الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما لا ينصرف
الصرف تنوين أتى مبينا
…
معنى به يكون الاسم أمكنا
هذا باب "ما ينصرف وما لا ينصرف"
ولما كان الكلام في أحكام (الصرف) أو عدمه ثانيًا عن تصور معناه: ابتدأ الكلام في معناه، فاعلم أن (الصرف) هو تنوين يلحق الاسم مبينًا لمعنًى يكون الاسم بسببه أمكن، أي يدعى بأنه أمكن، وذلك أن الأسماء عند النحويين على قسمين، وذلك باعتبار التمكن وعدمه: متمكن، وغير متمكن.
و(المتمكن) في اصطلاحهم: يطلق على ثلاثة معان:
أحدها: أنه المعرب المتصرف بوجوه الإعراب، فغير المتمكن على هذا: ما اقتصر فيه على وجه واحد وإن كان معربا، نحو: ايمن الله، وسبحان الله.
والثاني: أنه الاسم الذي تعتور عليه المعاني الموجبة للإعراب، وهي الفاعلية، والمفعولية، والإضافة، فأسماء الإشارة على هذا متمكنة وإن كانت مبنية، وهذا أعم من الأول، وكلاهما غير مراد الناظم.
والثالث: وهو مراده، أنه كل اسم مستحق للإعراب، لكونه لم يشبه الحرف، أي هو متمكن في بابه، وغير المتمكن: هو كل اسم خرج عن استحقاق الإعراب، لشبهٍ حصل بينه وبين ما لا يدخله إعراب أبدًا، وهو الحرف أي لم يتمكن في الاسمية.
والأول على قسمين:
(متمكن أمكن) وهو الذي يجري بوجوه الإعراب على أصلها، من الرفع بالضمة، والنصب بالفتحة، والجر بالكسرة، وهذا هو الذي قصد بالذكر.
و(متمكن غير أمكن) وهو الذي نقص عن تلك الرتبة، ولم يخرج عن بابه جملة، وهو الجاري ببعض وجوه الإعراب وهو الرفع والنصب، دون بعض وهو الجر.
فأخبر أن (الصرف) تنوين، و (التنوين): نون ساكنة مزيدة في آخر الاسم لمعنى يختص به.
وذلك المعنى على أوجه:
منها أن يدل على بقاء الأصالة، ويسمى "تنوين الصرف" وهو الذي أراد بقوله:"الصرف تنوين" أتى بالجنس الذي يشمل ما يدل على الأصالة وما لا يدل على ذلك؛ بل على معنى آخر كـ "تنوين التنكير" الدال على تنكير ما هو صالح للتعرف كـ (صه، ومه، وأف) وكـ "تنوين العوض" اللاحق عوضًا من مضاف إليه، كـ (حينئذ، ويومئذ) ونحوهما، وكـ "تنوين المقابلة اللاحق مقابلا لنون جمع المذكر، كـ (مسلمات)
ولما كان ذلك داخلا عليه بين أنه يريد منها ما هو دال على معنى الاسم، وذلك المعنى من أجله سمي الاسم أمكن، والأمكنية، فكأنه قال! : التنوين هو النون الدالة على الأمكنية في هذا الاسم، وذلك نحو: رجل، وفرس، وزيد، وعمرو.
فإن التنوين في هذه الألفاظ لا يدل على معنى زائد على الأمكنية؛ إذ ليس عوضًا من شيء، ولا مقابلًا لشيء، ولا مبنيًا تنكير شيء؛ إذ كان يلحق الفكرة والمعرفة، فتحصل تعريف (الصرف).
ومقصوده بتعريفه تبيين أن ما دخله (الصرف) يسمى منصرفا، وما لم يدخله يسمى غير منصرف، فـ (صه، ومه) ونحوه لا يسمى منصرفا، لأن ذلك التنوين فيه لم يلحق لمعنى الأمكنية، حتى لو فرضنا فيه التعريف ببحقه التنوين.
وكذلك (إذ) في (حينئذ) ونحوه لا يسمى منصرفًا، إذ لم يلحق لالًا على الأمكنية.
وكذلك (مسلمات) ونحوه لم يلحقه التنوين الصرفي، حتى لو فرضنا أن ليس له مقابل للحق.
وإذا ثبت هذا التعريف ورد عليه أسئلة:
أحدها: أن (الصرف) هو التنوين الدال على معنى الأمكنية، والأمكنية إنما وجدنا باستقراء مواقع التنوين، حتى رأينا أن تنوين نحو (رجل، وزيد) إنما لحق دالًا على معنى الأمكنية.
فمعنى الأمكنية لم نجده من غير ذلك؛ إذ لم تشافهنا العرب بذلك.
وإذا كانت معرفتنا لمعنى الأمكنية إنما صدرت من جهة (تنوين الصرف) صار هذا التعريف دوريًا لأنا لا نعرف (الصرف) إلا بكونه يدل على الأمكنية وهذا بالغرض، ومعنى الأمكنية لم نعرفه إلا بالصرف وهذا بالاستقراء، والدور في التعريفات فاسد.
والثاني: أن المعنى الذي عرف به أتى به مبهما؛ إذ قال: مبينًا معنى من شأنه أن يكون الاسم به أمكن.
وذلك المعنى لم يعينه باسمه ولا عرفه، كما ينبغي في (التعريف)
فحاصل ذلك أنه أحال في (التعريف) على ما هو مفتقر إلى التعريف، ولم توضع الرسوم إلا على البيان.
والثالث: أن المعرف بالألف واللام، والمضاف، إما أن يقول: إنها منصرفة أو غير منصرفة، فالقول بأنها منصرفة غير صحيح على مقتضى التعريف؛ إذ لم تتصف بالصرف وهو التنوين، وهذا بالحس، وإذا لم تتصف به لم يصح أن يقال: إنها منصرفة، والقول بأنها غير منصرفة باطل، وإن لم يلحقه الصرف الذي هو التنوين، وهذا بإجماع.
وأيضًا، يطلق النحويون على المضاف وذي الألف واللام الانصراف كثيرا، فيقولون: إن غير المنصرف إذا أضيف أو دخلته الألف واللام انصرف.
ولا يقال: إن الألف واللام، والإضافة، لما كانا يعاقبان التنوين سمي ما هما فيه منصرفًا حكمًا للمعاقب بحكم ما عاقبه، ولذلك دخله الجر مع الألف واللام والإضافة، فلا غرو أن سموه منصرفا- لأنا نقول: إذا كان الاسم الذي لا ينصرف لم يكن فيه تنوين- فما الذي عاقبت الإضافة أو الألف واللام؟ فهذه ليست بمعاقبة صحيحة، وإنما تجرى المعاقبة بينة في نحو: الرجل، وغلام زيد.
وأما مثل: حمراء الأسد، ومساجد بني فلان، فما الدليل على هذا؟
والرابع: أن هذا التعريف يقتضي أن نحو: (مسلمات، وصالحات) قبل التسمية، وكذلك بعد التسمية، نحو (عرفات، وأذرعات) غير مراد، لأن التنوين المذكور لم يلحقه.
وإذا كان كذلك فإذا قلت: هذه عرفات مباركًا فيها، فمنعته التنوين والخفض على لغة من قال بذلك- فما الذي منع هنا؟
فإن قلت: تنوين الصرف. فكيف هذا وهو تنوين مقابلة وإن كان مسمًى به؟ والدليل على ذلك بقاء اللفظ على ما كان عليه في اللغة الأخرى، ومعاملته معاملة ما لو كان جمعًا حقيقة، ولا خلاف أن تنوين (عرفات) قبل التسمية به هو
التنوين بعد التسمية به على اللغة الشهيرة. وقد قالوا: إنه تنوين مقابلة، فكذلك بعد التسمية به.
فقد حصل في ظاهر الوجود أن ثم من المنصرف ما لا يدخله تنوين الصرف المذكور، فصار التعريف غير منعكس.
فأما السؤال الأول: فقد يجاب عنه بأن الدور ساقط في التعريف، لأن التعريف حصل أن الصرف هو التنوين المفيد لمعنى الأمكنية، فالصرف متوقف على معنى الأمكنية، والأمكنية لا تتوقف على معرفة (الصرف) بل إنما تتوقف على معرفة حصول وجوه الإعراب فيه، لأن وجوه الإعراب ما دخلت فيه واستوفاها إلا لمعنى فيه يسمى الأمكنية، أي هو متمكن في وجوه الإعراب الثلاثة.
والتنوين الصرفي: تابع لوجوه الإعراب بعد تقرر حصولها له، وإنما كان يكون دورًا لو توقفت معرفة الأمكنية على معرفة التنوين الصرفي، وليس كذلك.
وأما الثاني: فيجاب عنه بأن المعنى المعرف به مشروح، لأنه قال:"به يكون الاسم أمكنا" فاشتق له من الأمكنية وصفًا، فمعناه: يكون به الاسم ذا أمكنية، والمعنى المراد هو الأمكنية، فليس فيه إبهام كما زعم.
وأما الثالث: فإن المنصرف إنما يطلق عند النحويين في مقابلة غير المنصرف، فلا يقال للاسم:(منصرف) إلا إذا كان بحيث
يدخله المانع، فيمتنع صرفه، وذلك إذا كان فيه التنوين. و (غير المنصرف) هو ما منع تنوين الصرف، كما يقرره الناظم.
فإذًا لا يقال فيما فيه الألف واللام أو الإضافة إنه (منصرف) إلا بضربٍ من المجاز، وهو اعتبار المعاقبة على الجملة، حين كانا يعاقبان التنوين.
والدليل على ذلك: أن سيبويه إنما يقول فيما فيه الإضافة أو الألف واللام: إنه انجر، ولا يقول: انصرف. ألا تراه قال في "باب المجاري": وجميع ما لا ينصرف: إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف انجر، لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرفة. ولم يقل: انصرف، كما عبر عما فيه التنوين بالمنصرف، فالحق فيما فيه الألف واللام ألا يقال فيه: منصرف، ولا غير منصرف، كما لا يقال للمثنى والمجموع على حده: إنه منصرف أو غير منصرف.
فإذا لا يصدق على ما فيه الألف واللام أو الإضافة أنه منصرف، لأنه لا تنوين فيه، ولا غير منصرف، لأنه لم يكن المانع له منه شبه الفعل؛ بل الألف واللام أو الإضافة.
وأما السؤال الرابع: فالجواب عنه أن المجموع بالألف والتاء لا يسمى منصرفا، وإن كان ابن النظام ينازع في ذلك، لأن "تنوين الصرف" مفقود منه وهو باقٍ على أصله، وكذلك إذا نقل إلى التسمية على اللغة الشهيرة اعتبارًا بالأصل.
وأما من منع فإنه اعتبر حالة التسمية وهو إذ ذاك مفردٌ فيه تاء التأنيث فأشبه (علقاة) إذا سميت به رجلا، فإنك تمنعه (الصرف) فكذلك (عرقات) ونحوه. وإذا كان معنى الإفراد فيه معتبرا خرج بذلك عن كون تنوين مقابلة، لأن تنوين المقابلة مختص بالجمع، وهذا ليس بجمع.
فإن قلت: فكذلك (عرفات) ونحوه مفرد على اللغة الشهيرة؛ إذ هو اسم لجبل بعينه.
فالجواب: أن معاملتهم إياه معاملة الجمع في كونه يجر بما ينصب به، ولا يمنع صرفه مع توفر علل المنع وهو التأنيث والتعريف- دليل على اعتبار معنى الجمع فيه، وعدم اعتبار معنى الإفراد، وهذا واضح والله الموفق.
وقوله: "أتى مبينًا" جملة في موضع الصفة لـ (تنوين) و (معنى) مفعول بـ (مبينًا) و (به) متعلق بـ (يكون) والجملة في موضع الصفة.
فألف التأنيث مطلقًا منع
…
صرف الذي حواه كيفما وقع
هذا أحد موانع الصرف، وهو الألف الذي للتانيث وجملة الموانع التي ذكر هنا عشرة:
التأنيث بأقسامه الثلاثة، والألف والنون، والوصف، والوزن بقسميه، والعدل، والجمع على (مفاعل) أو (مفاعيل) والعلمية، والتركيب، والعجمة، وألف الإلحاق.
وزاد بعضهم ألف التنكير، كقبعثري، ضبغطري"، مسمى بهما، وهذا قليل فلم يعتبره، وزيد أيضًا شبه العجمة، وهو الجمع المتناهي مسمى به.
وقد ذكر الناظم التسمية به، وأخبر أنه ممنوع الصرف، ولم يعين مانعه. والظاهر أنه منع الصرف عنده تشبيهًا بأصله.
وزاد آخر: وشبه العلمية، كألفاظ التوكيد، ولعلها تدخل له تحت العلمية.
وابتداء بألف التأنيث، وهو أحد أقسام التأنيث الثلاثة، وهو الذي يمنع مطلقا في المعرفة والنكرة، وذلك أنه جعل مانع الصرف على وجهين:
أحدهما: ما منع مطلقًا.
والثاني: ما منع في حال التعريف، دون حال التنكير.
فأما المانع مطلقا: فثلاثة أشياء: ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة، والوصف إذا اجتمع مع زائدي (فعلان) أو مع الوزن، أو مع العدل، ووزن (مفاعل) أو (مفاعيل).
وأما المانع حال التعريف خاصة بما سوى ذلك.
وابتدأ الناظم بالقسم الأول، وبألف التأنيث منه، فقال:"فألف التأنيث" إلى آخره.
يعني أن الألف التي للتأنيث، سواء كانت مقصورة أو ممدودة، يمتنع، بدخولها وحدها، صرف الاسم الذي حوى هذا الألف، كيفما وقع ذلك الاسم، كان نكرة، أو معرفة بالعلمية أو منكرًا بعد التعريف.
وكذلك الإفراد والجمع والاسم والصفة، الحكم سواء في ذلك، فتقول: هذه امرأة حبلى، وهذه بشرى حسنة، وذكرى بليغة، هذا في المقصورة.
وتقول في الممدودة: هذه صحراء، وجبة حمراء، وصفراء، وكذلك كبرياء، وسيمياء، وفي العملية نحو: زكرياء، وعاشوراء. وإن نكرت قلت: زكرياء آخر.
وهذا مما لا خلاف فيه بين النحويين.
وأطلق عليها في (صحراء) ونحوه لفظ الألف اعتبارًا بأصلها. والأصل: صحراا، بألفين، فقلبت ألف التأنيث، وهي الثاني، همزة لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة.
وقد يحتمل أن يرجع قوله: "مطلقًا" للمنع، كأنه قال: إن الألف يمنع الصرف مطلقا، في حال التعريف والتنكير. ويكون قوله:"كيفما وقع" راجعا إلى الألف، يعني سواء أكان الألف باقيًا على أصله غير منقلب أم منقلبًا همزة، الحكم واحد في إطلاق المنع.
ولعل هذا التفسير أسعد بكلام الناظم لموافقته الاستعمال؛ إذ يقال: ألف التأنيث تمنع مطلقا، ووزن (مفاعل) يمنع مطلقا، يعني أنه يمنع في المعرفة والنكرة، مع أن الوجه الأول لا مانع له من جهة المعنى.
وجعل ألف التأنيث هنا مانعًا منفردا، وشأن موانع الصرف ألا تمنع إلا إذا جاء اجتمع منها سببان فأكثر، ولكن هذا ثابت فيه، وفي موازن
(مفاعل ومفاعيل) وما عداهما فهو الذي لا يمنع وحده على ما سيأتي ذكره إن شاء الله.
وعلى أن كثيرا من متأخري النحويين يردون ذلك إلى علتين، لا إلى علة واحدة، طردًا لما ثبت في غير ذلك.
فأما شيخنا القاضي- رحمه الله فكان يقول: قد يقال: إنه أشبه ما فيه علتان توهما، فكأن اجتماع التأنيث المعنوي مع اللفظي علتان ثنتان، وكأن معنى الجمع مع لفظه الذي لا نظير له علتان أيضا، طردًا لقاعدة "اجتماع العلتين اللفظية والمعنوية التي بسببها أثر الشبه.
وغيره من شيوخنا وغيرهم يعبرون عن العلتين بالتأنيث، ولزوم التأنيث.
وعبر عن ذلك شيخنا الأستاذ- رحمه الله بلزوم حرف التأنيث، وبقاء الكلمة عليه.
وفي (مفاعل) يقولون: المانع الجمع المتناهي، وعدم النظير في الآحاد، فقد صيروا العلة الواحدة علتين.
والناظم إنما بنى على ظاهر الحال، وأن الاسم لم يوجد فيه، في الظاهر، إلا علة واحدة، وما فصل غيره فراجع إلى معنى واحد في التحقيق. والله أعلم.
وإنما منع صرفه كيفما وقع، لوجود علة المنع، أما قبل التسمية فظاهر، وكذلك بعد التسمية، لأن العلمية إنما زادت ثقلا وسببية للمنع، فإن نكر بعد التسمية زالت العلمية، وبقي على أصله قبل العلمية.
وجرى الناظم في هذا البيت على تذكير الألف إذ قال: "وألف التأنيث مطلقًا منع" ولم يقل: "منعت".
وكذلك قوله: "صرف الذي حواه" ولم يقل: "حواها" وذلك جائز، فـ (الحرف) يجوز تذكيره وتأنيثه، كما قال:
* كافأ وميمًا وسينًا طاسمًا *
وكما قال:
* كما بينت كاف تلوح وميمها *
وزائدا فعلان في وصف سلم
…
من أن يرى بتاء تأنيث ختم
هذا هو الأمر الثاني من موانع الصرف مطلقا، وهو الوصف، لكنه لا يمنع وحده؛ بل مع علة أخرى، وجعله مانعا مطلقا في ثلاثة مواضع، هذا أحدها، وهو مع زائدي (فعلان) وهما الألف والنون.
ويريد أن الألف والنون إذا اجتمع مع الوصفية، وهو معنى قوله:
"في وصف" فإنه يمنع صرف الاسم، سواء كان ذلك الاسم نكرة أو معرفة، فتقول: رجل غضبان، وإناء ملآن ماء، ونحوه.
فإن قلت: من أين يفهم أنه يمنع مطلقا، ولعله في حال دون حال؛ إذ لم يذكر ذلك هنا؟
فالجواب: أنه يتحصل من وجهين:
أحدهما: من إطلاقه المنع ولم يخصه، والأصل في الإطلاق حمله في كل ما يحتمله، ولو أراد حالة دون أخرى لقيد، كما يفعل ذلك في غير هذا الموضع.
والثاني: أن قوله: "وزائدا فعلان" معطوف على ألف التأنيث، كأنه قال: وألف التأنيث مطلقا منع، وزائد (فعلان) كذلك، وإلا فأين خبر قوله:"وزائدا فعلان"؟ فليس إلا معطوفًا كقولك: زيد في الدار وعمرو، فالمنع فيه مطلق.
وقوله: "وزائدا فعلان" اشترط في وصفها علة الزيادة، فلو كانت إحداهما أصلية لم يكن لهما تأثير في المنع، كـ (تبانٍ) من: التبن، و (طحان) من: الطحن، و (سمان) من: السمن، وما أشبه ذلك.
فإذا كانتا معًا زائدتين فحينئذ يترتب على ذلك منع الصرف، وينهض الزائدان موجبا.
لكنه شرط في هذا المنع شرطا وهو أن يكون سالمًا من لحاق تاء التأنيث عند إطلاقه على المؤنث وصفًا له، وذلك أن يكون (فعلان) الذي في مقابلة (فعلى) نحو: سكران، وملآن، وغضبان، وعطشان، وعجلان، لأنك تقول في مؤنثة: سكرى، وغضبى، وملأى، وعطشى، وعجلى.
فلو كان تأنيثه بلحاق الهاء لم يكن منع صرفه مطلقا، نحو: رجل سيفان، وخمصان، وعريان، وندمان، ونحو ذلك، فإنك تقول في تأنيثه: سيفانة، وخمصانة، وعريانة، وندمانة.
وكذلك على من قال في نحو (سكران): سكرانة، لا يمنع صرفه مطلقا لفقد شرط الامتناع. وحكى المؤلف أنها لغة لبني أسد، يقولون في (سكران): سكرانة.
ويشمل اشتراط الناظم ما إذا لم يكن له مؤنث أصلا لا، بالهاء، ولا على (فعلى) لأن قوله:"سلم من أن يرى مختومًا بتاء تأنيث" أعم من أن يكون له مؤنث بغير تاء، أو لا مؤنث له أصلا.
فعلى هذا تمنع صرف (رحمان) من أسماء الله تعالى. فتقول: الله رحمان رحيم. وهذا أحد القولين فيه.
فمنهم من قال بما تقدم نظرًا إلى امتناع (فعلانة) فيه، فيمتنع لأنه لم يؤنث بالتاء.
ومنهم من قال بصرفه في النكرة، نظرًا إلى أنه ليس له (فعلى) قال الأستاذ- رحمه الله: والأول أولى، لأن باب (فعلى) أوسع من باب (فعلانة) والدخول في أوسع البابين واجب.
ومن هذا ما حكي من قولهم: رجل لحيان، إذ ليس له (فعلى) ولا (فعلانة).
ووجه امتناع صرف هذا القبيل مطلقا شبه الألف والنون بالألف والهمزة في باب (حمراء)
والشبه بينهما من أوجه، وهي أنهما، في الموضعين، زيادتان زيدتا معًا، والأولى منهما ألف، وقبلها ثلاثة أحرف، ولا تلحقها التاء، وبناء المؤنث مخالف لبناء المذكر.
فلما قوي الشبه بين (فعلان، فعلى) وبين (فعلى، أفعل) هذه القوة جرى مجراه في الامتناع مطلقا.
وهذا ظاهر تعليل سيبويه. وربما أطلق على (فعلان) أنها بدل من (فعلاء) أعني بدل النون من الهمزة، وقد فعل ذلك في "باب البدل".
فإن قلت: جعله الوصف يمنع مطلقا مع الألف والنون مشكل، لأن ذلك لا يصح إلا إذا كان الاسم نكرة، أما إذا كان معرفة، فإن التعريف يذهب بالوصفية، لأن الوصفية والعلمية متنافيان لا يجتمعان، وإطلاقه يقتضي أن الوصفية مع صاحبها مانع في النكرة والمعرفة، وهذا لا يصح.
وهذا الإشكال وارد في سائر المواضع التي يمنع فيها الوصف مع غيره مطلقا، وهو الوزن والعدل الآتي ذكرهما إثر هذا.
فالجواب: أن الناظم لما قال: "وزائدا فعلان في وصف" فهذا المساق يقتضي أنه إنما تكلم على كونه وصفًا فيه الألف والنون، وما فيه الألف والنون من الأوصاف إنما يتصور في النكرة، كما في السؤال، فيصح أن يقال فيه: إنه يمتنع صرفه مطلقا، أي لا يختص ذلك بكونه غير مسمى به، أو مسمى به ثم نكر بعد التسمية، لأنه إذا نكر يراجع به الأصل حكما، فيلحظ فيه معنى الوصفية، فكأنه على أصله من التنكير.
