الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النداء
(النداء) بالكسر، ويقال: بالضم، وهو تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه، بحرفٍ من الحروف الموضوعة لذلك، هذا أصله.
وقد ينادي من لا يراد إقباله، ولكن على وجه التفجع عليه.
وقد تستعمل في التعجب هذه الحروف أو بعضها، لا لقصد الإقبال، كما سيذكر إن شاء الله / في موضعه.
وابتدأ الناظم رحمه الله أولاً بالتعريف بحروف النداء، وهي أدوات التصوير بالمنادي.
ولما كان (المنادى) ينقسم قسمين: قريب منك وبعيد - وضع لكل قسم منها ما يخصه.
وعرف الناظم أولاً بالقسم الذي يستعمل للبعيد فقال:
وللمنادى الناء أو كالناءيا
…
وأي وآكذا أبا ثم هيا
والهمز للداني ووالمن ندب
…
أويا وغير والدي اللبس اجتنب
(الناء) هو البعيد، نأى فلان ينأى نأيا، إذا بعد، وأراد (النائي) بالياء، ولكنه نقصه للضرورة، كما قال:
* وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه *
وهو في نظمه كثير.
ويريد أن (المنادى) البعيد له أدوات ينادي بها، وهي خمس:(يا) وهي أم الباب، ولذلك تستعمل حيث لا يستعمل غيرها من أخواتها، فيندب بها مع (وا) ولا يندب بغيرها معها، وقد ذكر ذلك، وأيضًا لا يقع في باب "الاستغاثة""والتعجب" غيرها. و (أي) وهي مقصورة غير ممدودة، على ما أتى بها النظم مثل (كي) هذا نقل سيبويه والجمهور من البصريين.
وحكي المؤلف عن الكوفيين مد (أي) نقلاً عن العرب، وهذا، وإن كان، فقليل، لذلك لم يعتد به هنا.
وما ذكر من أن (أي) للبعيد هو أيضا مذهب جمهور البصريين، فإنه نقل عن العرب، وقد نقلوا أن وضعها لنداء (البعيد) فهو المقبول ولا يعارض بقياس وذهب طائفة إلى خلاف ذلك، إلا أنهم فرقتان، فمنهم من رأى أنها لنداء (المتوسط) وهو منقول عن ابن برهان. وإليه ذهب ابن أبي الربيع وبعض تلامذته.
ومنهم من جعلها لـ (القريب) كالهمزة اعتبارًا بكون الصوت بها قصيرا، وإليه مال الجوهري في تفسير هذه الأداة، وهو رأى الجزولي في كراسته،
ونقله ابن مالك في "الشرح" عن المبرد، ولم أر مذهبه في كتابه "المقتضب" إلا كمذهب سيبويه والجمهور، فانظر من أين نقله؟ ! ، و (أ) مما نقله المصنف عن الكوفيين، واعتمد عليه، لأن الثقات رووه عن العرب، ورواية العدل مقبولة.
وحُكي ذلك أيضا عن الأخفش، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر".
و(أيا) منقولة مشهورة، و (هيا) كذلك، وكأنها في الأصل (أيا) فابدلت همزته هاًء، كما قالوا في (أراق): هراق، وفي (إياك): هياك، ونحو ذلك.
وعلى هذا لم يكن ينبغي أن يعدها في جملة الحروف لأن ذلك تكرار، غير أنه ربما وقف مع ظاهر الأمر، من عدم إربدال، وساعده عليه قاعدة التصريف أنه لا يدخل في الحروف ولا ما أشبهها، كما قال:
* حرف وشبهه من الصرف برى *
فوقف مع الأصل، وعد (هيا) وضعًا آخر؛ إذ لم يقم عليه دليل على الإبدال، وهو ظاهر.
فإذا تقرر هذا، فمثال (يا) يا أيها الرجل، يا أيها الناس.
ومثال (أي) موجود في الأحاديث "أي رب" وأنشد الزجاجي قول الشاعر:
* ألم تسمعي أي عبد في رونق الضحى *
ومثال (آ) / قولك: آزيد، ولم أجد فيه سماعا.
ومثال (أيا):
* أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ *
ومثال (هيا) ما أنشده ابن جني من قول الشاعر:
فأصاخ يرجو أن يكون حيًا
…
ويقول من طربٍ: هيا ربا
وقال ابن الطثرية:
هيا رب سق لي من هواها منيتي
…
بحولك يدخل حبها معي القبرا
وأما الذي قال الناظم فيه إنه (كالنائي) وليس به في الحقيقة، فهو الذي يعبر النحاة عنه بالبعيد حكمًا، وهو الذي يكون قريبا، لكنه يعامل معاملة البعيد، لأمرٍ يقتضى ذلك. وذكر سيبويه لذلك أسبابا ثلاثة:
أحدها: أن يكون المنادى معرضًا عنك، بحيث ترى أنه لا يقبل عليك إلا بالاجتهاد في النداء، ويدخل ها هنا العاقل، فتقول: يا زيد، وأيا زيد، وهو بحضرتك، إلا أنه مشغول عنك بأمرٍ استغرق باله عن إجابتك سريعًا، أو غافل عنك وعن ندائك إياه.
والثاني: أن يكون نائمًا مستثقلاً، بحيث لا يجيب إلا بالاجتهاد في النداء ومد الصوت، فتفعل ذلك، فتقول: يا رجل، ويا نائم، رجاء أن يستيقظ فتخاطبه.
والثالث: قصد التوكيد، وذلك أن يكون المنادى مقبلاً عليك، قريبًا منك، لكنك أكدت نداءه لأمرٍ عراك، فناديته نداء البعيد، فقلت: يا زيد، يا أخي، ليستبق إلى إجابتك.
فهذه المواضع مما عومل فيها القريب معاملة البعيد.
ثم أتى الناظم بالقسم الثاني وهو الداني، أي (القريب) وأتى له بأداة واحدة وهي الهمزة، فقال:"للداني" يعني الذي ينادى به الداني، فتقول: أزيد افعل.
* أحار بن عمروٍ كأني خمر *
* أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل *
ولم يقل هنا: أو كالداني، كما قال في القسم الأول:"أو كالنائي" لأن هذا الاعتبار معدوم في نداء (القريب) بالهمزة، فإن العرب لا تنادي (البعيد) نداء القريب، كما تنادى القريب نداء البعيد.
قال سيبويه: وقد يستعملون هذه التي للمد - يعني أدوات البعيد - في موضع الألف - يعني للقريب - ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها.
ثم قال: (ووالمن ندب أويا) يعني أن (وا) تستعمل في نداء (المندوب) وهو المذكور توجعًا منه أو تفجعًا عليه، بلفظ يدل على المعنى دلالًة منبهة على عذر النادب في ندبته نحو: وا من حفر بئر زمزماه.
وكذلك (يا) المتقدمة الذكر، تستعمل للمندوب أيضا كقول جرير:
* وقمت فيه بأمر الله يا عمرا *
وما أشبه ذلك.
فإن قيل: إن (وا) يعدها النحويون في قسم ما ينادى به البعيد، لكنه بعد حكمي، والناظم أخرجها عن كلا القسمين، فكان حقه أن يعدها مع أخواتها.
فالجواب: أن حقيقة (وا) في المندوب ليست على النداء بها، وإنما أتى بها أداًة لمد الصوت بذكر المندوب لا لينادى؛ إذ كان النداء تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه، وهذا المعنى في الميت مفقود، لكن لما كان للمندوب أحكام كأحكام المنادى، وأداة تشبه أداة النداء، أتى النحويون به في "باب النداء" لذلك.
فالوجه ما فعل الناظم من / فصله بين الأدوات تنبيهًا على فصل المعاني، فكأنه جعل الأدوات ثلاثة أقسام: للمنادى البعيد قسم، وللقريب قسم، ولمن لا يقصد بالنداء، ولكن يصوت بذكره تفجعًا وتوجعًا، قسم.
ثم إن (يا) لما كانت للنداء حقيقًة، ووقعت في الندبة، وكانت في بعض المواضع مما يقع بها اللبس بين المنادى والمندوب، فلا يدري المصوت به بـ (يا) هل هو منادًى أو مندوب - تحرز من ذلك، فأخرج (يا) من باب الندبة حيث يقع اللبس فقال:"وغير والدي اللبس اجتنب"
وغير (وا) هي (يا) إذ لم يذكر مع (وا): أيا، فيريد أنك تجتنب (يا) في الندبة إذا وقع بها اللبس، وتقتصر على (وا) فهي المختصة ببابها.
فإذا قلت: وامن حفر بئر زمزماه - فجائًز هنا أن تأتي بـ (يا) فتقول: يا من حفر بئر زمزماه، لأنه معلوم كونه مندوبًا، بما لحقه آخرًا
من مدة الندبة، فلا يختلط بالمنادى إذا لحقت؛ إذ لا تلحق المنادى مدة الندبة، وإذا ندبت ولم تلحق فقد يكون المندوب معلومًا، فلا يلتبس بغيره، كما لو قال قائل عند موت عبد المطلب: يا من حفر بئر زمزم، فهذا الوصف مختص به، فلا يفهم من الكلام إلا الندبة، بخلاف ما إذا قلت: يا زيد، وأمامك من اسمه زيد، فلا يتعين مقصودك بـ (يا) أهو نداء زيدٍ أم ندبة من أردت ندبته، ففي مثل هذا الموضع لابد من الإتيان بـ (وا) فتقول: وازيد، إعلامًا أن المراد الندبة لا نداء من أمامك، وكذلك إذا وصلت كلامك، فقلت: وازيد الفاضل، على رأى سيبويه لا تلحق هنا (يا) للبس، فإن تعين بقرينة أنك تندب جاز لحاق (يا) في موضع (وا) وكذلك ما أشبهه.
وقوله: (وغيروا) منصوب بـ (اجتنب) وهو واقع على (يا)
ثم لما استوفى ذكر الأدوات أخذ في ذكر ما يعرض لها من الحذف ومواضع الحذف فقال:
وغير مندوبٍ ومضمرٍ وما
…
جامستغاثا قد يعرى فاعلما
وذاك في اسم الجنس والمشار له
…
قل ومن يمنعه فانصر عاذله
فالذي بين على الجملة أمران:
أحدهما: أن حرف النداء قد يحذف مع بقاء معناه مرادًا، لأن المحذوف معلوم.
فقوله: "وغير مندوبٍ" وكذا وكذا "قد يعرى" يعني من حرف النداء، وحذف المجرور لفهم معناه، لتقدم ما يدل عليه.
والثاني: حصر المواضع التي يجوز فيها الحذف، والتي لا يجوز فيها.
وجعل مواضع منع الحذف على قسمين:
قسم يمنع فيه باتفاق، وقسم يمنع فيه باختلاف، أعني في القياس.
فأما ما يمنع فيه الحذف باتفاق فثلاثة مواضع:
أحدها: المندوب، نحو: وازيداه، ويا عمراه، وإنما امتنع الحذف هنا لأن المقصود مد الصوت، والتصريح بالبكاء، والتفجع والإعلام بذلك، ولذلك لحقته الزيادة آخرًا مبالغًة في التصويت، فصار حرف النداء كالترنم / المقصود، فلو حذف الحرف هنا لكان فيه نقض الغرض، وهو ممنوع.
والثاني: المضمر، وللمضمر، في كلامه وجهان:
أحدهما: لفظه إذا كان هو المنادى، نحو قول الأحوص اليربوعي حين وفد مع أبيه على معاوية رضي الله عنه فخطب، فوثب أبوه ليخطب، فكفه وقال: يا إياك، لقد كفيتك، وقول الآخر:
يا أبجر بن أبجرٍ يا أنتا
…
أنت الذي طلقت عام جعتا
وإنما لزمت (يا) هنا لأنها إذا حذفت لم يبق عليها دليل؛ إذ لو قلت في (يا إياك قد كفيتك): إياك قد كفيتك - لم يكن ثم دليل على أنه منادى.
والقاعدة أن الشيء لا يحذف إلا إذا دل عليه الدليل.
وفي ذكر الناظم هنا للمضمر دليل على جواز ندائه، إلا أنه لم يبين: هل يؤتى فيه بضمير النصب أو بضمير الرفع، والقياس عند المؤلف الإتيان بضمير النصب، لأنه موضع نصب بالفعل الذي نابت عنه (يا) وهو (أنادى) فوضع ضمير الرفع موضعه شاذ، فلا يقاس عليه.
والوجه الثاني: للمضمر أن يكون بمعنى المحذوف، وهو ما كان من المنادى محذوفا، وذلك بعد الأمر والدعاء ونحوهما، فإنه يجوز حذف المنادى هنالك قياسا.
فبعد الأمر كقراءة الكسائي: } ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات {الآية، قالوا: أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وقال الراجز:
* يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي *
وقال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى
…
ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وفي الدعاء، كقول الشاعر، أنشده سيبويه:
يا لعنة الله والأقوام كلهم
…
والصالحين على سمعان من جار
وأنشد ابن جني وغيره:
* يا لعن الله بني السعلات *
وفي التعجب، كقول امرئ القيس:
* فيا عجبًا من رحلها المتحمل *
وهذا كثير.
فهذا النوع لا يجوز فيه حذف الحرف، لأن في بقائه دليلاً على المحذوف، فلو حذف الحرف مع المنادى لم يبق ما يدل على المحذوف، فلم يجز ذلك.
والموضع الثالث: المستغاث، نحو: يا لزيدٍ، ويا لله للمسلمين، وإنما لم يجز الحذف هنا لما يؤدي إليه من نقض الغرض؛ إذ كان القصد في (الاستغاثة)
مد الصوت، لأنه موضع تأكيدٍ واجتهادٍ في الاستصراخ والتصويت، لأنه المستغاث عندهم كالبعيد أو كالغافل، فالحذف نقيض هذا، فمنعوه، وعلى هذا المواضع نبه بقوله:"وغير مندوبٍ ومضمرٍ وما جامستغاثًا قد يعرى"
وقصر لفظ "جاء" على قول من قال: جايجي، وسا يسو، وهو قليل، أداه إليه الاضطرار الشعري.
وإذا تعين له ما يمنع فيه حذف حرف النداء مطلقا - دل على أن ما عدا ذلك يجوز فيه الحذف، وهو الذي قال:"وغير كذا قد يعرى" تقول: زيد افعل كذا، وفي القرآن: } يوسف أعرض عن هذا {، } رب احكم بالحق {.
} ربنا اغفر لنا {.} سنفرغ لكم أيه الثقلان {، وما أشبه ذلك.
ووجه الحذف ظاهر، وهو العلم بالمحذوف، مع كون المنادى - وإن بعد - قد جعل بمنزلة من هو بالحضرة، مقبل على من يناديه، لا شاغل له عنه، فكان ترك التصويت به تركًا لما ينوب منابه، وهو القصد والإقبال، لأنه كافٍ بالنسبة إلى المقبل الحاضر. وعلى العمل على الحصر الذي ذكر يعترض بأمرين:
أحدهما: أن (التعجب) الجاري مجرى (الاستغاثة) حكمه في امتناع الحذف حكم الاستغاثة، فالمتعجب منه لا يحذف معه الحرف، كما لا يحذف مع المستغاث، فتقول: يا للعجب، ويا للماء، ويا للفليقة، كما سيأتي إن شاء الله - ولا يحذف الحرف لأنه نقض الغرض - كما تقدم - في الاستغاثة، وحصره يقتضى جواز الحذف هنا، وهو غير صحيح.
والثاني: أن لفظ (الله) إذا نودى لا يحذف الحرف معه، فتقول: يا ألله، ولا تقول: الله، فإن العرب التزمت فيه الإتيان بالحرف، وكلام الناظم لا يقتضي ذلك البتة.
وأمر ثالث، وهو أن ما حكم له من المناديات بحكم الغافل المتراخي، الذي يجتهد في التصويت به والقصد إليه، لا يحذف منه حرف النداء، ولذلك ينادى نداء البعيد وهو قريب، فإذا كان كذلك - وكان قصد الحذف أن المنادى معدود في عداد الحاضر المصغي إليك - كان الجمع بين الحذف والحكم للمنادى بحكم المتراخي الغافل جمعًا بين المتنافيين، وهذا الوجه مفهوم من كلام سيبويه في تعليل المنع في المستغاث والمتعجب منه.
(قال: وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخٍ أو غافل، والتعجب كذلك ويدخل هنا المستغاث والمتعجب منه) والمندوب.
فكان الأولى به أن يتمم هذا الموضع ليرتفع الإشكال، ويزول الإبهام، وقد تحرز في كتاب "التسهيل" فأخرج اسم (الله) والمتعجب منه، ولم يذكر هذا الوجه الثالث.
والجواب عن الأول: أن التعجب جارٍ مجرى الاستغاثة في أحكامه، ومعناه يجامع معناه، فكأنه سكت عنه لدخوله تحته، أو لقياسه عليه عند الناظر.
وعن الثاني: أن لفظ (الله) ليس بجارٍ على القياس في أحكام كثيرة، منها هذا، بل له خواص في كلام العرب لا ينتظمها أصل، عدت نحوًا من خمس عشرة خاصة، فلا ينبغي أن يعترض به، لأنه معدود في جملة المسموعات بحسبها، فلا ضرر عليه في ترك ذكره.
