المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التحذير والإغراء التحذير والإغراء متساويان في الأحكام، وإنما يفترقان في المعنى. فالإغراء - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٥

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌التحذير والإغراء التحذير والإغراء متساويان في الأحكام، وإنما يفترقان في المعنى. فالإغراء

‌التحذير والإغراء

التحذير والإغراء متساويان في الأحكام، وإنما يفترقان في المعنى.

فالإغراء هو الإلزام والتسليط، يقال: أغريت الكلب بالصيد، إذا أرسلته عليه، وحرضته وسلطته.

والتحذير بضد هذا، وهو التخويف من الشيء، والحذر، والحذر: التحرز، يقال: حذر وحذر من الشيء، إذا تحرز منه، وابتدأ الناظم بالتحذير فقال:

إياك والشر ونحوه نصب

محذر بما استتاره وجب

"إياك والشر" في موضع نصب بـ"نصب" وما في قوله: "بما استتاره وجب" واقعة على الفعل المضمر الناصب لـ"إياك" في مثاله، ولـ"نحوه".

ويعني أن "إياك" إذا عطف عليه، ولا يعطف عليه إلا بالواو خاصة، ينصب هو ما عطف عليه بفعل مستتر لا يظهر أبدًا.

وبيان ما قصد من ذلك أنه أتى في هذين الشطرين وما بعدهما بأقسام خمسة، يتفق الحكم في بعضها، ويختلف في بعضها، وجملتها محمولة على كلامه أنك أتيت بـ (إيا) معطوفا عليها أو غير معطوف عليها، فالفعل لازم الإضمار، وهو الناصب لهما، وإن لم يأت بـ (إيا) فإن لم تعطف ولا كررت فلا يلزم إضمار الفعل؛ بل يجوز الإضمار، وإن عكفت أو كررت فلابد من الإضمار، ولا يجوز الإظهار، وهذا بيان الأقسام على الجملة.

ص: 475

وأما على التفصيل فالقسم الأول: الإتيان بالأداة المشهورة في التحذير، وهي (إيا) الضمير المنصوب المنفصل، معطوفا عليها، نحو ما مثل به، من قوله:"إياك والشر" فهذا القسم ينتصب فيه (إيا) بفعل واجب الاستتار، تقديره: إياك باعد والشر، أو أياك اتق والشر، أو إياك نح، أو ما كان بهذا المعنى.

ومثل ذلك: إياك والأسد، فالمعطوف والمعطوف عليه معًا ينتصبان بذلك الفعل، كما قاله الناظم، لأن واو العطف شركت بينهما في العامل، وكأن العرب جعلت هنا (إياك) بدل اللفظ بالفعل الناصب، فلا يظهر معه أصلا.

وما مثل به الناظم فيه قيدان معتبران:

أحدهما: تقييد (إيا) بالخطاب، فلا تقول: إياه والأسد، ولا إياي والشر، وسيأتي كلامه على هذا، وإنما يقال: إياك والشر، أو إياكم والشر، وكذلك إيكم، وإياكن. وسيأتي توجيهه عندما ينبه عليه إن شاء الله.

والثاني: تقييد العطف بالواو من بين سائر حروف العطف، فلا تقول: إياك فالشر، ولا إياك ثم الشر، لأن المقصود التحذير من جمع هذين، وليس المراد أن تحذر هذا ثم هذا، ولا أن تحذر هذا فهذا، وإنما القصد أن تحذر هذا من هذا.

فإن قلت: إن العطف يعطي أن كل واحد منهما محذر منه أو محذر، لأن المعطوف شريك المعطوف عليه في معنى العامل، وإذا كان كذلك فلا فرق بين الواو وبين الفاء وثم.

ص: 476

فالجواب: أن معنى التشريك فيه ليس على حقيقته، لأن (إياك) محذر لا محذر منه، و"الأسد" محذر منه لا محذر، فلا يجري هذا الحكم في غير الواو، وإنما جاز في الواو بلحظ التشريك في مجرد التحذير، وإن كان التحذير بالنسبة إليهما مختلفا، هذا محذر، وهذا محذر منه.

