الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(نونا التوكيد)
للفعل توكيد بنونين هما
…
كنوني اذهبن واقصدنهما
أخذ يتكلم في نوني التوكيد، الشديدة والخفيفة، وما يلحق الفعل معهما من الأحكام.
وابتدأ بالتعريف بهما، وبكونهما مختصين بالفعل.
فأما اختصاصهما بالفعل فنبه عليه قوله: "للفعل توكيد بنونين".
يريد أن التوكيد بهما مختص بالفعل. وأشعر بذلك تقديمه المجرور، لأن التقديم مؤذن بالاختصاص كقوله:{إياك نعبد وإياك نستعين} ، معناه: ما نعبد إلا إياك، وما نستعين إلا إياك.
وما ذكره من الاختصاص صحيح، وقد تقدم به في "باب الكلام وما يتألف منه" أن النون من معرفات الفعل ومن خواصه في قوله:
بتا فعلت وأتت ويا افعلي
…
ونون أقبلن فعل ينجلي
وما جاء على خلاف ذلك فشاذ لا يقاس عليه، نحو ما أنشده ابن جني:
أريت إن جاءت به أملودا
…
مرجلا ويلبس البرودا
*أقائلن أحضروا الشهودا*
وأنشد أيضا:
يا ليت شعري عنكم حنيفا
…
أشاهرون بعدنا السيوفا؟
وقوله: "هما كنونى كذا" هذا هو التعريف بهما وبموضعهما، يعني أنهما نونان يشبهان النونين في "اذهبن، واقصدنهما" فالأولى مشددة، والثانية مخففة.
وإنما قال: "كنونى كذا" ليعين عينهما وموضعهما، فإن النونات التي تلحق الفعل ثلاثة أنواع: هذا أحدها.
والثاني: نون المضارعة في نحو (نفعل) وموضعها أول الفعل.
والثالث: نون الرفع، وذلك إذا اتصل بالفعل ألف اثنين نحو: يضربان، أو واو جماعةٍ نحو: يضربون، أو ياء واحدةٍ مخاطبة نحو: تضربين، وموضعها الآخر، إلا أنها لاتشبه ما تقدم من جهة التشديد في إحداهما، والتسكين في الأخرى، ومن جهة المعنى أيضًا، لأن هذه تفيد التأكيد، بخلاف نون الرفع.
ومن أمثلة الشديدة: قوله تعالى: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم} . وقوله تعالى: {قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبأن بما عملتم} .
ومن أمثلة الخفيفة قوله تعالى: {لنسفعًا بالناصية} واجتمعتا في قوله تعالى: {ليسجنن وليكونًا من الصاغرين} . ومن ذلك كثير.
ونبه بقوله: (واقصدنها) على أن ضمير النصب، وإن كان متصلا بالفعل، فهو كلمة أخرى تلحق النون قبله، وهذا بخلاف ضمير الرفع، فإنه، وإذا اتصل، كالجزء مما اتصل به، ولذلك يسكن له آخر الفعل، فلا تلحق النون إلا بعد الضمير، كما سيتبين في أثناء كلامه في الباب.
ثم أخذ يذكر ما تلحقان من الأفعال، وفي أي حالٍ تلحقان، فقال:
يؤكدان افعل ويفعل آتيا
…
ذا طلبٍ أو شرطًا اما تاليا
أو مثبتًا في قسمٍ مستقبلًا
…
وقل بعدما ولم وبعد لا
وغير إما من طوالب الجزا
…
وآخر المؤكد افتح كابرزا
واشكله قبل مضمرٍ لينٍ بما
…
جانس من تحركٍ قد علما
فعين أولًا أنها تلحق من الأفعال: الأمر والمضارع، بقوله:"يؤكد إن افعل ويفعل".
يريد أنههما مختصان بهذين الفعلين، فيخرج الماضي ن أن تلحقاه، فلا تقول: قامن زيد، ولا استكبرن بكر، ولا نحو ذلك، وسواء أكان الماضي في معنى المستقبل أم لم يكن في معناه.
أما مع كونه على أصله من المضى، فذلك ظاهر.
وأما إذا كان بمعنى المستقبل فقد يقال: إنه ليس كذلك؛ بل تلحقه النونان إذ ذاك.
وقد استشهد عليه في "شرح التسهيل" بما جاء في الحديث من قوله عليه السلام: "فإما أدركن أحد منكم الدجال". فلحقت "أدركن" وهو ماضٍ حين كان بمعنى المستقبل، وأنشد عليه:
دامن سعدك إن رحمت متيمًا
…
لولاك لم يك للصبابة جانحا
فلحقت (دام) لما كان دعاءً، وقال الآخر في (أفعل) في التعجب:
ومستبدلٍ من بعد غضيا صريمة
…
فأحربه لطول فقرٍ وأحريا
أراد "وأحرين" و "أفعل" في التعجب نده ليس بأمر، وإنما هو خبر في الأصل كـ (أفعل) وأنت ترى أن الماضي كالمضارع في هذا والناظم لم يذكر ذلك.
ويجاب عن هذا بأن دخول النون على الماضي فليل في الاستعمال، لم يذكره النحويون، ولاعولوا على ما جاء منه، وكذلك فعل هنا، وذكر ما تدخل عليه النونان، وهو الأمر والمضارع.
وأطلق الحكم في الأمر ولم يقيده؛ إذ قال: "يؤكدان افعل" أي مطلقا، وقيد المضارع بقيود؛ إذ قال:(ويفعل آتيًا كذا وكذا" فـ (آتيًا) حال من (يفعل)، (ذا طلبٍ) حال من ضمير (آتيًا).
وسكن لام (يفعل) إما إجراء للوصل مجرى الوقف، وإما ضرورة لتصور (عل) بصورة (فعل) و (فعل) يجوز تسكين عينه، و (فعل) كذلك، وقد جاء في مشابهة (فعل) قول الشاعر، أنشده أبو زيد:
*قالت سليمى اشتر لنا سويقا*
أما (الأمر) فكونه أمرًا هو المسوغ لدخولهما فيه توكيدًا له، فتقول: أكرمن زيدًا، وأكرمن زيدًا، أنشد سيبويه للأعشى:
وإياك والميتات لا تقربنها
…
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
أراد (اعبدن) وأنشد أيضا لزهير بن أبى سلمى:
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما
…
فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك
وهو كثير.
وفي معنى الأمر الدعاء، نحو قول كعب بن مالك، أو عبد الله بن رواحة، رضي الله عنهما:
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
وأما (المضارع) فقيد لحاق النونين له بمواضع معلومة، منها ما لحاقهما فيه كثير، ومنها ما لحاقهما فيه قليل.
فأما ما لحاقهما فيه كثير فثلاثة مواضع:
أحدها: أن يكون المضارع تاليًا أداة طلب، وذلك قول الناظم:"تاليًا ذا طلب" أي تابعًا حرفا ذا طلب.
والأدوات الطلبية أربع:
أحدها: لام الأمر نحو: لتفعلن كذا وكذا، ولتكرمن زيدًا
والثانية: (لا) النهي، فإنها طلبية أيضا نحو: لا تكرمن زيدًا، ومنه قوله تعالى:{ولا تتعان سبيل الذين لا يعلمون} .
وقوله: {ولا تقولن لشيءٍ إني فاعل} الآية.
وقوله: {فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا} الآية.
