المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{الندبة} الندبة: هي الاستصراخ بالمفقود، أو ما أقيم مقامة، على جهة - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٥

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌{الندبة} الندبة: هي الاستصراخ بالمفقود، أو ما أقيم مقامة، على جهة

{الندبة}

الندبة: هي الاستصراخ بالمفقود، أو ما أقيم مقامة، على جهة التفجع أو التوجع، لا لأن يجيب.

فإذا قلت: وازيداه، وهو ميت، فأنت لم تقصد بندائه أن يجيبك، وإنما قصدك التصويت باسمه تفجعا لفقده.

وكذلك إذا كان غير مفقود، لكن تنزل منزلته كقول عمر- رضي الله عنه حين أعلم بجدبٍ شديد أصاب قومًا من العرب: واعمراه، واعمراه، وكقول الخنساء ومن أسر معها من آل صخر، وهو غائب غير مرجو الحضور: واصخراه، وكقول الشاعر:

فواكبدي من حب بمن لا يحبني

ومن عبراتٍ مالهن فناء

فهذا كله من المندوب الذي ليس بمفقود، ولكنه حكم له بحكم المفقود، لاجتماعهما في بعد رجائه بالنسبة إلى الأمر المقصود.

وابتدأ الناظم ببيان الحكم العام للمندوب وغيره، فقال:

ما للمنادى اجعل لمندوبٍ ما

نكر لم يندب ولا ما أبهما

ص: 376

ويندب الموصول بالذي اشتهر

كبئر زمزمٍ يلي وامن حفر

يريد أن ما للمنادى من الأحكام المتقدمة يجعل للمندوب، يعنى إلا ما يذكره الآن من الأحكام المخالفة لحكم المنادى، وما تقدم ذكره من الاختصاص بالمندوب، لأن ما يذكره هنا زيادة على ما يشترك فيه المندوب مع غيره.

وبيان ذلك أنه ذكر في المنادى أنه إن كان مفردًا معرفة بنى على الضم إن رفع بالضم، وإلا فما كان يرفع به قبل النداء.

وإن كان مضافًا أو شبيها بالمضاف نصب.

وإن كان مبنيًا قبل النداء يقدر فيه الضم بعده، وأن ما نون ضرورًة فيه وجهان، وأنه لا يجمع بين (يا) والألف واللام، وكذلك حكم التوابع كلها، وحكم المضاف إلى ياء المتكلم، وغير ذلك مما تقدم، فيجرى هنا.

فإن قلت: كيف يجرى وكثير منه ينافى لحاق ألف الندبة كالمبنى على الضم، إذا لحقته الألف بنى على خلاف ذلك البناء، وكذلك المنادى المضاف، كان المضاف إليه معربًا بالخفض، فلما جاءت الألف زال ذلك، فلا يستتب ما ذكر، وقد تقدم له من أحكام المندوب أنه لا ينادى من الحروف إلا بـ "وا" أو (يا) وأنه لا يحذف معه حرف النداء فقد خالف المنادى من هذه الوجوه، وقد يمكن وحود غيرها؟

فالجواب: أن ما تقدم للمنادى قد استثناه، فخرج بدليله، وما عدا ذلك فداخل في المندوب على الجملة، لأن في المندوب استعمالين:

ص: 377

أحدهما: ألا تزيد فيه على ما تقدم في باب النداء من الاختصاص شيئًا، فتقول: وازيد، ووازيد الظريف، والظريف، ووا عبد الله العاقل، وما أشبه ذلك.

فهذا هو الذي يجرى بجميع أحكام المنادى، وقد نبه على هذا الاستعمال في الباب الذي نحن فيه.

والثاني: أن تزيد فيه هذه الأحكام التي تذكر هاهنا، وهي المخالفة لما تقدم، ولم يرد هو هذا الاستعمال بقوله:(ما للمنادى اجعل لمندبٍ) وهو الأظهر، على أنه مانع من جريان تلك الأحكام، إلا أنها تارًة تكون ظاهرة فتقدر، وتارًة تبقى على ظهورها.

ألا ترى أنك إذا قلت: وازيداه، فالضم مقدر في آخر الاسم، ولا يقال: إنه مبنى على السكون أو على الألف، وكذلك: واغلاماه، في:(يا غلام) المضاف إلى الياء، والإعراب مقدر في آخره، ولا يقل: هو مبنى، إذ لا موجب لبنائه وهو مضاف، كوا غلامياه وواغلام زيداه.

نعم، قد يحذف من آخره لالتقاء الساكنين، كما إذا ندبت من اسمه (يحيى) فقلت: يا يحياه، أو من اسمه (غلامي) فقلت في أحد الوجهين: واغلاماه.

والمحذوف هاهنا في حكم الثابت، كما إذا حذفته في الدرج، نحو قولك: يحيى العاقل، وغلامي الفاصل.

ص: 378

وما عدا ذلك فعلى هذه الوجوه يجرى، فلا تفوت فيه أحكام المنادى بإطلاق، حتى التنوين الاضطراري، ألا ترى إلى قوله:

*وافقعسًا وأين مني فقعس*

ولو قال: (وافقعس) لجاز؛ فما أتى به من الإطلاق المتقدم صحيح، إلا ما استثنى هناك، وذلك أمران.

والذي استثنى هنا من قاعدة ما ينادى فإنه أخرج من ذلك ثلاثة أنواع.