وأما الثالث: فلم يذكره غيره في معرض التأصيل، كما ذكر المستغاث والمندوب وغيرهما، لأنه أشد تعلقًا بعلم المعاني والبيان منه بعلم النحو، وكثيرا ما يخير النحويون بين أمرين أو أكثر لا يخير البيانيون بينها؛ بل يوجبون أوجه التخيير، كل وجهٍ في سياقٍ يختص فيه، لا يدخل فيه الآخر.
ولقد أدخل المتأخرون، ومنهم ابن مالك، في النحو أشياء، علم البيان أخص بالنظر فيها من علم النحو، وقد مر منها أشياء نبه على بعضها، وكان الأولى أن لا يفعل ذلك، فإذا كان الأمر كذلك، وكان الوجه الثالث من هذا القبيل، لم يتمكن الاعتراض به، والله أعلم.
والقسم الثاني: من قسمي مواضع منع الحذف ما فيه / اختلاف وهو ضربان:
أحدهما: اسم الجنس، والثاني: اسم الإشارة، وكلاهما يجوز عند الناظم فيه الحذف، لكن قليلاً، وهو قوله:"وذاك في اسم الجنس والمشار له قل" الإشارة بـ (ذاك) إلى التعري المفهوم من قوله: "قد يعرى" كأنه قال: والتعري في كذا قل، وهو كقوله تعالى: } وإن تشكروا يرضه لكم {أي يرض الشكر لكم.
فأما اسم الجنس: فهو قليل كما قال، نحو: رجل افعل كذا، تريد:
يا رجل، وفي الحديث "اشتدي أزمة تتفرجي" وفي الحديث الآخر حكايًة عن موسى عليه السلام:"ثوبي حجر" يريد: يا أزمة، ويا حجر.
ومن كلام العرب في مثل: "افتد مخنوق" و "أطرق كرا"
يقال للكرى إذا صيد: أطرق كرا أطرق كرا، إن النعام في القرى. وقالوا:"أصبح ليل"، قال بشر:
فبات يقول أصبح ليل حتى
…
تجلى عن صريمته الظلام
وأنشد سيبويه للعجاج:
* جارى لا تستنكري عذيري *
أراد: يا جارية.
وأما في اسم الإشارة فقال ذو الرمة:
إذا هملت عيني لها قال صاحبي
…
بمثلك هذا فتنة وغرام
أراد: بمثلك يا هذا، وأنشد المؤلف قول الشاعر:
ذي دعي اللوم في العطا
…
ء فإن اللوم يعرى الكرام بالإجزال
يريد: يا ذي دعى اللوم، وأنشد أيضا:
لا يغرنكم أولاء من القو
…
م جنوح للسلم فهو خداع
وأيضا فاسم الإشارة يشبه العلم في كونه معرفًة مفردًا غير مضاف ولا شبيهٍ به، فكما يجوز أن يقال: زيد أقبل، كذلك يقال: هذا أقبل.
هذا كله مما يسوغ جريان القياس، وجواز الحذف مع هذين النوعين، لكنه قليل، فلذلك قال:"وذاك في اسم الجنس والمشار له قل"
وقد تقدم أن القلة في كلامه تشعر عنده بجريان القياس على ضعف، ثم نبه على الخلاف وترجيح الجواز بقوله:"ومن يمنعه فانصر عاذله" الضمير في "يمنعه" عائد على (التعرى) المفهوم من "يعرى" وفي "عاذله" عائد على "من" والعاذل: اللائم، يقال: عذلته أعذله عذلاً، بالتسكين، والاسم: العذل بالتحريك.
يريد أن من النحويين من منع حذف حرف النداء من اسم الجنس والمشار له، وهو حقيق بأن يعذل ويلام على منعه، وينصر من يعذله والخلاف منقول بين البصريين والكوفيين، فرأى البصريين منع القياس في هذين النوعين، ورأى الكوفيين الجواز، وإليه صغو الناظم لقوله:"ومن يمنعه فانصر عا ذله" وقد تقدم ما احتج به الكوفيون.
إلا أن الناظم فارق الكوفيين بوجهٍ ما، لأنهم يجيزون الحذف مطلقا، وهو إنما أجازه على قلة اعتبارًا بقلة السماع كما تقدم، وجنوحًا إلى عبارة سيبويه في ذلك، إذ قال على ما ثبت في النسخة الشرقية: وقد تحذف (يا) من النكرة في الكلام ضعيفًا، ثم أتى بالشواهد. ثم قال: وليس هذا بكثيرٍ ولا قوي.
وعادة الناظم في كثير من المواضع أن يعتمد على استقراء نفسه من غير / تقليدٍ لغيره، لأنه نصب نفسه منصب الاجتهاد المطلق.
وقد استدل من منع الحذف هنا أو استضعفه بأن حرف النداء صار مع (الرجل) و (هذا) كأنه بدل من (أي) حين لم تذكرها معهما، لأن (أيًا) في النداء لا توصف إلا بما فيه الألف واللام، أو باسم الإشارة، وذلك لازم في (أي) إذا قلت: يا أيها الرجل، ويا أيهذا، فلما لزمتها على هذا الحال ثم استغنى عنها بتعريف القصد والإشارة، وكان المعنى واحدا - صارت (يا) كأنها عوض من (أي) هذا معنى تعليل سيبويه على ما فهمه ابن خروف.
وهو يدل على أنه تعليل السماع، ألا ترى أنه لم يجعله، أعنى حرف النداء، بدلاً من (أي) إلا بعد الاستقراء، إن الأمر كذلك، وأن لا مخالف له ولا معارض.
وابن مالك يقول: إن المعارض القياسي قد ثبت، فلا يعتد بذلك التعليل في منع الحذف.
ووجه السيرافي المنع بأن (الرجل) كان تعريفه بالألف واللام، فلا يجوز حذف ما كان يتعرف به وتبقيته على التعريف إلا بعوض.
وأيضاً: فما فيه الألف واللام يتعرف بالعهد، فإذا أردنا تعريفه بالإشارة نقدم قبله مبهمًا، ويصير ما فيه الألف واللام صفًة له، حتى يختلط به، ويصير للإشارة، كهذا الرجل، و (يا أيها الرجل) من هذا.
فإذا قلنا: يا رجل، فقد جعلناه مكان (يا أيها الرجل) فلا يحسن حذف حرف النداء مع حذف (أيها) والألف واللام، فيكون إجحافًا.
هذا ما قال في اسم الجنس، وهو مبني على أن السماع كذلك كما تقدم، فلا حجة فيه.
وأما (هذا أقبل) فإنما قبح الحذف معه، لأن الإشارة إنما تقع للمخاطب إلى غير المخاطب [فإذا ناديت بالإشارة إلى المخاطب في النداء فلابد من (يا) ليعلم المخاطب] أنك تشير إليه وأيضا فقال المازني: إن (هذا) اسم تشير به إلى غير المخاطب، فإذا ناديته ذهبت منه تلك الإشارة، فعوض من ذلك التنبيه، وهذا أيضا فيه نظر.
أما الأول فيقال: هذا لازم في العلم، لأنه موضوع على الغيبة، فإذا ناديته فقد أقمته في مقام الحضور، فلابد من (يا) ليعلم السامع أنك تناديه، ولما لم يلتزموا ذلك في العلم مع وجود مثل ما في اسم الإشارة - دل على أنهم لم يعتبروا ما قال.
وأما قول المازني فرده ابن خروف بأنه يلزم مثله في الأعلام، لأنها قد انقلبت إلى حكم الحضرة، كما انقلب اسم الإشارة عنها إلى حكم الحضرة، ودخلها من المعنى ما لم يكن فيها قبل، فينبغي أن يلزمها (يا).
قال: وكذلك علته في (الرجل) - قال: ما كان أصله أن يعرف في النداء بالألف واللام، وهو معرفة، عوض منها لزوم التنبيه - فاسد أيضا، لأن لزوم التنبيه ليس بالحرف، وقد حذف الحرف وبقي القصد ولزوم التنبيه.
وبقي النظر في قوله: "ومن يمنعه فانصر عاذله" ما هذا المنع؟
وعلى ماذا يتوجه؟
وهو يحتمل أمرين من جهة اللفظ:
أحدهما: أن يكون متوجها على ما جاء من حذف الحرف هنا في النوعين، فكأنه / يقول: من أنكر ثبوت الحذف هنا قليلا فانصر عاذله، وهذا الوجه أشار إليه ابن الناظم في "شرحه" فإن كان قد وقف على إنكار منكر لذلك، فله وجه، ويكون الناظم قد اعتني بالتنكيت على المنكر للسماع خاصة، فهذا ممكن إلا أنه بعيد من جهتين:
الأولى: كونه ترك التنبيه على الخلاف الشهير بين الكوفيين والبصريين، ونبه على منكرٍ لسماعٍ لا ينبني عليه حكم، فلا يكون في ذلك كبير فائدة.
والثانية: إنكار ذلك السماع بعيد الثبوت، وقد نقله سيبويه والثقات الأثبات.
والثاني: أن يتوجه المنع على قبول القياس على ما سمع من ذلك وإن كان قليلا، وهذا هو الظاهر والموافق للمنقول، والحرى بالقبول، والمانع هنا أهل البصرة كما تقدم، ولم يمنعوا المسموع ولا أنكروه فيما علمت، والله أعلم.
وابن المعرف المنادى المفردا
…
على الذي في رفعه قد عهدا
تكلم هنا على ما يكون من المنادى مبنيًا، وما يكون منه معربا، وابتدأ بالذي حكمه البناء.
ويعني أن المنادى إذا اجتمع فيه وصفان فحقه البناء:
أحدهما: أن يكون معرفا، والتعريف هنا على إطلاقه في تعريف القصد وغيره.
فإنك إذا قلت: يا رجل، ويا قائم، فالمنادى هنا صار معرفة بالقصد، وإن كان نكرة في الأصل، لأنه مقبل عليه بالنداء، مقصود، فصار كـ (زيد) في الاختصاص، وكذلك إذا قلت: يا زيد، ويا خالد.
فبين أن هذا معرف، إما بما كان عليه من العلمية قبل النداء على رأي، وإما بالقصد إليه على رأى. وأيًا ما كان فالتعريف حاصل فيه.
واحترز بذلك من المنادى المذكور الذي يذكره بعد، فإنه لا ينبني؛ بل يعرب نصبًا.
والثاني: أن يكون مفردا، كزيدٍ وعمروٍ ورجلٍ، وشبه ذلك.
والمفرد هنا أطلقه في مقابلة المضاف، وما أشبه المضاف، نحو: يا غلام زيدٍ، ويا ضاربًا زيدًا، فإن ما كان من هذا الباب يعرب نصبًا حسبما يذكره.
وليس المفرد في مقابلة المركب أيضا [فإن المركب] تركيب مزج حكمه حكم المفرد، فتقول إذا سميت ببعلبك ورامهرمز يا بعلبك، ويا رامهرمز، هكذا مبنيًا على الضم ولابد.
زلا في مقابلة المثنى والمجموع جمع سلامة أو جمع تكسير، فإنهما على حكم البناء أيضا، فتقول: يا زيدان، ويا زيدون، ويا هندات، ويا رجال،
فإن قلت: من أين يفهم هذا، وهو إنما أراد قيد الإفراد، وهو يطلق في مقابلة المركب، وفي مقابلة المثنى والمجموع، كما يطلق أيضا في مقابلة المضاف والشبيه به، كما تقدم في باب (لا)؟
فالجواب: أن كلامه على أثر هذا يبين ذلك، لأنه أتى في "قسم المعرب" بما يظهر / أنها أضداد لما قيد هنا، فقال:"والمفرد المنكور والمضاف وشبهه انصب" فالمنكور في مقابلة المعرف المذكور، والمضاف وشبهه في مقابلة المفرد المتقدم، فلا يقع له إشكال في أن المقصود ما ذكر.
وأما المركب تركيب إسناد فحكمه الحكاية حسبما تقرر في بابه.
وينبغي أن يكون "المنادى" في كلامه بدلا من "المعرف" لا نعتًا له، إذ المقصود تقييد "المنادى" بالقيدين، وهما الإفراد والتعريف، لا تقييد "المعرف" بالنداء والإفراد. فالأصل أن لو قال: وابن المنادى إذا كان معرفا مفرداً.
وأما أن يقصد تقييد المعرف بكونه منادى مفردا فبعيد، ويصير قيد النداء حشوًا، لأنه فيه تكلم، وبأحكامه أتى، فلو قال عوض ذلك:
وابن المنادى المفرد المعرفا
…
على الذي في رفعه قد عرفا
- لكان أبين في المقصود، وكأنه من باب تقديم النعت على أن يعرب بدلاً، نص على ذلك في "التسهيل" واستشهد عليه بقول الله تعالى} إلى صراط العزيز الحميد الله {على قراءة الخفض، وذلك بشرط صحة ولاية النعت العامل، والشرط حاصل هنا. ثم بين على ماذا يبني فقال:"على الذي في رفعه قد عهدا" يعني أن بناءه بعد النداء على ما كان يعرب به قبل النداء، من حركةٍ أو حرف إن كان معربا.
ولا يريد أن نفس الحرف أو الحركة التي كان يعرب بها هي بعينها التي يبني عليها، لأن حركات الإعراب غير حركات البناء في الحكم، وإن تماثلت في الصورة فهي متضادة في الحكم، كما تقدم في بابه.
وكذلك الحروف يعرب بها غير التي يبني عليها وإن تماثلت في الصورة.
فإنما معنى قوله: "على الذي رفعه قد عهدا" أي على ما يشبه ذلك، لكن لما كانت حركات الإعراب والبناء وحروفهما على لفظ واحد تجوز في العبارة، وهو تقرير اصطلاحي.
والمقصود أنه إن كان المفرد المعرف يرفع قبل النداء بالضمة ينبني في النداء على الضم، وإن كان يرفع بالألف بني على مثل ذلك، أو بالواو فكذلك، فتقول: يا زيد، ويا رجل، فيما يظهر إعرابه وبناؤه، ويا قاضي، ويا داعي، ويا فتى، إن كان ذلك تعذر.
كل هذا يشمله قوله: "على الذي في رفعه قد عهدا" لأن المعهود في (رجل) الضمة الظاهرة وفي (قاضي، وفتى) الضمة المقدرة، وكذلك تقول: يا زيدان، ويا عمران، ويا رجلان، ويزيدون ويا خالدون، وما أشبه ذلك.
وهذا هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين، وذهب بعض المتأخرين إلى أن (يا زيدان، ويا زيدون) معربان لا مبنيان، وكأنه على منهاج من قال من الكوفيين، وهو الكسائي، في المفرد المعرف في النداء: إنه مرفوع بغير تنوين.
ويجري هنا الخلاف المتقدم في اسم (لا) المفرد. والخلاف في كونه معربًا أو مبنيًا شهيد، وقد تقدم القول فيه. ويجرى ذلك هنا.
وأيضا لو كان معربا بإعراب الظاهر لم يكن له موضع من الإعراب كسائر ما يظهر فيه الإعراب، إذ ليس له ما يطلب باللفظ والموضع معا، وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجري تابعه على الموضع، فلا يقال: يا زيدان العاقلان والعاقلين، ولا يا زيد العاقل / والعاقل، ولا ما أشبه ذلك، ولما كان ذلك جائزًا دل على أن ما في اللفظ ليس بإعراب.
قال الكسائي: وجدت النداء لا معرب له يصحبه، من ناصبٍ ورافع وخافض، ووجدته مفعول المعنى، فلم أخفضه فيشبه المضاف، ولم أنصبه فيشبه ما لا ينصرف، ويحتمل وجهين، فرفعته بغير تنوين، ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيحٍ فرق.
وهذا كله عند البصريين غير صحيح، وقد رد عليه ابن الأنباري والسيرافي وغيرهما بما يطول ذكره.
وهذا كله في قسم المعرب قبل النداء، ودل على ذلك تقسيمه، وقوله:"على الذي في رفعه قد عهدا"
وأما ما كان قبل النداء مبنيًا فهو الذي يذكره في قوله:
وانوا انضمام ما بنوا قبل الندا
…
وليجر مجرى ذي بناءٍ جددا
يعني أن ما كان من المناديات مبنيًا قبل النداء فالحكم فيه أن تنوي في آخره الضمة، نحو: يا هؤلاء، ويا من فعل كذا، ويا سيبويه، يا رقاش، ويا أنت، ويا إياك، وما أشبه ذلك.
وإنما عين الضم دون غيره لأنه لا يمكن فيه إلا تقدير الضم؛ إذ لا يثنى المبنى ولا يجمع، فيبنى على الألف أو الواو.
فإن قلت: فأنت تقول: يا هذان؟
فالجواب: أنه عنده معرب لا مبنى، وقد تقدم ذلك في باب الإشارة والموصول فلأجل هذا عين فيه تقدير الضم.
وأيضًا، لو كان معربًا لم يعرب إلا بالضمة، فلم يكن ليبنى إلا عليها، وضمير "بنوا" للعرب، وإنما عين تقدير الضم دون ظهوره، لأن آخره قد استحقته حركة البناء الأول أو سكونه، فلم يكن لينسخ بهذا البناء الطارئ.
فإذا قلت: يا هؤلاء، لم يبق لفظه على الكسرة السابقة، وكذلك: يا هذا، ويا من فعل كذا، لا يبنى إلا على السكون، وكذلك جميع الباب.
فإن قلت: ثبت في "الأصول" أن الحكم للطارئ، ألا ترى أنك إذا نسبت إلى (أمية أو جهينة) قلت: أموي، وجهني، فاعتبرت الطارئ وهو النسب، فلم تحفل بكسر بنية التصغير المتقدمة.