وهذا رأي سيبويه، وهو ظاهر كلام الناظم، ويلزم على طريقة الأخفش أن يصرفه بعد التنكير، كما يقول ذلك في (أحمر) إذا سمي به ثم نكر.
فإن قلت: فقد تقدم أنه يذكر في هذا القسم ما ينصرف في النكرة والمعرفة، وهذا الذي قرر هنا مخالف لذلك، من حيث صار الكلام فيه بالنسبة إلى تنكيره خاصة.
فالجواب: أن محصوله أنه لا ينصرف لا في النكرة ولا في المعرفة.
أما في النكرة: فلما ذكر آنفًا، وكلام الناظم صالح للتفسير به.
وأما في المعرفة: فلما فيه من المانع الذي يذكره، بعد، وهو العلمية والألف والنون، فعلى كل تقدير لا ينصرف أصلًا.
وقد يقال، وهو مختص بهذا النوع: إن الألف والنون منعت وحدها لها لما تقرر من الشبه بينها وبين همزة التأنيث حين قال سيبويه إن النون بدل من الهمزة.
قال ابن خروف: يعني بدل العوض، فلما أجروا عليها حكم الهمزة جرت مجراها في المنع وحدها، وتكون العلمية على هذا غير مؤثرة.
وهو ما يظهر من كلام الناظم، لأنه قال:"وزائدا فعلان في وصف" فجعل الوصفي موضوعا، والألف والنون مانعا، ولم يجعل الوصفية مانعا نصًا، وإلا فكان يقول:"وزائدا فعلان مع وصف سلم" إلى آخر وهذا المنزع هو ظاهر كلام سيبويه، لكن هذا التفسير غير مطرد في الأنواع الثلاثة، فالجواب الأول: أولى، وهو المطرد فيها، كأن المشبه لم يقو عنده أن يكون قائما مقام المشبه به.
وقوله: "ختم" جملة في موضع الحال من ضمير "يرى" وهو ضمير "الوصف" وجاء الماضي حالًا خاليًا من (قد) إذ هو جائز عنده كقوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم} الآية. و"بتاء تأنيث" متعلق بـ "ختم".
ووصف أصلي ووزن أفعلا
…
ممنوع تأنيث بتاكأ شهلا
وألغين عارض الوصفية .... كأربعٍ وعارض الإسمية
فالأدهم القيد لكونه وضع
…
في الأصل وصفًا انصرافه منع
وأجدل وأخيل وأفعى
…
مصروفة وقد ينلن المنعا
هذا هو الموضع الثاني من المواضع التي يكون فيها الوصف ممنوعًا من الصرف مطلقًا، وذلك مع وزن الفعل الغالب على الفعل، فإذا كان نكرة امتنع صرفه للعلتين نحو: أحمر، وأصفر، وأسود، وما أشبه ذلك.
وقيد منع الصرف مطلقا في هذا النوع بقيدين:
أحدهما: أن تكون الوصفية أصلية لا عارضة، بمعنى أن أصل الوضع في ذلك الاسم أن يكون صفة، ولا يضره بعد ذلك أن يستعمل استعمال الأسماء في بعض المواضع، كما سيذكره.
فقول: (هذا ثوب أحمر وأخضر) موضوع على أن يكون وصفا، فيمتنع صرفه مطلقا، في النكرة، والمعرفة إذا سمي به، وإذا نكر بعد التسمية.
حكى ابن خروف عن أبي زيد الأنصاري قال: قلت للهذلي: كيف تقول للرجل له عشرون عبدًا، كل واحد منهم اسمه "أحمر"؟ قال:
عشرون أمر، قال: فقلت: فكيف تقول: إذا كان يقال لهم: أحمد؟ فقال: عشرون أحمدًا، فأجرى "أحمدًا" ولم يجر "أحمر" وهذا موافق لما يعطيه النظم.
فلو كانت الوصفية عارضة لم تعتبر، كما سنبنيه.
والشروط الثاني: أن يكون تأنيثه بالتاء ممتنعا، وذلك قوله:"ممنوع تأنيث بتاء" وإنما يؤنث ببنية أخرى إن كان له مؤنث، وذلك أن (أفعل) إذا كان وصفا على ثلاثة أوجه:
أحدها: (أفعل، أفعلة) نحو: أرمل، وأرملة، فهذا الضرب لا يحكم له بمطلق الانصراف، فإنه الذي تحرز منه، وإنما يذكر بعد هذا، حتى تدخله العلمية، فإنه مما ينصرف في النكرة، ويمتنع صرفه في المعرفة.
والثاني: (أفعل التفضيل) مقدرًا بـ (من) فهذا يدخل له تحت إطلاقه هنا، لأنه قد اجتمع فيه أنه وصف أصلي، وأن التاء لا تدخل في مؤنثه، فلا ينصرف في معرفة ولا نكرة لا قبل التسمية ولا بعدها.
أما قبل ذلك فظاهر، وأما بعده فلشبه الأصل عند سيبويه:
يوافق الأخفش هنا سيبويه، لكن على معنًى آخر، وهو أن هذا عنده من باب الحكاية، فاتفاقهما من وجهين مختلفين.
والثالث: (أفعل، فعلاء) نحو: أحمر، وأبيض، وقد تقدم.
ويندرج تحت هذا الإطلاق نحو: رجل آدر، وآلي، أي عظيم الأليتين، وأكمر، للعظيم الكمرة، وما أشبه ذلك مما ليس له (فعلاء) ولا (أفعلة) وهو نظير (لحيان) في باب (فعلان).
ووجه المنع في هذه مطلقا أن الوزن المختص بالفعل، والوصف الأصلي موجودان فيه في حال التنكير أولًا.
وأما حالة التعريف فللعلمية التي خلفت الوصفية، فإذا نكر بعد التعريف صار يشبه أصله قبل التسمية، فمنع الصرف، وهو مذهب سيبويه.
وأما أبو الحسن فصرفه في التنكير بعد التسمية، وقال: إنما المانع له في التنكير الوصفية، وقد زالت بالتسمية، فلم يبق له مانع إلا الوزن وحده، وهو لا يمنع وحده.
وكلام العرب على ما قال سيبويه، وقد تقدم ما حكى أبو زيد عن الهذلي. وقد نقل عن أبي الحسن أنه قال في كتابه "الأوسط": إن (أفعل) صفة لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. قال: والقياس أن ينصرف في النكرة. قالوا: فقد وافق سيبويه في السماع وذكر أن القياس هو الصرف، وهو ظاهر.
وقد رجح الفارسي في "التذكرة" مذهب سيبويه، بإجماعهم على ترك صرف (أدهم، وأبطح) ونحوهما، مما استعمل استعمال الأسماء من هذه الصفات.
وبيان ذلك: أنه ليس في تسميتهم بـ (أحمر) ونحوه أكثر من أن يستعملوها استعمال الأسماء، وقد سلبوا عنها معنى الصفات. وهذا المعنى موجود في قولهم:(أدهم) وبابه، وقد امتنعوا من صرفه، فكذلك ينبغي أن يكون (أحمر) وبابه إذا سمي به، ثم نكر.
وقد تقدم الاعتذار عن إطلاق الناظم، وإنما لم تؤثر العلتان عند لحاق التاء من قبل أنها قد أخرجت عن تأثير وزن الفعل؛ إذ كان الفعل لا تلحقه هاء التأنيث.
وعلى هذا التعليل يستتب الحكم فيما له مؤنث بغير التاء، أو فيما ليس [له] مؤنث أصلا.
ومثل ما منع التاء بـ (أشهل) وهو من قسم (أفعل، فعلاء)
ثم لما قيد الوصف بالأصلي احتاج إلى بيان ما أشار إليه بالقيد، فقال:"وألغين عارض الوصفية".
يريد أن الوصفية إذا كانت عارضة للاسم، ليست في أصل وضعه، لا معتبر بها، فلا تؤثر منعًا، كما أثرت الأصلية.
فإذا قلت: مررت بنسوة أربع، ورأيت نسوة أربعًا، وهو الذي مثل به، فلا تمنعه الصرف، لأن (أربعًا) أصله الاسمية، وأن يدل على مجرد ذلك العدد.
فمن قال: مررت بنسوة أربع، إنما اعتبر معنى غير المعنى الأصلي، وهو تاويله بمتعددات ونحوه من المشتق، وهو خلاف المعنى الأصيل.
وكذلك أيضا، لا معتبر بالعارض في الاسمية؛ بل يعتبر الأصل من الوصفية، وهو قوله:"عارض الاسمية"[وهو معطوف على قوله: "عارض الوصفية"] مسلط عليه "الغين" أي وألغينّ" أيضا "عارض" الاسمية".
فإذًا من الأسماء ما أصل وضعه أن يكون وصفا، ثم عرض فيه أن وقع اسما من غير اعتبار معنى الوصفية، فتمنعه الصرف؛ إذ كانت الاسمية عارضة لا يعتد بها.
وارتكب هنا قطع همزة الوصل في "الاسمية" إذ لم يستقم له تحريم اللام وسقوط همزة "اسم" لما يلقى فيه من "الكف" في (مستفعلن) والكف لا يقع في (وتد) فاضطر إلى إثبات الهمزة وإبقاء لام التعريف على إسكانها، كما قال الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه
…
بنث وإفشاء الحديث قمين
ثم بين بالمثال مراده بهذا الثاني، فقال:"فالأدهم القيد لكونه وضع" .. إلى آخره.
يعني أن قولهم: "الأدهم" مرادًا به (القيد) انصرافه منع، لكونه وضع في الأصل لأن يكون وصفًا من (الدهمة) وهي السواد، كقولك: ثوب أدهم، وفرس أدهم، وبعير أدهم، وناقة دهماء، كأحمر وحمراء. ثم استعمل للقيد لدهمته، وتنوسي ذلك المعنى فيه، فصار يطلق لا باعتبار الوصف، ولكن بقي في عدم
الصرف على أصله، فتقول: جعل على رجله أدهم، ورأيت على رجله أدهم، كما تقول: رأيت على رجله قيدًا ولا تختلف العرب في منع صرف هذا النوع.
ومنه (الأسود) للعظيم من الحيات وفيه سواد، أصله الصفة. ثم استعمل اسما.
و(الأرقم) الحية، للحية التي فيها سواد وبياض، واستعمل اسما كذلك.
فالدليل على أنها استعملت اسمًا، قولهم: الأداهم، والأساود، والأراقم، فجمعوها على (أفاعل) لأن مثل هذا الجمع يختص بالأسماء لا بالصفات، إنما الصفات على (فعل) كحمر، صفر.
وقد يأتي في الصفات قليلًا نحو: الأبارق، والأجارع، والأباطح.
والأبطح: المكان المنبطح. والأجرع: المكان المستوي من الرمل والأبرق: ما فيه لون مختلف، وهو الحمرة والبياض، يقال: تيس أبرق.
وهذه المسألة والتي قبلها مما يقوي مذهب سيبويه في اعتبار الأصل في نحو (أحمر) إذا نكر بعد التسمية.
ثم ذكر ما استعمل صفة في بعض اللغات، واسمًا في بعضها، فقال:"وأجدل وأخيل وأفعى مصروفة"
يعني أن هذه الألفاظ وهي: (الأجدل) وهو الصقر، و (الأخيل) وهو طائر أخضر على جناحه لمعة تخالف لونه، يقال: هو الشقراق، و (أفعى) للحية المعروفة- كلها مصروفة في الأشهر من الكلام، لأنها أسماء غير صفات عند الأكثر وغير مصروفة عند بعض العرب لأنها
عندهم صفات، لأن (الجدل) شدة الخلق، فصار (أجدل) عند هؤلاء في معنى: شديد، وكذلك (أخيل) من الخيلان للونه، ولذلك يقال: رجل أخيل، أي كثير الخيلان.
ومما جرى فيه منع الصرف قول حسان بن ثابت- رضي الله عنه:
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي
…
فما طائري فيها عليك بأخيلا
وكذلك (أفعى) لأنها من معنى (فوعة السم) أي شدته.
قاله ابن جني، كأنه على تقدير القلب، أو من باب الاستدلال بالاشتقاق الأكبر.
قال سيبويه: كأنه صار عندهم صفة، وإن لم يكن له فعل ولا مصدر.
وإنما أتى الناظم بهذا ليبين أن ما كان فيه وجهان أصليان، والاسمية والوصفية- ففيه وجهان في منع الصرف وعدمه، مبنيان على ذينك الوجهين؛ إذ ليس أحدهما أصلا للأخر. ألا ترى أنك لا تقول: لكل شديد: أجدل، ولا لكل من اشتد سمه: أفعى، كما تقول لكل ما فيه السواد أسود، ولكل ما فيه الدهمة أدهم.
فالذي قد استعمل (أجدلا) ونحوه اسمًا لم ينقله من الوصفية إلى الاسمية، ومن اعتقد وصفيته فإنما اعتبر معنى الاشتقاق مجردًا، وذلك موجود في أصل الوضع، فكل واحد من الاستعمالين ممتاز من الآخر، فلم يكن ليرد أحدهما في الصرف أو عدمه إلى الآخر، لاستحقاق كل واحد منهما الأصالة، ولا يضر في هذا كون أحد الوجهين أكثر من الآخر إذا كان أصلًا في نفسه.
وقوله: "وقد ينلن المنعا""النون" عائدة إلى الألفاظ الثلاثة، أي قد يمنع صرفهن قليلًا، ودل على القلة إتيانه بـ "قد" ولم يبين كونهما لغتين؛ إذا الحاصل مع ذلك ما ذكره من قلة الانصراف وقلة منعه.
ومنع عدل مع وصف معتبر
…
في لفظ مثنى وثلاث وأخر
ووزن مثنى وثلاث كهما
…
من واحدٍ لأربعٍ فليعلما
وهذا هو الموضع الثالث الذي يكون الوصف فيه ممنوعا من الصرف مطلقا، وذلك مع العدل.
والعدل: هو أن تريد لفظًا، فتنتقل عنه إلى غير مما يعطي معناه، لضربٍ من التخفيف أو المبالغة.
وذلك أن قولك: (مثنى) معدول عن لفظ: اثنين اثنين، أو عن لفظ (اثنين) مرادًا به التفصيل.
فإذا قلت: جاء القوم مثنى، فمعناه: جاء القوم اثنين اثنين، أي مرتبين في المجيء هذا الترتيب. فعدل هذا عن ذلك، أو تقول: عدل عن (اثنين) المراد به اثنين اثنين، من قولهم: الزيدان خير اثنين في الناس، أي هما خير الناس إذا قسموا هذا التقسيم.
وكذلك (ثلاث) معدول عن (ثلاثة) المراد به التفصيل على ما ذكر، وهكذا سائرها.
فإذا اجتمع الوصف والعدل امتنع صرف الاسم مطلقا، في النكرة والمعرفة، وهو قوله:"ومنع عدلٍ مع وصف معتبر" فأطلق القول في منع الصرف، كان نكرة أو معرفة. وكذلك إذا نكر بعد التسمية، لشبه الأصل مع العدل.
وهذا يجيء على رأي سيبويه، ومن لا يراعي الأصل يصرفه هنا.
والذي جرى عليه في هذا النظم هو مذهب سيبويه، أي منع هذين الأمرين معتبر مشهور في الاستعمال، مرتكب فيه في مثل هذه الألفاظ الثلاثة.
أما (مثنى، وثلاث) فنحو: رأيت رجالًا مثنى، ورأيت رجالًا ثلاث، وكذلك (رباع) ومنه الآية الكريمة:{جاعل الملائكة رسلًا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع} .
والمعنى: أولي أجنحة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعةٍ، وهو تفسير الخليل وأبي عمرو. وأنشد سيبويه قول ساعدة بن جؤية:
ولكنما أهلي بوادٍ أنيسه
…
سباع تبغى الناس مثنى وموحد
أي اثنان اثنان، وواحد واحد، وهو معنى عدلهما.
وأما (أخر) فنحو: جاءني الزيدون ورجال أخر، ورأيت رجالًا أخر، ومررت برجالٍ أخر، قال الله تعالى:{فعدة من أيام أخر} .
ووجه عدله مختلف فيه، فرأى سيبويه وطائفةٍ أن (أخر) من باب (الكبرى والكبر) و (الصغرى والصغر) حقه أن يكون صفةً بالألف واللام؛ إذ كان (الصغر، والكبر) كذلك، فلا تقول: هؤلاء نسوة صغر، ولا كبر، ولا نحو ذلك.
فلما عدل (أخر) عن هذا الأصل منعوا صرفه.
وقيل: إن (أخر) معدول عن (آخر) هذا اللفظ، فكان الأصل أن تقول: مررت بنسوةٍ أخر من هؤلاء، كما تقول: أفضل من هؤلاء، فكأنهم عدلوا عن لفظ (آخر) إلى لفظ (أخر) ورجح الأستاذ- رحمه الله هذا الثاني على الأول.
وقد نقل عن الفارسي: أن (مثنى وثلاث) ونحوه إذا سمي به انصرف، لأنه إذا كان معرفةً فليس فيه إلا التعريف خاصة؛ إذ ليس معدولًا في حال التسمية، لأنه لم يعدل إلا عن اسم العدد. وذلك المعنى قد ذهب بالتسمية، ولا يشبه حاله حين كان معدولًا، لأنه الآن
معرفة، وكان في حين عدله نكرة، فإذا نكر أشبه أصله، فامتنع صرفه. وإطلاق الناظم مخالف لهذا. وقد رد الناس هذا المذهب، ولعله رجع عنه. ومذهبه في "الإيضاح" مذهب الجمهور، وهو نصه في "التذكرة" إذ قال حين نقل الكلام أبي العباس في (مثنى، وثلاث، ورباع): إذا سمي بشيء من ذلك. فالقياس الانصراف، وذلك أن الوصف يزول، فيخلفه التعريف الذي للعلم، والعدل قائم في الحالين جميعا، ثم جعل قياس غيرها من العدول قياسها.
وأما ابن عصفور فارتضى مذهب الفارسي، ومرتضاه عند غيره غير مرتضي، لأن شبه الأصل من العدل حاصل، والعلمية محققة، فسبب المنع موجود، فالوجه امتناع الصرف.
وأيضا، هو مذهب لا نظير له؛ إذ لا يوجد ما ينصرف في المعرفة، ولا ينصرف في النكرة، وإنما المعروف العكس.
وقول الناظم: "لفظ مثنى وثلاث وأخر" أي في هذه الألفاظ الثلاثة المذكورة، وإنما عين أنفس الألفاظ، وهي في الحقيقة غير مرادة؛ بل المراد الوزن، لأجل "أخر" وذلك أنه لفظ لا يقاس عليه غيره في عدله المختص به، فهو موقوف على السماع، لكن ذكره لشهرة استعماله وكثرة تداوله، فلذلك احتاج إلى أن يستدرك بعد ذلك حكم الكلية لمثنى وثلاث، فقال:"ووزن مثنى وثلاث كهما" إلى آخره، فبقي (أخر) على ما فسر فيه، من الاقتصار على لفظه، وما عداه أخبر أن وزنه مثله، من واحدٍ لأربعٍ.
ومعنى ذلك أن ما وافق (مثنى، وثلاث) في وزنهما من واحد إلى [أربعة] فهو مثلهما، يريد: في الحكم بالعدل والوصف وترتب منع الصرف مطلقا في النكرة والمعرفة.
وهذا المقدار هو المقيس منها، وما عدا ذلك فسماع لا يتعدى به محله، فـ (فعال، ومفعل) من (واحد) ممنوع الصرف، للوصف والعدل، وهما وزن (مثنى، وثلاث) الذي ذكر، فتقول:[جاءني ناس أحاد] وجاءني ناس موحد. وقال الآخر، أنشده الفارسي وغيره:
أحمّ الله ذلك من لقاء
…
أحاد أحاد في شهر حلال
وقال الآخر:
* سباع تبغى الناس مثنى وموحد *
وقد تقدم.
وكذلك (مثنى، وثناء) نحو: جاءني الناس مثنى مثنى، وثناء ثناء، وكذلك (مثلث، وثلاث) و (مربع، ورباع) نحو: مررت بقومٍ مثلث وثلاث، ومررت بقومٍ مربع، ورباع، وإنما قال:"من واحد"
فذكر "لأربعٍ" فأتت ضرورة؛ إذ كان الأولى أن يقول: من واحدٍ لأربعةٍ، وهذا سماع.
واقتصاره على العدل من واحد إلى أربعة فيه نظر، فإنه إن أراد القياس فقد قاسه في "التسهيل" إلى خمسة، وزاد: إلى عشرة، فيقال: عنده زائدًا على ما ذكر: مررت بقومٍ مخمس وخماس، ومعشر وعشار. وقد قال الكميت في (عشار) أنشده الجوهري وغيره:
ولم يستريثوك حتى رميـ
…
ـت فويق الرجال خصاءً عشارا
بل قد قاسه الكوفيون فيما فوق ذلك إلى التسعة، فأجازوا: سداس ومسدس، وسباع ومسبع، وثمان ومثمن، وتساع ومتسع.
ولا اعتراض في هذا عليه، ولكن الاعتراض إنما هو في تركه قياس ما قاسه في "التسهيل" وإن كان مراده السماع، فالذي سمع من ذلك أحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث.
وحكى الجوهري: مثلث، ورباع، وخماس، وعشار، فكان حقه أن يقتصر على المسموع، لكنا نعلم أنه إنما أراد القياس، فهو مقصر فيه.
والجواب: أن السماع الذي بلغ مبلغ القياس إنما هو ما ذكره الناظم هنا، ولذلك حكى الجوهري عن أبي عبيد أنه لم يسمع (عشار) إلا في قول الكميت المتقدم، وذكر أنه لم يسمع إلا: أحاد، وثناء، وثلاث، ورباع. فبقي (خماس) ولم يذكر سيبويه أيضا نيفًا على (رباع).
فما فعله حسن، ولذلك [قال]:"فليعلما" أي فليعلم أن ما عدا هذه لا يقاس، ولا يبلغ ما سمع منه مبلغ القياس، فبقي مذهب الكوفيين وغيرهم ممن عدى القياس إلى غير ما ذكر.
وذكر هنا من أنواع المعدول ثلاثة، وترك سائر الأنواع لمواضعها، لأن المقصود هنا ذكر ما يمتنع فقط:
وكن لجمع مشبه مفاعلا
…
أو المفاعيل بمنع كافلا
وذا اعتلال منه كالجواري
…
رفعًا وجرًا أجره كساري
ولسراويل بهذا الجمع
…
شبه اقتضى عموم لمنع
وإن به سمي أو بما لحق
…
به فالانصراف منعه يحق
هذا هو الأمر الثالث من الأمور التي تمنع من الصرف مطلقا، وهو الجمع المتناهي، يعني أن ما كان من الجموع يشبه مفاعل) أو (مفاعيل) فإنه ممنوع الصرف.