أحدها: النكرة، وذلك قوله:(وما نكر لم يندب) يعني أن ما كان قبل النداء نكرة، وإن كان مقصودًا بالنداء، لا يصح أن يندب كرجلٍ وامرأةٍ وغلامٍ، إذا لم تقصد إضافته، فلا تقول: وارجلاه، ولا: وامرأتاه، ولا: يا غلاماه، ولا ما أشبهه،

والثاني: المبهم، وذلك قوله:(ولا ما أبهما) وأراد بالمبهم اسم الإشارة [والضمير، لأن أسماء الإشارة]، تسمى مبهمات، من حيث كانت تقع على كل مشار إليه، وإنما يتعين اسم الإشارة بالقصد إليه أو بالنعت، نحو (هذا) فلا يجوز أن تقول: واهذا، وكذلك الضمائر أيضا مبهمات، من حيث كانت صالحة لكل مخاطب، ولكل متكلم، ولكل غائب، وألزمت التفسير، فلا بد لها منه فوضعها على الافتقار إليه، فهي في أنفسها، مع قطع النظر عن التفسير، مبهمات، كما أن

ص: 379

أسماء الإشارة موضوعة بقيد الإشارة إلى المشار إليه، فإذا قطع النظر عن ذلك القيد استبهمت، فلا يجوز أن تقول: يا هواه، ولا: وأنتاه، ولا ما أشبه ذلك.

والثالث: الموصول من الأسماء بصلةٍ لا تعين المقصود عند الجمهور وذلك مفهوم قوله: (ويندب الموصول بالذي اشتهر) يعني أن الموصول إما أن تكون صلته شهيرةً بين الناس، وتميزه من غير أولا، فإن كانت كذلك جازت ندبته، كالممثل به في قوله:(كبئر زمزم يلي وامن حفر)، [وترتيبه: وامن حفر]، بئر زمزماه وهو مقول في ندبة عبد المطلب- جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي اشتهر بحفرها واستخراجها، وقد كانت داثرة، أمر بذلك (في النوم، وعين له موضعها، ففعل، فصارت معلمًا بعبد ما كانت قد ذهب أثرها وعينها، فلما اشتهر بها صار ذلك كالعلم له. فوصل موصوله بها في الندبة.

ويجرى ذلك المجرى كل موصول بما شهر به، من قولٍ أو فعل أو صفة.

فإن كانت الصفة ما لا يعين ولا يشتهر فلا يجوز أن يندب، فلا تقول: وامن في الداراه، ولا وامن ذهباه ولا ما أشبه ذلك، وهو مفهوم ما اشترط.

والعلة في منع ندبة هذه الأنواع الثلاثة واحدة، وهي أن الندبة حزن ونوح وعدم تصبر على فائتٍ لا عوض عنه عند الندب، من فضلٍ أو شجاعةٍ، أو كرمٍ أو قيامٍ بأمر لا يقوم بمثله غير صاحبه المفقود.

وإظهار البكاء والجزع ضعف ممن يظهر ذلك منه، لأنه شأن النساء، ولذلك قال الأخفش: الندبة لا تعرفها العرب، أو لا يعرفها أكثر العرب، وإنما

ص: 380

هي من كلام النساء، أي إن التصبر والتعزي يغنيان عنها، والرجال بذلك أولى من النساء، فهم محتاجون إلى تعظيم الذي حزنوا له، والإتيان بأشهر أسمائه، وأحمد خصاله، ليكون عذرًا لهم فيما أظهروا من الحزن والجزع، فلا يحصن أن يا توا فيها من اللفظ بما لا يعرف.

فإذا ثبت هذا فجملة ما يجوز ندبته من الأسماء: ما كان علمًا، كزيدٍ وعمروٍ، وعبد الملك، ورجل سميته بمعطوف ومعطوف عليه، أو كان في جملة ذلك الاسم ما يدل على فضيلة وشرف، كمن حفر بئر زمزم، وأمير المؤمنين، وما كان نحو هذا، وهو الذي يتلخص بعد إخراج الأنواع الثلاثة التي أخرج الناظم عن حكم الندبة.

وظهر بذلك موافقته في هذه الجملة للبصريين، وذهب الكوفيون إلى نفي اشتراط التعريف، فأجازوا ندبة النكرة مطلقًا.

وأشار ابن خروف إلى تفضيل، وهو أن النكرة إن ظهر بندبتها عذر جاز، وإلا فلا، كما في الموصول.

والدليل على صحة ما ذهب إليه الناظم القياس والسماع.

أما القياس فما تقدم، وأيضًا فقال سيبويه: ولو قلت هذا- يعني ما كان مثل: يا من في الداراه، أو يا رجلاه- لقلت: وامن لا يعنيني أمرهوه. قال فإن كان ذا ترك، لأنه لا يعذر بأن يتفجع عليه، فهو لا يعذر بأن يتفجع ويبهبم.

وعلى ما قال سيبويه من بيان العذر في التفجع دارت الندبة.

ص: 381

وأما من فصل الأمر فيقول: قد يوجد في النكرة ما يكون فيه عذر.

وقد حكى الجرمي عن بعضهم: يا رجلًا حماناه.

قال ابن خروف: لأن فيه عذرًا، وإذا كان كذلك، مع أنه نكرة، فلا ينبغي أن تمنع ندبة النكرة على الإطلاق، وعليه قد يقال: وارجلًا أطعمناه، ويا رجلًا يكرم الضيفاناه، ونحو هذا.

فإن قيل: هذا من المندوب بالموصوف، وليس للناظم نص في أن علامة الندبة تلحقه، فرأى سيبويه ألا تلحق الصفات.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن مذهب الناظم غير متعين الرجوع لمذهب سيبويه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والثاني: على فرض المنع من ذلك لا يمتنع أصل الندبة من النكرة؛ بل يجوز، ويكتفى بدخلو (وامن) أول الاسم، كما يكتفي بذلك إذا قلت: وازيد الظريف.

فعلى كل تقديرٍ يصح أن تندب النكرة، إما بالاقتصار على (وا) وإما بها مع الألف في آخر الصفة.