وإذا صغرت (عصوى) المنسوب إلى (عصًا) قلت: عصيي، فلم تعتبر ما فعلت في (أموي) فكنت تقول: عصوي؛ بل اعتبرت الطارئ وحده.
وهي قاعدة نبه عليها ابن جنى، وهي أصولية كلية، فكان الوجه هنا أن يبنى على الضمة، وهو البناء الطارئ، ويهمل اعتبار ما قبل، كما أهملوا ما تقدم، وكما أهملوا في الأسماء المعربة أصل التمكن، فبنوها وإن كان التمكن باقيًا.
فالجواب: أن القاعدة صحيحة في نفسها، وما فعلوا هنا صحيح لا يخل بها، وذلك أن الحكم الطارئ إذا ورد على السابق، فتزاحما على محل واحد، فلم يمكن الجمع بينهما على وجهٍ لا يخل أحدهما بالآخر في شيء - فلا بد من
نسخ الحكم / المتقدم، لكن على وجهٍ لا يخل به المتأخر جملة، لأنه مطلوب أيضا كالطارئ وذلك كمسألة "التصغير" مع "النسب" لما كان كل واحد منهما يطلب ببنيةٍ مخصوصة، وحكمٍ مخصوص، ولم يمكن اعتبارهما معًا فيه، لأن ياء النسب تطلب في (أميي، وعصيي) بتخفيف إحدى الياءين، وقلب الأخرى واوًا، وبنية التصغير [تطلب بإثباتها، وعدم قلب الأخرى - تضادًا فلم يكن بد من اعتبار الطارئ بحيث لا يخل بالمتقدم، فاعتبروا ياء النسب في: أموي، وبنية التصغير] في: عصي، فحذفوا هناك إحدى الياءين، وقلبوا الأخرى ولم يحذفوا ههنا لالتباسه بالنسب إلى (عصية)
وكذلك كل مسألة حكم فيها للطارئ لابد أن تجتمع مع هذه المسألة في هذا المعنى.
وأما إذا كان كل واحد من الحكمين له وجه يجري عليه دون إخلال بالحكم الأول فلا ينصرف إلا غليه كمسألتنا، فإن الحركة قد يؤتى بها ظاهرة وهو الأصل، ومقدرة حيث لا يزاحمها حركة أخرى، كالقاضي، والفتى، وقاضي ونحوها، فما ظنك إذا زاحمها حركة أخرى، كـ (من زيدًا؟ ) و (من زيدٍ؟ ) في باب الحكاية، فلا نكر في ذلك، فإذا أمكن هنا تقدير الحركة الطارئة فهذا أولى.
وأيضًا فشأن حركات الإعراب التساهل فيها، فلذلك يكثر تقديرها، ولاسيما عند شغل المحل بحركة أخرى لازمة، وحركة البناء الطارئ في النداء تشبه حركة الإعراب، ولذلك يعتبر لفظها وموضعها، فدخلت في
حكم حركة الإعراب، وبسط هذا كله في "علم الأصول العربية" وإنما نبهت عليه تبيينًا لمعنى كلام الناظم في تنبيهه على تقدير الضمة، وإشعار كلامه بالتنكيت على حكم القاعدة.
ثم بين فائدة تقدير الضم في المبني قبل النداء بقوله: "وليجر مجرى ذي بناءٍ جددا" يعني أنه يجرى على حكم المبنى في النداء الذي كان قبله معربًا، نحو: يا زيد، ويا رجل، في جميع الأحكام.
وبيان هذه الجملة أن المنادى المبنى على الضم في النداء إذا أتبع فإنه يجوز فيه الحمل على اللفظ وعلى الموضع، حسبما يذكر إن شاء الله.
وإنما جاز الإجراء على اللفظ وإن كان مبنيا لاطراد البناء على الضم في ذلك الموضع، ألا ترى أنك تقول: كل منادًى مفردٍ مبنى على الضم، كما تقول: كل فاعل مرفوع، وكل مفعولٍ به مع ذكر الفاعل منصوب، وإذا كان كذلك فالمجدد البناء يجري فيه هذا الحكم نحو: يا زيد الطويل، والطويل.
وأما المبنى قبل النداء فقد يتوهم أنه لا يجرى ذلك المجري من جهة أن لفظه على غير الضم، فليس له لفظ يجرى عليه التابع، فاحتاج إلى التنبيه على أن المبنى قبل النداء [إذا قدر له الضم يجرى بذلك التقدير على حكم المبنى في النداء المعرب قبله، ولا يمنعه البناء قبل النداء] حكم البناء الحادث الآن، ولا اعتبار حركته، وهذا من باب الحكم للطارئ المذكور آنفا، فقد أحسن الناظم في هذا التنبيه، وقل من ينبه عليه.
وقوله: "مجرى" هو بالضم لأن (يجرى) مبنى من الرباعي من: أجريته مجرى كذا، أي جعلته يجرى مجراه، وعلى حكمه.
وبقي هنا سؤال، وهو أن يقال: في أي نوعٍ من أنواع البناء التي ذكر الناظم / قبل هذا يدخل بناء المنادى؟ وإنما قيل في بنائه: إنه أشبه الصوت كغاق وجوب، أو وقع موقع المضمر، أو أشبه كاف المخاطب، وهذه ليست تشبه الحرف؟
والجواب: أنا إن قلنا: إنه إنما تكلم هنالك على البناء اللازم فلا سؤال، أو قلنا: إنه أشار إلى بعض الموجبات تنبيهًا على البعض الباقي فكذلك. وإن قلنا: حصر موجبات البناء بإطلاق فعلى هذا يرد السؤال.
ويمكن أن يكون مبنيا لشبه الحرف، وهو كاف الخطاب المجردة عن الاسمية في نحو قولك: النجاءك، ورويدك، وأرأيتك، أو حرف الخطاب الذي كان حقه أن يوضع له إن قلنا: إن كاف (لك، رويدك) ونحوه، أصله الاسمية، فإن (يا زيد) مقصود فيه معنى الخطاب، أو تضمن معنى حرف الخطاب الذي كان حقه أن يوضع له حرف، وقد قيل. وهذا كله مما يدخل تحت ما ذكر الناظم.
ولم يبن المنكور والمضاف وشبهه - وإن كان فيه ذلك المعنى - لأن المضاف قد دخل فيه ما يرجح جانب الإعراب، وهو الإضافة المختصة بالأسماء المعربة في الغالب. والذي أشبه المضاف أجرى مجراه.
وأما النكرة فلما لحقها التنوين طالت به، فأشبهت المضاف.
وأيضًا، فإن المنادى جارٍ مجرى (قبل، وبعد) في أنهما يعربان حال إلحاق التنوين والإضافة، ويبنيان إذا لم يكونا فيه، ولذلك أيضا بنى المنادى على الضم كما بنيا عليه.
وقيل: إنه بني على حركةٍ للمزية التي له على ما أصله البناء، كـ (من، وكم) وعلى الضم لأنها حركة لا تكون له إعرابا.
وما قيل في النكرة فيه نظر.
ولما أتم الكلام على قسم المبنى، وحصر أنواعه، عطف بذكر المعرب، وحصر أنواعه أيضا، فقال:
والمفرد المنكور والمضافا
…
وشبهه انصب عادمًا خلافا
يريد أن المنادى إذا كان منكورًا، أو مضافًا، أو شبيهًا بالمضاف - فهو منصوب، ليس له إلا ذاك.
فأما (المنكور) فهو الذي كان قبل النداء نكرة، ولم يكن في النداء مقصودًا قصده، كقول الأعمى: يا رجلاً خذ بيدي.
ومنه ما يقول المذكرون بالكسوف: اليوم اذكروا الله يا غافلين.
ومنه ما أنشده سيبويه من قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي:
فيا راكبًا إما عرضت فبلغًا
…
نداماى من نجران ألا تلاقيا
وأما (المضاف) فيستوي في ذا الحكم ما كان منه معرفةً بالإضافة وما لم يكن كذلك، ولا يبالى بها أكانت محضًة أم غير محضة، وكان المضاف مقصودًا بالنداء أم لا، نحو: يا ضارب زيدٍ، ويا طالع جبلٍ، ويا غلام زيدٍ. ومنه: } ربنا تقبل منا {} يا صاحبي السجن {وهو كثير.
وأما (الذي أشبه المضاف) فالمنادى إذا كان عاملا في غيره نحو: / يا ضاربًا زيدًا، ويا مارًا بزيدٍ، ويا خيرًا من زيدٍ، ويا قائمًا أمس، وما أشبه ذلك من العوامل التي تتعلق بها المعمولات، ومنه: يا حسنًا وجهه، ويا قائمًا أبوه، وكذلك المعطوف والمعطوف عليه مسمى بهما نحو: يا زيدًا وعمرًا، وكذلك يا ثلاثًة وثلاثين، مسمًى به، فإن لم تسم به فقولان، قول الفارسي: إنه مفرد معطوف على مفرد نحو: يا زيد والرجل.
وقيل: إنه جارٍ مجراه في التسمية.
وإنما وجب الإعراب هاهنا للطول بالعطف، فصار كالعامل والمعمول.
فإن قلت: هل يدخل هنا في (شبه المضاف) النعت والمنعوت إذا كان المنعوت مفردا نكرة قبل النداء، نحو: يا حليمًا لا يعجل، ويا جوادًا لا يبخل، ويكون منه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
"يا عظيمًا يرجى لكل عظيمٍ" وأنشد سيبويه لذي الرمة:
أدارًا بحزوى عجت للعين عبرًة
…
فماء الهوى يرفض أو يترقرق
إذ لم يقصد إلا دارًا واحدة، فليس بمنكور، وكذلك ما أنشده أيضا لتوبة بن الحمير:
لعلك يا تيسانزا في مريدةٍ
…
معذب ليلى أن تراني أزورها
وقال الآخر، وينسب إلى الأحوص:
ألا يا نخلًة من ذات عرقٍ
…
عليك ورحمة الله السلام
فهذا كله مما عومل فيه المفرد معاملة المضاف للطول بالصفة، وهو ظاهر من كلام سيبويه.
ويرشح هذا احتياج النكرة إلى الصفة التي تبينها، فقد صارت بذلك معها كالشيء الواحد، على حد (المضاف والمضاف إليه).
فالجواب: أن هذا ممكن، على أن يكون نقل إلى النداء موصوفًا، فبقي على ما كان عليه حين صارت الصفة له كالمعمول للعامل، وكالمعطوف في التسمية، وتعريف القصد لا يقدح في هذا، فإنه إنما ورد على الصفة وموصوفها معا، لا على الموصوف وحده.
فإن قيل: يبقى فيه أمران:
أحدهما: لزوم ذلك في المعرفة بغير النداء الموصوفة نحو: يا زيد الكريم، فكنت تقول على هذا: يا زيدًا الكريم، وذلك لا يجوز. والناظم ليس في كلامه ما يعين اختصاص ذلك بما عرف بالنداء خاصة.
والثاني: إذا سلمنا ذلك، فإن النصب جائز غير واجب؛ بل يجوز أن تقول: يا رجلاً فعل كذا، ويا رجل فعل كذا.
ومن البناء قول الأحوص، أنشده سيبويه:
يا دار حسرها البلى تحسيرا
…
وسفت عليها الريح بعدك مورا
وأنشد أيضا للطرماح:
يا دار أقوت بعد أصرامها
…
عامًا وما يعنيك من عامها
وأنشد أيضا لعمرو بن قنعاس:
ألا يا بيت، بالعلياء بيت
…
ولولا حب أهلك ما أتيت
أفلا ترى إلى البناء مع صلاحية، ما بعد المنادى لأن يجرى صفة، وقد نص في "التسهيل" على هذا المعنى فقال: ويجوز نصب ما وصف من معرف بقصدٍ وإقبال، فأتى بلفظ "يجوز"
وكلام الناظم لا يقتضى / هنا إلا اللزوم، فقد يقال: إن هذين الوجهين مانعان من أن يجرى المنادى الموصوف إذا كان مفردا مجرى المنادى الممطول.
فالظاهر أن ما كان من المنادى منصوبًا، وهو موصوف بصفة النكرة، نكرة نحو ما تقدم من قوله:"أدارًا بحزو" وسائر النظائر، لأنه لو كان معرفة بالقصد والإقبال لكان لا يوصف إلا بالمعرفة.
ألا ترى أنك لا تقول في وصف نحو: (يا رجل) إلا الكريم - بالألف واللام - ولا تقول: يا رجلاً كريمًا، أو كريم.
وقد حكي يونس عن العرب: يا فاسق الخبيث، وأخبر سيبويه: أنه سمعه من العرب الموثوق بهم، أعنى تعريف الوصف، وحمل قوله:"يا دار أقوت" على أن "أقوت" استئناف، لا على الوصف، وكذلك قوله:
* يا دار حسرها البلى تحسيرا *
وسائر النظائر، وعليه رأى الخليل وسيبويه وغيرهما.
والجواب عن الأول: أنه لو سمع في المعرفة لكان ولا مانع منه في القياس، لأن قصدك إلى نداء (زيد العاقل) كقصدك إلى نداء (رجل عاقل) فكما تقول: يا رجلاً عاقلاً، كذلك تقول: يا زيدًا العاقل، ويكون الفرق بينه وبين (يا زيد
العاقل) أنك في هذا وصفت ما كان منادى، وفي مسألتنا وصفت غير منادى، لكنك نقلته إلى النداء موصوفا، فأشبه العامل والمعمول كالنكرة الموصوفة.
فالحاصل أن ما ألزم في السؤال يلتزم. سلمنا أنه لا يكون في المعرفة.
فالفرق عدم السماع، ومن جهة المعنى: أن النكرة أحوج إلى الوصف من المعرفة فكون وصفها معها كالشيء الواحد أتم منه في المعرفة مع صفتها، فافترقا.
والجواب عن الثاني أن النصب على ذلك القصد واجب لا جائز، وذلك لأن النداء تارًة يرد على الموصوف بصفته، وعند ذلك لابد من النصب، كما يرد على العامل مع معموله، والمعطوف مع المعطوف عليه في التسمية، فلا يكون بد من النصب.
وتارة يرد على الاسم غير موصوف، فلابد من البناء، لأن الصفة إنما ترد على المنادى وحده، فهو مفرد مقصود، ثم يرد الوصف على معرفة، فلابد من تعريف الصفة.
وإن لا فإذا وقع بعد المنادى جملة أو مجرور، فهو على تقدير الاستئناف.
فعلى اعتبار القصدين جاء الوجهان، وإنما تدخل المسألة في المنادى الممطول على التقدير الأول ولا خيرة فيه، فصح كلام الناظم بدخول المسألة تحته.
وأما ما رآه في "التسهيل" فعبارته فيه تقتضى أن المنادى معرفة، وهو مع ذلك موصوف بصفة النكرة، فلا يستقيم على ظاهره فهمه.
وما قيل من أن "أدارًا بحزوى" وأشباهه نكرات - فغير مسلم بأنه مشبه بالمعطوف والمعطوف عليه، والعامل والمعمول، وأنت تجعل (يا / طالعًا جبلاً) معرفًة، و (يا رجلاً وامرأًة) مسمًى به معرفة، وإن كان اللفظ لفظ النكرة، فكذلك تجعل (يا رجلاً عاقلاً) بجملته معرفًة، وإن كان اللفظ لفظ النكرة.
فإن قيل: ما الدليل على أنها من المنادى المقصود دون المنكور؟
فالجواب: أن الدليل النقل عن الأئمة أنه كذلك، وأيضا فقوله:
* لعلك يا تيسًا نزا في مريرةٍ *
"التيس" فيه رجل بعينه، وهو زوج ليلى الأخيلية، فإذا ثبت هذا كان دخول المسألة تحت عبارة "شبه المضاف" ظاهرا.
فثبت من كلامه أن المعرب من المناديات ثلاثة أنواع: المنكور المفرد، والمضاف، والشبيه بالمضاف.
والنحويون يعدون من ذلك بحسب الإعراب نوعًا رابعًا، وهو المجرور باللام في "الاستغاثة". وفي "التعجب" الشبيه بها.
وهو غير داخل على الناظم؛ إذ قيد إعرابها بالنصب، وهو مجرور، وسيذكره في موضعه.
وقوله: "عادمًا خلافًا" حال من ضمير "انصب" يريد أن نصب هذه الأنواع الثلاثة اتفاق من النحويين، لا خلاف بينهم في ذلك.
فإن قيل: فما فائدة التنبيه على نفي الخلاف هنا؟
فالجواب: أنه نبه به على خلاف ضعيف في المسألة، لا ينتهض خلافًا، وذلك أن "ثعلبا" أجاز النصب والرفع في المضاف الصالح للألف واللام نحو: يا حسن الوجه، ويا قائم الأب، فيجوز عنده ضم "حسن" و"قائم" لأنه لما كانت إضافته في نية الانفصال كانت كالمعدمة.
قال المؤلف في "الشرح" وأظنه قاس ذلك على رواية الفراء عن بعض العرب: يا مهتم بنا لا تهتم - بضم مهتم - مع أنه شبيه بالمضاف.
ثم أول الحكاية على أن "بنا" يتعلق بـ (لا تهتم) لا بـ (مهتم) وإذا كان كذلك فلابد أن يكون قائلاً أيضا بجواز الضم قياسًا في نحو: يا مهتم بنا لا تهتم.
