الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسماء الأفعال والأصوات
ما ناب عن فعلٍ كشتان وصه
…
هو اسم فعلٍ وكذا أوه ومه
اسم الفعل: هو الاسم الموضوع بالأصالة موضع الفعل نائبًا عنه فيما له من عملٍ ومعنى.
واسم الصوت: هو اللفظ المخاطب به مالا يعقل، أو الموضوع حكاية لصوته. فهذا الباب مشتمل على ثلاثة الأنواع.
وابتدأ الكلام في النوع الأول، وهو اسم الفعل، ويريد أن ما كان من الأسماء نائبًا عن فعل من الأفعال، قائمًا مقامه يسمى (اسم فعل). والمراد بالنيابة هنا النيابة المعنوية، أي ما ناب في أداء معناه حقيقة، ولا يريد النيابة مطلقا، في المعنى والعمل وغيره، لأنه قال بعد هذا:"وما لما تنوب عنه من عملٍ لها"
فلو كان المراد هو النيابة في العمل أيضا لكان معنى الكلام: ولأسماء الأفعال النيابة عن الفعل في العمل ما للفعل من عمل، فيكون إخبارًا بأنها تنوب عنه فيما هي نائبة عنه، وهذا تكرار لا طائل تحته، فالمقصود نيابة المعنى خاصة.
وقوله: "ما ناب عن فعلٍ" مشعر بأن اسم الفعل نائب عن الفعل بلا واسطة، فحصل من ذلك مسألتان مختلف فيهما:
إحداهما: أن (شتان، وصه، ومه) ونحوها أسماء لا أفعال؛ إذ لا يقال في الفعل: إنه ناب عن فعل.
وهذا مذهب البصريين، وذكر عن الكوفيين أن أسماء الأفعال أفعال حقيقة، وهو مذهب غير جارٍ على طريقة صناعة، لأن الأفعال تتصل بها ضمائر الرفع البارزة، فتقول: اضربا يا زيدان، واضربوا يا زيدون، وأنت تقول: صه يا زيد، وصه يا زيدان، وصه يا زيدون، لا غير، فلو كانت أفعالا لاتصلت بها الضمائر.
والثانية: أنها نائبة عن الأفعال أنفسها بلا واسطة، وهو مذهب الجمهور.
وذهب قوم إلى أنها نائبة مناب المصادر النائبة مناب الأفعال، فقولك:(صه) نائب مناب قولك: سكوتًا، و (سكوتًا) في موضع (اسكت) وكذلك سائرها.
فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب.
وعلى الثاني هي في موقع نصب، لوقوعها موقع ما هو في موضع نصب.
وما ذهب إليه الناظم أولى، لأنها لو كانت موضوعة موضع المصادر لجرت بوجوه الإعراب كالمصادر، لأنها لم تكن دالة إلا على ما يستحق الإعراب، فكونهم التزموا بناءها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه، وصحة ما مال إليه الناظم.
وقد استدل من ذهب إلى ذلك بأن الاسم يجرى مجرى المسمى في معهود اللغة، وهذه الأسماء يلحقها ما لا يلحق الأفعال، من التنوين نحو: صهٍ، ومهٍ، وأفً، وإيهٍ، ومن الألف واللام نحو: النجاءك، والتصغير نحو: رويدًا، والتثنية
نحو: "دهدرين سعد القين" أي هلك سعد القين، والتركيب نحو: هلم، وحيهل.
فلو كانت معاقبة للفعل، ونائبة منابه وبمعناه من كل وجه- لما ساغت فيها هذه الأحكام التي لا تكون إلا للاسم.
وهذا ضعيف، فإن ما يقوم مقام الشيء لو أعطى حكم ذلك الشيء من كل وجه لكان إياه، وهذا فاسد، بل الذي يقوم مقام الشيء، وكان من غير جنسه، يقوم مقامه فيما لا يخل بحكمه في نفسه، فأسماء الأفعال يعامل لفظها معاملة الأسماء، ويعامل معناها معاملة الأفعال، لأن معانيها معاني الأفعال. فالأصح ما ذهب إليه الناظم.
ثم أتى بأربعة أمثلة نبه بها على مسألتين:
إحداهما: أن النيابة المرادة هنا هي الوضعية، فإن النيابة على وجهين:
أحدهما: النيابة في معهود الاستعمال، لا في أصل الوضع، كنيابة المصادر عن أفعالها، نحو: ضربًا زيدًا، وهو أخي حقًا، وما أشبه ذلك، فالأسماء النائبة هذه النيابة ليست أسماء أفعال، وإنما هي على أصل وضعها، لكن عرض لها نيابة في الاستعمال، ولم تخرج بذلك عن حقيقة أصلها، ولذلك ظهر فيها تأثير العامل التي نابت عنه.