ولا يريد بمشبه (مفاعل) و (مفاعيل) ما كان أوله ميم زائدة، ولا ما كان ثانيه أصليًا ولا غير ذلك، وإنما يريد ما كان على هذا الشكل من الجموع مطلقا،
فيدخل تحته (فواعل، وفعائل وفعالل، وفياعل) وكذلك إذا دخلتها الياء قبل الآخر، وما كان نحوها، وذلك نحو (مساجد) و (قناديل) جمع: قنديل، و (ضوارب، ورسائل، وجعافر، وصيارف) وما أشبه ذلك، الحكم في الجميع سواء.
وهذا التمثيل أشار فيه إلى قيود معتبرة في منع الجمع، وضابطه: كل جمع ثالث حروفه ألف ثابتة، وبعدها حرفان، أو ثلاثة أحرف أوسطها ياء، عارٍ من التأنيث أو ياء النسب.
وقد اشتمل هذا التعريف على قيود مقصودة: أحدها: أن يكون الجمع ثالث حروفه ألف، تحرزًا من نحو (أفعلة، وفعول، وأفعال) ونحو ذلك، فإنها وإن كانت جموعا لا تشبه الآحاد المشهورة في كلام العرب، لا تعتبر في منع الصرف، فـ (أفعلة) لا يقع مفردا، وكذلك (إفعل) إلا ناردا نحو: إصبع و (فعول) ليس في الأسماء إلى نادرا، مثل ما حكى سيبويه من قولهم:"سدوس" لضرب من الثياب، وكذلك (أفعال) هو بناء لا حظ فيه للمفرد، إلا ما حكى سيبويه من قولهم: هو الأنعام أو ما قل من ذلك.
وإذا كانت هذه الأبنية وما أشبهها تختص بالجمع كـ (مفاعل، ومفاعيل) وهي منصرفة مع ذلك- لم تعتبر مانعا، لأنها تشبه المفردات في الوزن وفي الحكم.
أما في الحكم: فإنها تجري في التكسير مجرى الواحد فتقول: أقوال وأقاويل، وأنعام وأناعيم، وأيدٍ وأيادٍ.
وأما في الوزن: فإن (فعولا) يشبه (فعولا) و (أفعالا) يشبه (أفعالًا) إلى ما جاء من المفردات فيها، بخلاف (مفاعل) أو مفاعيل) فإنها لا تجمع أصلا جمع تكسير؛ بل هي غاية منتهى الجموع.
ولذلك يقول ابن الحاجب: إن سبب منعه الصرف كونه صيغة منتهى الجموع.
وهو يظهر من كلام سيبويه، فهذا قيد أفاده التمثيل.
والثاني: أن تكون الألف الثالثة ثابتة لا محذوفة، فإنها لو كانت محذوفة لجاز تنوينه، وذلك قولهم في (ذلاذل، وزلازل، وجنادل): ذلذل، وهي أسافل القميص، وزلزل، وجندل. وهذا- على فرض أنها جموع حقيقة- تنصرف، لأن بناء (مفاعل) قد ذهب لفظا، فأتي بالتنوين، وجعل كأنه عوض من المحذوف.
والثالث: أن يكون بعد الألف حرفان أو ثلاثة أوسطها ياء، تحرز من جمع التكسير الذي بعد الألف الثالثة فيه حرف واحد، نحو: كباش، وديار، وكذلك جمع السلامة بالتاء، نحو: علامات، فإن كان بعد الألف ثلاثة أحرف، أوسطها ألف، فليس بمقصود الذكر، لأن ذلك كله مصروف.
فإن قيل: إن المثال يخرج نحو: دواب، وشواب، مما هو مدغم الحرفين، لأن (مفاعل) غير مشعر به.
فالجواب: أنه ليس كذلك، لأن وزن: دواب (مفاعل) ولابد، لكن عرض فيه الإدغام لاجتماع المثلين، فهو داخل. وإنما كان يكون خارجا لو أتى بمثال (فعالل) مما يمكن إدغامه ولم يدغم، فهنالك يكون للمعترض مقال، من حيث يقصد بـ (فعالل) ما كان ملحقا بالتضعيف نحو:(مهادد) في جمع (مهدد) و (قرادد) في جمع (قردد) وما أشبه ذلك.
أما إذا لم يأت إلا بـ (مفاعل) فليس فيه ما يرد نحو (دواب) عن الدخول.
والرابع: أن يكون عاريًا من هاء التأنيث، فإنه إن صحب الهاء صار إلى شبه المفردات نحو: حزابية، وعباقية، وشبه ذلك، فتقول: قوم جحاجحة، وصياقلة، وما أشبه ذلك.
والخامس: أن يكون عاريًا من ياءي النسب، فإن صحبها أشبه المفرادات فصرف، نحو: مدائني ومساجدي، وما أشبه ذلك، للحاقه بباب (تميمي، وقيسي) كما لحق الأول أيضا بباب (تمرة، ونمرة)
ولا يدخل في هذا الشرط نحو: كراسي، وبخاتي، فإن الياءين ليستا للنسب إلا في المفرد، ولم تلحقا الجمع، فلا بد هنا من منع
الصرف، بخلاف (مدائني) فإن الياءين لاحقتان الجمع للنسب، وهذا في الجمع، وهذا الذي قيده في قوله:"وكن لجمع مشبه كذا" فأما (مفاعل) إذا وقع للمفرد، فمقتضى كلامه أنه مصروف إلا (سراويل) وما سمي به من هذه الجموع. وذلك صحيح أن موازن (مفاعل) أو (مفاعيل) على ستة أقسام:
أحدها: أن يكون هذا الوزن عارضًا فيه لأجل الإعلال لا أصليا وذلك نحو: الترامي، والتداعي، فإن لفظه لفظ موازن (لمفاعل) بلا شك، ولكنه ليس بأصلي فيه، وأصله (التفاعل) نحو: التقابل، والتضارب، إلا أن الضمة قلبت كسرة لأجل [الياء] فعلى هذا تصرفه ولابد، فتقول: ما كرهت تراميًا، ولا أحببت تداعيًا.
والثاني: أن يكون عارضا فيه لأجل] لحاق ياء النسب، كقولك في (صباح، وقذال): صباحي، وقذالي، فإن هذا يوازن (مفاعيل) لفظًا، لكنه في الحكم على غير ذلك، لأن الياءين للنسب، فهما كالكلمة الأخرى، ليست الكلمة مبنية عليهما كهاء التأنيث، فلابد هنا من الصرف أيضًا.
والثالث: أن تكون الألف الثالثة فيه عوضًا من إحدى ياءي النسب نحو: يمان، وشآم، فإن وزنه في اللفظ موافق لـ (مفاعل) إلا أنه في الأصل: يمني، وشامي، فخرج عن ذلك الوزن وحكمه، فتقول: هذا يمانٍ، أو رجل شامٍ، ورأيت رجلًا شآميًا أو رجلًا يمانيًا.
والرابع: أن تكون الألف شبيهة بالمعوض من إحدى الياءين، وليست بها، وذلك: ثمان، ورباع، وشناح، ونحوه، فاللفظ لفظ (مفاعل) وهو في التقدير: ثمني، وربعي، وشيخي، فكأن الألف عوض إذا لم تقل بحذف الألف والإتيان بالياءين، فهذا مصروف أيضا.
فتقول: رأيت من النعاج ثمانيًا. قال أعشي بكر:
ولقد شربت ثمانيًا وثمانيًا
…
وثمان عشرة واثنتين وأربعا
ورأيت رباعيًا من الإبل، وشناحيًا من الرجال، وهو الطويل.
فهذه الأقسام الأربعة مصروفة، لخروجها في الحقيقة عن وزن (مفاعل) و (مفاعيل) وأما (سراويل) و (مساجد) مسمى به، وهما القسمان الباقيان، فممنوعا الصرف لشبههما بالجمع، على ما سيذكره إن شاء الله. وذلك لأنهما على (مفاعيل) حقيقة.
فإذًا الحاصل في منع الصرف هو وزن (مفاعل) أو (مفاعيل) فكان من حق الناظم أن يختصر الكلام فيقول: ما كان على (مفاعل) أو (مفاعيل) حقيقة، فممنوع الصرف، ولا يحتاج إلى هذا التطويل، ولا يدخل له شيء مما تقدم.
والجواب: أن المانع من الصرف ليس مجرد البنية، وإنما المانع كونهما على صيغة جمعٍ تنتهي إلى الجموع، ولا نظير لها في الآحاد، فتقيد السبب بكونها للجمع، وهو الذي قصد الناظم الإشارة إليه.
ثم نبه على ما يلحق به من المفردات تشبيهًا، لا لوجود السبب حقيقة، فلو اختصر كما قلت لفاته التنبيه على العلة المانعة. وأيضًا لكن يفهم منه أن مجرد الوزن هو المانع، وليس بموافقٍ لما ذكر الناس من السبب، فكان ما فعله من ذلك صحيحًا لا اعتراض فيه.
و"الكافل": الضامن، كالكفيل: كفلت بالشيء كفالة، تحملت به.
فمعنى قوله: "بمنعٍ كافلا" أي كن متكفلًا بمنع صرفه، وضامنًا له، فإن العرب كذلك تفعل، و"بمنع" يتعلق بـ "كافلًا" أي كن كافلًا له بالمنع.
ثم قال: "وذا اعتلال منه كالجواري" .. إلى آخره.
لما كان للمعتل اللام عند الناظم حكم ليس للصحيح، شرع في تبيينه.
ويعني أن ما كان من موازن (مفاعل) أو (مفاعيل) من الجموع يشبه (الجواري) في اعتلال اللام، فإنه يجري في الرفع والجر مجرى (سارٍ) يريد في التنوين، وحذف الآخر لالتقاء الساكنين وتقدير الإعراب، باقٍ على حد منع الصرف.
فلا يريد أن يجريه مجراه في كل شيء حتى في كونه منصرفًا يجر بالكسرة؛ بل إنما يجر بالفتحة، وهي هنا مستثقلة مثل الكسرة، فلا تظهر، فتقول في الرفع: هذه جوارٍ، وغواشٍ، ومرامٍ، جمع (مرمًى) كما تقول: هذا رجل سارٍ، وداعٍ، ورامٍ وغازٍ.
والأصل في الرفع: جواري، وغواشي، ومرامي، فحذفت الحركة استثقال في موضع الجر والرفع، ثم سيق التنوين عوضًا من الحركة المحذوفة، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين. وهذا التفسير جارٍ على طريقة الأكثرين.
فإن قيل: إن الناظم زعم أنها عنده تجري مجرى (سارٍ) فتنوينها إذًا للصرف لا للعوض، كما كان (سار) أصله: ساري، ثم حذفت الحركة استثقالا، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وبقي التنوين، كما كان، فإنما يقال على طريقته: كان الأصل جواري، وغواشي، ومرامي، وهو الأصل الأول للأسماء كلها، فحذفت الضمة في الرفع والكسرة في الجر، استثقالًا، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع تنوين الصرف، فصار: هؤلاء جوارٍ، ومررت بجوارٍ، وكذلك باقي الباب. فصار هاهنا (جوارٍ) في اللفظ كـ (سارٍ) و (جارٍ) من: جرى يجري، و (عارٍ) فزال عنه بناء (مفاعل) أو (مفاعيل) فبقي على صرفه.
وأما في النصب، فلما كانت حركة الياء، وهي الفتحة، لا تستثقل على الياء، لم يكن لحذفها موجب، فبقي بناء (مفاعل) محفوظًا فيه. فلذلك قالوا: رأيت جواري، وغواشي.
ومن الدليل على صحة اعتبار اللفظ في (جوارٍ) إذا صار كـ (سارٍ) ما تقدم من قولهم: ذلذل، وزلزل، وجندل، مصروفًا؛ إذ كنت تقول: نظرت إلى ذلذلٍ، وإلى جندلٍ، فتخفض بالكسرة حين زال مثال (مفاعل) لفظًا.
فالجواب: أن هذا ليس بمرادٍ له، وإنما مراده مجرد حذف الآخر والإتيان بالتنوين.
ومن الدليل على هذا من كلامه قوله في آخر الباب:
وما يكون منه منقوصًا ففي
…
إعرابه نهج جوارٍ يقتفي
يعني في كل ما تقدم له من أنواع الممنوع الصرف غير المنصرف المتقدم.
وإذا كان قد أحال عليه، فلا يصح أن يحمل على أنه مصروف، لأنه إن ساغ التعليل في (جوارٍ) ونحوه من أنه على وزن (جناح) فزال المانع، فلا يجري له ذلك فيما إذا سميت امرأة بقاضٍ، ورامٍ، وغازٍ وثمانٍ، ونحو ذلك.
أفترى أن مانع الصرف زال هنا، كلا بل هو باق؛ إذ ليس التأنيث والعلمية والتنوين لابد منه على مذهب سيبويه، الذي اعتمده الناظم، وهو تنوين العوض لا تنوين الصرف.
وعلى هذا لا يمشي على ما مضى من التعليل، إلا على أنه لما حذفت الياء لالتقاء الساكنين وجد تقدير الإعراب في الياء محرزًا لها، فمنع من الصرف لبقاء محرز المثال الأصلي، فلما حذف تنوين الصرف أتي بالتنوين الذي يكون عوضًا من الياء المحذوفة؛ وإذ ذاك يطرد له تعليله الذي علل به السؤال، ويستقيم على مقتضى كلامه فيما بعد، على ما سيأتي إن شاء الله.
وإنما كان يمشي له ذلك إذا سميت بنحو (يرمي، ويغزو) حين وجب على مذهب الخليل (يرمٍ، ويغزٍ) إذ له أن يقول: زال بناء الفعل وتغير، فروجع الأصل، ولكن هذا غير مطرد، ولا موفٍّ بالغرض، فالصحيح ما تقدم.
وأما ما استدل به من (ذلذلٍ، وزلزلٍ) فليس مثل (جوارٍ) لأن (ذلذلًا) حصل التنوين العوضي منه في حرف الإعراب، فلم يمكن أن يبقى على فتحه حالة الجر، بخلاف (جوارٍ) فإن التنوين فيه مانع في الظاهر لحركة ما قبل الآخر، وفتحة الإعراب غير ظاهرة، فأمكن تقديرها مع وجود التنوين؛ إذ لا فتح فيه، كما في (جندل) ونحوه فافترقا.
وقوله: "وذا اعتلال" منصوب بفعل مضمر من "باب الاشتغال" يفسره "أجره" و"رفعًا وجرًا" مصدران في موضع الحال، والكاف: بمعنى (مثل) وهي في موضع الحال من باب "ضربته شديدًا" أي أجره إجراءً مثل إجراء "سارٍ" ثم قال: "ولسراويل بهذا الجمع" .. إلى آخره.
يريد أن هذا اللفظ له بمفاعيل ومفاعل، شبه اقتضى ذلك الشبه منع الصرف مطلقا، في النكرة والمعرفة [لأنه على زنة (مفاعيل) كقراطيس وقناديل، فحكموا فيه الشبه فمنعوه الصرف، كما منعوه في الجمع، لأن ثمرة الشبه أن يجري المشبه على حكم المشبه به. وعند ابن الناظم أنه نبه بهذا الكلام على خلاف من خالف في عموم منع الصرف، يعني في النكرة والمعرفة]. وزعم أن فيه وجهين: الصرف، وعدمه، أي إن ذلك الشبه اقتضى عموم منع الصرف في جميع وجوه الاستعمال، خلافًا لمن زعم غير ذلك.
وكأن المخالف رأي أن القاعدة العربية أن المشبه لا يقوى قوة المشبه به، فيكون هذا من ذلك الباب.
ألا ترى أن ألف الإلحاق قد أشبهت ألف التأنيث، فمنع صرف ما هي فيه، لكن لما لم يقو قوة ألف التأنيث لم يمنع إلا في المعرفة، فيكون هذا الموضع كذلك.
وهذا قد يجاب عنه بأن الشبه في باب ما لا ينصرف يؤثر إطلاق، ويلحق المشبه بالمشبه [به].
ألا ترى إلى امتناع صرف (أحمر) المنكر بعد التسمية وغير ذلك.
ومنه. مسألة الإلحاق، لأن الشبه لم يحصل إلا بعد التسمية؛ إذ كانت قبلها تلحقها الهاء نحو: علقاة، وألف التأنيث من حقيقتها ألا تلحقها التاء.
ومن هناك غلط أبو عبيدة في مسألة:
* فكر في علقى وفي مكور *
كما سيأتي إن شاء الله.
فلما امتنعت التاء بالعلمية حصل الشبه، فحصل منع الصرف.
ومقتضى كلام الناظم أن (سراويل) عنده مفرد لا جمع، وهو مذهب سيبويه. قال: وأما سراويل فشيء واحد، وهو أعجمي أعرب كما أعرب الآجر، إلا أن سراويل أشبه من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، كما أشبه بقم الفعل، يعني بعد التسمية، ولم يكن له نظير في الأسماء.
فما قاله الناظم في البيت هو عين ما نص عليه سيبويه.
وقد قيل: إن (سراويل) جمع (سروالة) وأنشد أبو العباس في واحدها:
عليه من اللؤم سروالة
…
فليس يرق لمستعطف
وقد حكى سيبويه عن يونس أن من العرب من يقول في تحقير (سراويل): سرييلات لأنهم جعلوها جماعة بمنزلة (دخاريص) وعلى هذا قد تضمنه ضابط الجمع، فلا يحتاج إلى التنبيه عليه. وإذ كان ذلك لغةً فليس بخلاف، ولكن الأشهر فيه الإفراد، ولذلك لم يحكه يونس إلا عن بعض العرب، فاعتمد الناظم ما هو الأشهر، والسراويل معروف، وهو أعجمي.
وقوله: "وإن به سمي أو بما لحق به" إلى آخره.
يعني أن هذا الجمع الموازن (مفاعل) أو (مفاعيل) إذا سمي به فإنه يستحق منع الصرف كأصله، فتقول في (مساجد) مسمًى به: هذا مساجد، ورأيت مساجد، ومررت بمساجد.
وكذلك ما لحق بالجمع وإن لم يكن جمعا حقيقة، كهوازن، وشراحيل.
ومنه (سراويل) إذا سمي به أيضا على اعتقاد أنه مفرد، فإنه يستحق أن يمنع صرفه، فتقول: هذا سراويل، ورأيت سراويل، ومررت بسراويل.
أما الجمع إذا سمي به فوجه منع صرفه التشبيه بأصله، لكونه، على مثال لا نظير له في الآحاد العربية، وكذلك إذا نكر بعد التسمية، وهو أحرى لقربه من أصله، وكذلك (سراويل) يمتنع للمثال تشبيهًا.
وقد زعم الفارسي أن (سراويل) إذا سمي به امتنع صرفه للتعريف والتأنيث، وأخذه من لفظ سيبويه، وذلك، على ما نبه عليه ابن خروف، غير محتاج إليه، للاكتفاء بالمثال عن علة ثانية، ولو كان ذلك معتبرًا لصرف (مساجد) اسم رجل، لأنه لا علة زائدة على المثال، من علمية أو تأنيث أو غير ذلك.
ولم ينبه هنا الناظم على وجه المنع، ولعله اكتفى بالتنبيه عليه في (سراويل).
ويقال: حق الشيء يحق، إذا وجب. وأحققته: أوجبته، كأنه قال: منعه يجب.
وفي قوله: "وإن به سمي" شيء من جهة العربية وهو أن "به" مقام مقام [الفاعل] كأنه قال: وإن سمي به، فواجب فيه التأخير عن الفعل، ولا يجوز التقديم، كما لا يجوز تقديم الفاعل.
ولا يقال: إن المفعول المقام مضمر، تقديره: وإن به سمي الإنسان أو الرجل، أو ما أشبه ذلك مما يصح إضماره للعلم به، لأن عادة أهل النحو أن يقولوا في بنية الفاعل: إذا سميت بكذا صرفته، أي منعته، ولا يذكرون المفعول غالبًا طرحًا له، لعدم الحاجة إليه، فالمبني للمفعول من ذلك، فإن سلم ذلك التقدير فهو من الضعف بمكان.
ويمكن أن يكون ارتكب مذهب الكوفيين ضرورةً، لاسيما وهو إثر (إن) الشرطية، فقد قال بعض البصريين ذلك في نحو (إن زيد قام) كما تقدم، فهو أخف، وكذلك أتى في البيت قبلة بضرورةٍ أخرى، وهو تقديم مفعول المصدر الموصول عليه، وذلك قوله:"ولسراويل" بهذا الجمع شبه" فإن "بهذا" متعلق بـ "شبه" وهو مصدر، فيقدر بـ (أن) والفعل، وقد قدم المجرور عليه، ولا يمكن أن يقدر "شبه" هنا بمشبه، كما قدر (عجب) بمعجب في قوله تعالى:{أكان للناس عجبًا} الآية.
وإنما هذا ضرورة على حد الضرورة في النظير الموصول من قوله:
تقول وصكت صدرها بيمينها
…
أزوجي هذا بالرحى المتقاعس
على رأي من حمله على ظاهره.
وهنا أتم الكلام على ما يمنع من الصرف مطلقا، وذلك في ثلاثة مواضع، تجمع خمسة أنواع.
ثم أخذ يتكلم فيما يمتنع في حال التعريف دون حال التنكير، فقال:
والعلم امنع صرفه مركبًا
…
تركيب مزجٍ نحو معد يكربا
[إلى آخر ما أتى به فيه]
وهذا القسم لا يمتنع الصرف فيه إلا مع العلمية، فلذلك إذا زالت روجع الأصل في الاسم فانصرف، وإذا لم يسم به بقي منصرفًا على أصله.
وكون العلمية مانعًا ظاهرًا، لأنها ثانية عن التنكير وهو الأصل.
وابتدأ بالتركيب مع العلمية، فاعلم أن العلم يمنع صرفه إذا كان مركبًا تركيب مزج، من حيث كان التركيب على ثلاثة أوجه:
تركيب إضافة، كعبد الله، وامرئ القيس.
وتركيب إسناد، كتأبط شرًا، وبرق نحره، وذرى حبًا، وشبه ذلك.
وتركيب مزجٍ، وهو أن تصير الكلمتان كالكلمة الواحدة، وكل واحدة منهما كجزء الاسم، فتجعل الثانية محل الإعراب كهاء التأنيث، وذلك نحو قولك:
معد يكرب، وهو مثاله، وهو اسم رجل، وبلا لاباذ، وبعلبك، ورامهرمز، وحضر موت، ومارسرجس، وأنشد سيبويه لجرير:
لقيتم بالجزيرة خيل قيس
…
فقلتم مارسرجس لا قتالا
و (قالي قلا) مثل (معديكرب) أنشد سيبويه:
سيصبح فوقي أقتم الريش واقعًا
…
بقالي قلا أو من وراء دبيل
وأكثر هذه الألفاظ تختلف فيها العرب، فمنهم من يجعلها مضافًا ومضافًا إليه، وهذا غير داخل في المقصود، ومنهم من يجعلها كالاسم الواحد، وإعرابها في الآخر، وعلى هذا تكلم الناظم والنحويون في هذا الباب.