ونظره السيرافي بقولك: خوفت زيدًا الأسد، فزيد مخوف، والأسد مخوف، وليس معناهما واحدا، لأن الأسد مخوف منه، وزيد مخوف، على [معنى] أنه يجب أن يحذر [منه] ، ولفظ "خوفت" قد تناولهما جميعا، فـ (إياك والأسد) الناصب لهما معنى واحد، وطريق التخويف مختلف فيهما.

وإذا كان كذلك فقد يحتمل هذا في الواو بعد السماع، ولا يحتمل في غيرها من حروف العطف.

وقد حرر ابن الضائع هذا المعنى تحريرا حسنا، فطالعه في موضعه من كتابه.

والقسم الثاني: أن تأتي بـ (إيا) دون عطف، وذلك قوله:

ص: 477

ودون عطف ذا لإيا انسب وما

سواه ستر فعله لن يلزما

إلا مع العطف أو التكرار

كالضيغم الضيغم ياذا الساري

فيريد أن (إيا) إذا أتت من غير عطف فانسب إليها ما نسب إلى (إيا) المعطوف عليها، وهو لزوم استتا الفعل، فـ (ذا) إشارة إلى النصب بما استتاره وجب، فلا يجوز إظهار الفعل فتقول: إياك يا زيد، أو إياك لا تفعل كذا. كأنك قلت: إياك نح، أو إياك باعد.

وإنما لم يظهر فيه الفعل لأنهم لما كثر هذا في كلامهم ألزموه الحذف اختصارا لفهم المعنى.

ولم يذكر مع (إيا) هذه ما يقع بعدها، وهي في ذلك على ثلاثة أوجه: ألا يقع بعدها شيء كما مثل، وأن يقع بعدها المحذر منه مصرحا به غير معطوف، نحو: إياك الشر، وأن يقع بعدها (أن) والفعل، نحو قوله:

فيا الغلامان اللذان فرا

إياكما أن تكسباني شرا

وهو مع (أن) كثير.

فإما أن يكون سكت عن ذلك جملة، لما في تفصيل الحكم فيه من الخلاف والشغب.

ص: 478

وإما أن يكون اعتقد أن المنصوب بعدها من جملة أخرى، كأنه على إضمار فعل آخر، وإن كان ذلك قليلا إلا أنه يصلح للقياس، كالذي أنشده سيبويه عن ابن أبي إسحاق:

إياك إياك المراء فإنه

إلى الشرر دعاء وللشر جالب

فنصب (المراء) على معنى: اتق المراء.

وكذلك ما أنشده الفراء من قول الجعدى:

ألا أبلغ أبا عمرو رسولا

وإياك المحاين أن تحينا

ويحتمل المعنى فيما إذا وقعت (أن) بعد إياك، نحو: إياك أن تفعل، فيقدره منصوبا بـ (اتق) ونحوه، ولا يجعله على حذف الجار. ومنه ما أنشده يونس لجرير:

إياك أنت وعبد المسيح

أن تقربا قبلة المسجد

ص: 479

وأنشد الفراء:

فبح بالسرائر في أهلها

وإياك في غيرهم أن تبوحا

وأنشد الكوفيون:

فيا الغلامان اللذان فرا

إياكما أن تكسباني شرا

أو يكون على حذف الجار أيضا، لكن هو مع (أن) كثير، أعنى وقوع (إياك) قبل (أن) بخلاف نحو: إياك المراء، وإذا فرضناه على الإضمار فذلك المضر يجوز إظهاره، فهذان الوجهان يمكن أن يكون الناظم قد ذهب فيهما مذهب الجمل، لا مذهب المفردات، فيكون (إياك) جملة، و (المراء) جملة أخرى.

وكذلك (أن تفعل) بعد (إياك) جملة أخرى، والجمل قد يترك عطفها بعضها على بعض، لاسيما إن جرت مجرى التوكيد لما قبلها، وعلى تقدير الجملتين وجه سيبويه والشراح بيت ابن أبي إسحاق؛ إذ قدروه

بفعلين، فكذلك نقول نحن في كل ما جاء من هذا، وإنما منع سيبويه والجمهور المسألة على أنها من عطف المفردات، فإذا قدرناها جملتين لم يمتنع.