وأنشد سيبويه للأعشى:
أبا ثابتٍ لا تعلقنك رماحنا
…
أبا ثابتٍ واقعد وعرضك سالم
وقال أيضًا:
*وإياك والميتات لا تقربنها* .... البيت
والثالثة: حروف الاستفهام، وهي (الهمزة) نحو: أتقومن يا زيد؟
وأنشد سيبويه:
*أفبعد كندة تمدحن قبيلا*
و(هل) نحو: هل تكرمن زيدًا؟
وأنشد سيبويه للأعشى:
فهل يمنعنى ارتيادي البلا
…
د من حذر الموت أن يأتين
وأنشد أيضا:
*هل تحلفن يا نعم لاتدينها*
و(متى) نحو: متى تقومن؟ وانظر متى تفعلن؟
و(كيف) نحو: كيف تقولن لزيد؟
وأنشد سيبويه قول الشاعر:
فأقبل على رهطي ورهطك نبتحث
…
مساعينا حتى نرى كيف نفعلا
ومن نحو قولك: من يكرمني فأكرمه؟
و(ما) نحو: باتصنعن يا زيد؟
وعلى الجملة، فحروف الاستفهام داخله في هذا المعنى.
وإنما لحقتا مع الاستفهام لأنه طلب، فلحق بـ (افعل) في المعنى.
والرابعة: أدوات العرض والتحضيض، لأنهما يرجعان في المعنى إلى الطلب نحو: هلا تقومن؟ وألا تقولن كذا؟ ولولا تقولن؟ وكذا سائرها.
الموضع الثاني: أن يكون المضارع فعل شرطٍ تاليًا لـ (إما) المكسورة، وذلك قوله:"أو شرطًا إما تاليا".
يعني أن النون تلحق المضارع إذا كان فعل شرط وقع قبله "إما" وحقيقة (إما) هاهنا أنها (إن) زيد عليها (ما) توكيدا، وليست (إما) التي لأحد الشيئين، لكن اختصر ذلك مجتزئًا باللفظ على عادته.
ومثال ذلك: إما تكرمن أحدًا فأكرم زيدًا.
ومنه قوله تعالى: {فإما تثقفنهم في الحرب، فشرد بهم} .... الآية.
وقوله تعالى: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربك} ..... الآية.
وقوله: {إما يبلغن عندك الكبر} . وهو كثير.
ولحاق النون هو الأكثر وقد لا تلحق نحو قول حسان:
إما ترى رأسي تغير لونه
…
شمطا فأصبح كالثغام المخلس
وأنشد الفارسي في "الإغفال".
إما ترى شمطًا في الرأس لاح به
…
من بعد أسود داجي اللون فينان
فقد أروع قلوب الغانيات به
…
حتى يملن بأجيادٍ وأعيان
قال: وذلك كثير في الشعر.
وهذه المسألة فيها قولان لأهل العربية:
أحدهما: مذهب أبي العباس أن النون هنا لازمة مع (إما) ولا تكون (إما) دونها إلا في الشعر، والاستقراء يشهد لهذا القول.
والثاني: التخيير في النون وعدمها، وهو مذهب سيبويه، وكأن الناظم توسط بين المذهبين، فجعله أكثريًا، أعني لحاق النون مع (ما) وقليلًا بعد (ما) و (لم) وبعد (لا) وغير (إما) من طوالب الجزاء لأن السماع عنده كذلك.
ووجه كثرة لحاقها مع (ما) أنهم شبهوا (ما) هاهنا في التوكيد بها باللام الداخلة في جواب القسم.
وحكى الفارسي في "الإغفال" عن أحمد بن يحيى، أن النون أدخلت هنا ليفرق بينها أن تكون حشوًا، وبينها أن تكون في معنى (الذي) وكذلك "بعينٍ ما أرينك"، إذا أسقطوا (ما) أسقطوا النون.
قال: وهذا فاسد، لأنه لو لم تدخل النون لجزم ما بعدها، فتبين به أن (ما) ليست بموصولة.
الموضع الثالث: أن يكون المضارع في القسم مثبتا غير منفي، مستقبلا في المعنى، وذلك قوله:"أو مثبتًا في قسم مستقبلا".
"مثبتًا" عطف علي "شرطًا" وهو حال من "يفعل" وهو الضمير في "آتيًا" و "مستقبلًا" من صفة "مثتًا" و "في قسمٍ" في موضع نصب على الحال، يعني أن النون تلحقه أيضا كثيرًا إذا كان موصوفا بهذه الأوصاف الثلاثة، يعني فيما سوى ما تقدم:
أحدها: أن يكون مثبتا غير منفي، فإنه إن كان منفيًا، فذلك قليل فيه إن جاء منفيًا بـ (ما) أو (لم) أو (لا) على حسب ما يذكره هذا.
فقولك: (لم يقومن زيد) قليل، وكذلك (لا يقومن زيد) إذا كان نفيًا، و (ما يقومن زيد) كذلك.
والثاني: أن يكون في قسم، يعني جواب قسم، نحو: لتفعلن كذا، فإنه إن كان مثبتا في غير قسم لم يجز لحاق النون له، فلا يقال: يقومن زيد، ولا: يخرجن أبوك، وما جاء من ذلك فشاذ محفوظ غير مقيس، أو قليل نادر.
فمن ذلك ما حكى سيبويه من قولهم: بجهدٍ ما تفعلن كذا. وفي مثل:
"في عضةٍ ما ينبتن شكيرها"
وقالوا في مثل: "بألمٍ ما تختننه"، وأنشد لجذيمة الأرش:
ربما أوفيت في علمٍ
…
ترفعن ثوبي شمالات
وهذه المواضع قد لزمتها (ما) لتصرفها إلى غير الواجب، فيتوجه لحاق النون.
وقد حكى أيضًا سيبويه عن يونس أنهم يقولون: ربما تقولن ذلك.
فهذه الأشياء ليست بقياس، وهي قليلة نادرة، فلا اعتبار بها، فتقييد الناظم المثبت بكونه في قسم لابد منه في القياس.
والثالث: أن يكون مستقبلا في المعنى لا حالًا، فإنه إن كان حالا لم يجز لحاق النون، لأن النون من الأدوات المخلصة الفعل للاستقبال، فلا يصلح أن تلحق ما هو حال في المعنى، فإذا جاء في القسم ما المراد به الحال أتى باللام دون النون، فتقول: والله ليقوم زيد، أي: لهو يقوم، كذا قدره ابن أبى الربيع وغيره على حذف المبتدأ. والمؤلف لم يلتزم هذا.
ومثاله في الحال قراءة البزي: "لأقسم بيوم القيامة"، "ولأقسم بهذا البلد".
وأنشد المؤلف على ذلك قول الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم
…
ليعلم ربي أن بيتي واسع
وأنشد أيضًا:
وعيشك يا سلمى لأوقن أنني .. لما شئت مستحلٍ ولو أنه القتل
وأنشد أيضًا:
لعمري لأبغض كل امرئٍ
…
يزخرف قولًا ولا يفعل
فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الثلاثة، فمقتضى كلام الناظم أن النون تلحق الفعل المضارع إذ ذاك، نحو قوله تعالى:{ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين} .
وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} . وقوله: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا} .
وأنشد سيبويه للبيد:
فلتصلقن بني ضبينة صلقةً
…
تلصقنهم بخوالف الأطناب
وأنشد أيضا للنابغة الذبياني:
فلتأتينك قصائد وليركبن
…
جيش إليك قوادم الأكوار
وذلك شائع كثير.
