم يقلله ولا استقبحه بل أطلق القول فيه كسائر أقسام البدل.
وقال في أبواب الصفات: والمبدل يشرك المبدل منه في الجر، وذلك قولك مررت برجلٍ حمارٍ، فهو على وجهٍ محال، وعلى وجه حسن.
فأما المحال فأن تعنى أن الرجل حمار، وأما الذي يحسن: فهو أن تقول: مررت برجلٍ، ثم تبدل الحمار مكان الرجل فتقول: حمارٍ، إما أن تكون غلطت أو نسيت فاستدركت، وإما أن يبدو لك أن تضرب عن مرورك بالرجل، وتجعل مكانه مرورك بالحمار بعد ما كنت أردت غير ذلك.
فانظر كيف جعل ذلك حسنًا، خلاف ما يقوله غيره من هؤلاء المتأخرين، غير أنه كما قال السيرافي: لا يقع / في شعر ولا كلامٍ معمولٍ محكك؛ بل يجيء على سبق اللسان إلى ما لا يريده، فيلغيه ويلفظ بما يريد. وما قال لا يدل على أنه ضعيف.
وقال الفارسي: حق هذا أن يستعمل فيه (بل) وهذا أيضًا لا يدل على ضعفه.
وعن الثالث: أن (بدل النسيان) قد يدخل تحت (بدل الغلط) لتقاربهما من جهة المعنى، أو يقال في ذلك ما رأيت في بعض التقاييد،
من أن الغلط لما كان معناه سبقية النطق بما لم يرد، ثم يتذكر فينطق بما أراد.
قال: ويتصور وجود ذلك في حالة واحدة، ولذلك ذكره النحويون، ولم يذكروا النسيان، فإن معناه أن يكون أراد أبا زيدٍ مثلا، فنسى ونطق بزيدٍ، ثم استبان له مراده، فنطق بالأب.
قال بعض الشيوخ: ويلزم على هذا وقوع النسيان والتذكر في زمن فرد، وهذا لا يتصور، فلهذا عدل النحويون عنه للغلط، ثم نزل إثبات من أثبته على أن يكون أراد أن يخبر برؤية الأب قبل قوله: رأيت، ثم نسى قبل إخباره بذلك، فأخبر برؤية زيد، ثم تذكر عند ذلك، فذكر من أراد، فيكون النسيان واقعا في غير زمان التذكر، وهو متصور.
فقد ظهر من هذا أن النحويين، يعني كثيرا منهم، تحاموا ذكر بدل النسيان لما فيه من الإشكال، فيكون ابن مالك ترك ذكره لمثل ذلك، فلا اعتراض عليه، والله أعلم.
واعلم أن (بدل الغلط) وإن قيل بجوازه، فإن الأولى عنده أن يؤتى بـ (بل) وقد نص كثير من النحويين على أنه لم يسمع، وإنما تكلم عليه سيبويه وغيره على جهة القياس، حتى قال الماردي: وقد عنيت بطلب هذا البدل في الكلام والشعر فما وجدته، ولقد طالبت به غيري فما عرفه، إلا أن بعض أصحابنا قال لي: هو في شعر ذي الرمة حيث يقول:
لمياء في شفتيها حوة لعس
…
وفي اللثات وفي أنيابها شنب
فـ (الحوة) مبتدأ (ولعس) بدل غلط منه، لأن الحوة غير اللعس، والحوة: السواد بعينه، واللعس: سواد مشرب بحمرة.
قال: وليس البيت على ما ذكر، وإنما اللعس: مصدر وصفت به الحوة، تقديره: حوة لعساء، كقولك: حكم عدل، وقول فضل، قال: فهذا أولى. هذا ما قال، وقد قيل: إن الحوة واللعس بمعنى واحد، وذلك
حمرة إلى السواد، فلا دليل فيه.
والظاهر أن هذا النوع، كما قالوا، قياس غير مسموع، لكن هذا ما يظهر من كلام الناظم.
ومن ضمير الحاضر الظاهر لا
…
تبدله إلا ما إحاطةً جلا
أواقتضى بعضًا أو اشتمالا
…
كأنك ابتهاجك استمالا
هذه مسألة أشار فيها إلى أوجهٍ من البدل تتصور فيها، وأفاد ذلك بذكر وجه واحد من أوجهها، وسكت أيضا عن التقييد بقيد، فأفاد أوجهًا أخر في البدل، وذلك أنه لم يذكر / في هذا الباب للتبعية قيدًا بالنسبة إلى تعريف أو تنكير، كما فعل بالنعت؛ بل أطلق القول كما في العطف، فدل على أنه لا يشترط التوافق فيما بينهما، فيتصور إذًا في كل نوع من الأنواع أربعة أوجه.
أما في (بدل الكل من الكل) فيبدل المعرفة من المعرفة نحو: جاءني زيد أخوك ومنه في القرآن العزيز: } إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم {، وقوله: } بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله {، على قراءة الخفض، وهي لغير نافع وابن عامر.