فالخلاف حاصل في المضاف، والشبيه به، لكنه خلاف شاذ، فكأنه الناظم يقول: هذا المذهب غير مرضى ولا معتد به أن يكون خلافًا، فلا خلاف في الحقيقة، وكذا عادة بعض المصنفين يحكون الوفاق نفيًا للخلاف الضعيف، وابن الحاجب مما يفعل ذلك في مواضع من "مختصره" الفقهي، نبهنا على ذلك بعض شيوخنا، فيكون هذا الموضع من ذلك.
فإن قيل: فثم أيضا خلاف غير ضعيف في المفرد المنكور، وذلك أن المازني يجعل ما جاء من ذلك في السماع مونًا ضرورًة لا قياسًا، والقياس عنده الضم فتقول: يا رجل خذ بيدي، وما أشبه ذلك.
قيل: قد يكون هذا الخلاف عنده ضعيفا لا يعتد به، وأيضًا خلاف المازني في أصل المنكور، وذلك أنه يقول: لا يتصور نداء منادًى غير مقبلٍ عليه؛ بل لابد من القصد إليه، وإذا ثبت القصد إليه صار معرفة به، / فلا يكون فيه إلا الضم في غير ضرورة.
فهو غير قائل بالضم في النكرة إلا بناًء على أنها معرفة، هذا إن ثبت خلاف المازنًي في النقل، وإن لا فيكون الأمر أسهل في طلب الاعتذار، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: "عادمًا خلافا" يرجع إلى توافق السماع، [يريد أن السماع] لم يأت بخلاف ما ذكرت لك من النصب، تنكيتًا على ما رواه الفراء، وما أجازه ثعلب، وهذا الاحتمال ظاهر أيضا.
ولم يتعرض الناظم للناصب ما هو، ولا للمبنى هل هو في موضع نصب أم لا؟
أما هذا الثاني فقد يستشعر من كلامه في التابع، حيث أجاز الحمل على الموضع.
وأما الأول: فالجمهور من البصريين على نصبه بفعل مضمر لازم الإضمار، ومنهم من ذهب إلى أنه منصوب بأداته بالظاهرة، إلا أنهم اختلفوا فيها، فذهب الفارسي في "التذكرة" إلى أن النصب بها، مع أنها حروف، هذا ظاهر كلامه.
وذهب بعض المتأخرين إلى أنها (أسماء أفعال) نصبت ما بعدها، والكلام على ترجيح المذاهب غير لائق بالشرح:
ونحو زيدٍ ضم وافتحن من
…
نحو أزيد بن سعيدٍ لاتهن
والضم إن لم يل الابن علما
…
أويل الابن علم قد حتما
هذه مسألة المنادى إذا وصف بـ (ابنٍ) ما حكمه؟
فأشار إلى أنه إذا اجتمعت للمنادى الموصوف بـ (ابنٍ) خمسة شروط جاز في المنادى وجهان:
أحدهما: بقاؤه على ما كان عليه من الضم الذي استحقه بكونه مفردًا معرفة، سواء أكان غير موصوف أم موصوفًا بغير (ابن) فتقول: يا زيد بن عمروٍ.
والثاني: فتحه إتباعًا لـ (ابنٍ) في فتحه نحو: يا زيد بن عمروٍ، وبهذا الوجه الأخير امتازت هذه المسألة عن غيرها، ولأجله ذكرت.
الشرط الأول: ما نبه عليه تمثيله بقوله: "ونحو زيدٍ" وهو في الحقيقة موضوع المسألة، لأن المضاف والشبيه بالمضاف لا يصح فيه الضم، والمنكور لا يوصف بابن فلان، لعدم تعريفه في الأصل.
والثاني: كون الضم فيه ظاهرا، وذلك ما نبه عليه المثال أيضا، لأن (زيدا) اسم ظهر فيه الضم، ففيه وفي أمثاله يصح هذا الحكم، فلو كان ضمه مقدرا فلا ينوى الفتح فيه.
قال المؤلف: إذ لا فائدة في ذلك، ثم حكي عن الفراء أنه أجاز في قوله تعالى: } يا عيسى بن مريم {الوجهين - الضم والفتح - فإذا اعتبرنا هذا الشرط أخذًا من المثال، وكثيرا ما يعتمد الناظم على الأمثلة، فيترجح مذهبه بما قال في "الشرح": إنه لا فائدة في تقدير الإتباع.
ومن وجهٍ آخر، وهو أن الإتباع أمر لفظي لا يحكمى، ألا ترى أنه تناسب يحصل بإتباع الفتح الفتح بخلاف ما إذا لم يتبع، / فإن الضم والفتح غير متناسبين، وهما ملتقيان أو كالملتقيين. ومن عادتهم تحصيل التناسب اللفظي، وأما التقدير فلا تناسب بينه وبين اللفظ، ولذلك جاء نحو: منتن، و (الحمد لله) و (الحمد لله) بعيرٍ، ونحوه.
فالصواب ما رآه من التقييد بالظهور، وإنما يحسن تقدير الأمور الحكميه، كالإعراب والبناء وغيرهما.
والثالث: أن يكون التابع له (الابن) لا غيره من الأسماء. نبه على هذا مثاله أيضا، فلو كان التابع غير (الابن) لزم في (زيد) الضم خلافًا للكوفيين، حسبما يذكر.
والرابع: أن يقع قبل (الابن) علم يكون واليًا له، وذلك قوله:(إن لم يل الابن علما) وهذا الشرط يحترز به من أمرين:
الأول: ألا يكون ما قبل (الابن) علمًا نحو: يا غلام ابن عمروٍ، ويا فاضل ابن زيدٍ فهذا لابد فيه من الضم حتما، لأنه لم يل (الابن) علمًا، فنص كلامه أن الضم متحتم عند فقد العلمية مما قبل (الابن) يفهم منه أن علمية ما قبله شرط في جواز الوجهين.
والثاني: أن يكون ما قبله علمًا، لكن غير والٍ له؛ بل فصل بشيء آخر بينه وبينه، نحو: يا زيد الفاضل ابن عمروٍ، فلابد من ضم (زيد) بمقتضى قوله:"إن لم يل" وإطلاقه (الولاية) هنا يريد بها أن يكون بعده متصلاً به.
والخامس: أن يقع بعد (الابن) علم أيضا، فإن لم يقع بعده علم فلابد من الضم في المنادى نحو: يا زيد ابن الرجل، ويا عمرو ابن صاحبنا، وما أشبه ذلك.
فإذا اجتمعت الشروط جاز الوجهان كما تقدم.
ومن ذلك ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:
* يا حكم بن المنذر بن الجارود *
وأنشد أيضاً للعجاج:
* يا عمر بن معمرٍ لا منتظر *
ويدخل تحت تحت هذا الشرط ما إذا كان (الابن) بين علمين، كما مثل، أو بين لقبين نحو: يا كرز بن بطة، أو بين علم ولقب نحو: يا زيد بن كزرٍ ويا كرز بن زيدٍ، لأن الألقاب أعلام، وكذلك الكنى كما تقدم له في "باب العلم".
ووجه الفتح الإتباع لحركة نون (ابن) لأن الاسمين لما كثر استعمالهما صارا كالاسم الواحد، فجاز فيهما من الإتباع ما جاز في الاسم الواحد نحو: امرئٍ وابنمٍ، فإنك تتبع في ذلك ما قبل الآخر الآخر، نحو: هذا امرؤ وابنم، ورأيت امرأ وابنمًا، ومررت بامرئ وابنمٍ.
ولأجل أنهما استعملا كثيرا، فصارا كالشيء الواحد، لم يجز هذا الحكم عند ما فصل فاصل.
ولأجل أنهما استعملا كثيرا، والأول علم، والثاني كذلك لم يسغ ذلك مع غير الأعلام إذ توسعوا في الأعلام ما لم يتوسعوا في غيرها، ويدلك على ذلك في الأعلام أنك تقول في غير النداء: هذا زيد بن عمروٍ، فتحذف التنوين، وهذه هند بنت عمروٍ، فيمن صرف (هندًا) فتحذف أيضا.
فإذا قلت: هذا زيد ابن أخينا، لم تحذف التنوين، / وكذلك: هذا غلام ابن زيدٍ، فلا تحذف.
فإن قلت: لم يذكر هنا حكم (بنت) إذا وقع موقع (ابن) مع أن حكمهما واحد، فما المانع من ذكره؟
فالجواب: أن التصرف في (ابن) أكثر، والكلام به أشهر من (بنت) فلم يتعرض له، وعلى أن القياس على (ابن) سائغ فيها على ما تقدم من التعليل، وهو رأى أبي عمرو بن العلاء.
ومعنى قوله: "والضم إن لم يل" .. البيت، أن الضم في المنادى لازم إذا لم يقع (الابن) بين علمين مواليين، فإن وقع كذلك لم يلزم الضم على ما تقدم في البيت قبله.
وقوله: (أويل الابن علم) فعل معطوف على "يل" الأول، داخل تحت حكم الجزم بـ"لم" أي: ولم يل الابن علم، و (حتم) معناه: أوجب.
وقوله في البيت قبله: "ونحو زيد" معمول في المعنى للفعلين بعده، تنازعاه، والمعمل فيه هو الثاني، وهو "افتحن" لأنه بغير ضمير منصوب، و"لاتهن" من: وهن يهن، إذا ضعف، أي لا تضعف عن أمرك، وهو من تمام المثال.
واعلم أن هذا الاشتراط إنما هو في القياس وعلى رأى البصريين، أما في السماع فلا.
فقد قالوا: يا فلان ابن فلان، وليس الاسم واقعا بين علمين، ويا سيد ابن سيد ويا ضل ابن ضل.
وفي تمام الشروط روى الأخفش عن العرب. ضم نون (ابن) فتقول: يا زيد بن عمروٍ، وهو نظير قراءة من قرأ:"الحمد لله" بضم لام (لله).
وأما مخالفة البصريين، فذكر عن الكوفيين أنهم لا يقتصرون في فتح الموصوف على (الابن) بل يقولون: يا زيد الكريم، ودليلهم على ذلك قول الشاعر، وهو جرير:
فما كعب بن مامة وابن سعدي
…
بأجود منك يا عمر الجوادا
رووه بنصب راء (عمر) ومثل هذا شاذ لا يعتد به.
ويرد عليه اعتراض هنا، وهو أنه ترك شرطا معتبرا في الحكم الذي قرر، فإن جواز الوجهين لا يكون إلا إذا أعرب (الابن) صفًة للأول، فحينئذ يحكم له بحكم الإتباع.
وأما إذا كان بدلاً، أو على تقدير نداءٍ آخر - فلا يصح فيه إلا وجه، وهو ضم الأول، وذلك قولك: يا زيد ابن عمروٍ، فـ (ابن عمرو) تعربه بدلا، فلابد من ضم (زيد) لأن البدل هو المقصود بالحكم دون الأول، فلا يتأتى فيه ما يتأتى في الصفة مع الموصوف، وكذلك إن قدرت قبل (الابن) حرف نداء فهو أولى بالانقطاع من الأول وكلامه ليس فيه ما يعطي هذا الشرط، وقد أشار في "التسهيل" إلى هذا الشرط، وهو حقيق بالاشتراط.
والجواب: أنه فرض المسألة سماعية، لأنه قال:"ونحو كذا" ولم يفرضها صناعية، وإذا كان كذلك فالمثال الذي ذكر، وما أشبهه، جائز فيه الوجهان على
الجملة، لأنك إن فرضت (الابن) صفة، فهو ذاك، وإن لا، فأحد الوجهين لازم، فقد حصل جواز الوجهين، إلا أن أحدهما وهو الأصل على ثلاثة تقديرات، والآخر على تقدير / واحد، ولا خلل في عدم تفصيل الأوجه الصناعية. والله أعلم.
واضمم أو انصب ما اضطرارًا نونا
…
مماله استحقاق ضم بينا
أخبر في هذين الشطر أن الشاعر إذا اضطر إلى تنوين المنادى الذي كان مستحًق للبناء على الضم، وهو المفرد المعرفة، جاز له وجهان:
أحدهما: بقاؤه على ضمه، وهو الذي ابتدأ به في قوله:"واضمم" لأن التنوين عارض للضرورة، فلا يعتد به، بل يجعل كالمعدوم، فيبقى على ضمه.
وأيضًا: فيقويه شبه حركة البناء في المنادى بحركة الإعراب.
والثاني: رده إلى أصله من النصب، ولذلك قال:"أو انصب" ولم يقل: أو افتح، كما قال:"واضمم" إشعارا بأن الفتحة إعراب لا بناء.
ووجه ذلك أن البناء إنما كان لشبهه بالمضمر، أو وقوعه موقع (كاف) الخطاب، أو تضمنه معناها.
وعلى كل تقدير فقد ضعف بالتنوين لأنه من خصائص الأسماء كالإضافة، ومقل هذا الاسم الذي لا ينصرف، إذا نون ضرورًة رد إلى
الجر بالكسرة، كقول امرئ القيس:
* ويوم دخلت الخدر خدر عنيزةٍ *
وهذا الوجه أقيس من الأول، إذ لم يبق عربي الاسم على جره بالفتحة حين اضطر إلى صرف ما لا ينصرف [كذلك ينبغي أن يكون المنادى.
وأيضا فإنه بالتنوين أشبه المطول، فكان الوجه فيه النصب، غير أن البقاء على الأصل أكثر في السماع، ولذلك لم يسمع سيبويه النصب حسبما حكي عن نفسه.
وكأن الناظم قدم الضم على النصب إشعارًا بأنه الأولى عنده، واعتمادًا على ترجيح السماع.
والمسألة مختلف في المختار فيها من الوجهين، ولا خلاف في جوازهما.
فالخليل وسيبويه يختاران بقاءه على الضم، لما تقدم من القياس، ولشبهه بالممرفوع الذي لا ينصرف] ولأن السماع عليه، أنشد سيبويه للأحوص
سلام الله يا مطر عليها
…
وليس عليك يا مطر السلام
وقالت بنت النضر بن الحارث، واسمها قتيلة، حين قتل النبي صلى الله عليه وسلم أباها:
أمحمد والضنء ضنء نجيبةٍ
…
في قومها والفحل فحل معرق
وقال لبيد بن أبي ربيعة:
قدموا إذ قيل: قيس قدموا
…
وارفعوا المجد بأطراف الأسل
أراد: يا قيس.
وأما أبو عمرو وأتباعه فيختارون النصب، لما تقدم من القياس، والسماع أيضا، كقول عدى بن ربيعة أو أخيه مهلهل:
ضربت صدرها إلى وقالت
…
يا عديًا لقد وقتك الأواقي
وقال كثير:
ليت التحية كانت لي فأشكرها
…
مكان يا جملاً حييت يا رجل
ويروى "مكان يا جمل" على اختيار الخليل وسيبويه، وقال الآخر:
يا سيدًا ما أنت من سيد
…
موطأٍ الأكناف رحب الذراع
وهنا مسائل ثلاث:
إحداها: أن قوله: "مما له استحقاق ضم" أراد به كل حقه أن يبني، والذي هو كذلك المفرد العلم كما تقدم تمثيله، والنكرة المقصودة المفردة نحو: يا رجل، وعليه بيت كثير، والبيت بعده، فكأنه نبه على أنه لا يستثنى من المبنى على الضم شيء.
وظاهر كلام النحويين كظاهر هذا النظم في تعميم الحكم في العلم وغيره مما يجب بناؤه.
وذهب علماء سبتة، فيما حدثنا شيخنا
الأستاذ - رحمة الله عليه - إلى أن ذلك مختص بالعلم، وعللوا ذلك بأن المعرف بالقصد والإقبال لا ضرورة تلحق فيه، لأنهم إن / أرادوا تنوينه قدروه منكرًا فانتصب.
ورواية بيت كثيرٍ يرد عليهم، وأيضًا، فإن التنكير لا يتأتى في كل موضع؛ بل لابد من موضعٍ يكون قصد التنكير فيه مخلاً بمقتضى الحال، فالأصح عموم الحكم.
و(ما) من قوله: "ما اضطرارًا نونا" منصوبة المحل على المفعولية، تنازعها الفعلان قبلها.
والثانية: أنه قال: "مما له استحقاق ضم بينا" فختم بقوله: "بينا" وهو في موضع الصفة لـ"ضم" بمعنى: ضم أظهر وفائدة هذا التقييد التحرز من الضم المقدر، فإنه، وإن كان مقدرًا، يلحقه التنوين على الجملة، كقاضٍ وفتًى، فأخرج الضم المقدر من هذا الحكم، لئلا يتوهم أنه ينون ضرورًة، وليس كذلك؛ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، لأنه إما مبنى أو معرب، وعلى كلا التقديرين لا يضطر إلى تنوينه، لأن الحرف الذي قدرت فيه الضمة ساكن، نحو: يا قاضي، ويا فتى، فإذا نون حذف لالتقائه ساكنًا مع التنوين، فلم يفد التنوين في وزن الشعر شيئا، كما أفاد إذا كانت الضمة ظاهرة، وفي هذا البحث نظر يتبين في باب ما لا ينصرف إن شاء الله.
والثالثة: أن هذه المسألة من المسائل المختصة بـ"الضرائر الشعرية" وكلامه فيها بناًء على أن تنويون المنادى جائز في الشعر، لأن الكلام في حركته المتبوعة ثانٍ عن كونه تابعا لحركة، وأن ذلك حاصل، وهذا صحيح.