فلما كان المقصود أحد أقسام المركب خصه بالذكر.
فإن قلت: فقد زعم ابن الضائع أن المركب في إطلاق النحويين المراد به هذا المركب تركيب مزج، فكان الأولى ترك التفسير، لأنه مستغنى عنه.
فالجواب: أن هذا لم يتقرر بعد أنه رأى الناظم، فلا يحمل عليه حتى يثبت لنا أنه عنده كذلك.
فإن قلت: فقد كان يكتفى بالتمثيل عن التفسير؛ إذ هو مغنٍ عنه، لأن (معديكرب) كذلك هو.
فالجواب: أن (معديكرب) لا يتعين فيه تركيب المزج، لإمكان تركيب الإضافة، فلم يكن له بد من تعيينه بغير المثال. ثم أتى بالمثال تبيينًا لما ذكر على عادته.
ويدخل في معنى التمثيل بمقتضى القاعدة ما سمي به من النكرات، وكان مركبًا مبنيًا للتركيب نحو: خمسة عشر، وصباح مساء، ويوم يوم، و"لقيته كفة كفة" وما أشبه ذلك، فيجري مجرى ما مثل به من معديكرب، ويكون على الوجهين المذكورين من التركيب والإضافة.
فإن قيل: إن هذا الكلام يقتضي أن كل ما ركب تركيب مزج، سواء أكان آخر الاسمين صوتًا أم غيره، فحكمه هذا الحكم من الإعراب، غير منصرف، لأنه قال:"امنع صرفه مركبًا تركيب مزجٍ" فعلى هذا ما جاء من نحو (سيبويه، وعمرويه، ونفطويه) معرب عنده، فيكون إعرابه إعراب غير المنصرف، وهذا غير صحيح عنده، لأنه قد تقدم في "باب العلم" نصه على أنه مبني؛ إذ تكلم على المركب فقال:"ذا إن بغير ويه تم أعربا" فتحصل منه أنه مبني لأنه مختوم بويه، وهو قد أطلق هنا في إعراب المركب غير منصرف، وهو من المركب، فاقتضى إعرابه غير منصرف، وهو تناقض.
ولا يقال: إن الإعراب فيه محكي، وقد نص هو عليه في "التسهيل" وغيره، فيدخل له من حيث نقل فيه ذلك، ويكون تنبيهًا على ذلك القليل كيف يكون الإعراب فيه.
لأنا نقول: هذا يعود عليه بالنقص، لأن كلامه في هذا النظم، إنما ينبني على كلامه فيه فقط، فإذا بني على غيره كان فاسد الوضع، فيلزم الإشكال.
والجواب: أنه لما تكلم هنا على ما كان معربا خاصة، فبين وجه إعرابه، وأنه على ترك الصرف، لأنه قال:"والعلم امنع صرفه مركبًا" ولم يقل: أضعربه غير منصرف، وإنما كان كلامه هنا مختصًا بمنع الصرف، فهذا ينبني على كونه معربًا له موضعٌ آخر غير هذا.
وإنما تقدم له قبل أن المركب تركيب مزج معرب إلا ما ختم بويه- تنزل كلامه على ما تقرر من أنه لا مدخل لـ (سيبويه) وبابه هنا على طريقته.
وإذا قلنا: إنه لم يذكر فيه إعرابًا، ثم ثبت ذلك فيه لدخل تحت هذا الكلام، ولم يلزم فيه تناقض على هذا القصد.
ولو فرضنا أيضا أنه ذكر وجه الإعراب في (سيبويه) مع وجه البناء لكان داخلا من حيث إعرابه تحت هذا الكلام، وكذلك لو لم يذكر فيه إعرابًا ولا بناءً لكان محالًا به على كونه معربا.
ولو سلمنا الإشكال من أصله، وأنه ذكر هنا الإعراب في المركب، لم يدخل هنا المختوم بالصوت، لأن المثال يحرز مراده، وهو (معديكرب) إذ ليس بمختوم صوت، فيقيد كلامه بمثاله، ولا يدخل (سيبويه) وبابه، فكلامه هنا صحيح على كل تقدير، ولا إشكال فيه.
وإنما منع التركيب مع العلمية، لأن التركيب صير المركب قليلًا في كلامهم، غير جارٍ على أبنيتهم المعتادة، فأشبه الأعجمي، كإبراهيم وإسماعيل.
وأيضاً، صار الاسم الثاني منها بمنزلة هاء التأنيث، فأشبه المؤنث؛ إذ كان الإعراب يقع على غير الأول، كما يقع في (طلحة) على غير الاسم.
كذاك حاوي زائدي فعلانا
…
كغطفان وكأصبهانا
هذا نوع آخر من المانع مع العلمية، وهو زيادة الألف والنون، وقد تقدم له ذكرهما في المنع مع الوصف، وهذا قسم لذلك، و"حاوي" صفة لموصوف محذوف، وهو (العلم) كأنه قال: وكذلك العلم حاوي زائدي فعلان.
ويعني أن الاسم العلم إذا كان فيه الألف والنون الزائدتان امتنع صرفه، نحو (غطفان) وهو الذي مثل به الناظم. و (أصبهان) كذلك.
وغطفان: اسم لأبي قبيلة من قبائل العرب، وهو غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، قال الشاعر:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها
…
إلى لامت ذوو أحسابها عمرا
وأصبهان: اسم أرض. وأراد بالمثالين ما كان علمًا لإنسان كغطفان، أو علمًا لأرضٍ أو بلدٍ كأصبهان.
فمن الأول: عمران، وعثمان، وسلمان، وعيلان، وعدنان، وهو كثير من الثاني: حوران وأذربيجان، ونعمان، ونحو ذلك.
ويدخل في مضمن هذا المعنى ما سمي به من الأسماء أو الصفات التي في آخرها الألف والنون الزائدتان، كما إذا سميت بغضبان، أو بسرحان، أو سيفان، أو مرجان، أو ما أشبه ذلك.
ولا يلزم هنا اشتراط عدم لحاق التاء في المؤنث، لأنه، إذا سمي به مذكر أو مؤنث، لم تلحقه التاء أصلًا، فلم يحتج إلى اشتراط ذلك.
وفي قوله: "زائدي فعلان" إشعار بأن لابد من زيادتهما معا، فلو كان أحدهما زائدا، والآخر أصليا، لم يكن ذلك مانعًا، لأن الألف والنون إنما كانت للصرف لشبهها بألفي حمراء وزكرياء.
ومن جملة الشبه أنهما زيادتان زيدتا معًا، فعلى هذا ما كان من الأسماء في آخره الألف والنون، واحتملت النون فيه الأصالة والزيادة، فلك وجهان في الصرف وعدمه، اعتبارًا بأصالتها أو زيادتها فيجوز لك- إذا سميت برمان، أو حسان، أو دهقان، أو شيطان- وجهان، فإن اعتقدت أنها من الرم والحس والدهق، ومن "شيط"، لم تصرفها، وإن اعتقدت الحمل على قواك: أرض مر منه، ومن الحسن، والدهقنة، والتشيطن صرفتها.
فإذا تمحصت لهجة الأصالة صرفت، كما إذا سميت لطحان من (الطحن) أو بتبانٍ من (التبن) أو بسمان من (السمن) ونحو ذلك.
وقد تقدم نحو هذا في الصفة، والمانع على هذا العلمية والزيادتان، أو تقول: شبه الألف والنون هنا بالألف والنون في (فعلان، فعلى) والأول هو الجاري على كلام الناظم، إذ قال:"كذلك حاوي زائدي فعلان" فأشعر بأن زيادتهما هي السبب في المنع، ويحتمل أن يريد الوجه الآخر، لأنه لم ينص على أن نفس الألف والنون هو المانع.
وحوى الشيء: بمعنى ملكه، وصار في حوزه. واسم فاعله (حاوٍ)
كذا مؤنث بهاءٍ مطلقا
…
وشرط منع العار كونه ارتقى
فوق الثلاث أو كجور أو سقر
…
أو زيد اسم امرأةٍ لا اسم ذكر
وجهان في العادم تذكيرًا سبق
…
وعجمةً كهند والمنع أحق
قد تقدم من أقسام المؤنث ما آخره ألف ممدودة أو مقصورة، وهو يذكر الآن ما بقي من الأقسام، وإنما أتى بها ههنا لمخالفتها لما تقدم، فأتى هنا للمؤنث بأقسام ستة، لأن المؤنث لا يخلو، إذا كان معرفة إما في الأصل أو بالنقل، من أن يكون فيه هاء التأنيث أولا.
فما فيه الهاء قسم ولا تفصيل فيه.
وأما العاري من الهاء فلا يخلو من أن يكون زائدا على ثلاثة أحرف، أو يكون على ثلاثة.
فما زادت حروفه على ثلاثة قسم ثانٍ لا تفصل فيه.
وأما الثلاثي فإما أن يكون محرك الوسط أولا، فالمحرك الوسط قسم ثالث انتهى التفصيل فيه.
وأما الساكن الوسط فعلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون أعجميًا.
والثاني: أن يكون منقولًا للمؤنث مما غلب عليه التذكير.
والثالث: أن يخلو من الوجهين، فيكون غير أعجمي ولا منقول مما غلب عليه فهذه ثلاثة مضمومة إلى الثلاثة الأولى، فالجميع ستة أقسام، تضمنها كلامه هنا.
فالقسم الأول: ما فيه هاء التأنيث مطلقا، وهو المراد بقوله:"كذا مؤنث بهاء" و"مؤنث" صفة للعلم المقدر، استغني عن ذكره للعلم به، وقال:"يهاء" احترازًا من المؤنث بالألف ولأنه تقدم.
وقوله: "مطلقا" أي غير مقيد بشيء مما قيد به ما بعده من الأقسام. يعني أن العلم المؤنث بالهاء يمتنع صرفه على كل حال، سواء أكان ثلاثيًا أم ثنائيًا أم فوق ذلك.
فإذا سميت بشفةٍ، أو ظبةٍ، أو عضةٍ، أو رقةٍ، أو شيةٍ، منعته الصرف فتقول: هذه شفة قد جاءت، ومررت بشفة.
وكذلك رأيت ظبة ومررت بعضة، ونحو ذلك. وهذا مما لا خلاف فيه.
وكذلك تقول في الثلاثي: هذه عمرة ورأيت مية، ومررت بمية، فتمنعه الصرف.
وكذلك الزائد على الثلاثة نحو: فاطمة، وعائشة، وأمامة، وما أشبه ذلك.
وسواء في هذا ما كن علمًا لمؤنث أو لمذكر، فيمتنع الصرف، كما لو سميت رجلًا بما تقدم ذكره، وطلحة، وحمزة، ومرة وعتبة، وربيعة، وما أشبه ذلك.
ولفظه شامل لهذا كله؛ إذ قال: كذا مؤنث بهاء مطلقًا" فإن المؤنث بالهاء هو اللفظ، كان واقعًا على مذكر أو مؤنث. والوجه في المنع ظاهر.
ويرد عليه سؤال، وهو أنه قد جاء مما فيه هاء التأنيث ما إذا سمي [به] انصرف عند الجمهور، وذلك (أخت، وبنت) فإنك إذا جعلته اسمًا لرجل صرفته فقلت: هذا أخت قد جاء، وهذا بنت قد مر، وإذا ثبت هذا فقوله في المؤنث بالهاء: سيمتنع مطلقا" مشكل.
والجواب: أن يقال أولًا: إنه قليل نادر، فلم يعتد به.
وأيضا، فقد قام قوم بمنع الصرف فيهما. ومنهم من زعم أنها للتأنيث، حكى ذلك ابن السراج، فقد يمكن أن يقال: إنها عند الناظم كذلك، وإنه يمتنع الصرف فيهما وإن كان مخالفا لسيبويه، ويدل على هذا القول ويبينه الجمع بالألف حيث حذفوا التاء منهما، ولم يقولوا: أختات، ولا بنتات.
وأيضاً، فسيبويه يعتبر صورة التاء فيها في النسب، فيقول في (أخت): أخوي، وفي (بنت): بنوي.
وإليه ذهب الناظم على ما يأتي في "باب النسب" إن شاء الله، فيظهر قول من قال بهذا، أو يكون داخلا تحت كلام الناظم.
ثم إنا نقول ثانيًا: ليست بتاء تأنيث، وإنما هي تاء أخرى للإلحاق، فـ (أخت) ملحق بـ (قفل) و (بنت) ملحق بـ (عدل) ولو كانت للتأنيث لكان ما قبلها مفتوحا، كشفةٍ، ورقةٍ.
قال سيبويه: وإن سميت رجلًا ببنتٍ أو أختٍ صرفته، لأنك تقول: بنيت الاسم على هذه التاء، وألحقتها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا سنبتة بالأربعة، ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها، فإنما هذه التاء فيها كتاء عفريت.
ثم قال: ولو أن هذه الهاء التي في دجاجة كهذه التاء انصرفت في المعرفة. فهذا نص سيبويه على أنها ليست للتأنيث، وإنما تأنيث (بنت) كتأنيث (جمل) بلا هاء تأنيث؛ بل بالبنية. فإذا لا اعتراض على الناظم.
وفي قوله: "مؤنث بهاء" إشعار بأن جمع المؤنث بالألف والتاء لا يمنع صرفة لأنه قال: "بهاء" ولم يقل: "بتاء" وإن كانت عادته أن يطلق على هاء التأنيث لفظ التاء اتساعًا، فمحافظته على التعبير بالهاء دليل على ما ذكر، وعادة النحويين.
والقسم الثاني: ما ليس فيه هاء من المؤنث الزائدة حروفه على ثلاثة، وهو مراده من قوله:"وشرط منع العار كونه ارتقى فوق الثلاث".
والعاري: هو الذي يجرد عن الهاء، وهو صفة للمؤنث، أي شرط منع المؤنث العاري.
ولا ينبغي أن يقدر (العلم) لأن العلم العاري لا يستلزم كونه مؤنثًا، وليس كلامه إلا في المؤنث، فلا بد من أن يكون المنعوت هو لفظ المؤنث، لتقدم ذكره قريبًا في قوله:"كذا مؤنث بهاء".
و"ارتقى" بمعنى: علا وارتفع، أي ارتفع عن الثلاثي، وزاد عليه.
وقوله: فوق الثلاث" على حذف مضاف، لأن الاسم لا يرتقي فوق ثلاثة أحرف، وإنما يرتقي فوق ما هو على ثلاثة أحرف من الأسماء، فالتقدير: فوق ذي الثلاث. وأنت "الثلاث" ويريد الحروف، لأن الحروف تذكر وتؤنث وقد تقدم في النظم مواضع من هذا.
وحذف ياء "العار" للنظم، وهو جائز في الكلام أيضا. ويريد أن العاري من الهاء التأنيث شرطه في امتناع صرفه أن يكون رباعيًا فأعلى، نحو: سعاد. وزينب.
وكذلك إذا سميت امرأة بنحو: عقاب، أو عقرب، أو أرنب، أو ذراع.
فهذا كله ممتنع الصرف في المعرفة، لأن الرباعي يقوم الحرف الرابع فيه مقام هاء التأنيث.
والدليل على ذلك أن الثلاثي إذا صغر ردت إليه التاء، فقلت في (هند): هنيدة، وفي (دعد): دعيدة، وفي (نعم): نعيمة، إلا ما شذ.
وإذا صغر الرباعي لم ترد إليه التاء وإن كان في تقدير التاء، كما ردت إلى الثلاثي، لأن الحرف الرابع قام مقامها، فتقول:(سعيد) في سعاد، و (زينب) في: زينب، إلا ما شذ.
وإذا كان كذلك فكأن الهاء فيه ثابتة، فجرى على حكم ما فيه التاء.
والقسم الثالث: المؤنث العاري من هاء التأنيث، والثلاثي المحرك الوسط، وهو المشار إليه بالمثال في قوله:"أوسقر".
وأراد أن شرط منع العاري من الهاء أن يكون زائدا على الثلاثة، أو كهذا اللفظ الذي هو "سقر" فتحريك الوسط يقوم عنده مقام الزائد على الثلاثة في منع الصرف إذا اجتمع مع العلمية، نحو ما مثل من (سقر) وهو اسم علم من أسماء (جهنم) أعاذنا الله منها. ومثله (لظى) من أسماء (جهنم) أيضا.
وإذا سميت امرأة بـ (قدم) أو نحوه من المحرك الوسط، فالحكم كذلك أيضا، فتقول: هذه قدم، ومررت بقدم، كما تقول: هذه سقر.
قال الله تعالى: {سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر} ، وقال:{ما سلككم في سقر} .
وإنما امتنع وإن كان ثلاثيا لأجل حركة الوسط، كأنها قامت مقام الحرف الرابع. وهذا تعليل بعد السماع، وإن لا فلو كانت الحركة قائمة مقام الحرف الرابع لم يؤت بالهاء في التصغير، ولما كانت الهاء لابد منها فيه دلت على أنها ليست عوضًا حقيقة، ولا قائمةً مقامها في التحصيل، ولكنهم قالوا ذلك لأن
الحركة لما كانت زيادة على الحرف، وكان الساكن الوسط ينصرف في أحد الوجهين، ووجد ما حرك وسطه ممنوع الصرف البتة كالرباعي- جعلوا الحركة كأنها تقوم مقامه.
وأصل التعليل أن يقال: إن المانع حاصل في الثلاثي وغيره، وهو العلمية والتأنيث، لكنه استثني من ذلك الساكن الوسط كـ (دعد) لأجل ما حصل بالسكون من الخفة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وخالف ابن الأنباري في لزوم المنع في هذا القسم، فأجاز الوجهين اعتبارا بكونه ثلاثيا، والجماعة على خلافه.
والقسم الرابع: ما كان من المؤنث العلم ساكن الوسط، لكن عرضت فيه علة العجمة زائدة على علتيه، وذلك الذي أشار إليه بقوله:"أوكجور".
أي وشرط العاري من الهاء الزائدة على الثلاثة أو زيادة العجمة كـ "جور" ونحوه.
وجور: اسم بلدة، تقول: هذه جور، ونزلت بجور. ومثل ذلك (ماه) وهو اسم موضع. و (حمص) وهو اسم بلدة.
وعله المنع مطلقا هنا ما قالوا من أن الساكن الوسط ينصرف لكون ثقل إحدى العلتين قابلتها خفة الاسم، فلم يبق إلا علة واحدة، والعلة الواحدة لا تمنع، و (جور) وأخواتها زاد فيها العجمة مع علتيها، وهما التعريف والتأنيث، فقابلت خفة إحدى العلل، فبقى فيه علتان، فوجب المنع، وهذا مذهب الجمهور.
وذهب ابن معط في "ألفيته" إلى إجازة الوجهين، كهند ودعد، حسبما يظهر من كلامه حيث قال:
أما مثال عجمة الأعلام
…
فنحو إسحاق وإبراهام
إلا ثلاثيًا به قد سكنا
…
ثانيه فالصرف كنوحٍ عينا
إلا مؤنثا كمصر المعرفة
…
فذا كهند بعضهم ما صرفه
فاستثنى من الأعجمي الثلاثي الساكن الوسط ما كان مؤنثًا، فجعل فيه وجهين كهند.
وهذا غلط، لأن المؤنث من هذا النوع ليس فيه إلا المنع، وهو المحكي عنه العرب، والمقول به عند النحويين، وإنما جواز الوجهين في غير الأعجمي المشار كهند، كما يتبين.
والقسم الخامس: ما كان من الأسماء التي غلب [عليه] التذكير، اسمًا علمًا لمؤنث، وهو الذي أشار إليه بقوله:"أوزيد اسم امرأة" يريد أن شرط المؤنث العاري في منع صرفه أن يكون كذا أو كذا، أو مثل (زيد) اسمًا علمًا لامرأة، إذ (زيد) اسم أغلب استعماله في المذكر، فكل ما كان مثله كعمرو، وعدل، وقفل، وحبل، وقلب، ونوم، وما أشبه ذلك، فهو مثله في هذا الحكم إذا سمي به المؤنث.
ووجهه أنه لما كان قد غلب استعماله في المذكر، وصار متمنًا فيه، كان الخروج به إلى غير بابه، واستعماله في غير ما شهر فيه، ثقلًا أدى إلى أن
قابل الخفة التي فيه فانتهضت العلتان، وهما التعريف والتأنيث، مانعين من الصرف.
قال سيبويه: فإن سميت المؤنث بعمرو أو زيد لم يجز الصرف. هذا قول [ابن] أبي إسحاق وأبي عمرو فيما حدثنا يونس. قال: وهو القياس، لأن المؤنث أشد ملاءمة للمؤنث، والأصل عندهم أن يسمى المؤنث بالمؤنث، كما أن أصل تسمية المذكر بالمذكر.
فإذا خالفوا ذلك فسموا المؤنث بالمذكر، ثقل عليهم، فمنعوه الصرف، وهو أيضا رأي الأخفش والمازني. وروي عن عيسى بن عمر، ويونس، والجرمي، أنهم يجيزون في هذا القسم الوجهين: الصرف، وعدمه، كهند ودعد فيقولون: هذه زيدُ مقبلةَ، وزيدُ مقبلةً، كما تقول: هذه دعدُ مقبلةً، ودعدٌ مقبلةً.
قال المبرد: وحجتهم أنا إذا سمينا مؤنثًا بمؤنث، وهو ثلاثي ساكن الوسط ففيه اللغتان قولًا واحدا، الصرف وترك الصرف وقد نقلناه من ثقل إلى ثقل، والمنقول من حال خفة إلى حال ثقل أخرى بجواز اللغتين، لأن ما هو في أحد حاليه خفيف أخف مما هو في كلا حاليه ثقيل
قال: كما لو سمينا رجلًا بمؤنث على ثلاثة أحرف: كقدم، وسقر، فليس فيه إلا الصرف لخفة التذكير.
وأجاب ابن الضائع: بأن تسمية المؤنث بالمؤنث، أو المذكر بالمذكر، ليس فيه شبه العجمة، لأنك سميت الشيء بما يلائمه، كتسمية العربي بالعربي.
وأما إذا سميت المؤنث بالمذكر فقد سميت الشيء بما لا يلائمه، فأشبه الأعجمي.
قال: فإن قيل: فامنع صرف (قدم) و (سقر) اسم رجل لأن فيه التعريف وشبه العجمة.