ويبدل النكرة ن من النكرة حو: جاءني رجل صاحب لك، وفي القرآن الكريم: } يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ {، على أحد الاحتمالين، وقال كثير:
وكنت كذى رجلين رجلٍ صحيحةٍ
…
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
أنشده سيبويه، وأنشد أيضا للعجاج:
خوى على مستوياتٍ خمس
…
كركرةٍ وثفناتٍ ملس
ويبدل النكرة من المعرفة كقولك: جاءني زيد أخ لك.
ومنه في القرآن: } لنسفعًا بالناصية، ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ {.
ونقل المؤلف عن الكوفيين أنهم يشترطون في هذا الوجه وحده اتحاد اللفظين كما في الآية.
قال المؤلف: والعرب لا تلتزم هذا، ثم أنشد الاحتجاج عليهم بيت حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة
…
إذا طلبا أن يدركا ما يتمما
وأنشد بيتًا آخر لم أقيده، وسكوته في هذا النظم عن هذا القيد دليل على مخالفته للكوفيين، وأما في (بدل البعض) فكذلك أيضا، فالمعرفة من مثلها نحو: أكلت الرغيف ثلثله، وضده: أكلت رغيفًا ثلثًا منه، والمعرفة من النكرة: أكلت رغيفًا ثلثه، وعكسه: أكلت الرغيف ثلثًا منه.
ومن الأول: قوله تعالى: } ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {.
وقوله: } قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم {. الآية.
وأما في (بدل الاشتمال) فكذلك، نحو: نفعني زيد علمه، ومنه ما أنشده سيبويه:
* وذكرت تقتد برد مائها *
وأنشد أيضا:
فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ
…
ولكنه بنيان قومٍ تهدما
وأعجبني جارية حسن منها، ومنه قول الأعشى:
لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويته
…
تقضى لبانات ويسأم سائم
وأعجبني الجارية حسن منها، ومنه قوله تعالى: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. وأعجبني جارية حسنها، ومن ذلك كثير.
وأما (بدل الإضراب والغلط) فلم يعتن الناظم بالتفريع عليه، وكذلك غيره، وإلا فالصور فيه ممكنة، فتركت التفريغ فيهما لذلك. وهذا - والله اعلم - مشعر بكونهما عنده ليسا في رتبة ما تقدم، وإن كانا جائزين على الجملة، فهذا مأفاده ترك التقييد المذكور.
وأما ما أشار إليه من الأوجه، فيتفرع بيانها على باين كلامه، وذلك أنه نص على أن الظاهر لا يبدل من ضمير الحاضر، كان الحاضر / متكلمًا أو مخاطبًا، إلا على أوجه ثلاثة:
أحدها: أن يكون البدل مفيدًا للإحاطة، وهو قوله:(إلا ما إحاطًة جلا) يريد أن يكون البدل هنا يفيد ما يفيده (توكيد الإحاطة). فإذا كان كذلك جاز البدل من ضمير المخاطب وغيره، مثال ذلك: جئنا ثلاثتنا، ومطرنا سهلنا وجبلنا، وغنيتم أولكم وآخركم، وفي القرآن} تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا {.
وإنما جاز لجريانه مجرى التوكيد في المعنى، ولذلك يطلق عليه سيبويه لفظك التوكيد، والتوكيد يجري على الضمير مطلقا، كما يجرى على الظاهر، فكذلك ما في معناه.
فلو لم يفد توكيد إحاطة فمقتضى كلامه أنه لا يجوز، فلا تقول: ضربتك زيدًا، ولا ضربت زيد عمرًا، لأن الحضور قد أغنى عن ذلك، فصار البدل كالضائع؛ إذ لو سكت عنه لم يخل بمعنى ولا لفظ.
وفي هذه المسألة خلاف، فالجمهور على ما قاله الناظم، وججتهم ما تقدم، وأيضًا فلا سماع يعتد به.
وأجازه الأخفش، وإليه مال في "التسهيل" بعض ميل، بناءً على السماع والقياس.
أما السماع: فنحو قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الشعريين". وقول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
…
حميدًا قد تذريت السناما
وقال الآخر:
بكم قريشٍ كفينا كل معضلةٍ
…
وأم نهج الهدى من كان ضليلا
وأما القياس فظاهر، فإن ضمير الغائب إذا كان البدل منه جائزا، كقول الشاعر:
على حالةٍ لوأن في القوم حاتمًا
…
على جوده لضن بالماء حاتم
وعليه حمل قوله تعالى: } وأسروا النجوى الذين ظلموا {، كان هنا جائزا وأيضا إذا كان جائزا في (بدل البعض والاشتمال) وإن كان المبدل منه ضمير حاضر، فليجز في بدل الكل، .