وفي كلام الناظم في هذه لمسألة نظر من وجهين:
أحدهما: أن قوله: "يؤكدان افعل" إلى آخره، لا يخلو أن يريد: على الجواز، أو على اللزوم، وعلى كلا التقديرين الإطلاق غير صحيح.
أما إن أراد على الجواز، وأن تلحق إن شئت- فيبطل ذلك بالنوع الثالث، وهو الفعل المثبت في القسم، فإن النون فيه، إذا اجتمعت الشرائط لازمة؛ إذ لا يجوز أن تقول: والله ليقوم زيد، وأنت تريد الاستقبال؛ بل لابد من النون نحو: والله ليقومن زيد.
وأما إن أراد اللزوم فباطل أيضًا، لأن (افعل) إنما تلحقه النون جوازا، وكذلك (يفعل) عند كونه طلبا، وعند كونه فعل شرط قد تقدمه (إما) فإنه يجوز أن تقول: إما تقومن فافعل كذا، وإما تقم فافعل كذا
قال سيبويه: وإن شئت لم تقحم النون- يعني مع (إما) - كما أنك إن شئت لم تجئ بها، يعني بـ (ما) مع (إن).
وإذا كان كذلك كان إطلاقه مشكلا جدا، لا يقال: إنه أراد الوجه الأول، وهو جواز لحاقها مطلقا، لأن النون، وإن لزمت في القسم، فذلك أمر "أكثرى"، ولا يمتنع عدم اللحاق، فإنه قد جاء في الحديث من قوله عليه السلام:"ليرد على أقوم أعرفهم ويعرفونني"، فلم يئت بالنون وهو مستقبل، لأن الورود يوم القيامة. وعادته البناء على الحديث، واعتباره في القياس وإن كان قليلا، وقد جاء منه الشعر، قال الشاعر، أنشده ابن خروف وغيره:
تألى ابن أوسٍ حلفةً ليردني
…
إلى نسوةٍ كأنهن مفائد
وقال الآخر، ونسبه المؤلف لعبد الله بن رواحة:
فلا وأبي لنأتيها جميعًا
…
ولو كانت ها عرب وروم
إذا كان ذلك جائزا فلا محذور في إطلاقه الجواز في ذلك، لأنا نقول: هو نادر جدًا، وغير معتبر به عنده، ولا عند النحويين، فلا ينبغي أن يجعل هذا النادر في مقابلة غلبة لحاقها، حتى يقال: هما وجهان جائزان، ففيه ما ترى.
والوجه الثاني: أن الفعل المثبت المستقبل في القسم لا تلحقه النون إلا بانضمام قيدٍ آخر، وهو ألا يفضل بين اللام التي يجاب بها وبين الفعل بفاصلٍ، من معمولٍ أو حرف تنفيس، فإنه إن فصل بينهما بأحد ذينك لم تلحق النون أصلا، نحو قوله تعالى:{ولسوف يعطيك ربك فترضى} . ونحو ما أنشده المؤلف من قول الشاعر:
فوربي لسوف يجزى الذي أسـ
…
لفه المرء سيئًا أو جميلا
وكذلك المعمول إذا فصل به، نحو قوله تعالى:{ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون} .
وأنشد المؤلف:
يمينًا ليومًا يجتني المرء ما جنت
…
يداه فمسرور ولهفان نادم
وأنشد أيضا قول الآخر:
قسمًا لحين تشب نيران الوغى
…
يلفى لدى شفاء كل عليل
فهذا الشرط لابد منه في لحاق النون الفعل المثبت المستقبل في القسم والناظم لم يذكره، فيرد عليه جواز قولك: والله لسوف يقومن زيد، وهو غير جائز، وعلى أنه لم يبين أن هذه النون لازمة للام، لا تأتي في الكلام دونها إلا شاذًا.
ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول: أن كلامه مشعر بالجواز لقوله: "يؤكدان افعل ويفعل" أي يحصل هذا في الوجود مطلقًا من غير لزوم، ويكون دخولهما المثبت المستقبل في القسم جائزًا أيضًا، إما اعتدادًا بالقياس على
القليل الذي حكاه، فجعلهما وجهين جائزين، ولم يذكر ترجيحًا وربما فعل مثل هذا في هذا النظم، وقد مر منه بعض مواضع.
وإما أن يكون ذهب في ذلك مذهب الكوفيين، فإنه نقل ذلك عنهم، وأنهم يجيزون الأمرين مطلقا.
حكى ذلك الأبذى في "باب القسم" من (شرح الكراسة)، وقد ينتقل المؤلف عن مذهب البصريين إلى مذهب غيرهم إذا رآه نظرًا، ويخالف هنا مذهبه في سائر كتبه. وقد مر لذلك نظائر.
وهذا الجواب ضعيف والجواب عن الثاني: لم يحضرني الأن.
ثم قال: "وقل بعدما ولم وبعد لا" .. إلى آخره.
هذه المواضع التي لحاق النون فيها قليل، وذلك مواضع أربعة:
أحدها: أن يقع الفعل بعد (ما) فلحاق النون فيه قليل، والأكثر أن تقول: ما يقوم زيد، وقد جاء نحو (ما يقومن زيد) قليلا.
وقد تحتمل (ما) في كلامه أن تكون النافية كما مثل، ويحتمل أن يريد (ما) الزائدة، وبه فسرها ابن الناظم، وهي التي تقع في نحو:"ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها".
وقولهم: "بألمٍ ما تختننه"، وقولهم:"بعينٍ ما أرينك"، وقول جذيمة:
ربما أوفيت في علمٍ
…
ترفعن ثوبي شمالات
وقد تقدم ذكره، وما حكى يونس من قولهم: ربما تقولن ذلك، وكثر ما تقولن ذاك وكذلك يقال: فلما يقومن زيد، وهذا جائز في الكلام على قلة، وذلك مع لزوم (مط) فأشبهت لام [الأمر]، في لزومها الفعل المستقبل طالبةً بالنون.
وأيضًا، فإن الكلام غير واجب؛ إذ هو مستقبل، ودخلت (ما) تشيهًا لها في توكيدها الكلام بـ (ما) اللاحقة في الشروط، فحسن إدخال النون، وكذلك يقال في (ما) إذا حملت في كلامه على أنها النافية: لما كان الكلام غير واجب أشبه الاستفهام وغيره، فدخلت النون.
والأولى أن يحمل كلامه على الوجهين، ولذلك لم يقيدها بالنافية، وإلا فلو أراد النافية لقال:"وقل بعد نفي ما ولم ولا" لكن كان الأولى به أن يبين ذلك، وإلا فيدخل عليه أيضا (ما) الاسمية الموصولة، وإن كان بعيدًا أن يتوهم دخولها.
والثاني: أن يقع بعد (لم) الجازمة، فإن النون تدخله أيضا، ولكن قليلًا، لكون المنفى غير واجب، فيجوز لك أن تقول: لم يقومن زيد، ومنه ما أنشده ابن جنى من قوله:
*واحمر للشر ولم يصفرا*
وأنشد سيبويه:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما
…
شيخًا على كرسيه معمما
قال سيبويه: شبهه بالجزاء حين كان مجزوما، وكان غير واجب.
ويقال: أقسمت عليك لما لم تفعلن، لما كان في القسم شبه بقولهم: لتفعلن، لأنه طلب مثله.
لكن جعله الناظم آتيًا في الكلام: لقوله: (وقل).
وإنما يطلق هذه العبارة في الغالب على الجائز في الكلام، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر في الاضطرار. ووجه ذلك الحمل على (لا) و (ما).