قلت: نعم، لو كانت العجمة الثلاثية تمنع الصرف لوجب منعه على مذهب سيبويه. وقد ثبت أن العجمة الثلاثية تقاوم خفة البناء، كما تقدم في (جور) و (ماه) و (حمص).
ثم أخذ يحتج لصحة مذهب سيبويه بما تجده في "شرح الجمل" فانظر فيه والأول هو الذي ذهب إليه الناظم هنا، وفي "التسهيل".
وقوله "لا اسم ذكر" توكيد لقوله: "اسم امرأة".
والقسم السادس: ما عدا ما تقدم من الثلاثي الساكن الوسط، وهو قوله:"وجهان في العادم تذكيرا سبق وعجمة".
يعني أن ما كان من المؤنث الثلاثي الساكن الوسط لم يسبق له تذكير قبل استعماله علمًا، كما سبق لـ (زيد) اسم امرأة، ولا كان فيه عجمة، كما كان في (جور) ونحوه، ففيه وجهان: الصرف وعدمه، وذلك مثل (هند) وهو مثاله، تقول: هذه هند يا فتى، ومررت بهند، وقال أبو حية في منع الصرف:
أمن هند الخيال ألم وهنًا
…
بأشعث عند ساهمة منين
ونحوه (دعد) قال الشاعر، فجمع بين الوجهين، أنشده سيبويه:
لم تتلفع بفضل مئزرها
…
دعد ولم تسق دعد في العلب
وكذلك (نعم، وجمل، ومي) كقول ذي الرمة، أنشده سيبويه:
ديار مية إذ مي تساعفنا
…
ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
وأنشد أيضًا:
* يا هند هند بين خلب وكبد *
وأنشد أيضا للأخطل:
أيام جمل خليلًا لو يخاف لها
…
صرمًا لخولط منه العقل والجسد
فجاءت هذه الأسماء مصروفة، وإن شئت منعت الصرف.
وإجازته للوجهين موافقة لمذهب الجمهور، خلافًا لما ذهب إليه الزجاج، من الجزم بمنع الصرف، ورد على النحويين في صرفه وقال، لا حجة لهم فيما أنشدوا دليلًا على صرفه، لأن ما لا ينصرف كثير في الشعر. قال: ولا ينبغي أن يعتبر جهة البناء.
ورد الناس على الزجاج مذهبه، قال السيرافي: لا خلاف بين من مضى من البصريين والكوفيين في جواز صرفه.
قال: وعندي أنهم لم يجمعوا عليه إلا لشهرته في كلام العرب.
ورعاية الخفة في نوح ولوط إجماعًا يرد على الزجاج في قياسه.
قال ابن الضائع: كلام السيرافي صحيح وبين في الرد عليه.
قال: وأيضا، فقد صرح سيبويه أن صرفه لغة حيث قال: من جعل (ابنًا) مع ما قبله اسمًا واحدا يقول: هذه هند بنت فلان، في لغة من صرف (هندًا).
قال: فهذا يدل على استقرارها لغة، ولم يجيء بالبيت هو ولا غيره ليثبتها لغةً.
قال: ولما كان الثلاثي أقل الأصول، وسكن وسطه، كان أخف أبنية الأسماء، فلا يبعد أن تقاوم خفته إحدى العلتين، فلا تؤثر واحدة، فينصرف.
قال: ثم إذا صح السماع لم يلتفت إلى قياس، فلا معنى للقياس إلا أن يوصل إلى معرفة كلام العرب. فإذا ثبت الكلام فأي معنى للقياس؟ !
وأيضًا، لو فرض أنه لم يأتِ إلا في الشعر، فلا ينبغي أن يدعي فيه الضرورة؛ إذ لم يكن له معارض في غير الشعر، بل يحمل على أنه
كلامهم حتى يثبت المعارض، وهو أصل نص عليه الشلوبين في طرة على كتاب ابن ملكون.
واما الترجيح بين الوجهين فقال سيبويه: ترك الصرف أجود. وهو الذي نص عليه الناظم في قوله: "والمنع أحق" وإنما نص على أن المنع أحق لوجهين:
تبين مذهبه فيهما، وأنه موافقٌ لصاحب الكتاب.
والثاني: التنكيت على الزمخشري حيث عكس القضية، فجعل الصرف هو اللاحق.
قال ابن الضائع: وإنما غلطه في ذلك خطاؤه في أن جعل حكمه كنوحٍ ولوطٍ، وهما مصروفان في القرآن، يعني مع وجود العلتين، وهما: العلمية والعجمة. قال: فحكم أن الصرف أفصح. انتهى.
وهذا القياس من الزمخشري مصادم للسماع؛ إذ حكى سيبويه نقلًا عن العرب، ولم يحكم بذلك رأيا رآه.
فالصحيح ما ذهب إليه الناس، وإنما قال: الأحق المنع، لأن العلتين موجودتان فالأصل القياسي المنع، حتى أنكره الزجاج صرفه، وزعم أنه ضرورة كما تقدم.
ومفهوم كلامه في قوله: "في العادم تذكيرًا سبق" أن الحكم كذلك، سواء سبق للسم قبل ذلك تأنيث أم لم يسبق له شيء؛ بل كان مرتجلا مثلا، فلو سميت امرأة بشمس، أو قدر، أو حرب، أو عين، أو نحو ذلك مما استعمل قبل العلمية مؤنثا، فالوجهان فيه جائزان.
وعلى الناظم هنا درك، وهو أن كلامه أعطى أن الوجهين إنما يجريان فيما عدم تذكيرا سابقا قبل تسمية المؤنث به.
فأما إذا سبق له التذكير قلب ذلك. فلا يكون حكمه هذا، وهذا في ظاهره جارٍ في نحو: قدر، وشمس، وعنز، مسمًى به.
فأما في نحو (هند) الذي مثل به، وكذلك في (دعد، وجمل، ونعم) فلا.
قال ابن خروف: قد أحاط العلم بأن هذه الأسماء، يعني (دعدا) وما ذكر معه، منقولة من مذكر، وإذا كان ذلك كما قاله ابن خروف كان الحكم فيها على مقتضى النظم منع الصرف لا غير؛ إذ كانت داخلة في القسم الخامس كـ (زيدٍ) اسم امرأة، وهذا فاسد، لأنهم نصوا على جواز الوجهين من غير خلاف أذكره، والمعتبر عندهم في جواز الوجهين أمران:
أحدهما: كونه قبل العلمية لمؤنث، كقدرٍ مسمًى به.
والثاني: أن يكون قد غلب بعد التسمية به على المؤنث.
ومن هذا القسم جعل سيبويه (هندًا) و (دعدًا) ونحوهما، لأنهما لما غلب استعمالهما في المؤنث تنوسي أصلهما، وهو جواب
الفراء في منع صرف (أسماء بن خارجة) مع أنه عنده (أفعال) فقد كان ينبغي أن ينصرف لأن تأنيث الجمع لا يراعى في (باب ما لا ينصرف) فقال: كثر تسمية المؤنث به، فصار كزينب، اسم رجل، فهو عند سيبويه (فعلاء) فعلى مذهبه لا ينصرف إذا نكر، وينصرف على مذهب الفراء.
ويجاب عن الدرك الذي على الناظم بأن قوله: "في العادم تذكيرًا سبق" ما سبق ذكره من التذكير، وهو (زيد) اسم امرأة، فإشارته بالسبقية لسبقية الذكر، لا لسبقية التسمية، كأنه قال: وجهان فيما عدم مثل ذلك التذكير المذكور، وهو كونه اشتهر في الاستعمال، حتى لم يتناس معه استعماله في المؤنث بعد ذلك، فلو سبق التذكير لكنه تنوسي بغلبة استعماله في المؤنث بعد ذلك لم يكن مما تقدم.
ويشعر بهذا قوله بعد: "أو عجمة" ولا يريد إلا ما تقدم له ذكره وهذا ممكن، وهو خلاف ما تقدم في تفسير كلامه أولًا، وما تقدم هو الأظهر من كلامه، والسابق للناظر، ولكن يلزمه فيه ما تقدم من الإشكال، وربما يحمل على التفسير الأول.
ويجاب عن السؤال بأن (هندًا) وأخواته لما غلب على المؤنث، حتى صار بحيث تنوسي أصله من التذكير، عاد إلى حكم ما لم يسبق له تذكير، فصح إطلاق العبارة عليه بهذا اللحظ. والله أعلم.
فإذا يشمل له هذا القسم على كلا التفسيرين ثلاثة أوجه:
الوجهان المذكوران في السؤال والثالث: أن لا يسبق له شيء، كما إذا سميت امرأة بـ (ديزٍ) مقلوب (زيد) فيكون فيه الوجهان.
ونقصه من هذا الفصل حكم المذكر إذا سمي بمؤنث كرجل يسمى بـ (قدر) أو (ذراع) أو نحو ذلك.
وإنما ترك ذكره لقلته في كلام العرب، ولذلك لا تجدهم أكثر الأمر يذكرون فيه الأعلام إلى مع فرض التسمية، لعدم مجيء ذلك من كلام العرب، أو لندوره، فلذلك لم يضحفل به في هذا النظم المختصر.
والعجمي الوضع والتعريف مع
…
زيد على الثلاث صرفه امتنع
يعني أن الاسم العلم إذا كان عجمي الوضع، أي وضعته العجم، فانتقل إلى كلام العرب منها- يمتنع صرفه لوجود العلتين، وهما التعريف والعجمة، لكن لا يكون ذلك إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون تعريفه أعجميًا، بمعنى أن العجم هي التي عرفته وصيرته علما، ثم بعد ذلك نقلته العرب إلى كلامها، واستعملته كذلك.
وذلك مأخوذ من قوله: "والتعريف" لأنه معطوف على "الوضع" كأنه قال: والعجمي الوضع، والعجمي التعريف صرفه امتنع.
وهذا الشرط الذي ذكر لابد من تفصيل الكلام فيه، وبذلك يتبين مراده.
فالاسم العجمي الوضع ينقسم أربعة أقسام، لأنه لا يخلو أن يكون استعمل علمًا في كلام العجم وفي كلام العرب معًا، أو يكون في كلام العجم نكرة واستعمل كذلك عند العرب، أو يكون نكرة عند العجم علمًا عند العرب، أو يكون علمًا عند العجم نكرة عند العرب. والجميع له حكم مأخوذ من كلام الناظم هنا.
فأما الأول: وهو أن يكون علمًا في كلام العجم والعرب معًا، فلا إشكال في منع ذلك إذا اشتمل على الشرط الثاني الذي يذكره. وعليه يدل نصه، إذ قال:"والعجمي الوضع والتعريف" أي الذي يكون التعريف الموجود فيه كان مما وضعته العجم، لأنه إنما تكلم على العلم، فلو كان نكرة عند العرب لم تصدق عليه هذه العبارة، ومثاله: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وهرمز، وفيروز، وقارون، وفرعون، وهامان، وأشباه ذلك.
فلا بد من صرفها لتوفر شرط المنع، وإنما امتنع لأنه يتمكن في كلام العرب، كما تتمكن النكرة، فثقل عليهم من حيث كان خارجا عن أصل كلامهم.
وأما الثاني: وهو أن يكون نكرة في كلام العجم والعرب معًا، فلا إشكال في صرفه. وعلى ذلك دل مفهوم كلامه، لأنه إنما قيد منع العجمة بكونه علمًا.
وإذا انتفت العلمية لم يبق في الاسم إلا العجمة وحدها، وهي لا تمنع كذلك وأيضًا، الأعجمي إذا دخل في لغة العرب نكرة، واستعمل فيها على تلك الحال صار داخلا فيها، ومن معهود كلامها، فلم يثقل عليهم ثقل المعرف، فلا يمنع صرفه إلا بما يمنع صرف الاسم العربي المحض، ولا يضر كونه جاء على مثال لم يأت مثله في كلام العرب، كالآجر، فإن خروجه عن أمثلتها يشبه خروج النوادر في العربي المحض عن الأمثلة المعهودة، كإبلٍ ونحوه، مما جاء عادمًا للنظير، وهذا معنى تعليل سيبويه.
ومثال ذلك: اللجام والديباج، والاستبرق، والسجيل، والقسطاس، والبردي، والنيروز، والفرند، والزنجبيل، واليرندج، والياسمين. ومن ذلك كثير.
فإن سمي بشيء من هذا كان منصرفا، ولا اعتبار بالعجمة، لأنه قد جرى مجرى العربي في استعماله نكرةً، إلا أن يجتمع فيه علتان من علل الاسم العربي، فالوزن مع العلمية في نحو:(بقم) مسمًى به، فيمنع صرفه إذ ذاك، كما يمنع صرف (ضرب) مسمى به.
وأما الثالث: وهو أن يكون نكرةً عند العجم، علمًا عند العرب، فالذي يقتضيه كلام الناظم الصرف، لأنه شرط في المنع أن يكون التعريف منسوبًا إلى العجم، لقوله:"والعجمي الوضع والتعريف".
وهذه الطريقة تظهر من سيبويه، لأنه قال وأما إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وكذا إلى آخرها، فإنها لم تقع في كلامهم إلا معرفة على حد ما كانت في كلام العجم، ولم تمكن في كلام العرب، كما تمكن الأول، يعني النكرة، ولكنها وقعت معرفة، إلى آخر الكلام. فظاهره أنه اعتبر في المنع كون العجم عرفتها، وهو ظاهر الجزولي أبي موسى في "الكراسة" وبه فسرها الدباج.
قال أبو الحسن الأبذي: سألت شيخنا أبا الحسن الدباج- رحمه الله عن قول أبي موسى: "أو تلقيه من العجم علمًا" فقال لي:
هذا إنما معناه أن يتلقى من العجم علمًا، بمعنى أن يكون في كلام العجم علما، فانتقل إلى كلام العرب علما، وكذا وجد كل ما جاء من ذلك ممنوع الصرف.
قال الأبذي: فعرضت عليه ما قدمته، يعني: من أن معناه أن العرب لم تستعمله حين تلقته من العجم إلا علما وقلت له: إن الأستاذ أبا علي- يعني الشلوبين- كان يعتقده، فقال لي: هذا المذهب لم أره لأحد إلا ما قلت لي عن الأستاذ أبي علي، قال: فقلت له: وأي أثر لاشتراط العلمية في كلام العجم؟ فلم يحضر له فيه جواب إلا موافقة السماع.
قال: وتمسك رحمه الله بلفظ سيبويه، وذكره، ثم قال: إن هذا الكلام يحتمل التأويل. انتهى.
وبنى على ذلك أن يصرف (قالون) و (بندار) لأنهما معرفتان عند العرب، منقولان من الصفة، إذ كان (قالون) عند العجم بمعنى (جيد) وكذلك الآخر أصله عند العرب الصفة.
وإنما جلبت هذه بيانًا لكلام الناظم، وشرحًا لمدرك مذهبه.
وقد ظهر أن مدركه ما جاء في السماع، وما يظهر من كلام سيبويه. وأما أن يظهر لاشتراط كونه علمًا عند العجم وجه، فبعيد.
ومذهب أبي علي الشلوبين مخالف لهذا كما تقدم، فلا يشترط إلا كونه لا تستعمله العرب علمًا، فسواءً استعملته العجم نكرة أو معرفة، لا فرق بينهما بالنسبة إلى ما يرجع إلى كلام العرب، فيمنع إذًا صرف (قالون) و (بندار) ونحوهما على هذا.
والأولى في النظر ما ذهب إليه الشلوبين، وهو مذهب المؤلف في "التسهيل"، وكلام سيبويه محتمل.
وأما الرابع: وهو أن يكون علمًا عند العجم، نكرة عند العرب، فعلى كلام الناظم لابد من الصرف، إذ فرض كلامه في منع الصرف، إنما هو فيما كان عند العرب علما وهذا ليس بعلمٍ عندهم، فلا منع، ووجه ذلك ظاهر، لأن [ما]، لأجله صرف القسم الثاني موجود هنا، فلا بد. ومحال أن يعتبر العلمية عند العجم هنا من اعتبرها في القسم الذي قبل هذا في منع الصرف؛ إذ لا ثمرة لذلك، وليس في الاسم غير العجمة، وانتفى حكمها بتصرف العرب. فإذا سمي به بعد ذلك، فليس إلى علة واحدة وهي العلمية.
وقد حكى ابن عبيدة أنه سأل شيخه عن مثال من هذا الاسم، قال: فقال لي الأستاذ: إنها فرض مسألة لا أذكر لها مثالا.
ويبقى هنا نظر في معنى العجمي الذي ذكره الناظم والنحويون.
فالعجمي عندهم [ما] ليس من كلام العرب، من أي لغة كان سوى لغة العرب، واللسان العجمي هو ما خالف كلام العرب، لا يختص ذلك بأمة دون أمة، فكل لسان غير لسان العرب عجمي.
فإن قلت: ما بني قياسًا على كلام العرب، هل هو من قبيل العجمي أولًا؟ مثل أن تبنى من (ضرب) مثل: درهم، أو جعفر، أو سفرجل، فتقول: ضِرببٌ وضَرببٌ، وضَربَّب وضَريّب، وضريّب، ونحو ذلك.
فالجواب عن هذا رأيته لأبي الحسن الأبذي: أن ذلك ينبني على الخلاف فيما بني من ذلك، هل هو قياس أولًا؟
فمن قال بالقياس فيه مطلقا جعله من كلام العرب، فصرف في المعرفة، ومن لم يقس جعله خارجا من كلامهم كالأعجمي، فيمنع الصرف.
و"العجمي" في كلام النظم واقع على الاسم، [منسوب إلى العجم، وهو خلاف العرب. وقد يقال أعجمي]، منسوب إلى الأعجمي، بمعنى العجم، وقد يطلق (الأعجم) ويراد به الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب، ومنه زياد الأعجم. قاله الجوهري.
والأعجم أيضا: الذي في لسانه عجمة وإن أفصح بالعجمية.
وقد غلط ابن قتيبة الناس في استعمالهما معًا بمعنى واحد، وقال: إن الأعجمي الذي لا يفصح وإن كان نازلًا بالبادية، والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا.
وما قاله لا يلزم، لأن (الأعجمي) يستعمل كما قال، ويستعمل أيضا مرادفا للعجم كما تقدم وقد رد عليه في هذا ابن السيد، ورده صحيح.
فإنما استعمل الناظم "العجمي" لوجهين:
كثرة استعمال (العجم) الذي نسب إليه وقلة غيره، وليخلص عن اعتراض المعترض إن اتفق.
وهنا انتهى الكلام على الشرط الأول في (العجمي).
والشرط الثاني: لمنع صرفه: أن يكون زائدا على ثلاثة أحرف، وذلك قوله:"مع زيد على الثلاث" أي مع زيادة على ثلاثة أحرف، وذلك كإسماعيل، وإبراهيم، وموسى، وعيس، وهامان، ونحو ذلك. فلا خلاف في منع صرف هذا كله.
فإن كان على ثلاثة أحرف. فإنه عند الجمهور مصروف مطلقا، وهو رأي الناظم؛ إذ لم يشترط في المنع مع العلمية إلا الزيادة على الثلاث، إلا ما تقدم له في نحو (جور) مما فيه التأنيث زيادة على العلتين، فقد مر حكمه.
وأما غيره: فقسم الثلاثي قسمين:
أحدهما: أن يكون ساكن الوسط، مثل (نوحٍ، ولوط) وحكمه الصرف إلا عند الزمخشري، فإنه أجاز الوجهين، كباب (هند، ودعد) لمقاومه خفة وسطه إحدى العلتين.
وأظن أن أصل هذا الرأي لابن قتيبة؛ إذ حكى في "أدب الكتاب" أن بعضهم ترك صرفه.
وجعل ابن الضائع هذه الحكاية من ابن قتيبة غلطًا. قال إذ لم يحكه غيره، ولا أسنده هو لأحد، وحكى هوأنه لا خلاف في صرف (نوحٍ، ولوطٍ).
وأيضًا، فإن العجمة في منع الصرف أضعف من التأنيث لأن العجمة لا تمنع إلا بشروط حسبما يأتي، والتأنيث يمنع مع التعريف مطلقا ألا ترى أن الاسم الذي غلب عليه التأنيث، وهو على أكثر من ثلاثة أحرف كزينب، إذا سمي به مذكر لم ينصرف، وإن كان قد انتقل عن التأنيث، لأن الحرف الرابع صار كالهاء، فالتأنيث أقوى.
وقد كان في (هند) اللغتان، فيجب أن تكون العجمة لا تمنع بإطلاق في (نوح، ولوطٍ) فلا يقال: إنها تمنع قياسا على (هند) فإن القياس لا يكون إلا مع تساوي الفرع والأصل في الحكم من غير فارق، وقد ثبت الفارق، فلا يصح القياس.
والثاني: أن يكون متحرك الوسط، فحكى بعض المتأخرين فيه ثلاثة أقوال: الصرف مطلقا، ومنعه مطلقا، وجواز الوجهين. وظاهر سيبويه الأول.
ووجه اشتراط الزيادة على الثلاثة وجود الثقل في الاسم، بخلاف الثلاثي لخفته.
وقوله: "مع زيد على الثلاث" أراد: مع الزيادة، والزيد، والزيد: الزيادة، ومنه قول ذي الإصبع العدواني:
وأنتم معشر زيد على مائة
…
فأجمعوا أمركم طرًا فكيدوني
حكى الجوهري أنه يروى بفتح الزاي وكسرها.
كذاك ذو وزنٍ يخص الفعلا
…
أو غالب كأحمد ويعلى
يعني أن العلم إذا كان ذا وزنٍ خاص بالفعل، أو غالبٍ على الفعل، فإنه ممنوع الصرف أيضا.
والوزن: معناه مقابلة حروف الاسم حروف الفعل، أصليًا بأصلي، وزائدًا بزائد، مع موافقة الحركات والسكنات، وتعيين الزوائد، مثل ما مثل به من (أحمد، ويعلي).
فإن (أحمد) العلم على وزن (أحمد) من قولك: أحمد الله، وكذلك (يعلى) العلم، على وزن (يرضى) و (يخشى) وذلك لأن الأصل في الأسماء أن تنفرد عن غيرها بوزنها وسائر أحوالها.
فلما وقعت هذه الأشياء موافقة لما هو فرع كانت بذلك خارجة عن أصلها، وداخلة فيما هو فرع، وهو الأفعال، فامتنع منها ما يمتنع من الأفعال، وهو الجر والتنوين.
وإذا ثبت هذا فأبنية الأسماء بحسب موافقتها لأبنية الأفعال وموازنتها لها، وعدم ذلك، أربعة أقسام:
أحدها: ألا توافقها أصلا، مثل: أفعول، وفعلال، وفعلل، وإفعيل، وفعل، وفعلل، مثل: أسلوب، وشملال، وسفرجل، وإصليت، وطنب، ودرهم، وكثير من ذلك، فلا إشكال في بقائها على أصلها من الصرف عند التسمية بها؛ إذ ليست أبنيتها من أبنية الأفعال في شيء، فضلًا عن أن تكون غالبة عليها، أو مختصة بها، وهو بين من مفهوم كلام الناظم.