وعلى أن ابن خروف قال في هذا المثال: إنه ليس مثل الصفة التي أجاز يونس، وما قاله صحيح، بدليل نصب (الرجل) وعدم بنائه؛ إذ صار مثل ما تقدم في قوله:

ص: 382

* أدارًا بجزوى هجت للعين عبرة*

أيضا، فقد تندب بالنكرة من غير وصف، ويظهر العذر كقولك:

واعلماه، واكريماه، واصلحاه، واميراه، واسيداه، من غير قصد إضافة.

فهذا وما كان م ثله لا يمتنع، لظهور العذر به ظهورًا بينًا، فالوجه التفصيل، هذا ما يحتج به لهذا القول.

والناظم لم يفصل، لأن عمدته السماع، ولا سماع في المسألة يعتد به، والتعليل إنما ينهض، من ورائه. هذا كله في النكرة.

وأما الموصول. فالذي ذهب إليه الناظم فيه رأى سيبويه.

وحكى ابن الأنباري في "الإنصاف" الجواز مطلقا عن الكوفيين، والمنع مطلقا عن البصريين، فيظهر أن مذهب التفصيل ثالث، ولا أتحقق صحة هذا النقل عن البصريين، فإن سيبويه هو رأسهم.

وقد قال حين بين [أن] النكرة واسم الإشارة: لا يندبان وكذلك: وامن في الداراه في القبح.

قال: وزعم- يعني الخليل- أنه لا يستقبح (وامن حفر بئر زمزماه) لأن هذا معروف بعينه.

ص: 383

قال: وكأن التبيين في الندبة عذر للتفجع، فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب، هذا ما قال.

ولا يظهر منه المنع ولا وقوف الجواز على السماع، ولم أر من الشراح من وقفه على السماع، فانظر في نقل ابن الأنباري.

ووجه التفصيل ظاهر مما تقدم في تفصيل ابن خروف في النكرة وقوله: (بالذي استهر) يريد اشتهر به، فحذف الضمير المجرور لتكرر الجار مع الموصول، وهو قليل، لكن الناظم أجازه مطلقا من غير شرط سوى تكرر الحرف الجار.

ومنتهى المندوب صله بالألف

متلوها إن كان مثلها حذف

كذلك تنوين الذي به كمل

من صلهٍ أو غيرها نلت الأمل

والشكل حتمًا أوله مجانسا

إن لكن الفتح بوهم لابسا

منتهى الاسم آخره، يعني أن آخر الاسم المندوب يوصل بالألف في الندبة، فقال: وازيداه واغلام زيداه، وما أشبه ذلك، وهو ظاهر على الجملة، إلا أن المنتهى يختلف الأمر فيه، وكله داخل تحت عموم لفظه، فيشمل أنواعا من المندوبات:

أحدها: المفرد، وهو بين، نحو: وازيداه، وقول جرير يرثي عمر بن عبد العزيز- رضي الله تعالى عنه-:

ص: 384

حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له

وقمت فينا بأمر الله يا عمرا

والثاني: المضاف، كان علمًا كعبد الملك، وامرئ القيس، أو كنية كأبي عمرو، أو غير ذلك كغلام زيدٍ، وصاحب الأمير، فاخر الاسم في الجميع هو آخر المضاف إليه.

أما في العلم فظاهر، فتقول: واعبد الملكاه، واامرأ القيساه، ونحو ذلك.

وأما في غير العلم: فلأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ألا ترى أن المضاف إليه واقع موقع تنوين المضاف، فتقول: واغلام زيداه، وأمير المؤمنيناه.

والثالث: الاسم الممطول مسمى به، فإنه بمنزلة الصلة والموصول، وبمنزلة المضاف والمضاف إليه، في إن ما تعلق به صار معه كالشيء الواحد، ولذلك يعرب في النداء كإعراب المضاف، فتقول: واحاميًا الذماراه، وامطعمًا الضيفاناه، وامفضلًا على الفقيراه، وما أشبه ذلك.

أما إذا لم يكن مسمى به فلا يقع هنا، لأنه نكرة قبل النداء، ولا ينادى وفيه الألف واللام، وكذلك المعطوف والمعطوف عليه نحو: وازيدًا واعمراه، واثلاثًا وثلاثيناه.

وقد مثل المؤلف في "الشرح" بقوله: واضروبًا رءوس الأعداء، واثلاثًا وثلاثين، وبلحاق الألف، ولم يقيده بالعلمية، وكذلك الأبذي في "شرح الجزلية" أجاز ندبة الممطول من غير تقييد، فانظر في ذلك.

ص: 385

والرابع والمثنى والمجموع، نحو: زيدان وريدون وهندات، فتقول: وازيداناه، وازيدوناه، وهنداتاه، وهذا داخل تحت المفرد.

والخامس: الموصول، ،آخره آخر الصلة، لأن الموصول لا يتم اسمًا مخبرًا عنه إلا بصلته، نحو: من أكرمنا، ومن حفر بئر زمزم، فتقول: وامن أكرمناه، وامن حفر بئر زمزماه.

والسادس: المركب، آخره آخر الكلام، وهو ثلاثة أقسام:

مركب بتركيب مزج، نحو معد بكرب، بلالاباذ، فتقول: وامعد يكرباه وابلالاباذاه.

ومركب تركيب إسناد، نحو: تأبط شرًا، فتقول: واتأبط شراه.

ومركب بمن معطوف ومعطوف عليه، وقد تقدم.

وهذا كله ظاهر الدخول تحت قوله: (ومنتهى المندوب صله بالألف) لأن المنتهى في ذلك كله ظاهر إما حقيقة وإما حكما، وأشعر بذلك أيضًا قوله: (كذاك تنوين الذي به كمل

من صلةٍ أو غيرها).