أنشد سيبويه:
ذريني إن أمرك لن يطاعا
…
وما ألفنيتني حلمي مضاعا
وقال الآخر:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
…
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وأيضا، فإذا كان امتناعكم من البدل هاهنا لأن ضمير الحاضر لا يدخله لبس فينبغي أن يمنع البدل من ضمير الغائب لأنه لا يدخله لبس، ولذلك لم ينعت المضمر مطلقا، ولما كان ضمير الغائب يبدل منه، مع أنه لا لبس فيه، دل على أن اللبس أو عدمه غير معتبر، وأن ضمير الغائب والحاضر في الإبدال منه سواء.
والجواب أن ما ذكر من السماع محتمل ونادر، والنوادر لا يبني عليها حكم مع إمكان تأويلها.
وأما القياس: فالفرق ظاهر، فإن ضمير الغائب قد يلتبس فيحتاج إلى البيان، والبدل يؤتى به للبيان، بخلاف ضمير الحاضر كما تقدم.
وأما القياس على النعت فغير بين، لأن نعت الضمير لم يمتنع من أجل اللبس وإنما امتنع من جهة نيابته مناب ما لا ينعت، وهو الظاهر المعاد، ألا ترى أنك إذا قلت: لقيت رجلاً / فأكرمته، فالهاء نائبة مناب
إعادة "الرجل" وأنت لو قلت: فأكرمت الرجل - لم يجز نعت "الرجل" فتقول: فأكرمت الرجل العاقل، فكذلك لا يجوز نعت ما ناب منابه.
والوجه الثاني: أن يكون البدل بعضًا، وهو قوله:(أو اقتضى بعضًا) أي: دل على بعض الأول، فهناك أيضا يجوز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر فتقول: عجبت منك من وجهك، وعجبت مني وجهى، وقد تقدم وجه الجواز.
والثالث: أن يكون بدل اشتمال، وهو قوله:"أو اقتضى اشتمالا" نحو: عجبت منك حسنك، وعجبت مني حسني، وما أشبه ذلك.
وأتى بمثال لهذا الوجه، وهو قوله:"كأنك ابتهاجك استمالا".
والابتهاج والبهجة: الفرح والسرور، والاستمالة: الإمالة في المعنى، يقال: استمالني الشيء، واستمال بقلبي، إذا أماله إليه.
ولم يذكر ذلك في بدل الإضراب والغلط كما تقدم، فلنضرب عنه صفحًا كما فعل.
وإذا تقرر هذا فلابد من النظر فيما يشير إليه.
وجملة النظر فيه يقتضي أن (ما عدا ما تقدم جائز) والأوجه المتصورة التي ينفصل عنها ما ينفصل، ويبقى ما يبقى أربعة أوجه:
إبدال ظاهرٍ من ظاهر، وإبدال مضمرٍ من مضمر، وإبدال مضمرٍ من ظاهر، وإبدال ظاهرٍ من مضمر، وذلك في كل واحد من بدل الكل، والبعض والإشتمال.
فأما (بدل الكل من الكل) فتقول في الظاهر من الظاهر: أكرمت زيدًا أخاك، وفي ضده زيد أكرمته إياه، في الغائب، وأكرمتك إياك، في المخاطب، وأكرمتني إياي، في المتكلم.
وهذه الأوجه في الضميرين جائزة على البدل عنده بمقتضى كلامه هنا، لأنه لم يتحرز من ذلك.
وكذلك في باب (التوكيد) حيث قصر التوكيد بالمضمر على ضمير الرفع، إذ قال:
ومضمر الرفع الذي قد انفصل
…
أكد به كل ضميرٍ اتصل
وقد منع ذلك في "التسهيل" وجعل ما جاء منه توكيدًا لفظيًا جريًا على مذهب الكوفيين، وكذلك بدل المضمر من الظاهر، وغيره من البصريين على ما ذهب إليه هنا، وقد تقدم في "باب التوكيد" نقل المذاهب.
والظاهر ما فهم منه هنا من مذهب البصريين، لما ثبت عن العرب أنها إذا أرادت التوكيد أتت بالضمير المرفوع المنفصل فقالت: جئت أنت، ورأيتك أنت، ومررت بك أنت، فإذا أرادت البدل وفقت بين التابع والمتبوع فتقول: جئت أنت، ورأيتك إياك، ومررت به به، فيتحد لفظ التوكيد والبدل في الرفع.
هكذا نقل سيبويه عن العرب، وتلقاه منه غيره بالقبول، وهم المؤتمنون على ما ينقلون، لأنهم شافهوا العرب، وعرفوا مقاصدها، فلا يعارض هذا بقياسٍ بأن يقال: إن نسبة المنفصل إلى المتصل في الرتبة الواحدة نسبة واحده، فكما كان في رتبة الرفع توكيدًا باتفاق، فليكن كذلك في رتبة النصب أيضا، وكذلك ينبغي في القياس في ضمير الجر إلا أنه متصل.
وتقول في بدل المضمر من الظاهر: أكرمت زيدًا / إياه، ومررت بزيدٍ بي، وجاء زيد هو، وهذا في (الغائب).