والثاني: أن يوافق البناء البناء، لكن يكون بناؤهما مشتركًا بينهما، ليس بغالب على الاسم دون الفعل، ولا على الفعل دون الاسم، كفعلٍ، وفعلٍ، وفعلٍ، وفاعلٍ، وفاعل، مثل: طلل، وعضد، وكبد، وكاهل وخاتم، ويوافقها من الفعل: ضرب، وكبر وعلم، وقاتل، وقاتل.
فهذه الأبنية غير مختصة بواحد من الجنسين دون الآخر، فليست الأفعال فيها بأولى من الأسماء، فلا يمتنع صرف ما سمي به من الأفعال على هذه الأبنية وأشباهها، وهو ظاهر من مفهوم كلام الناظم، وهو مذهب الجمهور.
وخالف في ذلك عيسى بن عمر، فكان لا يصرف ذا الوزن المشترك المنقول من فعل، ويقول: كل فعل ماض سمي به فإنه لا ينصرف إذا كان فارغًا من فعله. واحتج على ذلك بما أنشده سيبويه من قول سحيم بن وثيل اليربوعي:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أع العمامة تعرفوني
و(جلا) فعل ماض واقع على أبيه.
وسيبويه على خلافه، وتأوله على أنه على الحكاية، كأنه قال: أنا ابن الذي جلا واشتهر، كما حكى الآخر في قوله، أنشده سيبويه:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها
…
بني شاب قرناها تصر وتحلب
وقال: إن قول عيسى خلاف قول العرب، سمعناهم يصرفون الرجل يسمى بكعسبٍ، وهو فعل من الكعسبة، وهو العدو الشديد مع تداني الخطا.
والثالث: أن يوافق الاسم وزن الفعل، والفعل أغلب عليه، وهو المراد بقوله:"أوغالب" يعني على الفعل، وقد يكون في الأسماء، وذلك كبناء (أفعل، أو نفعل، أو تفعل، أو يفعل) من الأبنية الموافقة للمضارع.
وكذلك بناء: إفعل، وأفعل، وأفعُل، وفُعِل، وما أشبه ذلك، فإنها تقع للأسماء قليلا نحو: أفكل، وأرمل، وأيدع، وأريع، ونرجس، وتنضب وتتفل،
وتدرأ، ويرمع، ويعمل، وإصبع وأصبع وأبلم، وأصبع، ودئل، ورئم. وما كان على نحو هذه الأبنية فقليل في الأسماء.
فإذا سميت رجلًا بواحد منها لم تصرفه، لمشابهته بناء الفعل الذي هو فرع عن الاسم.
وكذلك إذا سميت بشيء من الأفعال الموازنة لهذه لم تصرفه أيضا، كما لو سميت بأضكرم، أو أكرم، أو أكرِمْ، أو نحو ذلك.
وقد سموا: يزيد، ويشكر، وتغلب، ويعمر، فمنعوا الصرف، فكذلك ما كان مثلها.
والمثالان اللذان أتى بهما الناظم وهما "أحمد" ويعلى" من هذا النوع، وهما منقولان من الفعل.
والرابع: أن يكون الوزن مختصًا بالفعل، ليس للاسم فيه نصيب، وهو قوله:"كذاك ذو وزنٍ يخص الفعل".
يعني أنه ممنوع أيضا، وما يقع هنا من الأعلام لا يكون إلا منقولا من الفعل، بخلاف ما قبله، فإنه قد يكون منقولا من غير فعل، كتنضب، وتتفل، وإصبع، وكذلك (أكلب) ونحوه من الجمع، لأنه على وزن: أقتل، وأما هذا فلا.
ومن الأمثلة المختصة بالفعل: فُعِل، وفوعل، وفعلل وفعّل.
فإذا سمي بضرب، أو ضورب، أو دحرج، أو ضضرب- لم ينصرف، ولذلك لم تصرف العرب (بذر) اسم ما، أنشد أبو الحسن، وقال: سمعت يونس ينشد هذا البيت لكثير عزة:
سقى الله أمواهًا عرفت مكانها
…
جرابًا وملكومًا وبذر والغمرا
وأما (شلم) فعجمي، وكذلك (بقم) وفي "الصحاح" قلت لأبي علي الفارسي: أعربي هو؟ يعني بقمًا. فقال: عرب، وليس في كلامهم اسم على (فعل) إلا خمسة (خضم) بن عمرو بن تميم، وبالفعل سمي، و (بقم) لهذا الصبغ و (شلم) موضع بالشام، وهما أعجميان. و (بذر) اسم ماء من مياه العرب، و (عثر) موضع. ويحتمل أن يكونا سميا بالفعل، فثبت أنه ليس من أصول أسمائهم، وإنما يختص بالفعل.
فإن قيل: إذا كان هذا الإطلاق يقتضي أن كل اسم كان وزنه مختصا بالأفعال أو غالبا فيها- فصرفه ممتنع، فنحن نجد أفعالا كذلك، لكنها تصرف إذا سمي بها، وذلك مثل المضاعف نحو: مد، وشد، وكذلك إذا كان معتل العين نحو: قيل، وبيع، فإنه يصرف في المعرفة.
وكذلك إذا سميت بـ (ضرب) بعد أن خففته فقلت: ضرب.
وفي (علم): علم، فإنك تصرفه، وكلها على وزن (فُعْل).
وقد تقرر أن (فعل) لا ينصرف علمًا للوزن الغالب والعلمية، فقد انخرمت عليه تلك القاعدة.
فالجواب: أن هذه الأفعال المذكورة خارجة عن قصده، لأنها ليست على وزن الأفعال، لأن (مد، وشد) في اللفظ (فعل) فهو كمد، وقفل، وهو كثير في الأسماء، وكذلك (قيل، وبيع) لفظه على وزن قيل، ودين، وهو في الأسماء كثير.
وكذلك (ضرب، وعلم) على وزن: قفل، والعرب هنا إنما تراعي صورة اللفظ غير مختصة بالأفعال ولا غالبة فيه.
فإن قلت: هذا مشكل، فإنهم إذا سموا بـ (يزيد، ويشكر) أو نحو ذلك.
منعوا صرفه مع أنه الآن ليس على وزن الفعل، فإذا كنتم تعتبرون اللفظ، فاصرفوا (يزيد، ويشكر) مسمًى بهمل، لأن (يفعل، ويفعل) قد تغير إلى شكل آخر، وإن أبيتم إلا المنع فلابد أن تمنعوا (مد، وشد) ونحو ذلك.
فالجواب: أن (مد، وشد) وسائر ما ذكر قد خرج إلى وزن من أوزان الأسماء، بخلاف (يزيد، ويشكر) فإنه لم يخرج إلى وزن يكون للأسماء، فلما لم يحصل له في التغيير وزن من أوزان الأسماء بقي عليه حكم الوزن الفعلي والله أعلم.
وقوله: "أو غالب، معطوف على قوله: "يخص الفعلا" كأنه قال: خاص بالفعل، أو غالب عليه.
ومثله، من عطف الاسم على الفعل، قول الشاعر:
* أم صبي قد حبا أو دارج *
وقد تقدم جواز ذلك.
وما يصير علمًا من ذي ألف
…
زيدت لإلحاق فليس ينصرف
يعني أن الاسم إذا كان ذا ألفٍ في آخره زائدة، وزيادتها للألحاق، فإنه إذا سمي به لا ينصرف.
فإن قلت: لم فرض المسألة في اسم ملحق سمي به، ولم يفرضها على أعم من هذا، فيقول مثلا: والعلمية تمنع من ألف الإلحاق، فيشمل ما سمي به مما فيه تلك الألف، وما وضع من الأعلام كذلك إن فرض مرتجلا مثلا.
فالجواب: أن الألف التي للإلحاق لا تكون إلا في الأجناس، ولا تكون في الأعلام، والاستقراء يبين ذلك.
فإنما تكون ألف الإلحاق في العلم إذا كان منقولا، فأراد أن ينبه على هذا المعنى، فأتى بتلك العبارة.
وقوله: "زيدت لإلحاق" يريد في آخر الاسم، لأن ألف الإلحاق لا تلحق أولًا ولا وسطًا، وإنما تقع للإلحاق آخرًا.
وتحرز بقوله: "زيدت" من الألف المنقلبة عن الأصل نحو (مغزًى) و (مدعًى) و (أرطًى) عند من قال: أيم مرطي، فإن الألف هنا لا أثر لها في منع صرف؛ إذ كانت بمنزلة الرداء من (جعفر) وبمنزلة ما انقلبت عنه، إلا أن يأتي مانع آخر غير الألف.
ومثال ما فيه ألف الإلحاق (أرطي) عند من قال: أديم مأروط، و (عقلًى) و (معزًى) و (ذفرًى) و (تترًا) على قراءة التنوين، و (حبنطًى) ونحو ذلك.
وهذه كلها إذا سميت بها امتنع صرفها، وسبب ذلك أن الألف صارت شبيهة بألف التأنيث حين كانت ألف التأنيث [لا تلحقها هاء التأنيث] وكذلك (علقًى) وبابه، إذا سمي به لا تلحق الهاء أصلًا، وقد كانت تلحق قبل العلمية، فتقول: علقاةٌ، وأرطاةٌ، ولاجتماعهما أيضا في الزيادة. فلما حصلت المشابهة بينهما صارت ألف الإلحاق تمنع كألف التأنيث.
فإذا نكر بعد التسمية لم يبق إلا علة واحدة، وهي لحاق الألف، فلا يمتنع صرفه.
وههنا نظر من وجهين: أحدهما: أن ألف الإلحاق على وجهين:
الأول: أن تلحق أخيرًا وحدها، كعلقًى وسائر ما تقدم من الأمثلة. وما قاله النظام فيه صحيح.
والآخر: أن تلحق طرفًا بعد ألف زائدة، فتنقلب همزة نحو: علباء، وحرباء، فإنهما ملحقان بقرطاس وسربال، وكذلك: قوباء، وملحقة له ببناء فسطاس، وغوغاء، وضوضاء، عند من نون، ملحق بفضفاض، وصلصال. وإذا ثبت هذا وأن الهمزة أصلها الألف فيقتضي كلام الناظم أن نحو:(علباء) لا ينصرف إذا سمي به؛ إذ للقائل أن يقول: إنها أضبهت همزة التانيث في (صحراء) ونحوه، لأن كل واحدة منهما منقلبة عن ألف يمتنع الصرف بها، شبهت ألف الإلحاق قبل الإبدال همزة بألف التأنيث قبل الإبدال أيضا، وكذلك تشبه بها بعد الإبدال، فيمتنع الصرف.
وهذا الحكم هنا غير صحيح؛ بل الصحيح أن (علباء) و (حرباء) ونحوهما من الملحقات التي آخرها همزة إذا سمي بها تنصرف البتة، ولا يجوز المنع، لأن همزة الإلحاق لا تشبه همزة التأنيث، من جهة أن همزة الإلحاق منقلبة عن ياء لا على ألف، وهمزة التأنيث منقلبة عن ألف لا عن ياء، فافترقا في الحكم لأجل افتراقهما في التقدير.
بهذا علل الصرف ابن أبي الربيع، وبينه الأستاذ- رحمه الله بأن الحرف إذا كان منقلبا عن مانعٍ منع، كالهمزة في (صحراء) وإذا كان منقلبا عن غير مانع لم يمنع كهمزة (علباء).
وإذا كان كذلك، فإطلاق الناظم مخل، وكان الواجب عليه أن يقيد الألف بالمقصورة، كما فعل في "التسهيلين" و"الفوائد".
والوجه الثاني: أن ألف التكثير في هذا الحكم مساوية لألف الإلحاق، كما إذا سميت بقبعثري، وضبغطري، ونحوهما مما ألفه للتكثير، فإن صرفه ممتنع لشبه الألف بألف التأنيث، ولا فرق بين الألفين في هذا الحكم. فلم اقتصر على إحداهما وترك الأخرى، وتركها موهمٌ بجواز الصرف؟
والجواب عن الأول: أن الألف إذا أطلقت فحقيقة مفهومها أنها غير المنقلبة؛ إذ كان انقلابها يصيرها إلى حقيقة أخرى تسمى همزة، فلا تحمل على غير صورتها الأصلية إلا لموجب.
فإن قلت: فلم حملت ألف التأنيث حيث ذكرها أول الباب على وجهيها، (ولم تحمل هذه على وجهيها) كذلك؟
فالجواب: أن ألف التأنيث هنالك أردفها بقول: "مطلقًا منع" وهذا الإطلاق ليس إلا لحالتيها معًا، من بقائها على أصلها وانقلابها
همزة، وإلا فلا معنى لقوله: ثم "مطلقًا" أو لقوله: "كيفما وقع" على ما تقدم من التفسيرين.
وأما هذه فلم يطلق الحكم فيها؛ بل ذكرها بالاسم الذي يسبق إلى الفهم من لا صورتها الأولى، اتكالًا على ذكاء الفطنة على عادته في هذا النظم، وهي من محاسنه فيه. وقد سبق من نحو هذا أشياء كثيرة. وبالله التوفيق.
والجواب عن الثاني: أن ألف التكثير ليست بالكثير، وإنما وقعت في قليل من الألفاظ، فلم يعتن بذكرها بحسب القصد في هذا المختصر، وعلى أنه لم ينبه على ذلك في "التسهيل" فالله أعلم لم ترك ذلك، ألندوره، أم لعلةٍ أخرى، أم للغفلة عنه؟ أما هنا فلا اعتراض عليه.
وقوله: "فليس ينصرف" اسم "ليس" ضمير عائد على مدلول ما في قوله: "وما يصير علمًا" والخبر "ينصرف" ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن، كقولهم: ليس خلق الله مثله، والأول أولى.
والعلم امنع صرفه إن عدلا
…
كفعل التوكيد أو كثعلا
العدل على أربعة أقسام:
عدل على (فعال) وعدل على (مفعل) وقد تقدم ذكرهما، وهما مختصان بالصفات وعدل على (فعل) وعلى (فعال) وهما مختصان بالأعلام، ويلحق بهما خامس، وهو العدل عن الألف واللام، وهو مختص بـ (أخر) في الصفات، وقد تقدم، وبـ (سخر) في المعارف، وهو الذي ذكر هنا.
فالذي يتكلم عليه هنا ما كان من العدل في المعارف، لأنه من القسم الذي ينصرف في النكرة، فبين أن العلم يمنع صرفه إذا كان معدولا إلى (فعل) كفعل المختص بباب التوكيد، وكجشم الذي هو علم لرجل.
فقوله: "امنع صرفه إن عدل ككذا" يريد إن عدل على هذا الوزن الذي هو على (فُعَل) وأتى فيه بنوعين:
أحدهما: (فُعل) التوكيد، يعني ما كان موازنًا لـ (فعل) في ألفاظ التوكيد، وذلك (جُمَع، وكُتَع، وبُصَع، وبُتَع) فإن هذه معدولة عما كان الأصل فيها إلى (فُعَل).
واختلف في المعدول عنه ما هو؟
فالذي قاله الفارسي إنه معدول عن (جماعي) لأنه جمع (فعلاء) و (فعلاء) إذا كان غير صفة قياسه (فعالى) كصحراء وصحارى، فعدل إلى (فُعَل) تخفيفا.
وقيل: إنه معدول عن (فعل) لا عن فعالى لأنه جمع (فعلاء) و (فعلاء) مؤنث (أفعل). وقياس (فعلاء أفعل) أن يجمع على (فعل) فكان قياس (جُمع) أن يكون (جمعًا) فعدل عنه إلى (فعل) وكذلك سائر الألفاظ.
واعترض هذا الفارسي بأن (أفعل فعلاء) لا يجمع على (فعل) إلا إذا امتنع مذكره من الجمع بالواو، والنون، كحمراء وحمر، لأنه لا يقال: أحمرون.
وأما إذا جمع مذكره بالواو والنون فليس قياس مؤنثه (فعل) ولا هو من باب (أفعل فعلاء).
وأيضا، العدل: يقصد به ضرب من التخفيف، وهذا نقيض الغرض، لأنه (فعلًا) أخف من (فعل) ولم يبين الناظم وجه العدل.
والثاني من النوعين (فعل) الذي في غير التوكيد كـ "ثعل" الذي مثل به، وهو أبو حي من طيئ، وهو ثعل بن عمرو أخو نبهان، وهم الذين عناهم امرؤ القيس بقوله:
رب رامٍ من بني ثعل
…
مخرجٍ كفيه من ستره
وكذلك "جشم" الذي مثل به بعد، وهو أبو حي من الأنصار، وهو جشم بن الخزرج، وكان يقال: إن سرك العز فجحجح بجشم.
و"جشم" في ثقيف، وهو جشم بن ثقيف، وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن.
ومثله (عمر، وزفر) و (زحل) اسم الكوكب، و (قثم)؟
وهذا البناء معدول عن (فاعل) كأنهم أرادوا أن يقولوا: عامر، وزافر، وزاحل، وقاثم، ثم عدلوا عنه إلى (فعل).
وهذا إنما تلقى من السماع، أعني كونه معدولا عن شيء، ولذلك جعل ابن الحاجب هذا العدل مقدرًا، وجعل العدل في (جُمَعَ، وكُتع، وأُخَر) ونحو ذلك محققًا، لأن (جمع) وما ذكر معه أدى القياس إلى حقيقته في الأصل، بخلاف نحو (عمر، وزفر) فإن القياس لم يهتد إليه حتى سمع غير مصروف.
ومن هنا يرد على الناظم اعتراضان:
أحدهما: أن ما كان من نحو (عمر، وزفر) منع صرفه عنده مبني على تحقيق العلة المانعة وهو العدل، وهو مما لا يهتدي إليه بقياس، وإنما يتلقى من السماع- أعني كونه معدولا- وليس لنا سبيل إلى ذلك من السماع إلا من جهة صرفه وعدم صرفه.
ولذلك يقول بعض النحويين في ضابط وجود المعدول: هو أن ينظر إلى (فعل) كيف جرى في كلامهم؟ فإن رأيته لم يصرف علمت أنه معدول، وغن كان له أصل في النكرة حكمت عليه بالنقل نحو (صرد، ونغر) وما ليس له أصل في النكرة حكمت بالعدل، نحو (زفر) وقال بعضهم: إذا وجدته معربًا غير مصروف، ولم تعلم له أصلا في النكرات، فهو معدول، نحو (قثم) وإلا فغير معدول، نحو (أدد) يقال
معد بن عدنان بن أددٍ، فإن العرب صرفته وإن لم يعلم له أصل في النكرات. فإن وجدت له أصلا، فالأصل فيه الصرف، وأنه غير معدول، نحو (حطمٍ) اسم رجل، إلا أن يأتي السماع بمنعه، فتعلم أنه ليس بمنقول من تلك النكرة، نحو:(عمر) وهذا العقد الثاني أسعد بمذهب سيبويه، وهو الصحيح، ألا ترى أنه حكى الصرف في (أددٍ) مع أنه ليس له أصل في النكرة، وهذا يدل من كلام سيبويه على أن أصل (فعلٍ) الصرف وإن لم يسمع له نكرة.
وإذا ثبت هذا فقوله: "امنع صرفه إن عدل" دوري، لأنه وقف الحكم بمنع الصرف على وجود العدل في هذا القانون. وعندهم أن وجود العدل موقوف على سماع منع الصرف، وإلا فهو مصروف، وهذا دور ظاهر، وهو فاسد.
والاعتراض الثاني: أن العدل في نحو (عمر) موقوف على السماع، وهو قد أطلق القول في ذلك ولم يقيده؛ بل قال:"كفعل التوكيد أو كثعلا" و"ثعل" على وزن (فُعَلٍ) فيقتضي أن كل ما كان على هذا الوزن، وهو مسمى به، يمنع صرفه وإن كان له أصل في النكرات، إذ (الثُّعل) هي الزوائد [في الأسنان] واختلاف في منبتها، يركب بعضها بعضا، فعلى هذا كل (فعل) كل معرفةً أول الوضع فلا يصرف، وكذلك إذا سمي بواحد من النكرات، سواء أكان اسم
جنس كصردٍ ونغرٍ، أم صفة كبلدٍ وحطمٍ، أو مصدر كهدًى، وتقًى، أو جمعا نحو: غرفٍ وظلمٍ، وهذا كله فاسد بنصوص النحويين وكلام العرب.
وقد وافق النحويين في "التسهيل" فقال حين ذكر المعدول عن (فاعل) علما: وطريق العلم به سماعه غير مصروف، عاريًا من سائر الموانع.
اللهم إلا أن يكون العدل محققًا من غير ذلك كـ (فعل) في النداء، نحو: خُبث، وفُسق، ولُكَع، إذا سمي بها، وكذلك ما كان من المعدول في الأوصاف، وفي التوكيد، ونحو ذلك، فهذا محقق العدل.
ومثاله لا يعطي إلا ما كان علما عندهم، نحو (ثُعَلٍ) فحصل من هذا أن ما كان متأكدًا عليه ذكره تركه، وما كان واجبًا عليه أن يبينه، ويخرجه عن مقتضى القاعدة أهمله، فدخل عليه.
والجواب: عن الاعتراضيين معًا أن الناظم إنما تكلم على العلم الذي ثبت كونه معدولا، لأنه قال:"والعلم امنع صرفه إن عدلا" يريد": إن ثبت كونه معدولا قبل النظر القياس فيه.
وثبوت عدله يكون بوجوه:
أحدها: أن يثبت من موضعٍ آخر كثبوت كون (أُخر) معدولا، وكذلك (فعال) و (مفعل) في العدد، نحو: أحاد، وموحد، وثناء، ومثنى،
وثلاث، ورباع، وما أشبه ذلك، مما قيس أو لم يقس، فإذا سمينا بواحد منها فقد سمينا بما ثبت عدله، فلابد من منع الصرف، لأنل قد ثبت عندنا عدلها سماعا؛ بل كذلك نقول فيمن سمي بسداس ومسدس، ونحوه إلى عشار ومعشر، وإن لم نسمعه، ولا قلنا بالقياس فيه، لأن طريقة (فعال، ومفعل) في العدد من واحد إلى عشرة، ثبت قصد العدل فيه على الجملة. فهذا طريق واضح يثبت به العدل وإن لم يكن المعدول علمًا بعد.
والثاني: ما في باب ما لا يقع إلا في "النداء" خاصة، وذلك (فُعل) في المذكر و (فعال) في المؤنث، فإنهما معدولان عن (فاعل، وفاعلة) نحو: يا خبث، ويا خباث، ويا لُكع، ويا لكاع، ويا فُسق، ويا فساق، وهو في (فعال) مقيس عند الناظم، قد نبه عليه في بابه، و (فُعل) شائع عنده غير مقيس، ومقيس عند غيره، وكذلك ما جاء فيه من (مفعلان) معدول أيضا، فكل هذا إذا سمي به مذكر امتنع صرفه، لثبوت عدله في غير باب (ما لا ينصرف).