وبقى قسم سابع يحتمل الدخول، وهو الموصوف بصفته، أو عدم الدخول لأن الصفة من حيث هي بيان لموصوفها كالشيء الواحد معه، فتشبه المضاف إليه، والصلة والموصول، فكما تلحق آخر المضاف إليه وآخر الصلة، كذلك تلحق آخر الصفة، ويرجح ذلك أن الصفة قد جرت مجرى الموصوف في قولهم: هذا زيد بن عمرو، فلم يلحقوا الموصوف تنوينًا، توهمًا أنه وسط الاسم.

ص: 386

وفي قولهم: لا رجل ظريف لك، فبنيت الصفة مع الموصوف كما ترى اعتبارًا بأنها كجزء منه. وجاء بعض الموصوفات ملازمًا له الصفة مثل: يا أيها الرجل، والجماء الغفير، فإذا جرت الصفة مجرى الموصوف، أو مجرى جزء الموصوف في هذه المواضع- جرت مجراه في الندبة؛ إذ الصفة من الموصوف في المعنى، ولأن التفجع والتوجع والتأسف قد تقع على صفات المندوب، كما تقع على ذاته، فلا يمتنع أن تلحقها العلامة، وقد جاء ذلك عن العرب، فقال بعضهم: واجمجمتي الشاميتيناه، وهما القدحان.

وقال الشاعر:

ألا يا عمرو وعمراه

وعمرو بن الزبيراه

فلحقت كما ترى صفة المندوب، وتوكيد المندوب، وفي المضاف إليه نعت المعطوف على المندوب، وهذا رأيه في "التسهيل"، وهو رأي يونس والكوفيين، وللصفة أيضا نظر آخر من حيث إنها ليست مثل المضاف إليه، ولا مثل الصلة، ألا ترى أن المضاف إليه واقع موقع جزءٍ يحذف له من المضاف، وهو التنوين، فيقول مقامه بخلاف الصفة، وكذلك الصلة هي من الموصول كالجزء، بحيث لا يجوز السكوت عنها، بخلاف الصفة فإنك بالخيار في الإتيان بها وعدمه، وهذا كافٍ في صحة الانفصال حكمًا.

ص: 387

وأيضًا، إن ظهر لاتصالها بموصوفها وجه في: هذا زيد بن عمرو، وما ذكر، فقد ظهر وجه انفصالها منه في: يا زيد الطويل، فتعرب الصفة وتبنى الموصوف، وتشبيه صفة المندوب بصفة المنادى أولى، من جهة ما اجتمعا فيه من النداء، ومن تشبيهها بما ليس من بابها، وما ذكر من السماع فنادر لا يعتد به في القياس، وهذا رأي الخليل وتلميذه. وقد بسط الفارسي في "التذكرة" الاحتجاج للمذهبين فطالعه هنالك.

فإن كان الناظم ذهب هنا مذهبه في "التسهيل"، فقد تبين وجهه، وإن كان مذهبه الرأي الآخر، فقد ظهرت حجته، والله أعلم.

وهنا مسائل:

أحدها: أنه ظهر من الناظم أن هذه الألف أصلية، ليست هي الألف المنقلبة عن التنوين، ولا يعوض منها.

ونقل بعضهم عن بعض الكوفيين أنها ألف الندبة، ولكن يعوض منها التنوين في الوصل، فيقولون: يا زيدًا وعمرا إذا وصلوا، ويستدلون بقول الشاعر:

*وافقعسًا وأين مني فقعس*

وهذا شاذ، مع أنه مما نون في الضرورة، فنصب كقول الآخر:

*يا عد يا لقد وقتك الأواقي*

ص: 388

والثانية أن قوله: (صله بالألف) فجعل مدة الندبة ألفا، ولم يقل: بالواو والياء، فإن الجميع مدات تلحق آخر المندوب، إيذانًا بأنها الأصل في الباب، لأن الأصل فيها المدة المجهولة التي تكون بحسب ما قبلها، كما يظهر من بعض النحويين والدليل على ذلك أمران:

أحدهما: أن الغرض مد الصوت والإبعاد فيه، للمعنى المراد من الندبة والألف في ذلك أمد صوتًا من غيرها. قاله ابن جني.

والثاني، أن الحركات اللازمة معها وغير اللازمة على سواء، إذا لم يكن لبس فلا تعتبران معها، فتقول واغلام زيداه، ولا تعتبر الكسرة، وكذلك إذا سميت بـ (قام زيد) أو بـ (رأيت زيدًا) لا تعتبر الضمة ولا الفتحة؛ بل تقول: واقام زيداه وارأيت زيداه.

وكذلك حركات البناء فتقول في (يازيد) المبنى: يا زيداه وفي (رقاش) يا رقاشاه، وما أشبه ذلك. ولو كانت مدة مطلقة لكانت تجري مع الحركات بإطلاق، كما تجري مدة الإنكار والتذكر، وغيرهما من المدات، وهي نحو من عشرة، ذكرها ابن خروف.

وأيضا، فلو كانت مدة تصير إلى الواو والياء كان ثم لبس أولا ولم يفعلوا ذلك؛ بل التزموا الألف وحذفوا لها التنوين وياء المتكلم، ولم يصيروا إلى غيرها إلا عند خوف اللبس، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والثالثة: أنه لما أطلق القول في إلحاق الألف دل على أنه لم يعتبر ما اعتبره في "التسهيل" من استثنائه ما آخر ألف وهاء، فإنه قال: ويستغنى

ص: 389

عنها- يعني الهاء- وعن الألف فيما آخره ألف وهاء، فلا يقال عنده في (عبد الله): يا عبد اللهاه، ولا في (جهجاه): يا جهجاهاه، ولا في (أواه)، مسمى به: يا أواهاه. وعلل ذلك بالثقل الذي فيه.

وهذا يحتاج إلى توقيف وظاهر النحويين الإطلاق كما هنا، فلا يدعى استثناؤه إلا بدليل، والاستثقال هنا ضعيف الاعتبار، ولو لاعتبر فيما كثرت حروفه كفرزدق، أو فيما آخره هاء كمهمهٍ، مسمى به، فكان يمتنع: وافرزدقاه وامهمهاه، وما أشبه ذلك. أو يقال: لما كان مثل هذا المستثنى نادر الاستعمال عامله معاملة النوادر.