وأما (الحاضر) فمثاله في المتكلم: أكرم زيد عمرًا إياي، ومررت بزيد لي، وجاء زيد أنا.
وفي (المخاطب): أكرمت زيدًا إياك، ومررت بزيدٍ بك، وجاء زيد أنت.
والأظهر: أن مثل هذا لا تقوله العرب إلا على الغلط والنسيان، لأن السماع في ذلك معدوم والله أعلم.
وتقول في بدل الظاهر من المضمر، وهو (للغائب): زيد أكرمته أبا عبد الله، والذي مررت به أبي عبد الله زيدٍ، حكي هذا مسموعا.
وأما (الحاضر): فقد مر استثناء الناظم له، ووجه ما ذهب إليه.
وأيضا: فإن موضع (الحضور) ليس موضع الأسماء الظاهرة، وإنما يقع الاسم الظاهر على (الغائب) ولا يقع على (المتكلم) ولا (المخاطب) إلا في النداء والتحضيض نحو: يا زيد، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة، بخلاف غير (بدل الكل) من الأبدال، فإن ذلك فيها جائز، كما نص عليه، لأن مدلول الضمير الذي للمتكلم أو المخاطب ليس بالظاهر، فوقع في موقعه من مواضع الغيبة.
وأما (بدل البعض) فتقول في الظاهر من الظاهر: قطع زيد يده، وفي ضده: زيد يده قطعته إياها، وثلث الخبزة أكلتها إياه.
وفي الظاهر من المضمر: زيد قطعته يده، وزيد عجبت منه من وجهه.
ومنه قوله، أنشده سيبويه:
وكأنه لهق السراة كأنه
…
ما حاجبيه معين بسواد
فأبدل "الحاجبين" من هاء "كأنه".
وفي (المخاطب): عجبت منك وجهك، ومنه قول الله تعالى: } لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر {.
وفي (المتكلم): عجبت مني وجهي، ومن ذلك قول الراجز:
أوعدني بالسجن والأداهم
…
رجلي ورجلي شثنة المناسم
وفي المضمر من الظاهر: ثلث الخبزة أكلت الخبزة إياه، ووجه هندٍ أعجبتني هند إياه.
ولا يمثل مثل هذا إلا بتكلف، ولم يأت به سماع، وإنما قاسه النحويون.
وأما (بدل الاشتمال) فتقول في الظاهر من الظاهر: سرق زيد ثوبه، وفي ضده: حسن زينب أعجبتني هو.
وفي الظاهر من المضمر: زينب أعجبتني حسنها، وفي عكسه: حسن زينب أعجبتني زينب هو.
وهذا من قبيل (بدل البعض) في التكلف وعدم السماع وعدم تأتي الإبدال فيه وفيما قبله في ضمير الحاضر إلا بمضضٍ، إن كان.
وقد حكي الشلوبين في هذا النوع من التفريع خلافًا في بدل المضمر من الظاهر أو من المضمر، فمنهم من أجاز ذلك، وهو ظاهر إطلاق الناظم، ومنهم من منعه ووجه الجواز ظاهر على طريقة من جعل البدل على تقدير طرح الأول.
وإذا كان كذلك فقولك: ثلث الخبزة أكلت الخبزة إياه، أو أكلتها إياه - قد عاد فيه إلى المبتدأ ضمير من الخبز، وهو قولك: إياه.
فإن قيل: إن الخبر (أكلت) ولم يعد منه ضمير إلى الثلث، والبدل خارج عن ذلك - قيل: إن البدل في الحكم في موضع المبدل منه، ولذلك قال في حده: إنه التابع المقصود بالحكم، أي إن الأول غير مقصود، بل الثاني، وهو الضمير الرابط.
وقد مر التنبيه / على هذا المعنى في باب "الاشتغال" وباب "عطف البيان".
وإن قلنا: إن البدل على تقدير تكرار العامل فذلك أمر تقديري صناعي، واللفظ هو المعتبر لا التقدير، كما لم يعتبر التقدير في نحو: زيد قائم وعمرر.
وأما (بدل الإضراب) وقسيمه فقد يتأتي فيهما أوجه مما تقدم، ولكنني تركته، لأنه ترك التنبيه عليه، ولا كبير فائدةٍ في تصوير تلك الأوجه.
والهاء في "تبدله" عائد على "الظاهر" اشتغل عنه بضميره.
و"الظاهر" مفعول لفعل مضمر من باب الاشتغال.
و"من ضمير الحاضر" متعلق بـ"لا تبدله) كما في قولك: كل يومٍ زيدًا اضربه.
و"جلا" بمعنى: أظهر، تقول: جلوت الشيء، بمعنى أوضحته، وجلوت العروس جلوًة أبرزتها لزوجها، وجلأ أيضا، أي: ما أظهر معنى الإحاطة من الإبدال.