والثالث: ما ثبت العدل فيه في باب (التوكيد) وذلك: جُمع، وكُتَع، وبُصع، وبُتع، ولا يلزم فيه اعتراض، لأن الذي أثبت فيه عدم الصرف للعدل في باب (التوكيد) فإذا سميت بها الأشخاص صارت إلى باب آخر غير بابها، فحكم عليها بامتناع الصرف.
والرابع: ما ثبت في باب (فعال) وذلك أنه قد ثبت في [منع الصرف] بالعدل في غير التسمية، فالذي لمعنى الأمر، كـ (نزال، وتراك) معدول عن: انزل، واترك، وكذلك ما أشبهه.
والذي بمعنى الصفة كـ (حلاق) للمنية، و (جعار) للضبع، معدول عن: حالقة، وجاعرة، وكذلك نحوه.
والذي بمعنى المصدر كـ (يسار، وفجار) وقد ذكر (فعال) في "النداء". والذي في النداء والأمر مطرد، وما عداهما سماع.
وعلى كل تقدير إذا سمي بما قيس وما سمع مذكر فإنه يمتنع للعدل والعلمية، وقد يصرف، وذلك قليل، فإن سمي به مؤنث فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله إثر هذا.
وإذا ثبت العدل في هذه الأنواع، وهي قياس أو سماع، فلا دور يلزم في تعريف الناظم، لأنه أحال على ما علم عدله في غير باب (ما لا ينصرف) أو في باب (ما لا ينصرف) لكن في حال أخرى، كالتسمية بـ (فعل) التوكيد، فإنه غير ما ثبت رم الصرف.
وإنما الذي يلزم فيه الدور ما ذكره في السؤال، ونحن لا نقول: إنه قاصد لإدخاله في الباب على الوجه المذكور، لما يلزم من المحذور؛ بل يبقى موقوفا على السماع مطلقا، لأن العدل فيه لم يثبت بعد، فليس بداخل تحت قوله:"إن عدل". وإنما يتكلم على ما ثبت عندنا.
فإن قلت: هذا خلاف ما ظهر منه بالمثال، فإن جميع ما ذكر هنا مخالف لما مثل به وهو (ثعل) إذ ليس بواحد من تلك الأقسام، ولا يثبت عدله إلا من باب (ما لا ينصرف) فالإشكال باقٍ.
فالجواب أن المثال قد أعطى أنه معدول، وأنه لا ينصرف سماعًا من العرب، والذي قصد بالإتيان به أن ما كان مثله في ثبوت العدل فهو مثله
في منع الصرف مجرى ذلك المسموع. وباب (عمر، وزفر، وثعل) الصرف. وإنما كان يلزم الإشكال أن لو أتى به ليقيس عليه مثله، مما لا يثبت عدله إلا بمنع الصرف، وليس كذلك؛ بل أتى به من باب السماع فقط، لتقيس أنت عليه ما يثبت عندك عدله من وجه آخر، وما لم يثبت فلا تجريه في منع العرب صرفه، فلا معنى للأمر بمنع صرفه وقد كان وضعه كذلك.
فإذا تقرر هذا حصل أن ما أجرى الناظم من القياس ليس فيما مثل به، وأن ما مثل به ليس بقياس، وأن ما أورد في المسألة جارٍ على قوانين العرب والنحويين على اختصار عبارته بلطف إشارته، وهي من محاسنه.
ثم أتي بمسألة (سحر) فقال:
والعدل والتعريف مانعا سحر إذا
…
به التعيين قصدا يعتبر
يريد أن يبين أن (سحر) إذا قصد به أن يكون ليومٍ بعينه، فإن العرب منعته الصرف، فتقول: جئتك يوم الجمعة سحر، ولقيتك يوم الخميس سحر، وأن السبب لمنع صرفه العدل والتعريف.
وإنما اعتنى بذكر المانع في (سحر) لإشكال منعه الصرف على حسب ما يتبين بحول الله، وذلك أنه وضع لوقتٍ بعينه، فهو معرفة، لأن ما وضع لشيء بعينه خصوصًا فهو معرفة، والتعريف فيه تعريف العلمية الجنسية، وهي مانعة كالشخصية.
ولما كان تعريفه على غير وجه التعريف المعلوم في نظائره، وهو إما بالألف واللام، وإما بالإضافة- صار كأنه عدل عما كان يستحقه إلى وجهٍ آخر
من التعريف، كما عدل (أمس) في لغة من قال: مذ أمس. وكما عدل (أخر) عما كان الأصل في تعريفه من الألف واللام.
هذا الذي يمكن في توجيه منع الصرف في (سحر) وهو الذي أراده الناظم.
ولما فيه من الإشكال زعم بعضهم أنه مبني على الفتح لتضمنه معنى حرف التعريف، ورده ابن الناظم بأمور:
أحدها: أنه لو كان كذلك لكان غير الفتح أولى به، لأنه في موضع نصب، فكان يلتبس البناء بالإعراب، فوجب اجتنابه، كما اجتنب في (قبل، وبعد) والمنادى [المفرد المعرفة].
والثاني: أنه كان يكون جائز الإعراب كـ (حين) في قوله:
* على حين عاتبت المشيب على الصبا *
لتساويها في ضعف سبب البناء لكونه عارضا.
والثالث: أن دعوى الجمهور أسهل، لأنه أقرب إلى الأصل، بخلاف دعوى البناء، ودعوى الأسهل أرجح.
فثبت أنه غير مبني كما قال الجمهور، وأن معنى حرف التعريف فيه ليس على التضمين؛ بل على العدل عما هو فيه كما تقدم.
وبعد ذلك، فيرد على الناظم في مذهبه إشكالان:
أحدهما: أنهم يقولون في (غدوة، وبكرة) لوقتٍ بعينه: إنه ممنوع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنه من يوم بعينه، ولدخول الهاء فيه، ولا يقولون فيه: إنه معدول؛ بل يزعمون أنه غير معدول، مع أنه قد عرف على غير ما كان يستحقه من التعريف، وهو الألف واللام، أو الإضافة، وهو المعلوم في بابه، فيقول القائل: لا بد هنا من أحد أمرين:
إما أن يكون التعريف على غير جهته المعهودة عدلا، فيكون نفيهم إياه عن (غدوة، وبكرة) خطأ، وكان إذ ذاك يلزم إتيان الناظم بهما مع (سحر) إذ لا فرق على هذا الترتيب.
وإما أن يكون ادعاؤهم العدل في (سحر) باطلا، فلابد من البحث عن علة أخرى، أو صرف (سحر) وصرفه خطأ، لأن العرب منعته، فأشكل هذا كله.
والثاني: أن (ضحى، وضحوة، وعشاء، وعشية) وأخواتها مما هو لوقت بعينه، قد صرفتها العرب، مع أنها معارف، لكونها لوقت بعينه كـ (سحر، وغدوة، وبكرة) ومع أنها موضوعة في التعريف غير وضعها؛ إذ كان حقها أن تعرف بالألف واللام، كما في نظائرها.
فالعرب لم تعتبر هنا ما زعموا أنها اعتبرته في (سحر) وهذا تناقض من القول، واعتبار لما أهملته العرب.
ولما ثبت أن العلتين المذكورتين في (سحر) غير معتبرتين في ظاهر الأمر- أراد الناظم أن يحقق لك ما قاله النحويون، ويثبته عندك بالتنبيه على بخصوصه، لتعلم أن ما قالوه من ذلك إنما ارتكبوه لمعنى صحيح، لا يغفلون عنه فقال: * والعدل والتعريف مانعا سحر *
وأحال الناظر على البحث في وجه ذلك.
ووجه ما قالوه من ذلك أنهم وجدوا (سحر) غير منصرف، فعلموا أن لابد من العلتين.
فأما التعريف فأوضحه المعنى؛ إذ كان لوقت معين.
وأما العدل: فبينه كونهم لم يتصرفوا فيه، ولم يستعملوه على غير جهة الظرفية، فتبينوا أن ذلك إنما هو لأجل وضعه في غير موضعه، واستعماله على غير طريقته.
وهذه قاعدة عربية إذا استعمل الشيء في غير موضعه وعلى غير وجهه، لم يتصرف تصرف ما هو باقٍ على أصله.
وقد بين ذلك ابن خروف في الظروف، خصوصا في شرح "الكتاب" في باب (ما يحتمل الشعر).
وإذا ثبت هذا فـ (غدوة، وبكرة) لما كانا متصرفين على غير طريقة (سحر) ظهر أن العدل فيهما غير مراد، وأن تعريف العلمية فيهما بحق الأصل، لا بالخروج عن الأصل؛ إذ لو كان كذلك لم يتصرفوا فيها. فقالوا: إن المانع فيهما مع العلمية التأنيث.
وأما (ضحى، وضحوة) وبابه، وإن كان ليومٍ بعينه، فإن عدم التصرف فيهما دل على أن التعريف فيهما ليس بحق الأصل؛ بل عدل بهما عن طريقهما من التعريف بالألف واللام، أو الإضافة.
ولما كانوا قد صرفوها دل على أنها في أنفسها ليست بمعارف؛ بل جرت مجرى قولهم: ما رأيته أول من أمس، وأنت تريد اليوم الذي قبل يومك، وما رأيته عامًا أول، وأنت تريد العام الذي قبل عامك، فاللفظ لفظ النكرة، والمعنى على خلاف ذلك، فكذلك (ضحى، وضحوة) لفظه نكرة، والمعنى معنى المعرفة. وهذا كله من الاستدلال بالأحكام وهو باب واسع في الأصول، وعليه المعول في كثير من الأحكام العربية. ثم قال:
وابنِ على الكسر فعالٍ علما
…
مؤنثًا وهو نظير جشما
عند تميم واصرفن ما نكرا
…
من كل ما التعريف فيه أثرا
يعني أن (فعال) على وزن (حذار، وتراك) إذا صار علمًا، سواء أكان أصلها الأمر أم غير ذلك من أقسام (فعال) وكانت تلك العلمية معلقة على مؤنث- فإن فيه وجهين:
أحدهما: البناء على الكسر مطلقا، وهو مذهب عرب الحجاز، وذلك قوله:"وابنِ على الكسر".
والثاني: الحكم له بحكم (جشم) وغيره من المعدولات إذا كانت أعلاما، وذلك إعرابه إعراب ما لا ينصرف، وهو مذهب بني تميم، وذلك [قوله] و"هو نظير جشما عند تميمٍ" أي نظيره في الإعراب غير منصرف كما تقدم فيه.
و(فعال) المسمى به قد تكون العرب هي التي سمت به، نحو (حذامِ) اسم امرأة. قال الشاعر:
إذا قالت حذامِ فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام
و(قطام) اسم امرأة.
قال النابغة:
أتاركةً تدللها قطامِ
…
وضنا بالتحية والكلام
و(رقاشِ) وكذلك، قال الشاعر، ونسبه الجوهري إلى امرئ القيس:
قامت رقاشِ وأصحابي على عجل
…
تبدي لنا النحر واللبات والجيدا
و(غلابِ) اسم امرأة كذلك.
وفي غير الآدميين (سفارِ) اسم ماء، وقال الجوهري: اسم بئر، وهو واحد. قال الفرزدق:
متى ما ترد يومًا سفارِ تجديها
…
أديهم يرمي المستجيز المعورا
و(حضارِ) اسم كوكب، ويقال: حضار والوزن محلفان، وهما نجمان يطلعان قبل: سهيل، فيخلف إذا طلع أحدهما أنه سهيل لشبهه به.
وهذان اللفظان قد يظهر أنهما مذكران، لأن الماء مذكر، والنجم مذكر، وليس في الاعتبار كذلك؛ بل القصد في التسمية بهما لحفظ التأنيث، ذكره سيبويه.
و (وبارِ) اسم أرض كانت لقوم عاد، وهي التي ذكرها الأعشي في قوله، أنشده سيبويه:
ومر دهر على وبارِ
…
فهلكت جهرة وبار
فكل ما كان على (فعال) من هذا القسم فيه وجهان على ما قال الناظم، البناء مطلقا لأهل الحجاز، والإعراب من غير صرف لبني تميم.
ودل على إرادة أهل الحجاز، وإن لم يذكرهم، مساق الكلام، لأنه قال في الإعراب:"وهو نظير جشما عند تميم" فبقي الوجه الآخر، وهو البناء لأهل الحجاز، لأنه ليس في الاستعمال من يخالف بني تميم سوى أهل الحجاز.
وتميم: هو تميم بن مر بن أد بن طلحة بن إلياس بن مضر.
وقد تكون (فعال) لم تسم العرب بها أحدا، وذلك ثلاثة أنواع:
أحدها: (فعال) في الأمر، نحو: نزال، وتراك، وحذار، ومناع، وقد تقدم ذكره.
والثاني: (فعال) في المصادر، كقولك: فجارِ، تريد الفجرة. أنشد سيبويه للنابغة:
أنّا اقتسمنا خطتينا بيننا
…
فحملت برة واحتملت فجارِ
و(يسارِ) اسم لليسرة أو الميسرة. قال الشاعر أنشده سيبويه:
فقلت امكثي حتى يسارِ لعلنا
…
نحج معًا قالت أعامًا وقابله!
و(بدادِ) اسم لـ (بددًا) قال الجعدي، ويقال هو للقيظ بن زرارة، وقيل: لابن كراع، أنشده سيبويه:
وذكرت من لبن المحلق شربة
…
والخيل تعدو بالصعيد بداد
وقال حسان بن ثابت، رضي الله عنه:
كنا ثمانية وكانوا جحفلا
…
لجبًا فشلوا بالرماح
ومنه قولهم: (لامساس) تقول العرب: أنت لامساسِ" أي [لا] تمسني ولا أمسك.
وقرئ في غير السبع "قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" قرأها أبو حيوة، فهو اسم للمس.
وكذلك همامِ، يقال لا همامِ، أي لا أهم بذلك همًا، قال الكميت:
عادلًا غيرهم من الناس طرًا
…
بهم لا همامِ لي لا همامِ
و (كفافِ) اسم للكف، يقال: دعني كفاف.
والثالث (فَعَالِ) في الصفات، وهو قسمان:
قسم لا يكون إلا في النداء، نحو: يا فساق، ويا خباث، وما أشبه ذلك، وقد تقدم في بابه.
وقسم يقع في النداء وغيره، مثل: جَعَارِ، للضبع، اسم للجاعرة، أنشد سيبويه للنابغة الجعدي:
فقلت لها عيثي جعارِ وجرري
…
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
ويقال لها: قثامِ، لأنها تقثم، أي تقطع.
وقال الشاعر في (حلاقِ) اسم للحالقة، وهي المنية، أنشده سيبويه:
لحقت حلاقِ بهم على أكسائهم
…
ضرب الرقاب ولا يهم المغنم
وأنشد أيضا لمهلهل:
ما أرجي بالعيش بعد ندامي
…
قد أراهم سقوا بكأس حلاقِ!
وتكثير المثل هنا يحصل به الاتساع في التسمية، لأنها أبواب مسموعة، وإنما القياس منها (فعال) في الأمر، وفي النداء، وقد ذكر الزمخشري منها كثيرا. ونقل ذلك ابن خروف، فانقله من ثمة إذا أردته.
فإذا كل ما سمي به من هذه الأشياء فإنه يمتنع صرفه عند بني تميم، ويبنى على الكسر عند أهل الحجاز.
وبقى على كلام الناظم سؤالان.
أحدهما: أنه قد تقرر عند أهل النحو أن (فعال) في جميع أقسامه معدول، ولذلك أتى به الناظم في (باب العدل) وإذا ثبت أنه معدول فهو أيضا معرفة، كان للأمر أو لغير ذلك.
وقد بين ذلك سيبويه، ونص عليه بقوله: وإذا كان جميع هذا نكرة، يعني ما سمي به من أقسام (فعال) انصرف كما ينصرف (عمر) في
النكرة، لأن (فعال) لا يجيء معدولا عن نكرة.
فقوله: "إن هذا لا يجيء معدولًا عن نكرة" دليل على أن (فعال) في جميع أحوالها معرفة.
وثبت أيضا أنه كلها مؤنثة، استدل سيبويه على ذلك بأشياء كثيرة. وبسط المسألة الشلوبين في "كتاب الأسئلة والأجوبة" بما فيه مقنع، فحصل من جميع ذلك أن (فعال) قد اجتمع فيه العلتان، التعريف والعدل، وثالثة وهي التأنيث.
وكل علم مؤنث: فالحجازيون يبنونه على الكسر، وبنو تميم يعربونه ممنوع الصرف، كما ذكر الناظم، فيقتضي ذلك كله أن (فعال) إذا كان للأمر، نحو:(نزال) فيه للعرب وجهان من حيث ثبت أنه علم لمؤنث معدول.
وكذلك باقي الأقسام، نحو: حلاق، وحماد، ولكاع، وهذا غير صحيح، لأنهم متفقون على لزوم الكسر فيما سوى (رقاشِ) ونحوه من أسماء المؤنث.
فإذا سمي بـ (نزالِ، أو حمادِ، أو بدادِ) امرأة كان كـ (رقاشِ) فإن بقي على أصله فلا خلاف في لزوم البناء على الكسر.
وقد قال في "التهسيل": واتفقوا على كسر (فعالِ) أمرًا أو مصدرًا أو حالًا أو صفةً جارية مجرى الأعلام، أو ملازمة للنداء.
والسؤال الثاني: أنه أطلق القول في اللغتين معًا، وأن تميما تعربه مطلقا عند التسمية به، والحجازيون يبنونه مطلقا.
أما بالنسبة إلى الحجازيين فالإطلاق صحيح. وأما بالنسبة إلى بني تميم فغير صحيح، لأنهم يفرقون بين ما آخره راء وغيره، فما آخره راء يوافقون فيه الحجازيين، حرصًا على الإمالة، نحو: حضار، وسفارِ، ووبارِ، ويسارِ.
وما آخره غير راء فهو الذي يعربونه غير منصرف. وأين هذا من كلام الناظم؟ فيقتضي أن نحو (سفارِ) معرب عند بني تميم مطلقا، وليس كذلك.
والجواب عن الأول أن قوله: "علمًا" يبين أنه لا يريد إلا ما سمي به مؤنث. وبيان ذلك: أن (فعال) تقرر في السؤال أنه في أصل وضعه معرفة معدول، وإذا كان كذلك فكان اجتزاؤه بأن يقول:"وابنِ على الكسر فعال مطلقًا" كافيًا، لأنه على تقدير: وفي كل نوع كذلك، فصارت فائدة قوله:"علمًا" ساقطة.
وكذلك قوله: "مؤنثًا" لأنه قد تقرر تأنيثه، ولما كان قد حافظ على ذكر قيد العلمية والتأنيث، دل ذلك على قصد إليهما، وتعريف بمعنى لا فيهما، وما ذاك إلا ما كان عند التسمية.
وأيضا، فلفظ العلم إنما الغالب في استعماله ما كان مسمًى به، وواقعًا على الأناسي، وما يألفون ذلك ثانٍ عن أصل الوضع، فليس معنى كونه علمًا مؤنثًا إلا كونه مسمًى به، وذلك يشمل ما سمت العرب به، نحو: حذامِ، ورقاشِ، وما سمينا نحن به من سائر الأقسام.
وهنا يظهر لقيد التأنيث فائدة هي مقصودة للناظم أيضا، وهي حاصلة من مفهوم تلك الصفة، أن هذه الأشياء إذا كانت علما لمذكر فلا يكون حكمها البناء؛ بل غيره.
وقد تقدم اشتمال القاعدة الأولى من العدل عليه، فهو إذًا مما يمتنع صرفه مطلقًا في لغة الحجازيين ولغة التميميين معًا، وهذا هو الأشهر فيه.
وقد حكي الصرف وهو ضعيف، فإذًا لا إشكال في كلام الناظم على هذا.
والجواب عن الثاني: أن بعضهم حكى عن بعض بني تميم طرد القاعدة في (فعال) مطلقا، فيما آخره راء، وفي غير ذلك. وأجاز ذلك سيبويه، قال: وقد يجوز أن ترفع وتنصف ما كان في آخره الراء، وأنشد قول الأعشي:
ومر دهرٌ على وبارِ
…
فهلكت جهرة وبارُ
لكن الأشهر عندهم فيما آخره راء موافقة الحجازيين، فكأنه لما رآهم مختلفين فيه أطلق فيهم القول بطرد القياس، وهو صحيح في الجملة، إلا أن الأولى بيان ذلك لو اتفق.
وبقي الكلام في وجه بناء ما بني من ذلك.
أما (فعال) في الأمر فقد تقدم له في "المعرب والمبني" وجه ذلك، وهو شبه الحرف في النيابة عن الفعل، من غير أن يكون معمولا لعامل، فأشبه "إن" وأخواتها، وذلك في قوله:"وكنيابة عن الفعل بلا تأثر".
وتقدم مذهب من ذهب إلى أن البناء فيها لتضمن معنى لام الأمر، وحمل اسم الفاعل الخبري على الأمري. وما ذكره أولى وأجرى في القياس.
وأما ما عدا ذلك من الأقسام فإنما بني بالحمل على الأمر، لشبهه به في التأنيث والعدل والتعريف، لأن البنية مؤنثة فيها كلها، ومعدولة عن حدها فيها، ومعرفة كذلك. فلما شابهتها هذا الشبه عوملت معاملتها في البناء. والدليل على أن البناء للشبه بـ (فعال) التي للأمر أنه حيث كثر الشبه لم يكن فيه إلا البناء،
لغةً واحدة، وحيث نقص كان فيه اللغتان، وذلك إذا سمي بواحدة منها.
وذلك أن غير العلم منها فيه الدلالة على المصدر كالتي للأمر، فـ (فعال) في المصدر شديدة الشبه بـ (نزال) و (فعال) في الصفة شديدة الشبه بـ (فعال) في النداء، وقد وجب البناء لهما. و (فعال) في النداء شديدة المشبه بالأمر، فإذا وقعت التسمية بعد الشبه فأعرب غير منصرف.
وإنما وافق التميميون الحجازيين فيما آخره راء حرصًا على الإمالة، لأن إجناح الألف، أي إمالتها، أخف عليهم، ليكون العمل من وجه واحد، فأرادوا الخفة، وعلموا أنهم إن كسروا الراء وصلوا إلى الإمالة لأجل الكسر، فإن رفعوا أو نصبوا لم يصلوا إليها، فألزموه الكسر لذلك، وهو تعليل الخليل. وقد تم كلامه في المعدول.