ص: 480

قال ابن خروف: لا يجوز حذف حرف العطف من الأسماء المفردة إلا في الشعر، ويجوز حذفه من الجمل. قال: وهو في القرآن كثير، كقوله:{قال فرعون وما رب العالمين} . إلى آخر الآيات.

قال: وإنما حذف مع الجمل لأن كل جملة قائمة بنفسها.

هذا ما قال ابن خروف، والمعنى المقصود من كلامه صحيح، وهذا المعنى يظهر من كلامه في "التسهيل" حيث قال: ولا يحذف العاطف بعد (إيا) إلا والمحذور منصوب بإضمار ناصب آخر، أو مجرور بمن.

فظاهر هذا الكلام جواز حذف العاطف قياسا، ولا علينا أن يكون ذلك قليلا.

وإذا ثبت هذا كله فالناظم لم يتكلم على هذا، لأنا إن فرضنا وقوع المنصوب بعد (إيا) فعلى جملة أخرى من القسم التالي، لهذا كررت توكيدا، فلا حاجة إلى عاطف معها، وإن وقع بعدها (أن) والفعل فعلى ذلك أيضا، أو على إضمار الجار؛ إذ يجوز ذلك مع (أن، وأن) كما تقدم في بابه.

وقد يجوز أن يقال: إياك من الأسد، على تقدير: باعد نفسك من الأسد، وهذا الحكم لا يختص بهذا الباب، فلم يذكره هاهنا؛ إذ هو محال به على موضعه، فعلى كلا الوجهين لا حاجة إي ذكر شيء من ذلك في هذا القسم، للاستغناء عن ذلك بذكره في موضعه.

وما تقدم من النص عن "التسهيل" ربما يبحث عنه الناظر فيه، فلا يجده في النسخ المستعملة بأيدينا، لأن "باب الإغراء والتحذير" غير موجود فيها، وهو موجود في النسخة الكبرى منه.

ص: 481

وقد ذكر أبو حيان (بن حيان) في شرحه للتسهيل: أن هذا الباب يثبت في بعض النسخ، ويعني النسخة الكبرى.

والقسم الثالث: ما عد (إيا) لكن من غير عطف ولا تكرار، وذلك قوله:"وما عداه ستر فعله لن يلزما".

الضمير في قوله: "عداه" عائد على (إيا) على الوجهين، أي وما عدا (إيا) كانت بعطف أو بغير عطف، لن يلزم ستر فعله إلا مع كذا.

يريد أنك إذا أتيت بما تحذر به دون (إيا) فيجوز أن يكون ناصبه مقدرا ويجوز أن يكون ظاهرا.

فإذا قلت: نفسك يا زيد، فهو منصوب بفعل مضمر، تقديره: نفسك اتق، أو نفسك احذر، ويجوز أن تظهر ذلك الفعل، فتقول: اتق نفسك، أو أحذر نفسك.

ومثله: الجدار يا هذا، والأسد يا فتى، والشر يا فتى، أي اتق الجدار، واتق الأسد، واحذر الشر، وما أشبه ذلك، ولك أن تظهر ذلك كله.

وإنما جاز إظهاره هاهنا لأنه الأصل في كل مضمر مقدر، لأن هذه الأشياء ونحوها لم تكثر في كلامهم كثرة (إياك) وحدها، أو مع العطف.

ص: 482

ومن أمثلة الإظهار في هذا النحو قول جرير، أنشده سيبويه:

خل الطريق لمن يبني المنار به

وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر

والقسم الرابع: ما عدا (إيا) إذا صحبه العطف، وهو أحد ما استثنى في قوله:"إلا مع العطف أو التكرار".