ثم قال: (متلوها إن كان مثلها حذف) أخذ يذكر هنا ما يعرض للاسم عند إلحاقها، ويعرض لها إذا لحقت هي أيضا بالنسبة إلى آخر الاسم، وبالنسبة إلى وصلها أو الوقف عليها، فذكر هنا، مما يحذف لها، الألف والتنوين، وفي آخر الفصل ذكر حذف الياء في نحو: غلامي، ولم يذكر غير ذلك، فدل على أنه لا يحذف عنده من آخر المندوب غير ذلك، وبذلك ظهرت مخالفته للكوفيين في حذفهم همزة التأنيث، فيقولون: يا زكرياه، وفي رجلٍ اسمه (حمراء) يا حمراه، وهذا لا دليل عليه، فلا سبيل إلى القول به.

ص: 390

أما الألف فإنها تحذف كما ذكر، فتقول في (موسى): واموساه، وفي (يحيى): يا يحياه، وفي (مثنى): يا مثناه، وكذلك الألف في (ضربها) مسمى به، تقول: واضرباه، وفي (ضربكما): واضربكماه. وكذلك الألف المبدلة من ياء المتكلم عند من يقول: يا غلاما، فتقول: واغلاماه، فتحذف الألف وتأتي بألف الندبة.

فقوله: (متلوها) الضمير فيه عائد على "الألف" في قوله: (صله بالألف) و (متلوها) هو السابق عليها الذي يجاورها من حروف الاسم، وذلك الحرف لأخير.

وقوله: (إن كان مثلها حذف) يريد: إن كان ذلك المتلو ألفًا مثل الألف اللاحقة حذف، وإنما حذفت ألف الاسم دون اللاحقة، لأنك لما أتيت بها اجتمع ساكنان وهما الألفان، فلابد من حذف إحداهما لأن الألف لا تقبل الحركة، فتحرك إحداهما، وإذا وجب حذف إحداهما، فلو حذفت ألف الندبة لزم من ذلك نقض الغرض فلم يبق إلا حذف آخر الاسم.

وأيضا، فإن ألف الندبة سيقت لمعنى يقصد فيها، وألف الاسم لم يؤت بها لمعنى بخصوصه على الجملة، فإذا حذفت بقى دليل عليها وهو ما بقى من الكلمة، وإذا حذفت ألف الندبة لم يكن منها خلف، واختل ما جيء بها لأجله، فلم يكن بد من حذف الألف السابقة.

وأيضا، فإن إلحاق ألف الندبة حكم طارئ على الكلمة والقاعدة أن الحكم للطارئ، ولو فرضت الأولى لمعنى لكان إيثار الطارئ أولى.

فإن قلت: هلا قلبوها ياء أو واوًا، فحركوها كما فعلوا في التثنية وجمع المؤنث السالم، وهو أولى من الحذف، لأنه رد إلى الأصل؟

ص: 391

فالجواب أن التثنية لابد من الإتيان بعلامتها، فالضرورة داعية إلى تغيير اللفظ لأجلها، بخلاف علامة الندبة، فإنك في إلحاقها وعدم إلحاقها بالخيار، فلم تدع ضرورة إلى تغيير اللفظ، بل صارت الألف تسقط كما سقطت في قولك المثنى الظريف.

وأيضا، لو حذفت من المثنى أو المجموع لالتبس بالمفرد إذا قلت: موسان أو حبلات، بخلاف الندبة.

وأما التنوين: فيحذف أيضا من آخر الاسم وذلك قوله: (كذاك تنوين الذي به كمل

من صلةٍ أو غيرها) يعني أن التنوين اللاحق في آخر تكملة الاسم كانت تلك التكملة صلة الموصول أو غير ذلك، من ممطول، أو مركب، أو مضاف ومضاف إليه، أو معطوف ومعطوف عليه- لابد من حذفه أيضا عند لحاق ألف الندبة، فتقول: وامن أكرم زيداه، وامن ضربه عمراه، أو تأبط شراه، وازيدا وعمراه، واغلام زيداه، وهذا رأي البصريين.

وأجاز الكوفيون إثبات التنوين (التابع لحركة الإعراب، فيقولون: واغلام زيدنيه أو زيدناه- بتحريك التنوين) بالكسر أو الفتح. وذلك غير موجود في الكلام، فلا يعول عليه.

وإنما حذف التنوين معها، وإن كان الأصل أن يثبت ويحرك لالتقاء الساكنين، لأن ألف الندبة ليست بمنفصلة من المندوب، ولا في تقدير الانفصال، وإنما يثبت التنوين إذا كان الساكن منفصلا أو في تقدير الانفصال ألا ترى أنك تقول: زيدون العاقل، فتثبته محركا لأن

ص: 392

الساكن منفصل. وكذلك: أزيد نيه (في مدة الإنكار، يثبت التنوين، لأن علامة الإنكار في تقدير الانفصال. فإن قلت: كيف تفرق بين المدتين وهما على حد واحد، لأنهما أتيا بهما لمد عرض آخر الاسم، فإما أن يكونا عندك في تقدير الانفصال فيجيء منه قول الكوفيين، وإما أن يكون معا متصلين فيحذف التنوين في أزيدنيه)، وهو خلاف الإجماع. وأما التفرقة فلا يظهر لها وجه، فكان تحكما؟

فالجواب: أن التفرقة بينهما قد ظهرت في استعمال العرب. كما تقرر، فلو كانا معا على حد واحد في الاتصال أو الانفصال لم يفرقوا بينهما، فاستدللنا بتفرقتها على أن الحكم عندها كما قال البصريون، وهذا من باب "الاستدلال بالأثر على المؤثر" ولذلك قالت العرب: أزيدانيه، ففصلت بـ (إن) حقيقة.