والثالث: أن يقع بعد (لا) النافية لأن الناهية قد تقدمت له قبل في الأدوات الطلبية، فيجوز ههنا أن تقول أعجبني رجل لا يقومن غدا، لكنه قليل.
ومنه قوله تعالى: {واتقوا فتنه لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} . فـ (لاتصيبن) ليس فيه إلا النفي بـ (لا) فدخول النون مع (لا) جائز.
وقد تأوله المبرد على أن المعنى النهي، وهو واقع على الظالمين، كأنه قال: لا تتعرضن لأن تصيب الذين ظلموا منكم خاصه، كقولهم: لا أرينك ههنا، وكقوله تعالى:{لا يحطمنكم سليمان وجنوده} .
وهذا عند الناظم خلاف الظاهر من الآية، وإنما قوله:"لاتصيبن" في موضع الصفة لـ (فتنه) وغير هذا تكلف.
والرابع: أن يقع بعد غير (إما) من الأدوات الشرطية، وذلك قوله:"وغير إما من طوالب الجزا".
أي إن نون التوكيد تدخل أيضًا على الفعل الواقع بعد الأدوات الطالبية للجزاء، ما عدا (إن) الداخلة عليهما (ما) فقد تقدم حكمها.
فإذا قلت: إن تقومن أكرمك، ومهما تطلبن أعطك، ومتى تأتينى أكرمك، وحيثما تكونن أذهب إليك، وكذلك سائرها، فهو جائز، لكنه قليل، وأنشد سيبويه:
من يثقفن منهم فليس بائبٍ
…
أبدًا وقتل بني قتيبة شافي
والعلة كونه غير واجب قال سيبويه: وقد تدخل النون بغير (ما) في الجزاء، وذلك قليل في الشعر، شبهوه بالنهي حين كان مجزوما غير واجب.
ويحتمل كلام الناظم أن أدوات الشرط مسوغة لدخول النون مطلقا، سواء كان الفعل معها في جملة الشرط أو في جملة الجزاء؛ إذ لم يقيد ذلك بفعل الشرط، فيجوز على هذا أن تقول: إن تكرمنني أكرمنك، ونحو ذلك وعلى ذلك قال الشاعر، وهو ضمرة بن ضمرة النهشلي:
نبتم نبات الخيزراني في الثرى
…
حديثًا متى ما يأتك الخير ينفعا
وأنشد أيضا لابن الخرع:
فمهما تشأ منه فزارة تعطكم
…
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
قال الأعلم: ليس من مواضع النون، لأنه خبر يحتمل الصدق والكذب.
ثم لما ذكر مواضع لحاق النون الفعل، أخذ يتكلم في حكم آخر الفعل، وما يعرض له من التحرك بغير حركته، أو من حذفه، أو نحو ذلك.
فقال: "وآخر المؤكد افتح" إلى آخره.
يعني أن آخر المؤكد لا يخلو إما أن يكون قد لحقه ضمير أولا، فإن لم يلحقه ضمير فإن الآخر يحرك بالفتح، نحو قولك:(افعلن) في الفعل، و (افعلًا) أيضا.
ومنه ما مثل به في قوله: (كابرزا) أراد ابرزن، فأبدلها ألفا، ومنه.
*ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا*
وقوله أيضا:
*فلا يمنعنى ارتيادي البلاد*
فلا بد من الفتح، وذلك أن آخر الفعل إما أن يكون ساكنًا أو متحركا، فإنه كان ساكنا كـ (اضرب، ولا تضرب) فلاد من التحريك، لأن النون ساكنة إن كانت الخفيفة، وكذلك إحدى نوني المشددة، وهي الأولى، ساكنة، لأن الحرف المشدد من حرفين، فيلتقي ساكنان، فإذا حرك فإما بالفتحة، أو بالضمة، أو بالكسرة، فلا يجوز تحريكه بالكسرة لالتباسه بفعل المؤنث نحو: لاتضربن يا همد، ولا بالضمة أيضًا لأجل التباسه بفعل الجماعة المذكرين نحو: لاتضربن يا زيدون، فلم يبق إلا الفتح.
وإما أن يكون آخر الفعل متحركًا نحو: ليضرب، في جواب القسم، فلابد من التحريك بالفتح أيضا؛ إذ لو بقى على حركته لالتبس بفعل الجماعة.
وهذا القسم داخل تحت قوله: "وآخر المؤكد افتح" دل على مراده فيه أنه قال بعد: (واشكله قبل مضمرٍ لينٍ) إلى آخره، فدل على أن الأول لم يتصل به ذلك المضمر.
ولا يختص هذا الحكم بالصحيح الآخر، بل يجرى فيما آخره واو أو ياء [نحو] هل تغزون يا زيد؟ وهل تقضين يا عمرو؟ إذ لم يفرق بين صحيحٍ ومعتل، لكن يبقى ما آخره محذوف للجزم أو شبهه.
وذلك إذا قلت: اغز، واقض، فأردت إلحاق النون، هل يرد الآخر أولا؟ وإذا اتبعت ظاهر كلامه فلا بد من الرد، لأنه قال:(وآخر المؤكد افتح) فيقتضي أن ما حذف آخره لابد من رده، حتى يحصل فيه
هذا الحكم، وهذا صحيح، فتقول: اغزون يا زيد، واقضين يا عمرو، وكذلك إذا لحقت النون في الجزاء نحو: إما تقضين، فافعل كذا، وإما تغزون فاثبت.
وأما الألف فلا يمكن فتحها وهي ألف، فلا بد من النص على الحكم فيها، فسيأتي ذلك له إثر هذا.
ولم يتكلم ههنا إلا على اللغة الشهيرة، ولبني فزارة لغة فيما آخره ياء وهو حذفها، فيقولون: هل تقضن يا زيد؟ . وعليه أنشدوا:
وابكن عيشًا تولى بعد جدته
…
طابت أصائله في ذلك البلد
وقال الطرماح:
ولئن أردت لأن ترى بك زندتى
…
لترن زندة مرخةٍ وعفار
وجمهور العرب على ما تقدم، ومنه قوله تعالى:{قل بلى وربي لتأتينكم} ، وقوله:{فإما يأتينكم مني هدى} الآية. وأنشد سيبويه:
فلتأتينك قصائد وليركبن
…
جيش إليك قوادم الأكوار
وإن لحقه ضمير، فلا يخلو ذلك الضمير أن يكون حرف لين أولا، فإن كان حرف لين، وهو الألف والياء والواو، فالآخر يحرك بمجانس ذلك الحرف، فإن كان ألفًا حرك الآخر بالفتح، لأن الفتحة هي المجانسة له، فتقول: اضربان يا زيدان، وإن كان ياء حرك بالكسر، نحو: اضربن يا هند، وإن كان واوا حرك بالضم نحو: اضربن يا زيدون وهذا معنى قوله: "واشكله قبل مضمرٍ لينٍ بما جانس" إلى آخره وضمير "اشكله" عائد على "الآخر".
والشكل: هو التحريك، أي حرك آخر الفعل إذا كان قبل مضمر، هو حرف لين بما جانس ذلك اللين. ومجانس كل حرفٍ من الحركات معلوم، وذلك قوله:(بما جانس من تحركٍ قد علما) إذ من المعلوم مجانسة الضمة للواو، والفتحة للألف، والكسرة للياء.
وإن لم يكن الضمير حرف لين، ولا يكون إلا ضمير نصب للمخاطب أو الغائب، نحو: هل يضربنك زيد؟ وهل تكرمنه أنت؟ فلا حكم له أيضا، لأنه ككلمة أخرى، فالنون إنما تلحق قبله، فكأنه لم ياحقه شيء، فكان تحريكه بالفتح.