واستثناؤه هذا القسم والذي بعده من جواز إظهار الناصب دليل على أنه لا يجوز الإظهار فيهما؛ بل يلزم الاستتار فيما إذا أتيت بالمحذر معطوفا عليه محذر آخر، وذلك قولك: رأسك والحائط، ونفسك والشر، على تقدير: اتق نفسك والشر، أو: باعد نفسك والشر. والعطف هاهنا منزل على العطف مع (إيا) من حيث كان كل واحد منهما محذرا على الجملة، وإن كان المعنى على أن أحدهما محذر، والآخر منه لا على الاشتراك الحقيقي.

فإن قيل: إن هذا الإطلاق يقتضي أن الإضمار هنا لازم مع العطف كيف كان، فيدخل فيه ما تقدم، ويدخل فيه أيضا ما إذا كان المعطوف مشاركا للأول في كونه محذرا، كقولك: الأسد والذئب، أو قولك: رأسك وجنبك، أو قلت: نفسك وغيرك، أو نفسك وولدك، أو ما أشبه ذلك، مما يصلح أن يؤتي بعده بالمتقى منه، فهل يكون هذا مثل ذلك، فليزم الإضمار، أم يكون حكم هذا حكم المفرد، فلا يلزم الإضمار، ويكون إطلاقه مشكلا؟

ص: 483

فالجواب: أن العطف المعتبر هنا إنما هو ما كان نحو: رأسك والحائط، ونفسك والشر، فهو الذي يلزم الإضمار، وأما ما كان غير ذلك فلا، لأنك إذا قلت: الأسد والذئب، فهما اسمان في حكم الاسم الواحد، كأنك تقول: هذين اتق، فكما أنك تنصب المثنى في التحذير إذا لم تعطف عليه بما يجوز إظهاره، فكذلك ما كان في تقديره. ألا ترى أنه يجوز لك أن تعطف المحذر منه عليهما، فليس إطلاق العطف بمستقيم، غير أن هذا لا يرد على الناظم، لأنه قال:"إياك والشر ونحوه" وإذا كانت للعهد فيما تقدم خرج عن ذلك ما كان العطف فيه مرادفًا للتثنية، وهذا حسن.

والقسم الخامس: ما عدا (إيا) إذا صحبه التكرار، وهو تكرار الاسم الأول بلفظه، فالإضمار هنا لازم، نحو قولك: الأسد الأسد والجدار الجدار، أي احذر الأسد، واتق الجدار. وتقول: الصبي الصبي، أى لا توطئ الصبي، وإنما لم يظهر الفعل في هذين القسمين، لأن اللفظ الأول من اللفظين كأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل، فصار كـ (إياك) في قيامه مقام الفعل.

ونظير ذلك في الأول من القسمين قولهم: ما أنت إلا سيرا، وإنما أنت سيرا.

وفي الثاني: قولهم: زيد سيرا سيرا، وقد مر ذلك:

ص: 484

قال سيبويه: فلو قلت: نقسك، أو رأسك، أو الجدار، كان إظهار الفعل جائزا نحو قولك: اتق رأسك، واحفظ نفسك، واتق الجدار.

قال: فلما ثنيت صار بمنزلة إياك، وإياك بدل من اللفظ بالفعل، كما كانت المصادر كذلك، نحو: الحذر الحذر.

وقوله: "كالضيغم، الضيغم" مثال من التكرار، و"ياذا الساري تمام المثال، اسم فاعل من: سرى يسري، وهو سير الليل خاصة، والضغيم: الأسد.

وشذ إياي ولإياه أشذ

وعن سبيل القصد من قاس انتبذ

لما ذكر أولا أن التحذير إنما يكون للمخاطب على حسب ما أشار إليه في المثال المتقدم نبه هاهنا على ما يخالف ذلك المثال أنه شاذ، وأتى في هذا القصد بمسائل ثلاث:

إحداهما: بيان شذوذ (إيا) المتصلة بياء المتكلم، نحو: إياي، وإيانا، فلا يقال عنده: إياي والأسد، ولا إياي والشر، وإنما لم يجز ذلك لأن الإنسان لا يأمر نفسه، ولا ينهي نفسه، وإنما الأمر والنهي للمخاطب، وما جاء من ذلك فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه.

ومن ذلك قولهم: إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب، حكاه سيبويه، ومعنى الحذف أن يرميه بسيف ونحوه.