ولكن الكلام في أصلها، بالنسبة إلى هذا المختصر، كـ"الفصل" الذي لا يحتاج إليه، لأنه قد ترك من أحكام الكلام كثيرا، فكيف يذكر أحكام الشعر، وأحكام الكلام آكد بلا شك؟
فيعترض من جهتين، من جهة كلامه في "الضرائر" وهي أحكام أقلية، ومن جهة تركه أحكامًا أكثرية، وقواعد ضرورية، وكان قادرا على وضعها موضع تلك الأقلية.
والعذر عن هذا من وجهين:
أحدهما: عام، وهو أن الاحتياج إلى أحكام "الضرائر" أكيدة بالنسبة إلى الشعراء، كما كانت أحكام "الاختيار" أكيدًة بالنسبة إلى الجميع، فلابد من الإلماع بشيء منها في أثناء الأبواب، ليعمل عليها من كان من أهلها؛ إذ ليس كلام النحويين مختصًا بأحكام "الاختيار".
إلا ترى أن سيبويه بوب على أحكام "الضرائر" على الجملة، ثم نبه في الأبواب على تفاصيلها، فاتبعه المصنفون على ذلك فني كتبهم المطولة والمختصرة، كالزجاجي وغيره، علما منهم بأن الاحتياج إليها لأهلها لا يقصر عن الاحتياج للجميع، فلا بعد في أن يكون الناظم قد اتبعهم في هذا المقصد.
وأيضاً فقد تكون المسألة شهيرة طبولية، فينبه عليها لشهرتها، ولا تقصير في هذا.
والثاني: خاص، وهو أن لحاق التنوين للمبني في غير التنكير غريب، ويكاد يكون غير معترفٍ به؛ إذ كان تنوين صرف، وتنوين الصرف إنما يلحق حركة الإعراب اللاحقة للمتمكن من الأسماء، الذي لم يشبه الحرف ولا الفعل، فأنت ترى حركة الإعراب / لا يتبعها تنوين مع شبه [الفعل] المعرب، نحو: أحمد، وإبراهيم، فأولى ألا يتبع حركة البناء لشبه الحرف.
فلما كان الأمر كذلك، وكانت العرب قد ألحقت هنا تنوين الصرف، أراد أن ينبه على ذلك، وأنه جارٍ على وجهٍ قياسي، ليبنى على ذلك القول في أحكام التوابع، لأن التابع في هذا الباب يحمل على لفظ، وهو اللفظ المبنى، وذلك أن حركة البناء هنا شبيهة بحركة الإعراب، ذلك أن الحركات في أواخر الكلم لغير التقاء ساكنين ثلاثة أضرب: ضرب حدث بشيء، وضرب حدث دون شيء، وضرب لم يحدث بشيء ولا حدث دون شيء.
فالأول: هو الإعراب، وهو يحدث بالعامل.
والثاني: هو البناء، ويحدث من غير عاملٍ ولا غيره.
والثالث: المبنى هنا وفي باب (لا) فإنها تحدث عند حدوث حرف النداء و (لا) ولا تحدث بهما؛ إذ ليس حرف النداء بعاملٍ مطلقا، ولا حرف النفي بعاملٍ نصبًا في مفرد يقبل التنوين من غير تنوين.
فقد صار الضم في (المنادى) حادثًا بحدوث شيء، وبهذا أشبه حركة الإعراب، وغير أثر العامل، وبذلك دخل في حركات البناء، ومن حيث أشبه حركة الإعراب، ولم يلحقه تنوين أشبه حركة ما لا ينصرف، فلما كان كذلك لحقه التنوين في الضرورة، كما لحق ما لا ينصرف في الضرورة.
هذا وجه لحاق التنوين على الجملة، إلا أن بعضهم حكم الشبه بما لا ينصرف، فرد عند (الضرورة) إلى الأصل من النصب، كما يرد في حالة الجر ما لا ينصرف إلى الأصل من دخول الجر بالكسرة.
وبعضهم اعتبر مجرد شبه الحركة بحركة الإعراب في المنصرف، فأتبعها على لفظها، كما تتبع حركة المنصرف.
وكلاهما له نظر، فقد يمكن أن يكون الناظم جعل هذا مقدمة لإتباع (المنادى) على اللفظ، كأنه يقول: إن الضم هنا كالرفع، ولذلك نون، فكذلك يتبع على اللفظ، والله أعلم.
وباضطرار خص جمع يا وأل
…
إلا مع الله ومحكي الجمل
والأكثر اللهم بالتعويض
…
وشذيا اللهم في قريض
يعني أن حرف (النداء) لا يجمع بينه وبين الألف واللام، وهي (أل) في حالة "الاختيار" أصلا، وإنما يحص ذلك بالاضطرار الشعري، إلا ما استثنى، وذلك لأن (يا رجل) معناه كمعنى (يا أيها الرجل) فصار معرفة بالقصد والإشارة إليه، فاستغنى بذلك عن الألف واللام، كما استغنت "أسماء الإشارة" بتعريف الإشارة عن الألف واللام، وكما استغنى بـ (اضرب) عن (لتضرب) فصار القصد
والإشارة في النداء كالعوض من الألف واللام، فلا يجمع بينهما في الكلام، فلا يجوز لك أن تقول: يا الرجل، ويا الغلام، وهذا مذهب سيبويه والبصريين.
وأجاز ذلك الكوفيون مطلقا، وأجاز بعض / النحويين دخول (يا) عليها إذا كان ثمه تشبيه، نحو: يا لأسد شدًة، ويا لخليفة جودًا.
ودليل البصريين ما تقدم مضافًا إلى السماع، وأما الكوفيون فاحتجوا على ذلك بالقياس والسماع.
وأما القياس فقاسوا ذلك على لفظ (الله) إذ جاز دخول (يا) مع الألف واللام فيه بإجماع، وليستا من أصل الكلمة، وإنما هما زائدتان، فكذلك يجوز أن تقول: يا الرجل، ويا لغلام، ويا الفاضل، ونحو ذلك.
وأما السماع فقد أنشدوا:
فيا الغلامان اللذان فرا
…
إيا كما أن تكسباني شرًا
وهذا، على طريقة ابن مالك، يمكن أن يدخل في قبيل "الاختيار" لتمكن قائله من أن يقول:
فيا غلامان اللذان فرا
وأنشدوا أيضا:
من أجلك يا التي تيمت قلبي
…
وأنت بخيلة بالود عني
وهو من أبيات الكتاب، ولم يرتض الناظم البناء على ما احتجوا به.
أما القياس على (يا الله) فغير صحيحٍ عنده، فلذلك استثناه من المسألة فقال:"إلا مع الله" وذلك لأن هذا الاسم قد اختص بأشياء خارجة عن القياس، منها هذا.
وأيضًا، فلدخول (يا) عليه، مع الألف واللام، وجه من القياس ليس في غيره، حسبما يذكر إن شاء الله تعالى.
وأما البيتان فهما من الشذوذ بالمكان المكين، وإنما شأن العرب إذا أرادت نداء ما هما فيه، إن لم ترد حذفهما، أن تأتي بـ (أي) فتقول: يا أيها الرجل، أو تأتي أيضا باسم الإشارة فتقول: يا هذا الرجل، ولا تقول: يا الرجل ونحوه، إلا في "الاضطرار" كما قال.
وأما جواز (يا الأسد شدًة) فقال ابن مالك في "الشرح" هو قياس صحيح، لأن تقديره: يا مثل الأسد، ويا مثل الخليفة. قال فحسن لتقدير دخول (يا) على غير الألف واللام.
وفيما قاله ابن مالك نظر؛ إذ ليس تقدير (مثل) بمزيلٍ لقبح الجمع بين (يا) والألف واللام، وإلا فكان يلزمه أن يجيز (يا الرجل) لأنه في معنى (يا أيها الرجل) وليس مذهبه ذلك.
ويلزمه أن يقول: يا القرية، لأنه في تقدير (يا أهل القرية) وما أشبه ذلك. ولا يقول به ابن مالك ولا صاحب المذهب المذكور، فدل على أن هذا كله غير صحيح، وأن ما ذهب إليه هنا، من منع إدخال (يا) على ما فيه الألف واللام، هو الصحيح إلا فيما استثنى.
والذي استثنى من ذلك فأجاز اجتماعهما فيه شيئان:
أحدهما: لفظ (الله) فإنه لا يختص اجتماعهما فيه بـ (الاضطرار) فيجوز ذلك فيه في (السعة) فتقول: يا ألله اغفر لي.
وعلل ذلك سيبويه بأن الألف واللام لا يفارقانه، وهما فيه عروض من همزة (إله) فصارت بذلك كأنها من نفس الكلمة، وليس بمنزلة (الذي قال ذاك) لأن (الذي قال: ذلك) يعني الموصول، وإن كان لا تفارقه الألف واللام، ليس باسمٍ غالبٍ على مسماه كزيدٍ وعمروٍ، لأنك تقول: يا أيها الذي قال: ذاك كما تقول: يا أيها الرجل، فامتنع أن تقول: يا الذي قال: / ذاك، كما امتنع (يا الرجل) ولا يجوز أيضا: يا الصعق، ولا يا الدبران، وإن كانت الألف واللام لا تفارقانه لأنهما ليسا
عوضًا عن شيء من نفس الكلمة، كما كان ذلك في لفظ (الله) حين عوضتا من همزة (إلاه) هذا محصول تعليل سيبويه.
والذي يصحح تنزلهما منزلة ما هو من نفس الكلمة [قطع الهمزة] كما قال:
مبارك هو ومن سماه
…
على اسمك اللهم يا ألله
كما أن الفعل الذي أوله همزة وصلٍ إذا سمى به قطعت فقلت: جاءني أقتل وإضرب، ولو كانت في تقدير الانفصال لقالوا:(يا الله) موصول الهمزة، فهذا! وجه ما جاء فيه.
والثاني: من المستثنيين محكي الجمل، يعني به المنادى المسمى بالجملة التي تلزم حكايتها بعد التسمية إذا كان في أولها الألف واللام، كما إذا سميت رجلاً بقولك: الرجل قائم، فإنك تقول: يا الرجل قائم. قال سيبويه: لأنه بمنزلة (تأبط شرًا) لأنه لا يتغير عن حاله؛ إذ قد عمل بعضه في بعض.
يعني أنه جملة يجب أن تحكى ولا تغير عن حالها.
وعلل ذلك المؤلف بأن معناه: يا مقولاً له: الرجل قائم. قال: وقاس المبرد عليه دخول (يا) على المسمى به من موصولٍ فيه الألف واللام نحو: يا الذي قام. قال: وهو قياس صحيح. يعني من حيث هو في التقدير في معنى: يا مقولاً له كذا.
ولم يعلل سيبويه إلا بما تقدم، فمنع دخول (يا) على (الذي قام) مسمى به، كما لا يجوز أن تنادى (الضارب أبوه) إذا كان اسما، لأنه بمنزلة اسم واحد فيه الألف واللام، فكذلك (الذي) وما بعده من صلته بمنزلة اسم واحد فيه الألف واللام، كالحارث والنضر ونحوهما، مما فيه الألف واللام.
وظاهر كلام الناظم هنا موافقة سيبويه ومخالفة رأيه في "شرح التسهيل" لأنه قال: "ومحكي الجمل". و (الذي قام) ليس من محكي الجمل، لأنه يجرى بوجوه الإعراب، وصلته، وإن كانت جملةً داخلة فيه كالجزء.
وإذا كان كذلك خرج عن مراده من ذلك اللفظ، فهذا الموضع من المواضع التي خالف فيها "التسهيل" و"شرحه" وكان فيها مصيبا؛ إذ ليس التقدير ما قدره المؤلف، وإلا لزم ذلك في كل منادى، فيقدر فيه: يا مقولاً له كذا، لأن الحكاية في التسمية بها وغيرها سواء، فزيد وعمرو ونحوهما في النداء لا يقدر معهما شيء، فكذلك كل ما جرى مجراها من الأعلام.
وأما الموصول فاسم واحد كالاسم المبدوء بالألف واللام [فلم يسغ فيه إلا ما ساغ فيه] ثم قال: "والأكثر اللهم" لما قدم أنه يقال في النداء: يا ألله، في فصيح الكلام، ذكر الآن أن الأكثر في الكلام التعويض، وهو إلحاق الميم
المشددة آخر الاسم عوضًا من (يا) في أوله، فيقال: اللهم، فإذًا الوجهان جائزان، والأكثر (اللهم)، فعليه معهود الاستعمال، ولذلك لم يقع في القرآن إلا (اللهم).
وفي قوله: "بالتعويض" تنبيه على أمرين:
أحدهما: التنبيه / على المذهب الراجح في هذه (الميم) وهو كونها عوضًا من (يا) قال سيبويه: وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداء، والميم هاهنا بدل من (يا) قال: فهي هنا فيما زعم الخليل آخر الكلمة بمنزلة (يا) في أولها، إلا أن (الميم) هنا مبنية في الكلمة، كما أن نون (مسلمين) في الكلمة بنيت عليها. وهذا مذهب البصريين.
وذهب الكوفيون إلى أن (الميم) ليست عوضا من (يا) وإنما هي مختصرة من (أم) وأصل الكلام: يا الله أمنا بخير، إلا أنهم لما كثر استعمالهم لذلك، وجرى في ألسنتهم، حذفوا بعض الكلمة للتخفيف، كما قالوا:(هلم) في: هل أم، و (ويلمه) في: ويل أمه، و (عم صباحًا) في: أنعم صباحًا، و (أيشٍ) والأصل: أي شيءٍ، وذلك كثير.
ولو كانت عوضًا من (يا) لم يجمع بينهما، لكن العرب جمعت بينهما كما سيذكر، فدل على أنها غير عوض، لأن العرب لا تجمع بين العوض والمعوض منه.
وقول البصريين أصوب، لأن المستفاد من قولك: اللهم، هو عين المستفاد من قولك: يا الله، فلو كان في الكلام معنى زائد لعلم، وكل ما قدره الكوفيون لا دليل عليه، فوجب اطراحه، وما جاء من الجمع بينهما
فشاذ لا يقاس عليه، وقد أفسدوا دعوى الكوفيين بأشياء أكثرها ضعيفة، فلا حاجة إلى إيرادها.
والأمر الثاني: أن التعويض يقتضي ألا يجمع بين الميم و (يا) فلا يقال: يا اللهم لأن الجمع بين العوض والمعوض منه غير سائغ.
ويقتضيه أيضا قوله: "وشذ يا للهم في قريض" لأن الشاذ هو الذي لا يجوز في الكلام قياسا، وهذا رأى البصريين أيضا أن ذلك لا يجوز.
وذهب الكوفيون إلى جواز الجمع بينهما، وأن يقال في السعة:(يا اللهم) وما قالوه مرجوح، فإن القياس إنما يجري إذا فهمنا من العرب إجراء القياس، وذلك يكون بوجوده مسموعًا كثيرا جدا في النثر والنظم، أو بمجرد سماعه من غير وجود معارض له، وليس ما نحن فيه كذلك، لأن السماع إنما فشا بعدم الجمع، ولم يوجد الجمع إلا في الشعر، ولا وجد في الشعر إلا شاذا، كما قال الناظم:"وشذ يا اللهم في قريض".
فأخبر أنه شاذ في نفسه، وأن ذلك الشاذ إنما أتى في الشعر لا في الكلام، وكل واحد منهما قد كان كافيا على الجملة عند اشتهار عدم الجمع، فقد فهم بسبب ذلك أن العرب لا تجمع بينهما في السعة.
ولم يعتبر الكوفيون هذا، وهو حقيق بالاعتبار، فإن القياس لا ينبغي أن يعمل جزافًا وكيف اتفق؛ بل ينظر في كلام العرب بالاستقراء الصحيح، والتتبع الحسن، فما وجد مشهورا عندهم، لا يتحاشي من استعماله في النثر والنظم،
ساغ القياس عليه، كان له معارض أولا، لكن إن كان المعارض نادرا اطرح ذلك المعارض، وأعمل القياس فيما اشتهر، وإن كان مشتهرا مثله أعملا / معًا.
وما وجد عندهم غير مشهور بل كان نادرا، فإن كان لمعارضٍ أشهر ترك الأندر للأشهر.
وإن لم يكن له معارض أصلاً أعمل، وإن كان إنما سمع في الشعر؛ إذ لم يقم دليل على أنه مما اختص بالشعر، فيحمل على أنه من مطلق كلامها، حتى يوجد ما يعارضه، ويدل على أنه مما اختص بالشعر، قاله الشلوبين.
وقد تقدم التنبيه منه على شيء من هذا، ومحل بسطه "الأصول" فالكوفيون لم يعتبروا هذا الأصل؛ بل تلقوا كل ما جاء في كلامٍ أو شعرٍ نادرًا أو شهيرًا، فقاسوا عليه، وجد له معارض أو لم يوجد، فلم يلتفتوا إلى المعارض.
وبسبب ذلك اتسع عندهم نطاق القياس، وانخرمت عليهم أشياء من الضوابط الاستقرائية.
ولما رأى أهل التحقيق البناء على مثل هذه "الأصول" المحققة الاستقرائية مطردًا عند الخليل وسيبويه، وغير مطرد عند الكوفيين - اعتمدوا على قياسهما، واعتمدوا على نقلهما وتحقيقهما، ونعما فعلوا.
وقوله: "وشذ يا اللهم في قريض" يريد أن الجمع بين (يا) والميم شذ في القريض وهو الشعر وهو (فعيل) بمعنى (مفعول) من: قرضت
الشعر، أقرضه قرضًا، فهو قريض ومنه قول عبيد بن الأبرص:"حال الجريض دون القريض" قاله الجوهري.