وفي هذا المثال، وهو قوله:"إنك ابتهاجك استمالا" تنبيه على مسألة حسنة، وذلك أنه أتى بالخبر الذي هو "استمال" جاريًا على "الابتهاج" وهو البدل، ولو أجراه على المبدل منه لقال: استملت، كأنه قال: إنك استملت، فكأنه اعتمد في الإخبار على البدل، وهذا جارٍ على ما مهد أولاً في البدل، من أنه المقصود بالحكم دون المبدل منه، ويظهر منه، إذا ضممنا حده للبدل، لهذا الموضع، أنه لازم، وهو على الجملة صحيح.
إلا أنه يرد عليه إشكالات، وبالنظر فيها يتبين هذا الموضع إن شاء الله.
فمن ذلك أنه لم يعتمد في "التسهيل" على لزوم هذا الحكم للبدل، بل قال هناك: والكثير كون البدل معتمدا عليه، وقد يكون في حكم الملغي.
قال في "الشرح"، ويقل الاعتماد على المبدل منه، وجعل البدل في الحكم الملغى كقول الشاعر:
وكأنه لهق السراة كأنه
…
ما حاجبيه معين بسواد
فجعل "حاجبيه" وهو بدل في حكم ما لم يذكر، فأفرد الخبر، ولو جعل الاعتماد على البدل لثنى الخبر، كما تقول: إن زيدًا يديه منبسطتان بالخبر، ولو جعلت البدل في حكم الملغى لقلت: إن زيدًا يديه منبسط بالخير، قال: ومثله قول الآخر:
إن السيوف غودها ورواحها
…
تركت هوازن مثل قرن الأعضب
فجعل الخبر للسيوف، وألغى "غدوها ورواحها" ولو لم يلغها لقال: تركا، كما تقول: الجارية خلقها وخلقها سيان.
قال: ومن الاعتماد على المبدل منه، وجعل البدل في حكم الملغى قولك: زيد رأيت أخاه عمرًا، وجاء الذي رغبت فيه عامر، انتهى كلامه.
فهذان نوعان يردان نقضًا عليه هنا:
الأول: الأخبار عن المبدل منه دون البدل، والإخبار دليل على أنه المعتمد عليه الكلام.
والآخر: عود الضمير على المبتدأ والموصول من المبدل منه دون البدل، وهو أيضا دليل على جعله عمدة الكلام.
وهذا الثاني ليس بقليل؛ بل فيه كثرة تعتبر.
وأما الأول / فإن كان المؤلف قد عده قليلا، فغيره قد جعله جائزا جوازا يقتضى الكثرة.
قال ابن خروف في بيت الكتاب: أعاد الضمير في "معين" على اسم "كأن" وترك البدل، وكلاهما جائز، فهذا كما ترى.
وأيضا فليس بمختص ببدل البعض، بل هو جارٍ في بدل الاشتمال كبدل البعض حرفًا بحرف، فتقول: هند وجهها حسن، وحسنة.
ونوع ثالث، وهو أنك إذا قلت: أعجبتني الجارية حسنها - فلك في "أعجب" وجهان، إلحاق العلامة اعتبارًا بالمبدل منه، وعدم إلحاقها اعتبارًا بالبدل، كلاهما جائز، فعلى إلحاقها يكون المبدل منه هو المعتبر، والبدل في حكم الملغى، وليس بقليل في الكلام.
فالحاصل: أن البدل على ضربين، منه ما يعتبر، ومنه ما لا يعتبر، فكيف يقول في البدل: إنه المقصود بالحكم؟
والجواب عن الأول أنه قليل بحيث لا يعتبره الناظم في مثل هذا النظم. وأيضًا، فقد أول بيت سيبويه على أنه مما أخبر فيه بالمفرد
عن المثنى، ورشح ذلك هنا تلازم الاثنين، كما أخبر عن "العينين" إخبار المفرد في قوله، أنشده النحويون:
لمن زحلوقة زل
…
بها العينان تنهل
وبابه.
وقال بعض المتأخرين: الصواب أن يخبر عن البدل لا عن المبدل منه، إذ هو في نية الطرح، وإنما المعنى على البدل، وجئ به آخرًا ليؤكد به، ويعتمد عليه.
فالوجه: أن يخبر عنه، إلا أنهم أخبروا عن الأول منبهةً على أنه ليس في نية الطرح البتة، وأنه مراعي بتلفتٍ في بعض المواطن، والكثير الخبر عن الثاني، وخرج هذا، يعني البيت، منبهةً على ما ذكر.
قال: ويدل على أن الأول ليس في نية الطرح قولهم: زيد ضربته أبا بكر، فلو كان الأول في نيه الطرح لما جازت المسألة، لخلوها من ضمير يعود من الخير، وهو جملة، إلى المبتدأ.
قال: فإن قيل: إذا كان الخبر إنما يكون عن الثاني، فإذا قلنا: أجبتني الجارية حسنها - فالصواب إسناد الفعل إلى الحسن، لأنه بدل، والأول مبدل منه.