ووجه التفرقة من جهة المعنى. أن في الإنكار شيئًا من الحكاية، لأنه جارٍ مجرى الاستثبات، ولذلك جاء بهمزة الاستفهام بحركة الإعراب المتقدمة في الكلام المنكر، ولابد إذ أتيت، وحافظت عليها، وجعلت المدة تابعة لها، أن تحافظ على تمام الاسم، ومن تمامه التنوين، كما حافظت على ذلك في الحكاية، بخلاف الندبة، فإن القصد مجرد مد الصوت، وعلى ذلك بني الكلام لا على حكايته، فكانت المدة مبنيًا عليها قصدا، فلم يكن بد من البناء عليها حكما، والتنوين لا يلحق وسط الاسم، فتعين حذفه والله أعلم. وسيذكر حذف الياء بعد.

ص: 393

وقوله: (نلت الأمل) دعاء للمخاطب، كمل به البيت، وهذا النوع، من التكميل الذي لا يفيد معنى، قليل جدا في هذا النظم.

ثم قال: (والشكل حتمًا أوله مجانسا) إلى آخره، يعني بالشكل الحركة، والحتم: اللازم، وأراد الحركة اللازمة التي هي حركة بناء.

و"لازمًا" حال من هاء "أوله" أو من "الشكل". وتقدير الكلام: أول الشكل مجانسًا من الحروف حالة كونه لازما.

ومعنى "أوله" اجعله يليه. والمجانس هو المشاكل، وهو هنا حرف المد الذي يتبع الحركة إذا مطلت، كالألف للفتحة، والواو للضمة، والياء للكسرة، فإذا مطلت الفتحة صارت ألفًا، أو الضمة صارت واوًا، أو الكسرة صارت ياء، كما قال الشاعر:

*أعوذ بالله من العقراب*

وقال:

*من حيثما سلكوا أدنو فأنظور*

ص: 394

وقال:

*نفى الدراهيم تنقاد الصياريف*

[فإذا]، كانت الحركة مع حرف المد هكذا سميت مجانسة لها.

ويريد أن آخر المندوب إما أن يكون ساكنا أو متحركا، فإن كان ساكنا ألحقت الألف، فتحرك ذلك الساكن بالفتح لضرورة لألف وذلك إذا كان يقبل الحركة، كالقاضي والداعي إذا ندبته فقلت: يا قاضياه، مالم يكن تنوينا أو ياء المتكلم، فإن التنوين- كما قال- يحذف، وياء المتكلم سيأتي ذكرها أن شاء الله. فإن لم يقبل الحركة فلا بد من حذفه كالألف، وقد تقدم.

فإن كان متحركا فإما أن تكون الحركة إعرابية أو بنائيًة، فإن كانت إعرابية ألحقت الألف ولم تعتبرها، وذلك داخل تحت قوله:(ومنتهى المندوب صله بالألف) وقد تقدم ما يظهر منه عدم اعتبار حركة الإعراب.

وإن كانت بنائية فإما أن يكون إلحاق الألف للاسم يوقع في المندوب لبسًا أولا، وذلك بأن يعوض من تلك الحركة الفتحة لأجل الألف. فإن لم يوقع لبسا

ص: 395

فحكمها حكم حركة الإعراب في عدم اعتبارها، فتقول: يا زيد يا زيداه، ولا تقول: يا زيدوه، كما تقول: أعمروه في الإنكار، لأن الألف هي الأصل كما تقدم فإذا قدر على إلحاقها وفتح ما قبلها من غير معارض لم يعدل عنه، وكذلك تقول في (رقاش وحذام): وارقاشاه واحذاماه، ولا تقول: واحذاميه، ولا يا رقاشيه، لعدم اللبس. وأجاز ذلك الكوفيون، أعني في الكسرة. وما قالوه لم يسمع من كلامهم، فلا تسمع دعواهم، وهذا حكم المضاف إلى ياء المتكلم على لغة من قال في (النداء): يا غلام- بالكسر- أو يا غلام- بالضم- فالضم والكسر ليسا بإعراب، مع أنهما غير معتبرين، فإنك تقول: يا غلاماه، لأن الكسر لا يقع بـ (غلام) المنكر لأنه لا يندب.

وإن كان الفتح وإلحاق الألف يوقع لبسًا فاترك آخر المندوب على حاله من ضم أو كسر، وأتبعه من حروف المد ما يجانس تلك الحركة، فتأتي بعد الضم بالواو، وبعد الكسر بالياء، وهو قوله:

والشكل حتمًا أوله مجانسا

إن يكن الفتح بوهمٍ لابسا

يعني باللابس الخالط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه، إذا خلطته عليه، فلم يعرف وجهه. ومنه قوله تعالى:{وللبسنا عليهم ما يلبسون} ، أي إن يكن الفتح يلبس المقصود من الكلام بما يذهب إليه الوهم وهو غير مقصود.

ص: 396

والوهم: ذهاب ظن الإنسان إلى الشيء وهو يريد غيره، يقال: وهمت في الشيء- بالفتح أهم وهما، بالإسكان، إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره.

وأما (وهم في الحساب) فهو بالكسر، يوهم وهمًا- بالفتح- إذا غلط وسها فيه، فهو غير الأول، فإتيان الناظم بالوهم الساكن الهاء صواب.

ومثال ذلك ما إذا ندبت: غلامك، أو علامكم أو غلامه، أو غلامهم، وما أشبه ذلك، فإنك تقول: واغلامكيه، واغلامكموه، واغلامهموه. ولا تقول: واغلامكاه، فإنه يلتبس بندبة غلامك- بفتح الكاف- واغلامكماه لأنه يلتبس بندبة غلامكما، وكذلك ما بقى.