وقد يطلق (القريض) في مقابلة (الرجز) وهو نوع من الشعر، قال الأخفش: هو كل ما كان على جزءين أو ثلاثة من أوزانهم، وأنشد ابن الأنباري للأغلب العجلي:
أرجزًا تريد أم قريضا
…
أم هكذا بينهما تعريضا
ومراد الناظم الأول
فمما جاء في الشعر من ذلك ما أنشده الكوفيون وأبو زيد:
إني إذا ما حدث ألما
…
دعوت يا اللهم يا اللهما
وأنشد الكوفيون أيضا قول الراجز:
وما عبيك أن تقولي كلما
…
سبحت أو هللت يا أللهما
أردد علينا شيخنا مسلما
وقال الآخر:
غفرت أو عذبت يا اللهما
وهذا شاذ كما قال.
فصل في تابع المنادى
تابع ذي الضم المضاف دون أل
…
ألزمه نصبًا كأزيد ذا الحيل
وما سواه ارفع أو انصب واجعلا
…
كمستقل نسقًا وبدلا
وإن يكن مصحوب أل ما نسقا
…
ففيه وجهان ورفع ينتقى
هذا الفصل يذكر فيه التوابع الخمسة، وهي النعت، وعطف البيان، وعطف النسق، والتوكيد، والبدل، وذلك إذا تبعت المنادى، لأن لها في تبعيته حكمًا زائدا على ما تقدم.
ولما كان النعت داخلا في التوابع بمقتضى إطلاقه ظهر أنه مخالف للأصمعي في منعه نعت المنادى مطلقا، ومخالف لسيبويه في تفصيله؛ إذ منع نعت ما كان مختصًا بالنداء نحو: يا ملأمان، ويا لكاع، واللهم. ومن / ثم أعرب (فاطر) من قوله تعالى:"قل اللهم فاطر السماوات والأرض" منادى ثانيا أو بدلا.
فالناظم موافق للمبرد المجيز لنعت المنادي بإطلاق.
وحجة المؤلف أن المنادى اسم ظاهر كسائر الأسماء الظاهرة، فلا مانع من نعته.
وأيضا فإن في القرآن: } قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة {والظاهر أنه نعت. وتقدير استئناف النداء خلاف الظاهر، و (البدل) في المشتق خلاف الأصل، وإنما باب التابع المشتق أن
يكون نعتاً. وحكي يونس: يا فاسق الخبيث، إلى غير ذلك من المسموع. وقال الشاعر:
فما كعب ابن مامة وابن سعدى
…
بأجود منك يا عمر الجوادا
فالقياس والسماع متعاضدان على الجواز مطلقا، فيما اختص بالنداء وفي غيره.
وما احتج به الأصمعي من أنه شبيه بالمضمر، والمضمر لا ينعت، مردود بأن مشابهة المنادى للمضمر عارضة، فمقتضى الدليل ألا تعتبر مطلقا، كما لم تعتبر مشابهة المصدر الأمر في نحو: ضربًا زيدًا، لكن العرب اعتبرت مشابهة المنادى للضمير في البناء استحسانًا، فلم يزد على ذلك.
كما أن (فعال) العلم لما بني حملاً على (فعال) المأمور به لم يزد على بنائه شيئًا من أحوال ما حمل عليه، ونظائر ذلك كثيرة.
وأيضا فإن سلم أنه يعتبر في غير البناء اعتبار الضمير - فعلى الجواز لا على اللزوم.
وسبب ذلك أن العرب قد أبقت عليه حكم أصله في أحد الاعتبارين، ألا ترى أنهم قالوا: يا زيد نفسه، على الغيبة، ويا زيد نفسك، على الخطاب، فلو اعتبروا وقوعه موقع المضر البتة لاقتصروا على الخطاب كما يلتزمون: يا أنت نفسك، فلا يقولون: يا أنت نفسه.
وإذا ثبت الاعتبار أن لم يمتنع أن ينعت اعتبارًا بحال الاسم الظاهر، ولا يمنع القول بإطلاق الجواز، حسبما يظهر من الناظم.
وبسط حكم التوابع على ما يعطيه كلامه، بمنطوقه ومفهومه، أن المنادى إذا أتبع على قسمين:
أحدهما: أن يكون منصوبا، كالمضاف، والشبيه به، والمنكور، فهذا القسم لا يختلف حكم التابع معه في جميع ما تقدم في التوابع، فالنداء وغيره في ذلك سواء، وهو النصب في التابع، لأن المتبوع منصوب، لكن إذا كان نعتًا، أو توكيدا، أو عطف بيان، نحو: يا غلام زيدٍ الطويل، ويا ضاربًا أبوه الفاضل، وكذلك يا أبا عبد الله محمدًا، ويا بني تميمٍ أجمعين لا يجوز غير ذلك.
وهذا مفهوم من تقييده هنا في قوله: "تابع ذي الضم حكمه كذا" فقيد موضع المخالفة الذي يحتاج إلى ذكره، فبقي غير ذي الضم على الأحكام المتقدمة.
وخرج من هذا الإطلاق البدل، وعطف النسق، بقوله:"واجعلا كمستقل نسقًا وبدلا".
فيكون التابع في قوله: "تابع ذي الضم" لا يريد به عموم التوابع؛ بل التوابع / الثلاثة: النعت، وعطف البيان والتوكيد، فلا يؤخذ له على إطلاقه، لتداخل التقسيم، فكأنه قال: تابع ذي الضم إذ كان أحد الثلاثة حكمه كذا، وأما إذا كان بدلاً أو نسقا فحكمه حكم المستقل.
والثاني من القسمين: أن يكون مبنيا على الضم، وهو الذي أخذ الآن في الكلام على تابعه، وجعله على ضربين.
أحدهما: أن يكون التابع مضافا من غير أن تلحقه الألف واللام، فحكم هذا النصب مطلقا، وذلك قوله:(المضاف دون أل) و"المضاف" في كلامه صفة لـ"تابع" فتقول في (النعت): يا زيد ذا الجمة، ويا عمرو ضارب زيدٍ، ويا رجل صاحب عمروٍ، ومثله الناظم بقوله: أزيد ذا الحيل.
وفي (العطف البياني): يا زيد أبا عبد الله، عمرو أخانا، وفي (التوكيد): يا تميم كلهم.
ووجه ذلك في النعت أن العامل في النعت هو العامل في المنعوت، وحرف النداء لا يعمل في المضاف إلا النصب، وكذلك عطف البيان، هو كالنعت في وجه النصب، والتوكيد أيضا كالنعت في المعنى.
والضرب الثاني من قسمي تابع المبنى على الضم ما سوى ما تقدم، وذلك التوابع الثلاثة، وما فيه الألف واللام من المضاف.
وحكمها جواز وجهين، وهما الرفع حملاً على اللفظ.
فتقول في (النعت): يا زيد الفاضل، ويا بكر الكريم، وفي (البيان): يا غلام زيد، ويا رجل بكر، وفي (التوكيد): يا تميم أجمعون.
والنصب حملاً على الموضع، فتقول في (النعت): يا زيد الفاضل، وفي (البيان): يا غلام زيدًا، وفي (التوكيد): يا تميم أجمعين.
وعلى الوجهين في (عطف البيان) أنشد سيبويه لرؤبة:
إني وأسطارٍ سطرن سطرا
…
لقائل يا نصر نصر نصرا
يروى هكذا. ويروى: "يا نصر نصرًا نصرا" بالرفع والنصب على (عطف البيان) ويروى أيضا بالضم على (البدل).
ويدخل في هذا القسم ما استثنى في القسم الأول، وهو المضاف المصحوب بأل نحو: يا زيد الحسن الوجه [ويا عمرو الطويل القامة، يجوز في (الحسن، والطويل) الوجهان، الرفع، والنصب، فالنصب حملا على الموضع، لأن موضع المبني نصب فتقول: يا زيد الحسن الوجه] والرفع حملا على اللفظ نحو: يا زيد الحسن الوجه.
وإنما جاز فيه الرفع وهو مضاف، لأن إضافته في نية الانفصال، ولذلك دخلت عليه الألف واللام، فكأنه غير مضاف، وهذا كله معنى قوله:"وما سواه ارفع أو انصب" أي ما سوى المضاف العاري من الألف واللام، من التوابع
الثلاثة، يجوز فيه الرفع والنصب معًا. وعلى هذا يجوز الوجهان في التابع المطول نحو: يا زيد الضارب عمرًا، والضارب عمرًا، فإنه أيضا في حكم المفرد.
وإذا كان المضاف إضافة غير محضة يجوز فيه الوجهان لشبهه بالمطول] وهو: الحسن الوجه فالمطول أولى، وهذا صحيح.
والقسم الثاني من التوابع: البدل، وعطف النسق، وحكمه، حسبما نص عليه، حكم المستقل بالنداء، وقد تقدم ذلك، وأن المنادى إن كان مفردا معرفا بني على ما كان يرفع به، وإلا أعرب نصبا، فكذلك يكون البدل هنا، وعطف النسق، وذلك قوله:"واجعلا كمستقل نسقًا وبدلاً".
(نسقًا وبدلاً) نصب على المفعول الثاني لـ (اجعل). والمفعول / الأول الكاف في "كمستقل" على حد قول امرئ القيس:
وإنك لم يفخر عليك كفاخرٍ
…
ضعيفٍ ولم يغلبك مثل مغلب
فالكاف اسم كـ (مثل) والنسق: أراد به المنسوق، ويريد أن هذين التابعين لهما حكم أنفسهما، لا حكم التبعية، فإن كانا مفردين مقصودين بالنداء بنيا على الضم مطلقا، إلا ما استثنى في المنسوق.
فتقول في (المعطوف): يا زيد وعمرو، ويا خالد ومحمد.
وكذلك إن كان المنادى معربا نحو: يا عبد الله ومحمد، أو كان المعطوف عليه معربا أيضا والمعطوف مفرد أو مضاف نحو: يا عبد الله وزيد، ويا عبد الله وأبا بكر.
وكذلك البدل نحو: يا زيد أخانا، ويا رجل زيد، ويا عبد الله أخانا، ويا أبا عبد الله زيد، وما أشبه ذلك.
ووجه ذلك أن حرف العطف لما كان مشركا بين المعطوف والمعطوف عليه في حرف النداء وجب أن يكون حكم المعطوف مع العاطف على حكمه مع حرف النداء، وكذلك البدل، لأنه المقصود بالحكم، فكأن الحرف قد باشره، سواء أقلنا: إنه على تقدير تكرار العامل أم على تقدير طرح الأول.
وقد ظهر من هذا الكلام موافقة الناظم للجمهور من البصريين في مسألتين إحداهما: مسألة عطف النسق، فإن مذهبهم، كما تقدم، اعتبار المنسوق بنفسه، كما لو ولى حرف النداء.
وذهب المازني، ونقله المؤلف عن الكوفيين، إلى جواز إجرائه مجرى النعت يجوز فيه الرفع والنصب، فيقولون: يا زيد وعمرو، وعمرًا، كما تقول باتفاق: يا زيد والنضر، والنضر، ويا خالد والغلام، والعلام.
وما قالوه مخالف للسماع، والفرق بين هذا وبين المعطوف ذي الألف واللام أن هذا صالح لولاية (يا)، فلم يكون بد من اعتباره بذلك، بخلاف ما فيه الألف واللام، فإنه غير صالح لذلك، فأشبه التوكيد والنعت.
قال المؤلف في "شرح التسهيل": ما رأوه غير بعيد من الصحة إذا لم تنو إرادة حرف النداء، فإن المتكلم قد يقصد إيقاع نداءٍ واحد على الاسمين، كما يقصد تشريكهما في عامل واحد، نحو: حسبت زيدًا وعمرًا حاضرين، وكأن خالدًا وسعدًا أسدان.
وما قاله غير ظاهر، لأنك لو قصدت ذلك لكان المعطوف والمعطوف عليه في كم الاسم الواحد المثنى، وذلك يصيره ممطولا، فلا يسوغ فيه على ذلك التقدير إلا النصب، لأنه يشبه ما إذا سميت بـ (زيدٍ وعمروٍ) فإنك تقول: يا زيدًا وعمرًا، ليس غير، فصار مثل ندائك ثلاثًة وثلاثين رجلاً، فإنك تقول على كونهما كالشيء الواحد: يا ثلاثًة وثلاثين، وهو أحد القولين، وعلى كونهما أشياء منفصلة متعددة: يا ثلاثة والثلاثون، وهو قول الفارسي.
والوجهان جائزان عند ابن خروف، فليس لك في (زيد وعمرو) إلا وجهان، كلاهما خارج عما قال المؤلف، وهما البناء فيهما، أو / النصب فيهما.
وأما البناء في أحدهما دون الآخر فمشكل. فإن قيل: فليكن كالنعت والمنعوت وغيره قيل: النعت غير مقصود بالنداء لنفسه، وإنما هو من تمام الأول، كالتوكيد وعطف البيان، بخلاف المنسوق، فإن كل واحد منهما مقصود، فصارا شيئين منفكين، فالصواب ما ذهب إليه هنا. والله أعلم.
والثانية: مسألة البدل، فإن الناس فيها على ما تقدم، وأجاز ابن مالك في "الشرح" أن يجرى مجرى النعت والبيان والتوكيد، لأن للبدل عنده حالين، حالاً يجعل فيها كمستقل، وهو الكثير كما تقدم، وحالاً يعطي فيها الرفع والنصب، لشبهه فيها بالتوكيد، وعطف البيان، والنعت، وعطف النسق المقرون بأل، في عدم الصلاحية لتقدير حرف النداء قبله.
قال: وصحة هذه المسألة مرتبة على أن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه.
وقد بين ذلك في (باب البدل) فإن القائلين بأن العامل في البدل والمنسوق غير العامل في المبدل منه والمعطوف عليه استدلوا بضم (زيد) في النداء في قولهم: يا أخانا وزيد، ويا أخانا زيد.
قال المؤلف: والجواب أن العرب التزمت في البدل والمعطوف أحد الجائزين في القياس، وهو تقدير حرف النداء، تنبيهًا على أنهما في غير النداء في حكم المستقل بمقتضى العامل، فلم يجز لنا أن نخالف ما التزمته.
هذا مقصود ما احتج به، فإن كان مقصوده بالإجازة ما أجاز الجواز القياسي الذي لا يعتبر التكلم به لأنه لم يسمع - فذلك لا يقدح فيما قال هنا، مع ما فيه من الإشكال المتقدم.
وإن أراد الجواز الذي يتكلم به فقد صرح في (باب البدل) من "الشرح" على المنع من ذلك، فوافق كلامه هنا، فلا خلاف في المقصود، والله أعلم.
ومسألة ثالثة، وهي أن ابن الأنباري أجاز رفع النعت المضاف إذا كان المنعوت مبنيًا نحو: يا زيد صاحبنا.
ورده المؤلف باستلزامه تفضيل فرعٍ على أصل، لأن المضاف لو كان منادى لم يكن بد من نصبه، فلو جوز رفع نعته مضافًا لزم إعطاء المضاف في التبعية تفضيلاً على المضاف في الاستقلال.
وفيما قاله نظر، فإن ذلك لازم في النعت المطول، فلو اعتبر ما قال لم يكن في نحو: يا زيد الضارب الرجل، والضارب الرجل، والوجهان جائزان، مع أنه لو باشر حرف النداء لم يكن فيه إلا النصب.
والذي ينبغي الرد به حكاية سيبويه عن العرب كلهم أنهم يقولون: "أزيد أخا ورقاء" بالنصب وهو عين مسألتنا، فالظاهر من النقل مخالفة ابن الأنباري.
ثم في عبارته شيء، وهو أنه خص "التابع" هنا بـ"ذي الضم" دون غيره، وهذا يقتضى بظاهره أن هذا الحكم لا يكون في المبنى على الألف أو الواو نحو: يا زيدان، ويا زيدون، وهذا الاقتضاء غير صحيح؛ بل الحكم المذكور جارٍ في
المبني كله، فإنك تقول: يا زيدان القائمان والقائمين، / ويا زيدون القائمون والقائمين، إذا نعت بالمفرد.
فإن نعت بالمضاف قلت: يا زيدان صاحبي عمروٍ، ويا زيدون أصحاب عمروٍ، هذا هو اللازم.
وكذلك سائر التوابع، يجري فيها مع المبنى على غير الضم ما يجري مع المبني على الضم من الحكم، ولذلك قال في "التسهيل" حين أخذ في الكلام على التابع:"لتابع غير (أي) واسم الإشارة، من منادًى كمرفوع، إن كان غير مضاف الرفع والنصب" إلى آخره، فقال:"كمرفوع" ولم يقل: من منادى مضموم.
وبين في "الشرح" مراده من ذلك، فكان من حقه هنا أن يحرر عبارته فيقول: تابع ذي البناء، أو ما يعطي معنى مراده.
فلو قال مثلا: تابع مبنى مضافًا دون أل - لأعطى العموم في الجميع، وصح الإطلاق.
ثم استثنى من المنسوق ما كان منه بالألف واللام بقوله: "وإن يكن مصحوب أل ما نسقا" إي آخره.
يعني أن ما عطف على المنادى المضموم عطف النسق، وكان فيه ألف ولام، ففيه وجهان: الرفع والنصب، فإذا قلت: يا زيد والرجل - جاز لك في (الرجل) الرفع والنصب، فتقول: يا زيد والرجل، ويا زيد والرجل.