قيل: ليس كذلك، لأن البدل في تقدير تكرار العامل، فعامل الثاني محذوف مقدر مسند إليه، مذكر، وهذا الظاهر مسند إلى الأول وهو مؤنث، فالوجه التأنيث، بخلاف الخبر الصناعي الذي الوجه فيه الإخبار عن البدل، وقد يجوز تذكير الفعل اعتبارًا بالبدل، هذا ما قال، وهو قد يكفي في الجواب عن الأول والثالث.
والذي يقال ها هنا، والله أعلم، أنه قد تقدم أن البدل يأتي على وجهين:
أحدهما: أن يكون المتكلم أراد ذكر البدل، فأتى أولاً بموطئ له، ليكون ذكره ثانيا بعد التوطئة له أولاً أوفى بالغرض.
والثاني: أن يكون ذكر المبدل منه أولاً اعتقادًا أنه كافٍ، أو إبهامًا، ثم بدا أن يبين ما لم يكن مبينا للمخاطب، وإذا كان كذلك، وكان / الثاني هو المعتمد عليه بحسب المعنيين كليهما - فذكر المبدل منه في الوجه الأول بالقصد الثاني، لا بالقصد الأول، بخلافه في الوجه الثاني، فإنه بالقصد الأول، لكن عرض ما صيره معدولاً عنه، وكالمتروك وإن كان غير متروك.
فعلى هذا التقرير ينبني النظر هنا، وعند ذلك فلا يخلو أن يتأخر الخبر أو يتقدم.
فإن تأخر كان المعتبر هو البدل، لأنه المقصود المقرر في كلا الوجهين، واستقام الجواب المتقدم.
وإن تقدم الخبر فهي مسألة: أعجبتني الجارية حسنها، فإن اعتبرت الوجه الأول كان ترك التاء هو الأولى، لأن ذكر "الجارية" فيه وقع بالقصد الثاني والمراد "الحسن".
وإن اعتبرت الوجه الثاني كان الأولى والأحق إلحاقها إذا كان المقصود أولاً ذكر "الجارية" فأسندت الفعل إليها على ما ينبغي، ثم بدا لك أن تذكر "الحسن" فلم يكن إلحاق التاء قادحًا في كون "الحسن" مقصودًا دون "الجارية".
وفي الوجه الأول: كان "الحسن هو المقصود، وإنما ذكرت "الجارية" تبعًا أو كالتبع.
ولكن لا يمتنع في الوجه الأول إلحاق التاء إعتبارًا باللفظ، ولا في الوجه الثاني إسقاطها اعتبارًا بما انصرف القصد إليه.
وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار بأن البدل في تقدير تكرار العامل، لأن ذلك غير بين، وقد تقدم له تقرير.
والعامل عند سيبويه في البدل والمبدل منه واحد من غير تقدير عاملٍ آخر، وحيث ظهر منه ذلك فتفسير معنًى لا تقدير إعراب.
وأما مسألة عود الضمير من المبدل منه دون البدل فمبنى على أصل آخر، وذلك أن البدل مع المبدل منه تابع ومتبوع، فحكمه حكم سائر التوابع، من النعت، وعطف البيان، وغيرهما، مع متبوعاتها، بل هو أشبه بالنعت وعطف البيان، ولا فرق بينهما إلا أن المقصود في النعت وعطف البيان هو الأول دون الثاني، وبالعكس في البدل، وذلك غير قادح في جريان حكم التابع عليه.
ألا ترى أنه مفرد جارٍ على مفرد، وتابع له بحسب العامل الأول، وكما أن النعت وعطف البيان، وعطف النسق، مع متبوعاتها في عود الضمير منها إلى
المبتدأ والموصول على حكمٍ واحد في الجواز، كذلك في البدل مع المبدل منه، فكما يعود الضمير من النعت وإن لم يكن هو المقصود نحو: هند ضربت رجلاً يحبها، فكذلك يعود الضمير من المبدل وإن لم يكن هو المقصود، وعود الضمير من المنعوت كعوده من البدل.
وقد منع بعض النحويين عود الضمير من البدل، بناًء على أنه من جملة أخرى، لأنه في تقدير تكرار العامل، وهذا ضعيف، وقد تقدم التنبيه عليه.
ونص ابن الضائع على الجواز معتمدًا على أنه مع المبدل منه كغيره من التوابع وبأن عود الضمير من المعطوف جائز، فعوده من البدل أجوز لأنه بيان، فصار كالنعت، فيجوز إذًا أن يقال: زيد قام عمرو أخوه، وزيد قام أخوه عمرو، / وزيد مررت أبي عبد الله، وزيد مررت به بأبي عبد الله به، والذي مررت به أبي عبد الله زيد، والذي مررت بأبي عبد الله به زيد، إلا أن قولك: زيد قام عمرو أخوه، أو قام أخوه عمرو - حسن في الكلام، كثير في الاستعمال؛ وفي قوة ما هو كثير، بخلاف المسائل بعده، فإنها قليلة في الاستعمال.