وحكى أيضا عن بعض ملوك اليمن: إياى وإيا الركب.

وحكى أيضا سيبويه: أن بعضهم يقال له: إياك، فيقول: إياك، فيقول: إياي، كأنه قال: إياي أحفظ وأحذر.

ص: 485

فحمل هذا على الخبر، ولم يحمله على الأمر، بخلاف الأول، وهو إياي وأن يحذف، فإنه حمله على أنه أمر للمخاطب، كأنه [قال]: إياي باعد أيها المخاطب وحذف الأرنب، ولم يأمر نفسه؛ إذ لا يصح ذلك، ولذلك لا يصح إضمار فعل، فهذا عند الناظم شاذ.

والثانية: بيان أن (إيا) المتصلة بهاء الغائب أشذ من (إياي) وذلك قوله: "وإياه أشذ" يعني من (إياي) ".

وذلك أن العلة في منعهما معا واحدة، من حيث كان الأمر والنهي مختصين بالمخاطب، فما جاء على خلاف ذلك نادر شاذ. وإشارته بذلك لما حكى سيبويه عمن لا يتهمه عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيا الشواب، أي إياه حذر والشواب، فهو أمر للمخاطب، كما في (إياي).

وهذا المثال شاذ من وجهين: من الوجه الذي أشار إليه الناظم، ومن جهة إضافية (إيا) إلى الظاهر، ولذلك قال في "التسهيل": وشذ "إياه وإيا الشواب" من وجهين.

والثالثة: إخباره بأن هذا الذي ذكر أنه شاذ لا يقاس عليه، ومن قاس عليه فقد أشد عن سبيل جماعة النحويين، وذلك قوله:"وعن سبيل القصد من قاس أشد" أي إن من قال بالقياس فقد خرج عن السبيل القاصد، والطريق المستقيم.

وهذا الكلام قد يشعر بوجود خلاف في هذه المسألة، وهو خلاف لا أتحققه منصوصا عليه إلا ما أذكره لك.

ص: 486

وذلك أن سيبويه أتى بـ (إياك، وإياي، وإياه) في مطلق التمثيل غير مقيد بشذوذ ولا قلة، فقال في "باب التحذير": ومن ذلك قولك: إياك والأسد، وإياي والشر، كأنه قال: إياك فاتقين والأسد، وكأنه قال: إياي لأتقين والشر، فـ (إياك) متقى، و"الأسد والشر" متقيان.

قال: ومثله: إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب.

قال: ومثله: إياك، وإياه، وإياي، كأنه قال: إياك باعد، وإياه، أو نح.

قال وزعم أن بعضهم يقال له: إياك، فيقول: إياي، كأنه قال: إياي أحفظ وأحذر.

فهذه العبارة من سيبويه تشعر بأن تحذير المتكلم والغائب قياس كتحذير المخاطب، والشراح، كالسيرافي وابن خروف، حملوه على ظاهره، ولم يقيدوه إلا بأن التحذير هنا راجع للمخاطب، لا للمتكلم ولا للغائب.

قال السيرافي: ما معناه: إن القائل: إياي والشر، ليس يخاطب به نفسه ولا يأمرها، وإنما يخاطب رجلا، يقول له: إياي باعد عن الشر، فينصب (إياي) بـ (باعد) وما أشبهه، ويحذف حرف الجر من "الشر" ويوقع الفعل المقدر عليه، فيعطفه على الأول، لأن الفعل قد وقع على الأول، قال: ومثله: إياي وأن يحذف أحدكم.

ص: 487

قال الشلوبين: هذا الذي قاله السيرافي واضح، لأن إضمار فعل المتكلم في الأمر وفعل الغائب لا يكون.

قال: وقد نص سيبويه على أن فعل المخاطب هو الذي يضمر فيما تقدم.

قال: ولكن يمكن أن يكون الإنسان يخاطب نفسه، فيقول: احذري إياي والشر، فلا يحذف إلا فعل المخاطب. وقال ابن خروف: ليس هذا أمرًا بنفسه، إنما خاطب رجلًا، فحذره نفسه والشر، أي بمباعدتها من الشر.