ومنه القراءتان: } يا جبال أوبي معه والطير {برفع (الطير) وهي قراءة الأعرج، وأبى نوفل، وأبى يحيي، وأبى عبد الرحمن. وبنصبه وهي قراءة السبعة.
وأنشد الزجاجي:
ألا يا زيد والضحاك سيرا
…
فقد جاوزتما خمر الطريق
هذا بيان جواز الوجهين على الجملة:
وأما المختار منهما فاختلفوا فيه على أقوال أربعة:
أحدها: أنه الرفع مطلقا، وهو الذي رآه الناظم إذ قال:"ورفع ينتقي" أي يختار. انتقيت الشيء، بمعنى: اخترته، ونقاوة الشيء: خياره.
وهذا مذهب الخليل وسيبويه، والمازنى.
والثاني: أن المختار النصب مطلقا، وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، ويونس، والجرمي.
والثالث: التفرقة، فإن كان المنادى نكرًة مقبلاً عليها فليس إلا الرفع، وإن كان على غير ذلك - فكما قال الخليل، وهو مذهب الأخفش.
والرابع: أنه إن كانت الألف واللام للمح الصفة فكما قال الخليل، وإن كانت لمجرد التعريف فكما قال أبو عمرو، وهو مذهب المبرد، واختاره ابن عبد المنعم السبتي، حسبما أخبرنا شيخنا الأستاذ، رحمة الله عليه، بذلك.
ووجه اختيار الرفع مطلقا ما فيه من مناسبة اللفظ المتقدم، وهو لفظ المعطوف عليه، لأن البناء فيه شبيه بالإعراب، والتابع ليس بمضاف ولا شبيهٍ بالمضاف.
وأيضًا فإنه مفرد، والأصل في هذا التابع إذا كان مفردا ألا ينصب.
وأيضا فإن الرفع هو الأكثر في السماع، كانت الألف واللام للتعريف أو غيره، كان المنادى نكرًة أولا قال سيبويه لما حكي مذهب النصب: فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون: يا زيد والنضر - يعني بالرفع - فإذا كان يحكي عن العرب أن الأكثر هو الرفع، وأن النصب ليس في كثرة الرفع، كان /اختياره أولى، ولذلك اختاره الناظم لأنه منقاد للسماع في قياساته، ومذاهبه، وهو صواب، لأن القياس آتٍ من وراء السماع، ولذلك يقول سيبويه: قف حيث وقفوا، ثم فسر.
وهذه "قاعدةٌ" موضع شرحها "الأصول" فكل ما علل به أرباب المذهب الأخر لا تنهض مع السماع إلا بمقدار موافقتها له.
وقوله أول الفصل "تابع ذي الضم" منصوب بإضمار فعل من باب "الاشتغال" مفسره (ألزمه) أي انصب تابع ذي الضم المضاف دون أل ألزمه نصبًا و"الحيل" جمع حيلة و"ما نسق" اسم "يكن" و"مصحوب أل" هو الخبر. والصحوب هو الذي صحبه غيره، أي صحبته الألف واللام.
وأيها مصحوب أل بعد صفه
…
تلزم بالرفع لدى ذي المعرفه
هذا من تمام الكلام على "التوابع" فإن لـ (أي) واسم الإشارة هنا حكمًا غير ما تقدم ويريد أن (أيًا) الموصولة بهاء التنبيه إذا وقع عليها النداء فإن الذي يتبعها لزوما أحد ثلاثة أمور:
إما الاسم المصحوب بالألف واللام، وإما اسم الإشارة، وإما الموصول الذي في أوله الألف واللام.
وذلك أن (أيًا) إنما جئ بها ليتوصل إلى نداء ما فيه الألف واللام؛ إذ كانت أدوات النداء كما تقدم - لا تجتمع معهما، فأتوا بـ (أي) لذلك، كما أتوا بـ (ذي) التي بمعنى (صاحب) ليتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس ثم ألحقوها هاء التنبيه عوضًا من الإضافة والصلة، وتوكيدًا للتنبيه الذي في (يا) ثم أتوا بما أرادوا نداءه فقالوا: يا أيها الرجل، ويا أيتها المرأة، ونحو ذلك، وألزموها إياه لأنه المقصود بالنداء من جهة المعنى، وأجروه صفًة لـ (أي).
فقوله: "أيها" مبتدأ، و"مصحوب أل" إن كان مرفوعًا، مبتدأ ثان، خبره صفة.
و"تلزم" من صفة قوله: "صفة" أي صفة لازمة.
و"بعد" متعلق (مصحوب) و (بالرفع) في موضع نصب على الحال من ضمير (تلزم) العائد على (صفة).
والتقدير: هذا اللفظ الذي هو أيها، مصحوب أل بعدها صفة لازمة لها حالة كونها مرفوعًة، عند ذي المعرفة.
ومعناها أن (أيها يلزمها الوصف بما فيه الألف واللام مرفوعا، وهذا هو النوع الأول، وهو الأصل كما تقدم.
وقوله: "لدى ذي المعرفة" يريد أهل المعرفة من النحويين، وإنما أتى بها تنكيتًا، لأنه حشو بغير فائدة؛ بل فيه فائدة، لكن هذا القول إما أن يكون راجعا إلى ما تقدم من الأوصاف، لأنه قدم لـ (أيها) أوصافًا، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، ولكن أهل الحذق والمعرفة التامة أثبتوا ذلك لـ (أي) فأما المتفق عليه فهو وقوع ما فيه الألف واللام بعدها، وكونه لازما لا يستغنى عنه، فلا أعلم خلافا في صحة قولك: يا أيها الرجل، وأن صفة (أي) لا يجوز تركها، فلا يقال:(يا أيها) مقتصرًا عليه.
وأما المختلف فيه منها فكونه صفًة، وكونه مرفوعا.
أما كونه صفًة فالخلاف فيه من موضعين:
أحدهما: أن الجمهور ينفون عنه كونه / صفة؛ إذ ليست (أي) عندهم موصولة، وإنما هي اسم تام مبهم يتوصل به إلى نداء ذي الألف واللام.
وذهب الأخفش إلى إجازة كونها موصولًة، وأن ما بعدها صلةٌ لها، لكن حذف المبتدأ منها، وبقي الخبر والتقدير: يا أيها هو الرجل، كأنه: يا الذي هو الرجل، ولا يتكلم به.
ورد عليه بأمور:
أحدها أنه يلزمه النصب لأنه منادى مطول. قالوا: وهذا لا يلزم، لأن الصلة لا موضع لها من الإعراب، وإنما يطول الاسم بالمعمول.
وأيضًا لو كان كذلك للزم النصب في (بعلبك) ونحوه إذا نودي، وليس كذلك.
والثاني: أنه لو جاز كونها موصولًة لجاز أن ظهور المبتدأ، ولكان أولى من الحذف، لأن كمال الصلة أولى من اختصارها، فأن لم يفعلوا ذلك قط دليل على أنها على غير ما قال.
والثالث: أنها لو كانت موصولًة لجاز يغنى عن المرفوع بعدها جملة فعلية، وظرف ومجرور، ولجاز أن يكون بغير ألف ولام، كما يجوز ذلك في (أي) في غير النداء، وفي جميع الموصولات مطلقا وإن قل، لكنهم التزموا معها ذا الألف واللام دون زيادة، فدل على أنها غير موصولة.
والثاني: أن ذا الألف واللام الواقع بعد (أي) صفة مطلقا، كان مشتقًا أو جامدًا.
أما إذا كان مشتقًا فظاهر إن قلنا: إنه ليس على حذف الموصوف، نحو: يا أيها الفاضل.
وأما إذا كان جامدا فكذلك أيضًا، إلا أنهم استجازوا هنا الوصف بالجامد، وهو قول النحويين المتأخرين ونصهم.
وأما (ابن مالك) فقد ذكر أن تابع اسم الإشارة إذا كان جامدًا عطف بيانٍ لا صفة، ويجري مذهبه في (أي) وهو نص ابنه في "شرح هذا النظم". وقد تقدم استدلاله على أنه عطف بيان في "باب عطف البيان" وتقدم أن ظاهر "هذا النظم" أنه عطف بيان، ونص هنا على الصفة.
ولما كان كذلك أمكن أن يكون رأيه كرأي النحويين في كونه صفًة وإن كان جامدًا، ويكون مستثنًى من حده المتقدم في "عطف البيان" فإنه كالعموم، أو كالإطلاق، ويكون ما هنا كالتخصيص، أو التقييد، وهو الأولى.
ويمكن أن يكون أطلق هنا لفظ الصفة، والمراد عطف البيان، كما فعل في "التسهيل" اتكالاً على اشتراطه في "باب النعت" أن يكون النعت مشتقًا، فلا يدخل له (هذا الرجل) ولا (أيها الرجل) وأما كون ذي الألف واللام مرفوعًا فذلك لازم فيه عند الجمهور.
وذهب المازني إلى إجازة الرفع والنصب فيه، فتقول: يا أيها الرجل، ويا هذا الرجل، كما يجوز في سائر الصفات إذا قلت: يا زيد الفاضل، والفاضل.
قال الزجاج في "معانيه": ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله، ولا تابعه عليه أحد بعده، فهو مطروح مردود لمخالفة كلام العرب.
وهذا صحيح، فإن محالفة العرب والنحويين جميعًا خطأ، فلأجل هذه المسائل - والله أعلم -/ نبه بقوله:"لدى ذي المعرفة".
وأما رجوع التنكيت على هذا الأخير، فممكن أيضا، ولاسيما وهو رأى ضعيف جدًا لا يليق بمنصب المازني.
وإنما لزم الرفع في الصفة هنا لأمرين:
أحدهما: أنه المنادى في التقدير كما تقدم، والمنادى المفرد لا ينتصب.
والثاني: أن الشيء إنما يحمل على الموضع في الأمر العام بعد تمام الكلام، و (أي) لم تتم بعد، فلا تقول: يا أي، ولا يا أيها، وتسكت، لأنه مبهم يلزمه التفسير، فصار هو و (الرجل) بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل.
والنوع الثاني مما توصف به (أي) اسم الإشارة، وهو الذي نبه عليه في قوله:
وأي هذا أيها الذي ورد
…
وصف أي بسوي هذا يرد
يعني أنه قد ورد عن العرب وصف (أي) باسم الإشارة الذي هو (ذا) نحو: يا أيهذا الرجل، ومنه ما أنشد سيبويه.
ألا أيهذا المنزل الدارس الذي
…
كأنك لم يعهد بك الحي عاهد
وإنما وصفت (أي) بـ (ذا) وهي مبهمة مثلها، لأن (ذا) لما وصفت بما فيه الألف واللام، فصارت هي وصفتها بمنزلة شيء واحد - صح أن يوصف بها (أي) التي لا توصف إلا بما هما فيه.
بهذا وجهها سيبويه، وعلى هذا بنه الناظم بقوله:"وأيهذا أيها الذي ورد" أي ذلك ثابت في النقل، فلا ينبغي أن يعترض عليه، فإن العرب تتوسع في كلامها كما شاءت.
وروى عن الفارسي أنه قال: كنت قديمًا أستوحش من وصف (أي) بـ (ذا) وأرى أنه لا فائدة فيه، لأنهما معًا مبهمان، حتى رأيت لأبى عمروٍ في بعض كتبه مثل الذي أنكرت.
قال بعضهم: قلت لأبي علي: إلا أن انضمام (الرجل) إليه هو الذي يفيده اختصاصا قال: فهذا يقع بـ (الرجل) فأي حاجةٍ بنا إلى (هذا)؟
قال ابن خروف: وهذا من أبي عمروٍ وأبي علي تحكم، ورد لما قالت العرب واستححسنته، ومنه.
* ألا أيهذا المنزل *
قال: وما يأتي على طريق التأكيد في كلامهم أكثر من أن يحصى، مع أن (هذا) يقرب به، و (أي) أكثر إيهامًا منه.
دليل ذلك أن (هذا) يتبعه عطف البيان، ولا يتبع (أيًا) ويوقف عليه، ولا يوقف على (أي)
قال: وقد قال سيبويه في "باب وصف المبهمة": وكأنك أردت أن تقول: (يا الرجل) ولكنك قربت بـ (ذا) انتهى.
فهذا وجه ثبوت الوصف بـ (ذا) مع ما تقدم قبله.
والنوع الثالث: الاسم الموصول الذي في أوله الألف واللام نحو: يا أيها الذي قام، ومنه في القرآن الكريم: } وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون {وإنما وصل بـ (الذي) اعتبارًا بصورة الألف واللام، وكونه يعامل في النعت به معاملة ما هما فيه، ولشبهها بالألف واللام الموصولة في اسم الفاعل والمفعول، نحو: يا أيها القائم، ويا أيها الفاعل. وهذا النوع هو المراد بقوله:"أيها الذي".
وقوله: "ورد" خبر قوله: "وأيهذا" وهو على حذف العاطف أي "وأيها ذا" و (أيها الذي) ورد في كلام العرب. وكان الأولى أن يقول: وردا، بضمير المثنى، لكن أعاد ضمير / المفرد على معنى ما ذكر، كقوله:
فيها خطوط من سوادٍ وبلق
…
كأنه في الجلد توليع البهق
ولم يقل: (كأنهما) لأنه على معنى ما ذكر.
ثم في هذين المثالين تنكيت على أمرين:
أحدهما: أنه قال: "وأيهذا أيها الذي ورد" يعني: ورد سماعًا، فكأنهما على غير الاستعمال المستمر؛ إذ كان الأصل هو النوع الأول، وما سواه قليل بالنسبة إليه.
وعلى هذا يظهر أنه لم يجئ في المؤنث، ولا في المجموع غير (الذين) ونحو ذلك، فلم يأت (يا أيتها ذي) ولا (يا أيهال أولاء) وكذلك لم يأت (يا أيها اللذان) ولا (يا أيهها التي) ولا (يا أيتها اللائي) ولا ما أشبه ذلك.
ولكن القياس على ما سمع من ذلك فيه نظر، تركه الناظم تحت الاحتمال، بإحالته على السماع، بخلاف ما فيه الألف واللام، فإنه مطلق الاستعمال كما نص عليه.
والثاني: أنه أتى بـ (ذا) غير مكسوعة بـ (الكاف) فكان في ذلك إشارة إلى أن (الكاف) كالمنافية للنداءن وكذا نص عليه السيرافي في (أولئك) قال: (أولئك) لا ينادي، لأن الكاف للمخاطب، و (أولاء) غير الذي له الكاف، فكيف ينادى من ليس بمخاطب؟
وما قال لازم في كل اسم إشارة لحقته (الكاف) فيمكن أن يشير الناظم إلى هذا المعنى، فكأنه إنما أشار بقوله:"ورد" إلى هذه المعاني المتقدمة، ولم يلتزم فيها قياسا، لما فيها من النظر.
ثم قال: "ووصف أي يسوى هذا يرد"
يعني أن (أيًا) في هذا الباب لا توصف بغير ما ذكر من الأنواع الثلاثة [وأن وصفها بسواها] مردود لا يقبل، لأنه ليس من كلام العرب، فلا يجوز أن يقال: يا أيها ذو الجمة، ولا يا أيها صاحب الرجل، ولا يا أيها زيد، ولا: يا أيها من جاءني، ولا ما أشبه ذلك.
وفي كلام الناظم في المسألة اعتراض من وجهين أو ثلاثة:
أحدها: أنه أطلق القول في (أل) وما صحبته، ولم يقيد ذلك بالجنسية، وهم قد نصوا أنها لا تكون إلا التي للجنس.
فـ (أل) الغالبة على الاسم، كالصعق، والنجم، والدبران، والتي للمح الصفة، كالحارث والحسن - لا يجوز وصف (أي) بها، فلا يقال: يا أيها الصعق، ولا: يا أيها الدبران، ولا: يا أيها الحارث.
وكذلك (أل) التي يجبر بها فقد العلمية نحو: الزيدان، والزيدون، والهندات، فلا تقول: يا أيها الزيدان، أو الزيدون، ولا: يا أيتها الهندات، ولا ما كان مثل ذلك.
وقد نبه على هذا في "التسهيل" فقال: ويوصف بمصحوبها الجنسي، فترك هذا التقييد إخلال بلا بد.
والثاني: إطلاقه أيضا في الوصف بـ (ذا) وهي عند سيبويه وغيره من النحويين إنما توصف بـ (ذا) التي وصفت بذي الألف واللام.
وتأمل ما تقدم للفارسي والجرمي في الوصف بـ (ذا) فإنه مشعر بهذا المعنى.
فظاهر كلام الناظم صحة الاقتصار على اسم الإشارة في وصف (أي) وذلك مفتقر إلى / النقل، ومخالف للناس، ولو فرضنا ذلك لكان على خلاف القياس، كما قال الفارسي والجرمي.
والثالث: أن قوله: "وأيها مصحوب أل بعد" فأطلق في (أي) بالنسبة إلى ما فيه الألف واللام، فإنه تارًة يكون مذكرًا، وإطلاق (أيً) بالنسبة إليه صحيح، وتارًة يكون مؤنثًا، وإطلاق (أي) بالنسبة إليه غير صحيح، فإنك تقول: يا أيتها المرأة، ويا أيها الرجل، ولا يقال: يا أيها المرأة.