وقد تحصل من هذا أنك إذا سمعت في كلام العرب (واغلامكاه) علمت أن الكاف كانت مفتوحة خطابًا للمذكر، وكذلك (واغلامهاه)، تعلم أنه ضمير المؤنث، وكذلك (واغلامكماه)، هو ضمير المثنى، وما أشبه ذلك مثله.

واعلم أنه قد مر آنفا أن آخر المندوب إن ألحق الألف فوقع اللبس امتنع ذلك، وأتيت بمجانس الحركة، وكان عنده المثنى، حسبما ذكر في "الشرح"، مما يقع فيه اللبس إن لحقته الألف، كان من الداخل في هذا الحكم، فالأولى عنده أن يقال في الزيدين: وازيدنيه، خلافا للبصريين المانعين هذا.

قال في "الشرح": والبصريون يلتزمون فتح نون التثنية في

ص: 397

ندبة المثنى، فيقولون: يا زيداناه، والكوفيون يجيزون هذا، ويجيزون أيضًا: يا زيدانيه قال: وهو عندي أولى من الفتح وسلامة الألف لوجهين:

أحدهما: أن في الفتح وسلامة الألف إيهام أن اللفظ ليس لفظ تثنية، وإنما هو من الأعلام المختتمة بألف ونون مزيدتين كسلمان ومروان.

والثاني: أن أبا حاتم، حكى أن العرب تقول في نداء "هن" مثنى: يا هنانيه، ولم يحك: يا هناناه، والقياس إنما يكون على ما سمع لا على ما لم يسمع، هذا ما قال. وهو يشير إلى التزام الكسر خلافا لمن التزم الفتح أو أجاز الوجهين، وهم أهل البصرتين.

فإن كان مذهبه هذا، فهو حرٍ بأن يدخل المثنى تحت قوله:(أوله مجانسا) إن كان ثم لبس. وقد زعم أن هذا ملبس، فلا مرية في أرادته.

ثم يبقى عليه سؤال: وهو أنه قدم أول الفصل أن آخر المندوب تلحقه الألف، وأن الألف والتنوين يحذفان لها، وذكر هنا أن الحركة اللازمة تتبعها المدة عند خوف اللبس، فأعطى مجموع الموضعين أن ما آخره ياء، سوى ما يذكره إثر هذا، أو واو لا يحذف بل يحرك بالفتح للألف اللاحقة، فتقول في نحو (قاموا) أو (قومي) مسمى بهما: واقامواه، واقومياه، وكذلك في (ضربتني) على لغة من أثبت الياء: يا ضربتنياه، وفي (ضربني): واضربنياه إلى أشباه ذلك، كما تقول في (القاضي) يا قاضياه، وفي (غلامي) في أحد الوجهين: واغلامياه. وهذا كله باطل لا يقوله عربي، وإنما حكمه أن تتبع الحركة بمجانسها، فإذا اجتمع المثلان من الياءين أو الواوين، كان الحكم

ص: 398

حكم الألفين، وذلك حذف إحداهما فتقول: واقاموه، واقوميه، واضربتيه، واضربنيه.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن يقال: لعله رأى نظر المبرد في هذا متوجها، وذلك أن المبرد ألزم سيبويه القول بتحريك الواو والياء، كما حركها مع ياء المتكلم، وأن يقول: واضربواه، واضربتنياه، ونظائره. وتابعه عليه ابن ولاد المستنصر لسيبويه، وقال: هذا الفصل صحيح، ولا جواب في هذا أحسن منه، فكأن ابن ولاد مال إلى هذاـ، وجعله رأيا صحيحا، فيمكن، على بعده، أن يذهب إليه،

والثاني: أن الواو والياء في هذه المواضع لم يعتبرها لعدم اعتبار ما هي فيه، لأن قصده في هذا الباب الكلام على المشهور الاستعمال من الأسماء التي شأنها أن تندب، ولاشك أن لمشهور منها في الاستعمال ما آخره ألف أو تنوين أو ياء متكلم، أو ياء أصلية.

فالأصلية كالقاضي حكمها ظاهر. وياء المتكلم الثابتة الساكنة سيذكرها. وما آخره ألف أو تنوين قد ذكره. وما سوى ذلك دخيل في الكلام، غير مستعمل عند العرب، وإنما أجرى الناس فيه القياس كيف كان لو سمي بـ (قومي، أو ضربتني، وقاموا) ونحو ذلك مما هو نادر الاستعمال، غير ضروري الذكر.

ص: 399

وأيضاً، فما آخره واو من المعربات لا يوجد في الكلام إلا أن يسمى بجملة فيها ضمير رفع اختتمت به.

وهذا كله وظيفة أرباب المطولات، ولذلك لم يبوب في هذا النظم على "باب التسمية" فلا ينبغي أن يمثل له هذا الفصل إلا بما هو مستعمل عند العرب؛ وإذا ذاك لا يبقى عليه في المسألة إشكال.

وهذا هو الأولى في الجواب، وهو مقصد في كلامه حسن، وتنقيح لمحل الفائدة وإنما مثل فيما آخره الحركة بـ (غلامه وغلامكم وغلامهم) لتحرك الآخر في الأصل، وسقوط الصلات في أكثر الكلام، وإلا فـ (غلامُكَ، وغلامُكِ) ونون المثنى كافٍ في التمثيل، ويكون (غلامه وغلامكم) ونحوه مما لم يقصد لقلة استعماله والله أعلم.

وقوله: (إن يكن الفتح بوهم لابسًا) أتى بـ (يكن) المضارع، وموضعه للماضي، لأنه لا جواب له ينجزم، فلا يؤتى فيه بالمضارع إلا قليلا، وقد تقدم مثله. وكذلك قوله:

وواقفًا زد هاء سكت إن ترد

وإن تشأ فالمد والها لا تزد

فأتى بـ (إن ترد) والوجه: إن أردت، و (واقفًا) حال من فاعل (زد) أي زد هاء سكت حالة كونك واقفا.