قال: والمعنى لا تقرب الشر فيأتيك مني ما تكره، أي اتق الشر، واتق معاقبتي لك عليه.

وأجاز الشلوبين في قوله: (ومثله إياك، وإياه، وإياي أن يكون أراد: ومثله أن تقرن إياك مع الشر، وإياه مع الشر، وإياي كذلك، يعني أن لا تكون (إياه) معطوفة على (إياك) وعلى (إياي) وإن كان الأظهر أن يكون معطوفا وقع موقع الظاهر في قولك: إياك زيدًا، وإياي زيدًا، فجعله محتملا لأن يكون سيبويه يجيز: إياي والشر، وإياه والشر.

فكلام الشلوبين أقرب لتجويز القياس، وإن كانت عبارتهم لا تأباه كما تقدم.

وقد أجاز ابن خروف في (إياي والشر) أن يكون خبرا، كأنه قال: إياي أحذر وأحفظ، كأنه جواب من قيل له: إياك والشر. فقال: إياي والشر، وجعله تأويلا لكلام سيبويه، قال: وهو صحيح، يعني هذا الوجه من التأويل.

ص: 488

فقد ظهر من مجموع هذا الكلام أن (إياي والشر) جائز على الوجهين، على الأمر وعلى الخبر، وكذلك (إياه) على ما ظهر من كلام الشلوبين، فإن كان الناظم أراد بالقائس من تقدم ذكره وإلا فلا أدري من المخالف في المسألة. والمستند الذي عول عليه الناظم هو السماع، لأن الذي اشتهر في الكلام تحذير المخاطب (إياك) لا بـ (إياي) ولا (إياه) وعلى أنه قد أجاز في "التسهيل": إياي والشر، ومنعه هنا، وهذه عادته في اضطرابه في الاختيار، وقد جعله في "الفوائد" نادرا.

والسبيل: الطريق. والقصد: العدل، والقصد أيضا: إيتان الشيء والذهاب نحوه. واتتبذ فلان، أي ذهب ناحية، فكأنه قال: ومن قاس فقد خرج عن طريق العدل والصواب، أو خرج عن الطريق القاصد الموصل إلى الصواب والحق.

وكمحذر بلا إيا اجعلا

مغري به في كل ما قد فصلا

لما أتم الكلام على أحكام التحذير، شرع في التنبيه على أحكام الإغراء.

ولما كان التحذير والإغراء معا يجريان مجرى واحدا أحال في حكمه على حكم التحذير، ويعني أن الاسم المغرى به حكمه حكم الاسم المحذر في جميع ما تقدم تفصيله من الأحكام، من لزوم إضمار الناصب وعدم لزومه، وفي كونه مكررًا أو معطوفًا عليه، وغير ذلك. إلا في حكم واحد، وهو الإتيان بـ (إيا) فإنها لا تقع في الإغراء، كما تقع في التحذير [لأن معناها مختص بالتحذير، فلا موقع لها في غيره.

ص: 489

وقد تقدم في كلامه في التحذير] خمسة أقسام، اثنان منا مع (إيا) وثلاثة مع غيرها، فالتي مع (إياك) هي قولك:

إياك والأسد، بتابع معطوف، إياك، بغير تابع أصلا.

وهذان غير داخلين في الأغراء. لاختصاصهما بـ (إيا) فبقي الثلاثة الأخر، وهو الإتيان بالمحذور وحده، أو به مع معطوف، أو به مكررا، فهذه هي الأوجه التي تتصور في الإغراء.

فالقسم الأول، وهو الإتيان بالمغرى به وحده، فنحو قولك: شأنك يا زيد، وأمرك يا عمرو، تريد: الزم شأنك، والزم أمرك. وتقول: زيدًا، أي: الزمه، ومنه قول أبي ذؤيب:

جمالك أيها القلب القريح

ستلقى من تحب فتستريح

أي الزم تجملك وحياءك. ويجوز هنا إظهار الفعل، لأن الاسم إذا أتى به مفردا لم يجز مجرى المكرر، لكثرة لاستعمال في المكرر بخلاف هذا، فألزم المكرر الحذف لذلك دون المفرد.