فالحاصل من كلامه، ومن التفصيل المذكور، أن ما اتصل به ضمير رفعٍ بارز، هو حرف لين، فحركة الآخر بمجانس ذلك الحرف، وإن لا فلا بد من الفتح.
وقوله: "لين" أصله لين، فخفف، وهو بدل من "مضمر" أو عطف بيان، أو نعت. ولما كان، وهو اللين، تارة يثبت مع النون إذا لحقت، وذلك إذا كان ألفًا، وتارةً لا يثبت، وذلك إذا كان ياء أو واوا، شرع في ذلك، فقال:
والمضمر احذفنه إلا الألف
…
وإن يكن في آخر الفعل ألف
فاجعله منه رافعًا غير اليا
…
والواو ياءً كاسعين سعيا
واحذفه من رافع هاتين وفي
…
واوٍ شكل مجانس قفى
نحو اخشين باهند بالكسرويا
…
قوم اخشون واضمم وقس مسويا
يعني أن المضمر المذكور، وهو اللين، لابد من حذفه إذا لحقت إحدى النونين، فتقول: اضربن يا زيدون، واضربن يا هند، فتحذف الواو والياء، لأنهما ساكنتان، والنونان كذلك، فيلتقى ساكنان، فيحذف اللين لالتقائهما، ما عدا الألف، فإنها لا تحذف، فلا تقول في (اضربا): اضربن يا زيدان، لالتباسه بفعل الواحد، فأبقوا الألف ولم يضر بقاؤها، وإن كان اجتماع الساكنين حاصلا، لأن النون المشددة بعد الألف [كالمشدد بعد الألف] في راد، ودابة، وشابة.
فإن قلت: فهلا قالوا: اضربين، واضربون، لأنهم أيضا يقولون: تمود الثوب، وهل تضربيني يا هند؟ تريد تضربينني، وأصيم، ومديق، في تصغير أصم، ومدق.
فالجواب: أن الحذف إذا لم يقع به لبس أولى، لأنه أخف، بخلاف ما إذا كان ملبسا، فإنه مجتنب فتقول: اضران، وهل تضربان؟ كقوله تعالى:{ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} .
وإطلاق الناظم، مع ذكره ما آخره ألف، مشعر بأن ما آخره واو أو ياء مساوٍ في هذا الحكم لما آخره حرف صحيح، فإنه لم يتكلم فيه بغير ما حصل في إطلاق العبارة، فيقتضي أن مثل (يغزو، ويرمي) إذا اتصل به واو الضمير أو ياؤه قلت فيه: هل تغزن يا زيدون؟ وهل ترمن؟
وكذلك في الياء تقول: هل تغزن يا هند؟ وهل تدعن؟ فتحذف المضمر، كما نص عليه، وتحذف الآخر، لأنه كان قبل لحاق النون مع واو الضمير ويائه محذوفًا؛ إذ كنت تقول قبل النون: هل تغزون يا زيدون؟ وهل ترمون؟ وهل تغزين يا هند؟ وهل ترمين؟ فلما جاءت النون حذف الضمير أيضا على ما قال، فحذف الآخر لم يحتج إلى النص عليه، لأنه قد كان محذوفا، وليس حذفه لأجل نون التوكيد؛ بل للتصريف فإنما موضع ذكره باب آخر.
ومن مثله قول خالد بن سعد المحاربي، جاهلي يخاطب امرأته:
ولا تهدي الأمر وما يليه
…
ولا تهدن معروق العظام
وأما إذا كان الضمير ألفا نحو: هل تغزوان؟ وهل ترميان؟ فإنها تبقى على حالها فتقول: هل تغزوان؟ واغزوان، وهل ترميان؟ وارميان.
وفتح آخر الفعل لأنه كان كذلك قبل لحاق النون، فلم يحتج إلى التنبيه عليه.
والعلة في بقاء ألف الضمير ما تقدم، فقد حصل حكم الصحيح الآخر، والمعتل الآخر بالواو أو بالياء مع التجرد من الضمير، ومع لحاقه.
وبقي قسم واحد وهو المعتل الآخر بالألف مع التجرد من الضمير، نحو: يخشى، ويرضى، واخشن يا زيد، وارض، ومع لحاقه نحو: ارضوا يا زيدون، واخشى يا هند، وارضيا يا زيدان.
أما هذا الأخير: فداخل أيضا تحت الأستثناء في قوله: "إلا الألف" فإنها لا تحذف أصلًا؛ بل تبقى على حالها قبل لحاق النون، كما تقدم في الياء والواو.
وأما ما عداه فأخذ في حكمه فقال: "وإن يكن في آخر الفعل ألف" يريد أن الفعل إذا كان في آخره ألف نحو (يرضى، ويخشى) فإنه على قسمين:
أحدهما: أن يكون ذلك الفعل قد رفع فاعلًا ليس بياء الضمير ولا واوه.
والثاني: أن يكون قد رفع فاعلًا هو الواو أو الياء.
فإن كان الفاعل غير الواو والياء، وسواء كان مضمرًا أو ظاهرًا، فالحكم أنك تقلب الألف ياء مطلقا، كانت منقلبة عن ياء، كاسعين، فإنه من (السعي) أو عن واو كارضين، وكذلك المضارع منهما نحو: هل تسعين؟ وهل ترضين؟ لما يأتي في التصريف إن شاء الله.
وإذا انقلبت ياءً فتحتها، وذلك؛ قوله:(فاجعله منه رافعًا غير اليا والواو ياءً) والهاء في (اجعله) عائد إلى الألف. وفي (منه) عائد إلى الفعل و (رافعًا) حال من هاء (منه) و (غير) مفعول بـ"رافعًا" و"ياءً" مفعول ثان لـ"اجعل" أي اجعل الألف من الفعل ياءً حالة كونه رافعًا غير واو الضمير ويائه، فتقول: اخشين يا زيد، وارضين، ولتخشين، ولترضين.
ومثل الناظم بقوله: "اسعين" من (السعي) وهو العدو، وأيضًا العمل والكسب ومنه قوله تعالى:{فاسعوا إلى ذكر الله} ، لا يريد العدو في المشي، وإنما يريد العمل والاكتساب، وهو تفسير مالك بن أنس في الآية، وهو موافق للغة، وكل من ولى شيئًا على قوم فهو ساعٍ عليهم، ومنه: السعى على الأرمله واليتيم، و (الساعي) لوالي الصدقة.
ومن مثل هذا الفصل قول الشاعر، أنشده سيبويه:
استقدر الله خيرًا وارضين به
…
فبينما العسر إذ جاءت مياسير
وإن كان الفاعل الواو والياء، فإن آخر الفعل، وهو الألف، يحذف ههنا، وتبقى الياء والواو غير محذوفتين؛ بل تحركان بالحركة المجانسة، وذلك قوله:"واحذفه من رافع هاتين" إشارةً إلى الواو والياء، والهاء في "احذفه" عائد على الألف، أي احذف الألف من الفعل الرافع للواو والياء.
وأما الواو والياء أنفسهما فلا يحذفان؛ بل يثبتان ويحركان بالحركة المجانسة لهما، فالواو تحرك بالضم، والياء تحرك بالكسر، فتقول: اخشون يا زيدون، واخشين يا هند، ومنه قوله تعالى:{لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين} . وقال تعالى: {فإما ترين من البشر أحدًا} الآية.