وسبب ذلك أن المسألة الأولى غير معدولٍ بها عن صوب الاستعمال؛ إذ لم يؤخر ما كان حقه التقديم، فوقع البدل موقعه من المبدل منه، فإن البدل لم يقع هنالك موقعه، فإن الأولى في باب الإخبار أن يخبر عن البدل والمبدل منه معا، كما يخبر عن النعت والمنعوت معا، وكما هو
الأولى في المعطوف والمعطوف عليه بيانًا، وفي المؤكد مع المؤكد، وقد نصوا على ذلك في باب "الإخبار".
فإذا قلت: زيد مررت به أبى عبد الله، فـ (أبو عبد الله) في الحقيقة جارٍ على (زيد) فكان الأولى أن يقال: مررت بزيدٍ أبي عبد الله، أو يقال: زيد أبو عبد الله مررت به.
وهذا كلام صحيح، كقولك: زيد قام أخوه عمرو، وليس فيه من الضعف شيء، ولذلك اختار النحويون: المازني وابن السراج وغيرهما في الإخبار أن يكون الإخبار عنهما جميعا، فتقول: الذي مررت به أبو عبد الله زيد. وهذا صحيح أيضا.
فإن قيل: فكان الوجه إذًا في هذه المسائل أن يعتبر فيها البدل في إعادة الضمير دون المبدل منه، أو يكون اعتباره هو الأقوى، ويعتبر المبدل منه على ضعف، كما قالوا في بيت سيبويه:
* كأنه .. ما حاجبيه معين بسواد *
والأمر بخلاف ذلك.
قيل ليس هذا من قبيل البيت، بل من قبيل: أعجبني الجارية حسنها، لأن الموصول والمبتدأ يحتاجان إلى رابط، كما يحتاج الفعل إلى فاعل، فلما اعتبر في الفاعل أقرب مذكور في أحد الوجهين، وكأنه راجح، اعتبر أقرب مذكور في إعادة الضمير أيضا، فهما في هذا المعنى مستويان، فصح إذًا أنه لا حجة لابن مالك، ولا لغيره، على أن البدل قد يكون في حكم الملغي.
وهي مسألة غامضة، نشأ النظر فيها من القاعدة الأولى وثبت أن حد ابن مالك في هذا النظم للبدل صحيح، وأن قوله:(كأنك ابتهاجك استمالاً) تنكيت على هذه النكتة الحسنة التي "يغفل عنها كثير من الناس، وأصلها لسيبويه رحمه الله.
وبدل المضمن الهمزيلي
…
همزًا كمن ذا أسعيد أم علي؟
يعني أن المبدل منه إذا كان مضمنًا معنى الهمز، أي همزة الاستفهام، فإن البدل يقع واليًا لذلك الهمز، يريد تتقدمه همزة الاستفهام مواليًة له، فتقول: من هذا الرجل أسعيدٍ أم علي؟ وهو مثاله
وكم هذه الدراهم أعشرون أم ثلاثون؟ وكيف أنت أصحيح أم سقيم؟ ولم أكرمت زيدًا لعلمه أم لجوده؟ وأي الناس جاءك أزيد أم عمرو أم فلان؟ وماذا أنت تصنع أتابوت أم كرسي؟
ولابد من الهمزة لأن المبدل / منه قد تضمنها لما أريد من معنى السؤال، فلابد إذا أبدل منه أن يؤتى بمعناه المراد، والبدل يقع تفصيلاً للمبدل منه إذا اقتضى التفصيل، فلابد من ظهور الهمزة داخلةً على كل تفصيلٍ ذكر، حتى يستوفي المقصود من مدلول الاسم المضمن معنى الهمزة.
وهذا الإبدال إنما يكون بالهمزة وحدها، لأنها المضمنة في أسماء الاستفهام، وهي أم الباب عندهم: فلا يضمن غيرها، فلذلك قال:"المضمن الهمز"
ويبدل الفعل من الفعل كمن
…
يصل إلينا يستعن بنا يعن
يعني أن الفعل في باب (البدل) يشارك الاسم كالعطف، فيبدل الفعل من الفعل، كما يعطف الفعل على الفعل، فكما تقول: من يكرمني ويكرم زيدًا أكرمه، كذلك تقول: من يجئني يلمم بي أعطه.
لكنه اشترط في (البدل) هنا شرطًا لم يصرح به، وإنما أشار إليه مثاله، لأنه أتى بالمبدل منه فعلاً مجملا، وهو "يصل إلينا" ثم أبدل منه فعلا مبينًا لمعنى "يصل" وهو "يستعن بنا" فأعطى المثال أن الفعل يبدل من الفعل إذا أفاد زيادة بيانٍ للأول.
وعلى ذلك قوله تعالى: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا {.
فقوله: } يضاعف له العذاب {بدل من} يلق أثامًا {وهو بيان للقى الأثام.