وكلام الناظم يقتضى جواز ذلك، وأنه المقول خاصًة، ولاسيما وقد قدم في (أي) الموصولة نحو هذا، وهو فيها صحيح، وهاهنا غير صحيح، قال الله تعالى} يا أيتها النفس المطمئنة {الآية، فعدم تقييد (أيً) هنا على ما ينبغي خلل ظاهر.
والرابع: أن (ذا) و (الذي) إذا وقعا صفتين فهما مرفوعا الموضع، لأنهما كالمعرف بالألف واللام، وإذا كان الأمر كذلك فقد يتوهم أنهما ليسا كذلك، والحكم في الأنواع الثلاثة واحد، ولابد لها من الرفع إلا على قول المازني، وهو مردود عند الناظم، فلو بين ذلك لكان أولى، ويتأكد ذلك بسبب ذكر الصفة بعد (ذا) نحو: يا أيهذا الرجل.
والخامس: أن قوله: "ووصف أي بسوي هذا يرد" حشو لا فائدة، فيه لأنه لو بين أنها توصف بالأنواع الثلاثة، ثم سكت لكان الاقتصار عليها مفهوما من كلامه، كما أنه لما ذكر ما يقع فاعلا لـ (نعم، وبئس) وسكت فهم له أن غير ذلك يقع فاعلا لهما، فكذلك هذا الموضع، مع أن عادته في أمثال هذا أن يكون تحت تنبيهه فائدة أو فوائد. فما الذي أفاد بهذا الكلام؟
والجواب عن الأول: أنه يمكن أن يكون أطلق القول اعتبارًا بالأصل في الألف واللام، من أنها ليست للمح الصفة ولا للغلبه، ولذلك ترجع التي للمح الصفة إلى التي للتعريف المطلق، وكذلك الغالبة هي المعرفة في الأصل، لكن عرض لهما عارض طارئ، فاعتمد الناظم على الأصل، وعلى كثرة الاستعمال فيه، وألغى غيرها لذلك. وهذا جواب ضعيف.
وعن الثاني: أن الذي اقتضاه كلامه من انفراد (ذا) عن الوصف قد يلتزم، فقد نص عليه بعض النحويين، وأنك تقول: يا أيها ذا، لأن (ذا) يجرى مجرى ما فيه الألف واللام ألا ترى أن قولك:(مررت بزيدٍ هذا) في معنى قولك: (مررت بزيدٍ الحاضر) فكما تدخل على ما فيه (أل) فكذلك تدخل على ما في معناه.
وأيضا فقد أشار في "الشرح"، إلى عدم التزام وصف (ذا) وأنشد على ذلك:
أيهذان كلا زادكما
…
ودعاني واغلاً فيمن يغل
ثم قال: والأكثر أن يجمع بين الإشارة والألف واللام، ثم أنشد على ذلك بيتًا للفرزدق صدره:
* ألا أيهذا السائلي عن أرومتي *
ونظيره قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وقول جميل بن معمر:
ألا أيهذا اللائمي أن أحبها
…
تأمل كذا إني رأيتك أعنف
/ فلم يلتزم الفصل، ولذلك لم يقيده أيضا في "التسهيل"، ويكون وجه الجواز في قولك:(يا أيهذا) ما تقدم آنفا، وما في كلام ابن
خروف على استشكال الفارسي والجرمي؛ إذ ليس اسم الإشارة في الإبهام كأي.
وأما الثالث: فلا جواب لي عنه.
والجواب عن الرابع أنه قد يفهم له الرفع باقترانه بما له الرفع، وهو ذوا الألف واللام.
وأيضا فقد يقال: لما أتى بهما في أسلوب النقل المحض لم يتعرض لإعرابهما، وترك ذلك للناظر القائس؛ إذ لا فرق في وصف (أيً) بين (الرجل) وغيره باعتبار الأحكام اللفظية.
وعن الخامس:
وذو إشارةٍ كأي في الصفه
…
إن كان تركها يفيت المعرفه
يعني أن اسم الإشارة حكمه في الصفة حكم (أي) في التزام وصفه، لكن بشرط أن يكون اسم الإشارة مفتقرًا إلى التفسير، لإبهامه عند المخاطب، فهو يفيت ترك الصفة معرفة المشار إليه عنده، فحينئذٍ لابد من وصفه، كما لابد من وصف (أي على الإطلاق، وهذا معنى قوله: "إن كات تركها" يريد: ترك الصفة (يفيت المعرفة). فتقول: يا ذا الرجل، ويا هذه المرأة.
ووجه ذلك: أن اسم الإشارة مبهم كأي في الأصل، فيلزمه من التفسير ما يلزمها، إلا أن يكون معه ما يعينه.
ومن ذلك قول خزز بن لوذان السدوسي، أنشده سيبويه:
يا صاح يا ذا الضامر العنس
…
والرحل والأقتاب والحلس
وأنشد أيضا لعبيد بن الأبرص مجيبًا لامرئ القيس في قوله:
* والله لا يذهب شيخي باطلا *
يا ذا المخوفنا بمقتل شيخه
…
حجرٍ تمنى صاحب الأحلام
وأما إذا كان اسم الإشارة مستغنيًا عن الصفة، لكون تركها لا يفيت المعرفة بل هي حاصلة دونها، فلا تلزم الصفة؛ بل يجوز لك أن تقول: يا هذا، وتسكت، ولك أن تأتي بها فتقول: يا هذا الرجل، وهذا ظاهر من مفهوم كلامه.
والألف واللام في "الصفة" للعهد، يريد الصفة المذكورة في (أي) لا الصفة مطلقا، وعلى هذا فكل ما تقدم في صفة (أي) من لزوم الرفع، وعدم الاستغناء عنها، وغير ذلك من الأمور المتقدمة، جارٍ هنا.
إلا أنه، على هذا التقرير، معترض من جهة أنه أحال في التزام الصفة في اسم الإشارة على (أي) وقد قدم في (أي) أنها توصف بثلاثة أشياء: ما فيه الألف واللام، واسم الإشارة، والموصول المصدر بالألف واللام، فلابد أن يوصف اسم الإشارة على مقتضى كلامه بالثلاثة. ووصفه بالأول لا أشكال فيه، وكذلك الثالث، إذ لا يمتنع أن يقال: يا هذا الذي قام.
وأما وصفه باسم الإشارة فغير صحيح، لا سماعًا ولا قياسًا، فعدم / السماع ظاهر.
وأما القياس: فلو قلت: (يا هذا ذا الرجل) لكان تكرارًا من غير فائدة، والفائدة إنما حصلت بـ (الرجل) وكذلك إذا قلت:(يا هذا هذا) فلا يفيد الثاني غير ما أفاده الأول، وقد فرضناه مفتقرا للبيان، فتكراره لا بيان فيه.
والجواب عن هذا: أنه قدم في (أي) ثلاثة أنواع من الصفة، واعتمد علي واحد منها وهو الأول، وأتى بما عداه في معرض أنه سماع، فالسماع لا يحال عليه إذا لم يكن قياسا، وهو إنما قال فيه:(ورد) ولم يحتم فيه بقياس، فلا إحالة عليه.
فإن قلت: فأنت تصف (هذا) بـ (الذي) قيل: إن كان ذلك فليس في قوة ذي الألف واللام، فلم يحفل به، أو يقال: إنه أحال علي الأنواع الثلاثة على الجملة، وترك إخراج اسم الإشارة لأنه معلوم، والله أعلم.
واعلم أنه إنما قال: (كأي في الصفة) لأنه لا يستوي حكم (أي) واسم الإشارة على الإطلاق، ولا أيضًا يستويان في أحكام (هذا الباب، أعنى باب النداء.
ألا ترى أن (أيًا) يجوز حذف حرف النداء معها، ولا يحسن مع اسم الإشارة، إلى غير ذلك، ولا أيضا يستويان في جميع أحكام التوابع وإن ساواها في الافتقار إلى الصفة، ألا ترى أن (أيًا) لا يجوز أن يجرى عليها من التوابع سوى ما تقدم إلا عطف النسق، والبدل، بخلاف اسم الإشارة، فإن التأكيد، وعطف البيان، يجريان عليه أيضا زيادة على جريان البدل، وعطف النسق.
وهذا كله مبين في غير هذا الموضع، وإنما القصد بيان أن تقييد الحكم بالصفة في كلامه ضروري لابد منه. والله تعالى أعلم.
في نحو سعد سعد الأوس ينتصب
…
ثانٍ وضم وافتح أولاً تصب
هذه مسألة أيضا تتعلق بـ (فصل التوابع) وهي مسألة ترجم عليها أبو القاسم في "الجمل"، "باب الأسمين اللذين لفظهما واحد والآخر مضاف منهما"، وذكر الناظم فيها أن (سعدًا) الثاني، وهو (سعد الأوس) ينتصب لا غير، إذ لم يذكر فيه سوى ذلك.
وأما "سعد" الأول، فذكر فيه وجهين:
أحدهما: الضم، فتقول:(يا سعد سعد الأوس)، ومثله: يا زيد زيد عمروٍ.
الوجه الآخر: الفتح، فتقول: يا سعد سعد الأوس، ويا زيد زيد عمروٍ.
ومثله ما أنشد سيبويه لجرير:
يا تيم تيم عدى لا أبا لكم
…
لا يلقينكم في سوءةٍ عمر
وأنشد أيضا:
* يا زيد زيد اليعملات الذب *
وأنشد الفراء:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر
…
وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
وقدم الضم على الفتح لأنه القياس والأصل، بخلاف الثاني.
هذا تصوير ما صور الناظم، وبقى وجه ذلك لم يتعرض إليه بالنص، لأنه بالنسبة إلى المقصد من تصوير كيفية النطق غير ضروري؛ إذ من يعرف ما قال ينحو في المسألة نحو كلام العرب وإن لم يعرف وجهًا لضم ولا فتح، وكذلك فعل في "التسهيل" / ولكنه قد أشار هنا إلى شيءٍ من توجيهها واختيار بعض التأويلات على بعض، فلابد من ذكر ذلك وشرحه، لأن أرباب المختصرات، كالجزولى وغيره، يشيرون إلى التوجيه، فليحذ حذوهم على الاختصار بحسب ما يليق بالموضع، والله المستعان.
فأما إذا كان الأول مضموما فوجهه ظاهر، وينتصب الثاني إذ ذاك من خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون (عطف بيان) على الأول على الموضع.
والثاني: أن يكون (بدلاً منه) كأنه في تقدير المباشرة لحرف النداء.
والثالث: أن يكون على (نداءٍ) مستأنف حذف منه حرف النداء.
والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يجوز معه ذكر حرف النداء، ولا يجوز ذلك في البدل.
وإن قيل: إنه على تقدير تكرار العامل؛ إذ هو عند ذلك العامل كالتقدير المعنوي الذي لا يتكلم به، بخلاف الآخر فإنه تقدير لفظي.
والرابع: أن يكون منصوبا بإضمار (أعني) كأنه لما قال: يا سعد - قيل له: من تعني؟ فقال: سعد الأوس. وهذا الفعل هو الذي يقدر في مواضع البيان.
والخامس: أن يكون (نعتًا) للأول كأنه قال: يا سعد المنسوب للأوس. وهذا الوجه ضعيف، لأن الوصف بالجامد، على توهم الاشتقاق، موقوف على السماع فلا يقال به ما وجد عنه مندوحة، وقد وجدنا ذلك: بجواز ما تقدم من الأوجه.
وقد يحتمل على ضعفه، بناًد على ما أصله ابن جنى بقوله: لا يمنعنك قوة القوى من إجازه الضعيف، وبني ذلك على أصلٍ عربي حسن.
وأما إذا كان الأول مفتوحا: فذلك عند الناظم فتح بناءٍ أو ما أشبه البناء، لا فتح إعراب؛ إذا لو كان فتح إعراب لقال: وضم وانصب أو لا تصب.
وإذا كان فتح بناء، والثاني: عنده معرب بالنصب لا مبني لقوله: (ينتصب) ولم يقل: ينفتح - كان ظاهر الميل المذهب السيرافي، وهو أن يكون أتبع حركه الأول المبنى حركة الثاني المعرب، لأن (سعد الأوس) في بيانه للأول مثل (ابن عمرو) ولاجتماع الأولين منهما في أنهما مبنيان مناديان.
وأجاز ذلك ابن خروف أيضا، فالفتح في الأول بناء، وفي الثاني إعراب، ولعمري إنه ظاهر، وثبت له نظير في "باب النداء" متفق عليه.
والمسألة مختلف فيها على ثلاثة أقوال من التأويل، أحدها: هذا.
والثاني: مذهب سيبويه: أن الاسم المضاف إليه مخفوض بالأول، والاسم الثاني: مقحم بين المضاف والمضاف إليه، ونظر ذلك بمسألة (لا أبالك) في إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه، وفي قوله:
* يا بؤس للحرب *
وقولهم: يا طلحة أقبل، وقول النابغة:
* كليني لهم يا أميمة ناصب *
وهذا كله قد خولف فيه، ونقده المبرد من وجهين:
أحدهما: أن اطراد الفصل بين المضاف والمضاف إليه مخصوص بالشعر، بشرط أن يكون / الفصل بظرف أو مجرور، وقول سيبويه يلزم عليه الفصل بالثاني بين الأول ومخفوضه وليس بظرفٍ ولا مجرور، ولا الفصل في شعر، فوجب القول بخلافه.
والثاني: أن الاسم الثاني غير مضاف إلى ما بعده، وهو مع ذلك غير منون، ولو كان على ما يقول سيبويه لكان منونًا؛ إذ لا مانع يمنع من ذلك، وهذا وإن كان المنتصرون لسيبويه قد أجابوا عنهما فالتأويل المذكور لا يقوى قوة الأول.
والثالث: مذهب المبرد، وهو أن المضاف إليه مخفوض بما يليه وهو "سعد" الثاني، ومخفوض الأول محذوف لفظا، مراد معنى، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه وهو نظير ما ذهب إليه في نحو: قطع الله يد ورجل من قالها، وقول الشاعر:
* بين ذراعي وجبهه الأسد *
وقد نقد عليه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لو كان المضاف إليه الأول محذوفًا لوجب رجوع التنوين، لزوال ما أوجب حذفه، لأنه إنما حذف للإضافة، فلما حذف المضاف إليه المعاقب للتنوين وجب رده، كما في (كل، وبعضٍ) ونحوهما.
والثاني: أنه لو كان كذلك لم يختص هذا الحكم بالنداء، فكنت تقول: هذا زيد زيد عمروٍ، ونحو ذلك، لأن مخفوض الأول عنده محذوف لدلالة الثاني عليه، وهو مطرد في "باب الإعمال"، فكونه اختص بالنداء دليل على خلاف ما قال.
والثالث: أن تأخر الدليل عند الحذف على خلاف الأصول، فكان ما ذهب إليه من هذا الوجه مرجوحًا.
هذا ما اعترضٍ به وإن كان فيه نظر، فما ذهب إليه أرجح، لأن رأى سيبويه والمبرد فيهما مخالفة القياس، وما ذهب إليه جارٍ على باب مقيس في النداء.
فإن قيل: فقد ذهب الناظم إلى مذهب المبرد في نحو: قطع الله يد ورجل من قالها، حسبما تقدم في "باب الإضافة"، وجعلة قياسا، فلم لم يلحق هذا الموضع بذلك كما ألحقه المبرد؟ بل الناظم أولى بهذا من المبرد، لأنه يرى هنالك جريان القياس، فلو حمل المسألة هنا على حذف المضاف من الأول لحملها على وجه مقيس أيضا، فكأن عدوله عن ذلك إلى وده آخر ترجيح من غير مرجح.
فالجواب بأمرين:
أحدهما: أنه قد شرط في مسألة الإضافة أن يكون في الثاني عطف في قوله:
بشرط عطفٍ وإضافةٍ إلى
…
مثل الذي له أضفت الأولا
ومسألة "النداء" لا عطف فيها وإنما فرق بينهما، والله أعلم، لأن السماع إنما كثر مع العطف لا دونه فلو أجرى هذه المسألة على ذلك لكان قد أجرها على ما ليس بقياس، مع إمكان إجرائها على القياس.
والذي يرجح هذا أن حذف المضاف مع عدم العطف قليل بالاستقراء، ومثل (يا سعد يا سعد الأوس) ليس بقليلٍ قلته في غير النداء، فدل ذلك على اختلاف البابين عند العرب.
والثاني: أنا لو سلمنا استواءهما لكان حملها على ما / حملها عليه أولى بمسائل "النداء" وحمل بعض الباب على بعضٍ أولى من حمله على باب آخر، وأيضًا فإن هذا المحمل لا تقدير حذفٍ فيه، فهو أولى مما يقدر فيه الحذف، لأن الحمل على الظاهر أولى، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وهي من أصول العربية التي اعتمدها ابن مالك، وأخذها بكلتا يديه، فهذا ما اختار هنا.
وإذا ثبت هذا فيجوز في (سعد) الثاني على رأيه وجهان: النعت كـ (يا زيد بن عمروٍ) وعطف البيان خاصة.
ولا يجوز البدل لأنه في حكم الانفراد عن الأول، أعنى بالنسبة إلى الاستقلال بالعامل، وكذلك إن كان على نداءٍ ثانٍ أو على إضمار فعل، والتركيب ينافي ذلك كله.
وسعد الأوس هو سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وهو أخو الخزرج بن حارثة بن ثعلبة [بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد. وقوله:"سعد الأوس" وقوله: "وافتح أولاً" جاء بهما على نقل]، والحركة وبذلك يستقيم الوزن، إذ لو لم ينقل لانكسر.