ودل على الإثبات فيهما قوله: "وفي واوٍ ويا شكل مجانس" لأنه لا يكون الشكل إلا في مثبت.
واعلم أن كلامه في الألف والواو والياء فرضه على أنها ضمائر، لأنه قال:"واشكله قبل مضمرٍ لينٍ".
ثم قال: "والمضمر احذفنه إلا الألف" ثم جرى على ذلك في بقية الكلام، ولم يتعرض لكونها علاماتٍ في لغة (يتعاقبون فيكم ملائكة) وكان حقه التنبية على ذلك، وأن الحكم فيهما مستوٍ، لكن لما كانت لغةً قليلة لم يتكلم عليها، ولا أنها ألف أو واو أو ياء، سواء كانت ضميرًا أو علامةً، فمعلوم أنه لا يختلف الحكم فيها بخلاف الاعتقاد.
وإنما لم تحذف الواو والياء هنا، كما حذفت فيما إذا كان ما قبلهما من الحركة من جنسهما، وفرق بينهما مع أن الوجه أن لو كانا على حكم واحد من الحذف أو الإثبات والتحريك، لأن الواو والياء اللتين ما قبلهما من جنسهما إذا
جاء بعدهما ساكن حذفتا له نحو: اضربوا ابن زيدٍ، واضربى ابن زيدٍ، وإذا انفتح ما قبلهما لم يحذفا؛ بل حركا بمجانسهما نحو: اخشوا الله، واخشى الله.
فإن قيل: لم لم ترد الألف المحذوفة فيقال: اخشاون، واخشاين، كما رد الساكن في (قولا) و (قولن).
فقد أجاب المازنى عن هذا: بأن لام (قل) أصلها الحركة، فلما حركت رجعت إلى أصلها، فرجع الساكن فليست الحركة بعارضة، خلاف (اخشون) فإن واو الجمع وياء المؤنث لا أصل لها في الحركة، فكان تحريكهما عارضا، فلم يعتد بالحركة، فلذلك لم ترد الألف.
وعورض هذا الجواب بـ (قل الحق) فإن اللام قد تحركت بحركة التقاء الساكنين، ولم يرد المحذوف.
فأجاب السيرافي: بأن الساكن لم يرد في (قل الحق) لأن الساكن من كلمة أخرى، ولا يلزم لام (قل) أن يلقاها ساكن، بخلاف (قولن) فإن النون تثبت مع الكلمة فصارت لازمة، فلابد من العلتين، وهما لزوم النون، وأصالة التحريك.
وقول الناظم: (قفي) أي اتبع.
وقوله: نحو اخشين يا هند بالكسر) تمثيل للتحريك المجانس.
وكذلك قوله: (يا قوم اخشون واضمم)
وقوله: (وقس مسويا) أمر بالقياس على ما ذكر، وأنك لا تقتصر على مثل ما ذكر.
فإن قلت: ما فائدة الأمر بالقياس وقد علم أنه قياس، وأن ينبه على ذلك، وأيضًا فـ"مسويا" ظاهر أنه لا فائدة فيه؟
فالجواب: أن قوله: (وقس) توطئة لقوله: (مسويا) وذلك أنه ذكر مثل هذه المسألة، مما اللام فيه ياء، وذلك (اسعين) وهو من (السعي) و (اخشون) وهو من (الخشية) فلو لم يقل:(وقس مسويًا) لم تدخل له غير ما كانت اللام فيه أصلها الياء، واقتضى أن ما اللام فيه واو على خلاف ذلك الحكم، وهو غير صحيح، لأنك تقول: اقرين، وارضين.
وقد قال:
*استقدر الله خيرًا وارضين به*
ومع الضمير: ارضون، وارضين، فلا فرق بين ذوات الواو وذوات الياء، فنبه على وجوب التسوية بين النوعين فقال (وقس مسويا).
ولم يذكر هنا أن نون الرفع تحذف، ولابد من ذلك لأن النون التوكيدية إذا لحقت اجتمع النونات، فاستقبل ذلك، فحذفوا نون الرفع، فإذا وقف على الخفيفة حذفت وروجع الأصل.
هذا التعليل يعلل به من يزعم أن ما لحقته نون التوكيد، واتصل به ألف الضمير أو واوه أو ياؤه، باقٍ على إعرابه وإليها ذهب الناظم.
وقد تقدم تنبيهه على الإعراب فيه في "باب المعرب والمبنى" حيث قال: "وأعربوا مضارعًا إن عربا من توكيدٍ مباشرٍ".
ومن يزعم أنه مبني يعلل بأن نون الرفع حذفت للبناء، لا لاجتماع النونات، فصار إذ ذاك يشبه المنصوب.
والناظم كان حقه أن يبين حذفها، ولا يتكل على ما يعطيه المثال في قوله:(اخشين، واخشون) ولكنه قد يجتزئ بالمثل في أمثال هذه الأشياء:
ولم تقع خفيفة بعد الألف
…
لكن شديدة وكسرها ألف
وألفًا زد قبلها مؤكدا
…
فعلًا إلى نون الإناث أسندا
لما كان الناظم قد تكلم على حكم ما اتصل به الواو والياء من الأفعال، أخذ يتكلم فيما اتصل به الألف؛ إذ حكمه مخالف.
وقد تقدم أنه لا يحذف مع نون التوكيد، فإذا ثبت فلثبوته حكمان ذكرهما فقال:"ولم تقع خفيفة بعد الألف، لكن شديدة".
هذا هو الحكم الأول، يعني أن النون التوكيدية الخفيفة لا تقع بعد الألف، إذا أريد توكيد الفعل الذي في آخره ألف، سواء كانت تلك الألف ضميرًا أو علامةً، بخلاف الشديدة فإنها تقع بعدها مطلقا فتقول: اضران، ولتضربان، وهل تخرجان؟ ومنه قوله تعالى:{ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} .
ولا تأتي بالخفيفة هنا فلا تقول: اضربان، ولتضربان، وهل تخرجان؟
ووجه ذلك: أن الألف ساكنة، فإذا التقت مع النون وهي ساكنة لزم أحد أمرين: إما أن تبقى كما هي، وذلك محذور؛ إذ ليس في الكلام الجاري على الألسنة العربية ساكنان في كلمة يكون أولهما ألفا، والثاني غير مدغم؛ بل لابد من أن يكون مدغما، أو تحذف الألف، وهو القياس، لكن يلتبس الاثنان بالواحد، فيمتنع هذا القياس.
وأما النون: فإما أن تحرك بالفتح أو بالكسر، فإن تحركت بالفتح الذي هو الأصل التبس بفعل الواحد، وإن تحرك بالكسر التبست النون بنون الإعراب، وإذا لم يكن سبيل إلى شيء من ذلك فلا بد أن تمتنع المسألة رأسًا.
قال بعضهم: فمن وكد من العرب بالنون الخفيفة، ثم عرض له تأكيد أمر الاثنين لم يتجاوز لفظه قبل التوكيد وإن أراد التوكيد، وهو عنده معنى قول الخليل: إذا أردت الخفيفة في فعل الاثنين كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة في فعل الاثنين، في الأصل والوقف، لأنه لا يكون بعد الألف حرف ساكن ليس بمدغم، ولا تحذف الألف فيلتبس فعل الواحد والاثنين.
وهذا المذهب الذي ذهب إليه الناظم، وهو مذهب الخليل وسيبويه، وقد مر وجهه.