فإن قلت: فقد نصوا على لزوم الإضمار وإن كان مفردا، نحو قولك: حذرك يا زيد، وعذيرك من زيدٍ. قال عمرو بن معد يكرب، أنشده سيبويه:

ص: 490

أريد حباءه ويريد قتلى

عذيرك من خليلك من مراد

والعذير: بمعنى العذر والمعذرة. وأنشد أيضًا لذي الإصبع العدواني:

عذير الحى من عدوا

ن كانوا حية الأرض

ونحو هذا، إنما هو على معنى: الزم حذرك، والزم عذيرك، أي عذرك، وهو مما لا يظهر فيه الفعل، فقد خالف بهذا "باب التحذير".

فالجواب: أن هذا ليس من باب (الزم) وإنما هو من باب المصادر التي عملت فيها أفعالها، فصارت مثل: ضربًا زيدًا، وإذا كانت كذلك خرجت عن كونها منصوبة من "باب الإغراء"

وأيضا، فهذا إنما يكون في بعض الأشياء التي يكثر في الكلام استعمالها، فهي خارجة بكثرة الاستعمال عن جواز الإظهار، وهي مع ذلك موقوفة على السماع.

والقسم الثاني، وهو الإتيان بالمغرى به مع العطف عليه، نحو قولك: شأنك والعلم، وشأنك والحج.

ص: 491

ومن ذلك "أهلك والليل" أي لزم أهلك، أو بادر أهلك والليل، يعني بادرهم قبل الليل.

وهذا تمام ما يلزم فيه إضمار الفعل، فلا يجوز أن تقول: الزم شأنك والحج، كأنهم جعلوا المفعول الأول بدلًا من اللفظ بالفعل، والعلة هنا وفي التحذير واحدة، ولذلك أتى بهما سيبويه مختلطين، لم يفرق بينهما، لأن أحدهما أمر والآخر نهى.

والقسم الثالث: الإتيان به مكررا بلا عطف، نحو: الليل الليل، أي الزمه وأدركه، والطريق الطريق، إذا أردت: الزمه، وأخاك أخاك، وأنشد سيبويه لمسكين الدارمي:

أخاك أخاك إن من لا أخاله

كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح

ومنه قولك: الله الله في أمري، أي الزم تعظيمه والوسيلة به.

وهذا أيضا لا يجوز فيه إظهار الفعل، وقد تقدم تعليل ذلك في التحذير.

وهذا الباب كله، أعنى (باب الإغراء) مختص بالمخاطب، لا يكون لمتكلم ولا لغائب، فلا يقال: شأني والحج، لأن الإغراء أمر، كما أن التحذير نهى، وهما يختصان بالمخاطب.

ص: 492

فإن قلت: إن كلام الناظم يعطى بعمومه أنه قد جاء (الإغراء للمتكلم والغائب، وأنه اختلف في القياس عليه، وأن رأيه عدم القياس لقوله: إن) الإغراء كالتحذير في كل ما قد فصل، وهذه المسألة مما قد فصل قبل.

فالجواب: أن هذه مغالطة، لأن الشذوذ إنما نقله في (إيا) وقد استثنى هو (إيا) في قوله:(بلا إيًا) فسقطت حكاية الشذوذ، والخلاف في القياس عليه.

على أنه قد جاء الإغراء للغائب، ومنه في الحديث "من استطاع منكم الباءة فليتزوج" ثم قال:"وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء". فأغرى الغائب، وكذلك جاء إغراء المتكلم، كقولهم: على زيدًا، وقال سيبويه: وحدثني من سمع أن بعضهم قال: عليه رجلًا ليسني وهو من إغراء الغائب، ولكن هذا قليل، ومتأول على أن الأمر للمخاطب، كأنه قال: بصروه ودلوه على الصوم، وعلى زيدًا، أي أخذني زيدًا، أي اجعلني أخذه، وكذلك: عليه رجلًا ليسني، وكل هذا شاذ، كما تقدم.

ص: 493