ومنه ما أنشد سيبويه عن الأصمعي عن أبي عمرو:
إن يبخلوا أو يجبنوا
…
أو يغدروا لا يحفلوا
يغدوا عليك مر جليـ
…
ـن كأنهم لم يفعلوا
فقوله: } يغدوا عليك {بدل من "لا يحفلوا" وهو تفسير له، وأنشد سيبويه:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
…
تجد حطبًا جزلاً ونارًا تأججا
وأنشد أيضا:
إن على الله أن تبايعا
…
تؤخذ كرهًا أو تجئ طائعا
فإن تخلف الشرط لم يسغ لعدم الفائدة، فإنك إذا قلت: من يستعن بنا يصل إلينا يعن - لم يكن في البدل فائدة ولا بيان، فكان ضائعا، فإذا عكست المسألة كما في المثال الناظم، صحت لحصول الفائدة بذلك.
ولما سكت عن إبدال الاسم من الفعل أو العكس دل على أنه عنده ممنوع مطلقا، وإن كان الاسم يشبه الفعل، بخلاف العطف كما تقدم.
أما في البدل؛ فلا، لأن من حقيقة البدل أن يصح حلوله محل المبدل منه، ولا يمكن ذلك في الاسم مع الفعل مطلقا، وهذا ظاهر.
واعلم أن في كلامه هنا تقصيرًا من وجهين:
أحدهما: أنه مثل بمثالٍ غير مطابق، لأن الذي ذكره النحويون في الفعل ما كان الثاني فيه مع الأول غير مباين، كما في الأمثلة المتقدمة. قال السيرافي: لا يبدل الفعل إلا من شيء هو هو في معناه، لأنه لا يتبعض، ولا يكون فيه اشتمال فـ (تؤخذ كرهًا أو تجئ طائعًا) هو معنى (المبايعة) لأنها تقع على أحدهما.
وقد يظهر هذا من سيبويه فـ"باب ما يرتفع بين الجزمين".
والناظم إنما مثل بما الثاني فيه غير الأول، فـ (الوصول) إليهم هو الإتيان والمجيء إليهم، و (الإستعانة) طلب العون، وهو غير المجيء.
والثاني: أنه لم يبين / البدل في الفعل: هل يكون فيه ما تقدم في بدل الاسم من الأنواع أم لا؟ بل قد قال السيرافي: ما سمعت
وعلى هذا لا يكون فيه إلا نوع واحد، وهو (بدل الكل من الكل) وإطلاقه يقتضى تلك الأنواع عطف الفعل على الفعل بالنسبة إلى حروف العطف. وفي ذلك ما ترى.
والجواب: أن مثال الناظم واقع على بعض أنواع البدل، وهو بدل الإضراب أو الغلط، إلا أن يكون قصد (وصولاً) معنويًا، وهو وصول (الاستعانة) فيكون واقعا على (بدل الكل) وعلى كلا التقديرين، فالمثال صحيح، فإن بدل الفعل من الفعل يتصور في بدل الاسم من الاسم،
فقد يكون فيه (بدل الكل من الكل) ومنه قوله:
* متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *
وقول الآخر:
* يغدوا عليك مرجلين *
وكذلك الآية الكريمة: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا {قال الخليل: لأن مضاعفة العذاب هو لقي الأثام.
وقد يكون فيه (بدل البعض) كقولك: إن تصل تسجد لله يرحمك.
و(بدل الاشتمال) أيضًا، ومنه قوله:
إن على الله أن تبايعا
…
تؤخذ كرهًا أو تجئ طائعا
لأن (الأخذ) كرهًا، و (المجيء) طائعًا من صفات المبايعة.
وظاهر سيبويه يقتضى أنه أنشده شاهدًا على (بدل الاشتمال) لأنه أتى به مع قول الآخر:
* فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ *
وقول الآخر:
* وما ألفيتني حلمي مضاعا *
وذلك في بابٍ من أبواب (بدل البعض، والاشتمال).
وإذا ثبت (بدل البعض)، ثبت (بدل الاشتمال) لأنه مشبه به، إذ عدوا وصف الشيء كالجزء منه.
وقد يكون فيه (بدل الإضراب والغلط) نحو: إن تطعم زيدًا تكسه أكرمك.
وقد سأل سيبويه الخليل عن قولك: إن تأتنا تسألنا نعطك، بجزم "تسألنا". فقال: هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول، لأن الأول الفعل الآخر تفسير له، وهو هو - يعني ما تقدم في بدل الشيء من الشيء - والسؤال لا يكون الإتيان.
قال: ولكنه يجوز على الغلط والنسيان، ثم يتدارك.
وقال بعد: فلو قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك - كان غير جائز، لأن القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه "تسألنا".
فهذا نص بجواز (بدل الغلط والنسيان) وجواز (بدل الإضراب) أولى.
فإذًا ما مثل به الناظم غير خارج عن أنواع البدل، وأنواع بدل الاسم جارية في بدل الفعل، وليس الأمر كما تقدم للسيرافي، فإطلاقه صحيح أيضا، والله أعلم.