وذهب يونس والكوفيون إلى جواز لحاق النون الخفيفة فعل الاثنين، والحجة لهم فيما ذهبوا أن النون الخفيفة مخففة من الثقيلة، وقد أجمع الجميع على أن الثقيلة تدخل هنا، فكذلك النون الخفيفة.
وأيضًا أقصى ما في الباب أن يقال: ذلك يؤدي إلى التقاء الساكنين في غير إدغام، فكذلك جاء في كلام العرب من غير إدغام؛ إذ كانت الألف تقوم مقام الحركة لإفراط مدها، فجاء في قراءة نافع المدني {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي} . بإسكان ياء "محياي" وصلا، وفيه الجمع بين الساكنين على غير شرطه عندكم.
وحكى بعض العرب: "التقت حلقتا البطان"، بإثبات الألف مع لام التعريف وعن بعضهم: ثلثا المال.
وقرئ: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} ، و {أأشفقتم} ، و {أأنتم أشد خلقًا} ، ونحو ذلك بإبدال الهمزة الثانية ألفا، و {ها أنتم هؤلاء} .
وكذلك في غير الألف نحو: {هؤلاء إن كنتم صادقين} . و {أولياء أولئك} ، بالأبدال أيضا. وهذه كلها يلزم فيها التقاء الساكنين.
فإن قلتم: يمنع ذلك في نون التوكيد، فلابد من القول من هنا؛ إذ لا فرق بينهما، لكن القول بذلك باطل، فكذلك القول بالفرق باطل، وفي المسألة حجج غير هذه.
وأجاب عنها البصريون، فأما كونها مخفة من الثقيلة، فغير مسلم، بل تقولها: إنها غيرها لمخالفتها لها لفظا ومعنى.
أما (في اللفظ): فلأن الخفيفة تتغير في الوقف، فتقلب ألفا، وتحذف أيضا في الوقف رأسا، وتسقط للساكن الآتي بعدها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله، بخلاف الشديدة، فلو كانت أصلًا لاعتبر ذلك، فلم يكونوا ليغيروها بإبدال ولا حذف.
وأما (معنى فلأن الشديدة أشد تأكيدا من الخفيفة، على ما نقل سيبويه عن الخليل، وهو رئيس أهل اللغة. ولو كانت أصلها لكان المعنى واحدا.
وأما ما نقل من السماع فقليل، وإن سلم فذلك سماع في غير محل النزاع؛ إذ لم يقل عربي قط: اضربان، بالإسكان، ولا هل تضْربان؟
فإن قلت: فالقياس يثبت ذلك.
فالجواب: أن كون العرب لم يتكلموا بذلك، مع اعتيادهم للتوكيد بالنون، دليل على اعتزامهم اطراح ذلك القياس، وإلا فلو كان معتبرا عندهم لنطقوا به ولو يومًا ما، فتركهم له رأسا دليل على اطراحه جملة.
وهذا من "باب الاستدلال بالأحكام" وهو باب معروف في الأصول، يجري مجرى الاستدلال بالسماع، وقد بينه ابن جني في "الخصائص".
وكان شيخنا القاضي- رحمه الله يعتمده، ويحتج به.
ثم قال: "وكسرها ألف" هذا هو الحكم الثاني، يعني أن الحكم المعتاد لهده النون، والمألوف في كلام العرب، وهو الكسر، وذلك إذا وقعت بعد الألف، نحو: هل تضربانّ؟ واضربانّ.
وإنما كسرت، وكان الأصل فيها الفتح، لأنها هنا زائدة بعد ألف زائدة، فأشبهت نون الاثنين حين قلت: ضاربان، وغلامان. وأما في غير هذا الموضع: ففتحت لأنها حرفان، الأول منهما: ساكن، ففتحت، كما فتحت نون (أين) هذا تعليل سيبويه. ثم قال:"وألفًا زد قبلها مؤكدًا" إلى آخره.
يريد أن هذه النون المتقدمة، وهي الشديدة، إذا أكدت فعلًا لحقه ضمير جماعة الإناث، وهو النون، فهي التي تؤكده بها دون الخفيفة، فزد قبلها ألفًا إذا أدخلتها على ذلك الفعل.
فقوله: "مؤكدًا" حال من ضمير "زد" وهاء "قبلها" عائد إلى النون الشديدة المذكورة قبل، و"فعلا" مفعول بـ "مؤكد" أي زد قبل الشديدة ألفا حال كونك مؤكدًا فعلا أسند إليه نون الإناث.
فأما زيادة الألف: فلابد منها، لأنك لو قلت:(اضربننّ) لكان مستثقلا لاجتماع ثلاثة أمثال، كما استثقلوا ذلك مع نون الرفع في (اضربنّ) حتى حذفوها، ولم يمكن هنا الحذف لئلا يلتبس بفعل الواحد إن قلت:(اضربن) فاضطروا إلى أن زادوا ألفًا، فصلوا بها بين الأمثال، فزال القبح، وخف الاستثقال، وهذا معنى ما علل به سيبويه.
فتقول إذًا: اضربنانِّ يا هندات، وهل تضربنانِّ، ولا تخشينانِّ، وهلا ترمينانَّ، وما أشبه ذلك.
وأما إحالته في هذا الموضع على الشديدة وحدها دون الخفيفة، فلما تقدم ذكره في فعل الاثنين، فالخلاف فيهما واحد، والتوجيه واحد، فكل ما ذكر هناك فهو مذكور هنا، فلا معنى للإعادة، ومذهبه مذهب سيبويه والخليل والبصريين ماعدا يونس.
وبقى النظر في النون بعد هذه الألف، وحكمها الكسر كالنون في فعل الاثنين؛ إذ العلة في كسرهما واحدة، وهي التشبيه بنون الاثنين.
والناظم لم ينص عليها هنا، لكن تدخل له تحت عبارته الأولى في قوله:"وكسرها ألف" إذ معناه: أن كسرها بعد الألف مألوف، وهذه نون بعد ألف، فتكون مكسورة، فكأن قوله: "ولم تقع مفتوحة بعد الألف، قاعدة شاملة لما يقع في آخر الفعل من الألف، سواء أكان
ألف ضمير أو غيره كما هنا، فقد حصل حكم كسرها هناك، فلا معنى لإعادة ذكرها.
واحذف خفيفة لساكن ردف
…
وبعد غير فتحةٍ إذا تقف
واردد إذا حذفتها في الوقف ما
…
من أجلها في الوصل كان عدما
وأبدلنها بعد فتح ألفا
…
وقفًا كما تقول في قفن قفا
تكلم في هذه الأبيات على العوارض اللاحقة للنون، وإنما تكلم في ذلك على النون الخفيفة، فدل ذلك من كلامه على أنها المختصة بهذه الأحكام التغييرية، بخلاف الشديدة، وهو كذلك، فإن الشديدة لا تتغير لقوتها في نفسها، حين كانت من حرفين مدغمٍ أحدهما في الآخر، ولتحركها، بخلاف الخفيفة، فكل ما ذكر من التغيير في الخفيفة منتف عن الشديدة، فإذا بقي الشديدة ساكن لم يؤثر شيئا، وكذلك إذا وقفت عليها فلا تغيير يلحقها من حذف ولا إبدال؛ بل تقول: أكرمنَّ ابن زيدٍ، ولتضربنَّ الرجل، ولتكرمانِّ زيدًا، وكذلك قول: يا زيد اضربنَّ، ولتخرجنَّ، ويا زيدون لتخرجن، ويا هندا اخرجن.