ويعني أنك إذا وقفت على آخر المندوب، وقد ألحقته الألف أو الياء أو الواو، زدت هاًء تقف عليها، وتسمى هاء السكت، فتقول: يا زيداه، يا عبد الملكاه واأمير المؤمنيناه، فتكون تلك الهاء لاحقة للقصد الذي لحقت لأجله في نحو:{يا ليتني لم أوت كتابيه} ، لبيان ما قبلها، فإذا لحقت في نحو:

ص: 400

{كتابيه} . فلبيان الحركة، وإذا لحقت الألف في الندبة فلبيان الحرف الذي بمنزلة الحركة لضعفه.

وقوله: (إن ترد) راجع إلى إلحاق الألف والهاء، فكأنه قال: ومنتهى المندوب صله بكذا مطلقًا، وبالهاء إذا وقفت إن شئت ذلك، وإن شئت فلا تزد شيئا من ذلك، بل تأتي بالاسم المندوب على حده لو كان منادى غير مندوب، فتقول: وازيد، واعبد الملك، واغلام، وما أشبه ذلك، وأنشد سيبويه لابن قيس الرقيات:

تبكيهم دهماء معولة

وتقول سلمى وارزيتيه

إلا أن لحاق المدة أكثر، وإن كان الوجهان معًا سائغين، فكأنه قدم أحد الوجهين تنبيها على أولويته.

فإن قيل: لِم لَم تحمل التخيير على إلحاق الهاء، وذهبت إلى ذلك المحمل البعيد، وقد لا تلحق الهاء في الوقف، كقول جرير:

حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له

وقمت فينا بأمر الله يا عمرا

فوقف بغير هاء كما ترى؟ فالجواب أن الوقف بغير هاء غير معروف في الكلام؛ بل الهاء لازمة في الوقف، وهو مقتضى كلام النحويين.

ص: 401

وأيضاً، فما في بيت جرير لا حجة فيه، لأنه جارٍ مجرى الوصل لا مجرى الوقف، وإلى هذا فهو نادر غير معتد بهب.

ثم هنا مسألتان:

إحداهما: إنه لما قال: "وواقفًا زد هاء سكتٍ" فقيد ذلك بالوقف، دل بمفهومه على أنها لا تزاد في الوصل، وإنما اللاحق الألف خاصة، وذلك صحيح فتقول: واغلاما أين ذهبت؟ وازيدا من لي بك؟

وأنشد سيبويه لرؤية:

*فهي تنادي بأبا وابنيما*

هكذا روي في بعض الروايات، حكاية للندبة، وهو كثير.

والثانية: أنه لما سماها هاء السكت أفهم ذلك أنها ساكنة لا تحرك، وأنها إذا وصل بها سقطت، وهذا ظاهر، إلا أن يشذ شيء فيحفظ، وينشدون هنا:

*يا مرحباه بحمار ناجية*

ومنه أيضا:

ص: 402

ألا يا عمرو عمراه

وعمرو بن الزبيراه

على أن يكون هاء "عمراه" متحركة.

وقائل واعبدِ يا واعبدا

مضن في الندا اليا ذا سكونٍ أبدى

"من" في قوله: "من في الندا" مبتدأ، و "أبدى" صلته، و "في الندا" متعلق بـ (أبدى) و (أليا) مفعول به، و (ذا سكونٍ) حال من (اليا)، وفاعل (أبدى) هو العائد على (من)(وقائل) خبر المبتدأ، و (واعبديا) وما عطف عليه مفعول (قائل) وحذف العاطف ضرورًة.

والتقدير: الذي (أبدى) في النداء الياء ذات سكونٍ قائل في الندبة: واعبديا واعبدا.

ويعني أن من لغته من العرب إثبات الياء في (يا عبدي) ساكنًة لا متحركة، فإن له في ندبة هذا المضاف وجهين:

أحدهما: تحريك الياء بالفتح، فيقول: واعبدياه، واغلامياه، واسيدياه، لأن الألف لفما كانت ساكنة، والياء ساكنة أيضا، لم يكن بد من تحريك الياء أو حذفها، فحركوها لأن أصلها الحركة، فزال المحظور، فوافق في هذا الوجه لغة من يحرك الياء.

والثاني: أن تحذف الياء فتقول: يا عبداه، واغلاماه، واسيداه، وما أشبه ذلك، لأنها لما التقت ساكنًة مع الألف، وقرب شبهها بالتنوين على ما تقرر قبل هذا، حذفوها كما حذفوا التنوين وإن كانت مرادة.

ص: 403

وأما من أثبتها متحركة فلا إشكال في دخولها تحت الأصل المتقدم في قوله: "ومنتهى المندوب صله بالألف" وكذلك لغة من يقول: يا غلام، أو يا غلام، وفي لغة من قال:(يا غلامًا) تدخل تحت الاستثناء بقوله: "متلوها إن كان مثلها حذف".

فقد تبين أن خمس اللغات في المضاف إلى ياء المتكلم مأخوذ حكمها من كلامه على اختصاره. وما ذكر في هذه المسألة من جواز الوجهين هو مذهب المبرد. وأما سيبويه فمذهبه تحريك الياء مطلقا في هذه اللغة، لأنه رأى تحريكها، وهي اسم معتبر محافظ عليه، هو الوجه. ولما ذهب إليه الناظم وجه آخر كما تقدم. وكأن تقديمه لقوله:"واعبديا" بإثبات الياء مشعر (بأنه أقوى من الوجه الآخر، وجعله في "شرح التسهيل" على العكس، وأن إثباتها قليل. والظاهر ما أشعر) به هنا. ولذلك لم يذكر سيبويه غيره.

ص: 404