ثم ذكر حكما آخر يعم جميع أنواع هذا القسم، فقال:"واصرفن ما نكرا" إلى آخره،
يعني أن كل ما أثر فيه التعريف، فكان فيه منعا معتبرا ومؤثرا، بعد أن كان الاسم مصروفا قبل التعريف، فإنه إذا نكر بعد تعريفه انصرف، وعاد إلى ما كان عليه قبل التعريف.
فتقول في المركب: رأيت معديكرب ومعديكربًا آخر.
وفي ذي الألف والنون: مررت بعثمان العاقل وبعثمانٍ آخر، ومررت بطلحة وطلحةٍ آخر، ورأيت زينب وزينبًا أخرى، ومررت بإسماعيل وإسماعيلٍ آخر، وكذا إلى آخر ما ذكر.
فإن قلت: إن ما تقدم، مما يمتنع فيه الصرف مطلقا، تؤثر فيه العلمية [مع أنه إذا نكر لا ينصرف، كما إذا سميت بـ (ثلاث ورباع وأخر) ونحو ذلك، فإنه إذا سمي به أثرت العلمية لمنافاة الوصف لها، وكذل كل ما منع من الوصف، كبناء (أفعل) وزيادتي (فعلان)، فلم يبق مع العدل أو مع الوزن أو مع زيادتي (فعلان) إلا العلمية، فأثرت، ولولاهن، لانصرف مع فرض زوال الوصفية، وإذا كان كذلك اقتضى أن ذلك كله ينصرف في النكرة، وذلك غير صحيح لما تقدم ذكره من رجوعه لشبه الأصل الذي هو كونه وصفا.
فالجواب أن العلمية لما لم يظهر لها أثر [في الظاهر؛ إذ كان الاسم قبل التسمية ممنوع الصرف، ثم بعد التسمية كذلك عدها فيه كأنها لم تؤثر أصلا، وهو قد قال: "من كل ما التعريف فيه أثرا"] فخرج بهذا الاعتبار ما تقدم من تأثير العلمية.
أو يكون المعنى في قوله: "في كل ما التعريف فيه أثر" أي: ما كان التعريف مختصًا بالتأثير فيه، وعلى هذا التقدير لا إشكال فيه.
ثم لما كان مذهبه في (جوارٍ) ونحوه أنه في الرفع والخفض منون بين أن هذا مطرد فيما كان مثله مما يزول بإعلاله سبب المنع فقال:
وما يكون منه منقوصا ففي
…
إعرابه نهج جوارٍ يقتفي
الضمير في "منه" عائد على ما قدم مما أثرت فيه العلمية، يعني أن ما يكون من الأسماء التي أثرت فيها العلمية منقوصا، وهو ما آخره ياء قبلها كسرة، فإنك تحكم فيه بحكم (جوارٍ) المتقدم، وتسلك في ذلك سبيله، فتجعله في حالة الرفع وحالة الخفض منصرفا، والتنوين فيه تنوين عوضٍ لا تنوين صرف، كما تقدم في مسألة (جوارٍ) قبل هذا.
فإذا سميت امرأة بقاضٍ، أو شجٍ شبحٍ، أو عمٍ، زو مرامٍ، أو نحو ذلك صرفته الرفع والجر، أي ألحقته التنوين عوضًا من المحذوف، سواء أقلت: إنه عوض من ذهاب الحركة أم عوض من الياء على ما مضى في التعليلين، فهما يجريان في هذا الموضع فتقول: هذا قاضٍ، ومررت بقاضٍ، ورأيت قاضي يا هذا، وكذلك هذه شجٍ، وهذه عمٍ، ورأيت شجي وعمي يا هذا، وكذلك باقي الباب.
وتقول في (جوارٍ) اسم رجل أو امرأة: هذا جوارٍ، ومررت بجوارٍ، ورأيت جواري قبل.
وتقول إذا سميت بـ (يغزو، ويدعو): هذا يغزٍ، وهذا يدعٍ، ومررت بيغزٍ ويدعٍ، قلبت أولا الواو ياء، لأن الواو المضموم ما قبلها لا تقع في أواخر الأسماء المعربة، وإن اقتضى ذلك قياس رفض، فصار كـ (يقضي، ويرمي) مسمًى به. وأنت تقول فيه: هذا يقضٍ، ومررت بيقضٍ، وهذا يرمٍ، ومررت بيرمٍ، فكذلك ما آخره واو إذا صار إلى الياء.
وعلى الجملة، فكل ما سمي به مما آخره ياء قبلها كسرة، وكان التعريف قد منع صرفه، فإنه في الرفع والجر مثل (جوارٍ) والعلة الموجبة لذلك في (جوارٍ) هي الموجبة في هذا كله. كما ذكر، والتنوين تنوين عوض، وليس بتنوين صرف، لأنه لو كان تنوين صرف لأدى إلى أن يكون التعريف والتأنيث في نحو (قاضٍ) اسم امرأة غير موجب لمنع الصرف، وهذا باطل باتفاق.
وقد تقدم بيان هذا، وبيان أن مذهب الناظم إنما هو أن التنوين عوض لا تنوين صرف، لإحالة هذا الفصل على ذلك في الحكم، وأنه منتهج نهجه، وجار على سبيله.
وأما النصب: فحكمه حكم الصحيح، لأنه لما كانت الحركة ظاهرة فيه، غير مستثقلة على الياء، صارت الياء في قولك: رأيت جواري قبل، ورأيت يرمي، ويقضي، وقاضي، كدال (مساجدَ ويزيدَ) ونحو ذلك، وهو مفهوم قول الناظم في تقييده الإتيان بالتنوين بالرفع والجر.
وما تقرر هنا هو مذهب الخليل.
وأما يونس: فوافق في الجمع وخالف في المفرد، وزعم أن نحو (جوارٍ) إذا سمي به، فإنه يجري مجرى الصحيح، يعني في عدم حذف الآخر، فتقول: هذا جواري يا فتى، بإثبات الياء، ورأيت جواري، ومررت بجواري، فتظهر فتحة الخفض، كما تظهرها في الصحيح، وكذلك ما سمي به من نحو: قاضٍ، وغازٍ، ويرمي، وغير ذلك مما تقدم. فتقول: هذا قاضي، ورأيت قاضي، ومررت بقاضي.
وكذلك هذا يرمي، ورأيت يرمي، ومررت بيرمي، إذا كان اسمًا لمؤنث.
وهذا مذهب عيسى والكسائي. حكى ذلك السيرافي. ولم يرتضه الناظم، فلم يبن عليه حكما.
وقد رد الخليل على يونس قوله بأنه لو كان من شأنهم أن يلزموا الحركة حالة الجو، فيجرونه مجرى الصحيح- لكان من حقهم أن يلزموا الحركة في حالة الرفع أيضا، فكما يلزمهم أن يقولوا: مررت بقاضي، اسم امرأة، فكذلك يلزمهم أن يقولوا: هذا قاضي؛ إذ كانوا يجرون المعتل هنا مجرى الصحيح، وكذلك حكم التسمية بالجمع، لا فرق بينهما، وذلك لأن العرب تفتح الياء في الجر عند الضرورة، وتكسرها أيضا عند الضرورة.
فأما الفتح: فنحو قول الهذلي، أنشده سيبويه:
أبيت على معاري واضحات
…
بهن ملوب كدم العباط
وأنشد أيضا للفرزدق:
فلو كان عبد الله مولًى هجوته
…
ولكن عبد الله مولى مواليا
وأنشد أيضا، وهو مما استشهد به يونس:
قد عجبت مني ومن يعيليا
…
لما رأتني خلقًا مقلوليا
وأما الكسر: فنحو ما أنشده أيضا لابن قيس الرقيات:
لا بارك الله في الغواني هل
…
يصبحن إلا لهن مطلب
وأنشد أيضا لجرير في نحوه:
فيومًا يوافين الهوى غير ماضي
…
ويومًا ترى منهن غولًا تغول
فكما أن العرب لا يفتحون إلا إذا اضطروا، ولا يظهرون الكسر أيضا إلا إذا اضطروا، ويونس يفتح في الكلام، فكذلك حقه أن يكسر في الكلام، ويضم في الرفع أيضا، وهذا لا يقوله عربي بالقياس أصلًا، ويزيد الجمع زيادةً أخرى إذا سمي به، لو حكم له في الجر بحكم الصحيح لكان لازما لهم ذلك فيما قبل التسمية، فيقولون: مررت بجواري قبل، لأن ترك التنوين في النكرة والمعرفة على حد واحد، وهذا لا تقوله العرب في السعة أصلًا.
وما أنشده يونس شاهدًا من قوله:
* قد عجبن مني ومن يعيليا *
فمن باب ما تقدم.
وقوله: "نهج جوارٍ يقتفي".
النهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهج والمنهاج. وقفوت أثره قفْوًا وقفُوًا، واقتفيته، وتقفيته، إذا اتبعته، أي تتبع في إعرابه طريق (جوارٍ) المتقدم.
ولاضطرارٍ أو تناسب صرف
…
ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
هذه تكملة تكر على الباب، ويعني أن ما شأنه أن لا ينصرف لكون المانع موجودا قد يوجد منصرفًا مع وجود ذلك المانع، وإنما يكون ذلك لسببٍ أهمل لأجله سبب المنع، والسبب الموجب لذلك أمران على ما ذكره:
أحدهما: الاضطرار، وهو أن يكون الوزن لا يستقيم للشاعر إلا بصرف ما لا ينصرف، فهذا سبب موجب، رد به الاسم إلى أصله، لأن أصله الانصراف، وهو في الشعر كثير جدا، وذلك كقول امرئ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
…
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وقال النابغة الذبياني:
فلتأتينك قصائد وليركبن
…
جيش إليك قوادم الأكوار
وقال الآخر:
فأتاها أحيمر كأخي السهم
…
بعضبٍ فقال كوني عقيرا
وأنشد سيبويه للعجاج:
* قواطنًا مكة من ورق الحمي *
وقال الآخر:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
…
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
وقال الآخر:
ما إن رأيت ولا أرى في مدتي
…
كجواريٍ يلعبن في الصحراء
وقال النابغة الذبياني:
علي لعمروٍ نعمةٌ بعد نعمةٍ
…
لوالده ليست بذات عقارب
وقال أيضا:
وثقت له بالنصر إذ قيل قد غرضت
…
كتائب من غسان غير أشائب
إطلاق الناظم في صرف ما لا ينصرف يدل على موافقة الجماعة في موضعين: أحدهما: عدم إخراج (أفعل التفضيل) من هذه الكلمة، خلافًا للكسائي وتلميذه الفراء في قولهما: إن (أفعل منك) لا يصرف، واستدلوا بأن (من) هي المانعة له من ذلك.
قال السيرافي: وهذا فاسد، بدلالة قولهم: خير منك، وشر منك، وإذا كان كذلك دل على أن مانعه ليس وجود (من) بل الصفة والوزن، كأحمر وأصفر.
والصرف هنا لا يكون بالتنوين وحده إلا في المرفوع والمنصوب.
وأما المجرور: فإنما يكون بالجر بالكسرة والتنوين معا، سواء أقلنا: إن المانع منع الجر والتنوين معًا أم قلنا: إنه مع التنوين فقط، وزال الخفض بالكسرة لعلة أخرى على حسب اختلافهم في ذلك.
أما على قول من قال: إنما امتنع الجر لئلا يلتبس بالمضاف إلى الياء المحذوفة فظاهر.
وأما على القول الآخر: فكذلك، لأن التنوين لا يتبع في الجر إلا الكسرة، فلا يقال مثلا:
* ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة *
ولا ما أشبه ذلك.
والموضع الثاني: موافقتهم في صرف ما آخره ألف مما لا ينصرف كغيره، خلافًا لابن عصفور، حيث زعم أنه لا يجوز صرفه، لأنه لا فائدة فيه، لأنه إذا نون حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فسقط منه مثل ما رد إليه، فلم يقع فيه زيادة، ولا يمكن أيضا تحريك الألف فيكون كقوله:
* عصائب طير تهتدي بعصائب *
فلا يمكن الزايدة ولا البدل، ولأجلهما صرف ما لا ينصرف في الضرورة.
قال ابن الضائع: مثل هذا لا ينبغي أن ينبه عليه لو كان صحيحا، فقد يقول القائل: يمكن أن يكون له فائدة، وذلك أنه قد يكون بعد تلك الألف [ساكن فيجب حذف الألف، فإذا نونا الاسم حركنا التنوين لالتقاء الساكنين، فزدنا حرفا متحركا، وكذلك يمكن أن يكون بعد الألف] همزة، فإذا نونا نقلنا حركة الهمزة إلى التنوين، فسقط حرف، وعلى هذا يكون في صرف ما لا ينصرف زيادة تؤول إلى نقص. انتهى ما نصه ابن الضائع.
وهذا التقرير قد يضاده ما تقدم في (باب النداء) في تنوين المنادى ولكن قد يقال: إنه لم يقصد فيه الكلام على ما آخره ألف؛ بل يكون ما تقدم مشعرا بارتضائه مذهب ابن عصفور، لأن كلامه هنالك مقيد، وكلامه هنا مطلق، والمقيد قاضٍ على المطلق عند المحققين.
ومعنى ذلك أنه قد تقدم وجه منعه لتنوين المنادى المبني إذا لم يظهر فيه الضم، وأن ذلك لا فائدة فيه.
وهذه المسألة بعينها جارية في غير المنصرف إذا أريد تنوينه، وهو عين احتج به ابن عصفور، فكأن الناظم رآه دليلًا واضحا فقال بمقتضاه.
وما ألزمه ابن الضائع لا يلزم، فإن الغالب في معهود الضرورات أن لا زيادة في لحاق التنوين ما آخره ألف ولا نقصان، وما صوره أمور اتفاقية نادرة لا تلتفت العرب إلى مثلها، فلا ينبغي أن يعول عليها. وإذا أمكن هذا لم يكن بين الموضعين في كلام الناظم تعارض.
والأمر الثاني الموجب لصرف ما لا ينصرف: التناسب، وهو أن ينونن لموازنته لمنون ليس فيه موجب للمنع، وهذا لا يقع إلا في الكلام المسجع، لأن الكلام المسجع يجري في الحكم مجرى الشعر المقفى.
ألا ترى أنه قد جاء حرف الإطلاق في السجع، قال الله تعالى:{وتظنون بالله الظنونا} . فأتى بالألف للإطلاق، كما قال الشاعر:
* ظننت بآل فاطمة الظنونا *
وكذلك قول الله تعالى: {يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} .
وبعد ذلك {فأضلونا السبيلا} . فإنما هذا لمناسبة ما قبل ذلك وما بعده، من الوقف على الألف المبدلة من التنوين، فكذلك يصرف ما لا ينصرف لمناسبة المنصرف.
ومنه قوله تعالى: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلًا وأغلالًا وسعيرًا} وكذلك قوله: {كانت قواريرًا. قواريرًا من فضةٍ قدرها تقديرًا} .
قرأ ذلك كذلك نافع وأبو بكر وهشام والكسائي.
ووجه ذلك ظاهر، فـ (سلاسلًا) نون لمناسبة مجاوره، وهو (وأغلالًا وسعيرًا) و (قواريرًا) الأول: لمناسبة الفواصل، والثاني: لمناسبة الأول، وهذا ظاهر.
وقول الناظم: "أو تناسبٍ" يشعر أن التناسب هو العلة في صرف ما لا ينصرف.
وكذلك: "ولاضطرارٍ" مشعر بأنه العلة في صرفه، ويستوي في ذلك النثر والنظم.
وقد حكى ابن جني أن المتنبي أنشده قوله:
وقد صارت العينان قرحى من البكا
…
وصار بهارًا في العيون الشقائق
قال: فقلت له: هلا قلت: "قرحًا من البكا" بصرف "قرحًا" لتناسب قوله في المصراع الثاني: "وصار بهارًا" قال: فاستحسن المتنبي ذلك.
وهذا النوع من الصرف جائز، وهو رأي الجمهور.
وقد زعم بعض النحويين أن صرف ما لا ينصرف مطلقًا لغة، وحكى الكسائي أن بعضهم يصرف كل ما لا ينصرف إلا (أفعل منك) وقال الأخفش:
سمعنا من العرب من يصرف هذا، ويصرف جميع ما لا ينصرف. وقال: هذا لغة الشعراء، لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك، واحتملوا ذلك في الشعر لأنه يحتمل الزيادة، كما يحتمل النقصان.
وهو الذي حكوا، من أنها لغة، لم يثبت، ولا عرف في كلام العرب أن مثل هذا يكون في الكلام إلا للتناسب.
وأما الشعر: فمحل الضرورة، فلا تثبت به لغة.
ثم قال: "والمصروف قد لا ينصرف" يعني أن الاسم المنصرف الباقي على أصله قد تمنع العرب صرفه، وإن لم توجد فيه علتا المنع، لكن ذلك قليل، دل على ذلك بـ "قد" في قوله:"قد لا ينصرف"
وأكثر ما جاء هذا النوع في الأعلام، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي:
فما كان حصن ولا حابس
…
يفوقان مرداس في مجمع
وقال الآخر:
وممن ولدوا عامر ذو الطول وذو العرض
ولا يريد القبيلة، لأنه قال:"ذو الطول وذو العرض" فوصفه بـ "ذو" التي للمذكر. وقال الاخر:
ومصعب حين جد الأمر أكثرها وأطيبها
فمرداس، وعامرٌ، ومصعبٌ: لا مانع فيها من الصرف إلا العلمية، وهي لا تمنع وحدها.
وقال دوسر بن دهبل القريعي:
وقائه ما بال دوسر بعدنا
…
صحا قلبه عن آل ليلى وعند هندِ
وقال حسان بن ثابت- رضي الله عنه:
نصروا نبيهم وشدوا أزره
…
بحنين يوم تواكل الأبطال
وقال الآخر، وهو عند ابن الأنباري منسوب إلى الفرزدق، ونسبه الجوهري إلى ابن أحمر:
إذا قال غاوٍ من تنوخ قصيدة
…
بها جرب عدت على بزوبرا
وزوبر الشيء: كماله، يقال: أخذت الشيء بزوبره، أي أخذته كله، ولم أدع منه شيئا. وقال الآخر:
قالت أمامه ما لثابت شاخصًا
…
عاري الأشاجع ناحلًا كالمنصل
إلى أبيات غير هذه، ذكرها ابن الأنباري في "الإنصاف" وأكثرها أعلام، وكأنهم راعوا العلمية في منع الصرف وحدها للضرورة، كما أهملوها أيضًا للضرورة.
والناظم لم يلتزم في المسألة مذهبا معينًا، وإنما أخبر بما جاء في السماع خاصة؛ إذ ما جاء من ذلك ظاهرٌ فيما قال من منع صرف المنصرف، ويصعب تأويل جميع ما جاء منه.
والمسألة مختلف فيها على قولين:
أحدهما: جواز منع صرف المنصرف للضرورة، وهو مذهب الكوفيين، ورأى الأخفش وابن برهان من البصريين، ونقل عن الفارسي، وارتضاه ابن الأنباري.
وذهب جمهور البصريين إلى المنع، وهو مذهب الفارسي في "التذكرة".
فأما الكوفيون فحجتهم القياس والسماع. فأما القياس: فإنه لما جاز صرف ما لا ينصرف اتفاقًا، وهو خلاف القياس، جاز أيضا العكس؛ إذ لا فرق بينهما في هذا.
وأما السماع فما تقدم.
وأما البصريون فحجتهم أن صرف ما لا ينصرف إنما جاز في الضرورة، لأنه من أصل الاسم، والاسم غير المنصرف مستحق لأحكام الأسماء، من الإخبار عنه ونحو ذلك من أحكام الأسماء المختصة بها، فإذا اضطروا ردوه إلى أصله، وإن لم ينطقوا به في حال السعة، كما لم ينطقوا بنحو (ضننوا) في حال السعة، بخلاف منع المنصرف لأنه ليس من أصل الاسم ألا ينصرف، فمن أجاز ذلك كان مخطئًا مجيزًا لما لا دلالة عليه.
وأما السماع فلم يبلغ في الكثرة مبلغًا يقاس عليه بسببها، وأكثر ما جاء في الأعلام، حتى إن "السهيلي" ذهب إلى جواز ذلك في الأعلام دون غيرها، وهو مذهب ثالث في المسألة، والكوفيون إنما أجازوا ذلك في كل شيء، فهم محتاجون إلى السماع والكثرة فيه، وذلك غير موجود.
وقد أورد الفارسي في "التذكرة" على أصل مذهب البصريين سؤالا لم يجب عنه، وهو أنه قال: أفيجوز في الضرورة ألا أعرب الفعل المضارع، لأن الأصل كان فيه ألا يعرب، كما كان الأصل في الاسم أن يصرف، فإذا لم أعربه رددته إلى الأصل في الضرورة، كما رددت الاسم إلى الصرف في الضرورة. واستشهد على ذلك بما أنشده من قوله:
* فاليوم أشرب *
وقول جرير:
* ولا تعرفكم العرب *
ونحو ذلك.
قيل: أما الأبيات فليس بدليل قاطع، لأنه يجوز أن يكون أجراه في الوصل مجراه في الوقف، مثل (سبسبا) وبقي النظر في: هل يجوز ألا يعرب.
هذا ما قال، ولم يجب عنه، وكأنه إشكال على مذهب البصريين، لكن الجواب عنه يظهر بأدنى نظر.
ولما رأى الناظم المسألة نظرية لم يلتزم فيها مذهبا؛ بل أخبر بالسماع فقط وقبله، وسلمه تنكيتًا على من تهجم من النحويين البصريين على رد روايات رواها الكوفيون، وتكذيب ناقليها فيها؛ إذ ليس هذا شأن العلماء، كقولهم: الرواية في بيت العباس: "يفوقان شيخي أو شنجي" والراد له هو المبرد.
قال المؤلف في "الشرح" وللمبرد إقدام في رد ما لم يرو، كقوله في قول العباس بن مرداس، ثم أنشد البيت: الرواية:
* يفوقان شيخي *
مع أن البيت بذكر مرداس ثابت بنقل العدل عن العدل في "صحيح البخاري"، وذكر "شيخي" لا يعرف له سند صحيح، ولا سبب يدينه من التسوية، فكيف من الترجيح؟
ذكره المؤلف حيث نقل رد المبرد رواية سيبويه:
* وأضحت منك شاسعة أماما *
وما قاله هو الحق، ومن علم حجة على من لم يعلم، ورواية لا تقدح في رواية أخرى، لأن الجميع عن العرب؛ إذ لا يسوغ نسبة الناقل، إذا كان عدلًا، إلى الكذب أو الوهم إلا ببرهان واضح، وإلا فالظاهر الصدق.
وكذلك قالوا في بيت دوسر: الرواية:
* وقائلة ما للقريعي *
وهذا رد غير مسموع، اللهم إلا أن يقدح في الشاهد من جهة الدلالة باحتمال غير ما قال الخصم، فهناك يسلم إن كان ظاهرا أو غير مرجوح بالنسبة إلى الدعوى.