وإن خففتها في الوقف على حد قولهم
* أصحوت اليوم أم شاقتك هر *
فلا أثر له، لأنها الشديدة، والوقف عارض.
ثم ذكر لحذفها موضعين:
أحدهما: إذا جاء بعدها ساكن من كلمة أخرى، وذلك قوله:"واحذف خفيفة" يعني أن النون الخفيفة إذا ردفها ساكن، يريد: جاء بعدها، فإنها تحذف معه، فتقول اضرب ابنك، تريد: اضربن ابنك، ولتكرم الرجل، ولا تضرب ابنك" ومنه قول الشاعر:
ولا تهين الفقير علك أن
…
تركع يومًا والدهر قد رفعه
وإنما حذفت هنا لضعفها وسكونها، فلم تقو أن تكون كالتنوين، فتكسر للساكنين، لأن التنوين مختص بما هو أقوى، وهو الاسم.
وهذه النون مختصة بما هو أضعف وهو الفعل، وعلى أنهم قد عاملوا
التوين معاملتها، فقرئ:{قل هو الله أحد * الله الصمد} . {ولا الليل سابق النهار} ، وأنشدوا لأبي الأسود:
* ولا ذاكر الله إلا قليلًا *
ثم قال: "وبعد غير فتحة أإذا تقف" وهو الموضع الثاني لحذفها، يعني أن النون الخفيفة تحذف أيضا إذا وقفت، وكانت بعد ضمة أو كسرة، ولا تكون بعد ضمة أو كسرة إلا لضمير محذوف واوٍ أو ياء، فتقول: يا زيدون اضربوا، ويا هند اضربي، ويا زيدون اخشوا، ويا هند اخشي وما أشبه ذلك.
ووجه ذلك أن النون هنا شبيهة بالتنوين، لأن كل واحدة منهما زائدة على الكلمة ساكنة، فلما أشبهتها عوملت في الوقف معاملتها، فكما قالوا في الوقف على المرفوع: هذا زيد، بحذف التنوين، وفي الوقف على المخفوض: مررت بزيد، كذلك قالوا فيما هو نظير المرفوع والمجرور، وهو المضموم والمكسور من الفعل: اضربوا، واضربي.
وهذا الذي قال جارٍ على اللغة الشهرى.
وأما على قياس من قال: هذا زيدو، ومررت بزيدي، فينبغي ألا تحذف نون التوكيد؛ بل تبدل واوًا بعد الضمة، وياءً بعد الكسرة. فتقول: اخشييي واخشووا، وهو قياس صحيح.
وهذا الذي قرر الناظم: هو مذهب سيبويه والخليل.
وأما يونس: فلا يحذف النون مطلقا؛ بل يقول: اخشووا، واخشيي على كل لغة، فيبدل الواو والياء من النون.
وألزمه سيبويه أن يقول ذلك في غير الموقوف نحو: هل تضربوا؟ وهل تضربي؟ لأن النون إذا كانت باقية هي أو بدلها، فالواجب ألا يرجع ما حذف.
ولما كان حذف النون هنا، على رأي الناظم، يلزم معه رد ما حذف أخذ يبين ذلك، فقال: واردد إذا حذفتها في الوقف" إلى آخره.
يعني أنك إذا حذفت النون الخفيفة للوقف، فإنك ترد ما حذف لأجلها في الوصل، من ضمير أو علامة رفع، وذلك قوله: يا زيدون اضربوا، ويا هند اضربي، فرددت الواو والياء لزوال ما أوجب حذفهما، وهو النون الساكنة. وكذلك: اغزوا يا زيدون، واعزي يا هند.
ويونس هنا موافق للخليل وسيبويه في اللفظ، ولذلك حكي عنه الموافقة للعرب.
وأما التفسير فمختلف، لأن الخليل يقول: هي واو الضمير وياؤه، وعلى قول يونس هما بدل من النون.
فقول الناظم: (واردد ما كان عدم في الوصل) جارٍ على مذهب الخليل، لا على مذهب يونس. وتقول على هذا: يا هند اخشي، ويا زيدون اخشوا؛ إذ كان واو الضمير وياؤه لم يحذفا، فلم يكن ثم ما يرد.
وعلى رأي يونس: اخشيي واخشووا، كما تقدم.
وتقول: يا هند هل تقومين؟ ويا زيدون هل تقومون؟ فترد الواو والياء، وترد أيضا علامة الرفع لزوال موجب حذفها.
وكذلك تقول: لتخشوون، ولتخشيين، ولتقضون، ولتقضين.
وألزم سيبويه يونس أن يقول في هذا: لتخشووا، ولتخشيي، ولتضربوا ولتضربي، فلا ترد النون، لأنه يعوض من التنوين الواو والياء، وفي قوله: ولكن العرب على ما يقوله الخليل، وليس مع يونس سماع، وإنما قاله بالقياس على المفتوح، والمصير إلى ما قالته العرب هو الواجب.
وفي قوله: "واردد" إلى آخره من النطر نظير ما تقدم قبل هذا، من عدم تنبيهه على حذف نون الرفع إذا أتي بنون التوكيد، فهاهنا لا يتبين أيضا ما الذي يرد، لأنه إذا قدم أنه يحذف الضمير، ولم يذكر خلافه، فلا يفهم له هنا الرد إلا فيما حذف، لكن هذا الموضع لا يعود عليه منه إشكال، وإنما يعود مما تقدم خاصة، فتأمله.
ثم قال: "وأبدلنها بعد فتحٍ ألفًا وقفًا"
يريد أنك إذا وقفت على النون الخفيفة، وكان ما قبلها مفتوحا، فلابد من إبدالها ألفًا، ولا يجوز الوقف عليها وهي على حالها، فلا تقول: يا زيد قفن، وإنما يقال: يا زيد قفا.
وكذلك: يا زيد ارضيا، وهل تقضيا؟ وهل تدعوا؟ في (ارضين، وهل تقضين؟ وهل تدعون؟ ) ووجه ذلك: شبهها بالتونين، فكما أنهم يبدلونه في الوقف، إذا تبع المفتوح، ألفًا فتقول: رأيت زيدًا، وأكرمت عمرا، فكذلك هنا، فهما متساويان في الوقف هنا، يحذفان مع المضموم والمكسور، ويبدلان ألفًا مع المفتوح.
ومن مثل هذه المسألة قوله تعالى: {ليسجنن وليكونًا من الصاغرين} . وقوله: {كلا لئن لم ينته لنسفعًا} القراء كلهم على إبدالها في الوقف ألفًا.
وقال الشاعر، أنشده سيبويه:
* يحسبه الجاهل ما لم يعلما *
وأنشد أيضًا قول الآخر:
* ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا *
وأنشد أيضا قول الآخر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
…
تجد حطبًا جزلًا ونارًا تأججا
يريد: تأججن، أي تأجج، وهو مما لحقته النون في الإيجاب ضرورة.
وقال الآخر، أظنه ابن أبي ربيعة:
وقمير بدا ابن خمسٍ وعشـ
…
رين له قالت الفتاتان قوما
وقال الآخر:
* واحمر للشر ولم يصفرا *
وذلك شهر.
وقوله: "كما تقول في قفن قفا" أي كما تقول في (قفن) بالنون: قفا، بالألف. وينبغي أن يكتب الأول بالنون، والثاني بالألف، وإن كان القياس الكتب بالألف في النون الخفية مطلقا، اعتبارا بقصد الناظم من إظهار النون التي تبدل، فهو لم يقصد فيها إلا كونها نونًا حتى تتبين أولًا، ثم يحكم عليها بالإبدال.