والثاني: النيابة في أصل الوضع، وهي النيابة التي صيرت الأسماء على حكم الأفعال في العمل وغيره؛ بل على حكم الحروف التي وضعت نائبة عن الحرف، كـ (إن) وأخواتها كما تقدم. وهذه هي النيابة المرادة هنا، أحرز ذلك تمثيله.
والمسألة الثانية: إشارته إلى أنواع اسم الفعل، وذلك أن اسم الفعل ينقسم بانقسام الفعل، والأفعال ثلاثة: أمر، وماضٍ، ومضارع، فكذلك أسماء الأفعال ثلاثة:
أحدها: اسم فعل الأمر نحو (صه) بمعنى: اسكت و (مه) بمعنى: انكفف، و (إيه) معنى: حدث و (نزال) بمعنى: انزل، و (قرقار) بمعنى: قرقر، و (حيهل) بمعنى إيت، نحو: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر. وقد نبه عليه بمثالين، وهما (صه، ومه).
والثاني: اسم الفعل الماضي، نحو (هيهات) بمعنى: بعد، و (همهام) بمعنى: فني، و (دهدرين) اسم: هلك، أو بطل، و (سرعان) بمعنى: سرع.
ورأت امرأة من العرب شاًة سال أنفها، فقالت:"سرعان ذي إهالة" أي سرع شحم هذه الشاة.
والإهالة: الشحم، و (وشكان) بمعنى: سرع أيضا، و (شتان) بمعنى: افترق، وهو مثاله الذي نبه عليه به. و (بطان) بمعنى: أبطأ.
والثالث: اسم الفعل المضارع، نحو:(واهًا) بمعنى: أعجب، و (وى) كذلك. و (أوه) بمعنى: أتوج، و (أف) بمعنى: أتضجر، و (كخ) بمعنى: أتكره، و (ها) بمعنى: أجيب، و (بجل، وقط) بمعنى: أكتفى، و (حس) بمعنى: أتوجع.
فإن قلت: إطلاقه يقتضي أحد أمرين، كل منهما محظور، وذلك أنه لا يخلو إما أن يريد بالنيابة هنا النيابة بالأصالة أولا.
فإذا أراد النيابة بالأصالة، فلا تدخل تحت إطلاقه سوى ما كان من نحو (صه، ومه، ونزال، وهيهات) ونحو ذلك مما تقدم ذكره، ويبقى (إليك، وعليك، ودونك، وعندك، ولديك) وما كتن نحوها غير داخلٍ، لأن كونها أسماء أفعالٍ ليس بحق الأصل؛ إذ كان أصلها أن تكون ظروفًا ومجروراتٍ، نحو: جئت إليك، واعتمدت عليك، ونزلت عندك ونحو ذلك، وهو قد نص على دخولها في الباب على أنها من أسماء الأفعال بقوله:
والفعل من أسمائه عليكا
…
وهكذا دونك مع إليكا
فجعلها أسماء أفعال كالذي قدم، فيناقض إطلاقه أولًا كلامه آخرًا، وإن أراد النيابة على أعم من ذلك، فيدخل له (عليك، وإليك) ويدخل معه المصادر النائبة عن أفعالها لزومًا، نحو: ضربًا زيدًا، وحمدًا، وشكرًا، وعجبًا، وما كان من ذلك، وهو كثير جدًا- فيقتضي أنها أسماء أفعالٍ اصطلاحًا، وداخلة في أحكامها، وهذا كما ترى ليس كذلك، فإن نيابة هذه المصادر عن الأفعال عارضة، وفي حالٍ ما، وهي باقية على بابها الأصلي، ولذلك لم تبن كما تبنى أسماء الأفعال، فلا بد من اإشكال على كلا التقديرين.
فالجواب: أن المراد النيابة الأصلية وما جرى مجراها، فالأصلية ما في (صه، ومه، وهيهات).
وأما اللاحقة بها فـ (دونك، وعندك، وإليك) ونحوها، وذلك أنها تمحضت للنيابة وإن كان أصلها غير ذلك، بخلاف (ضربًا زيدًا) ونحوه، فإنه ناب في بعض الأحوال، ويظهر الفعل في أحوال أخر.
والدليل على عروض النيابة بقاء الإعراب، فإنها لو تمحضت لذلك لبنيت.
فإن قلت: فـ (عندك، وقدامك، ووراءك) ونحوه معربة أو مبنية؟
فإن قلت: معربة، فهي مثل (ضربًا وزيدًا)
وإن قلت: مبنية، فمن أين لك هذا وهي باقية على ما كانت عليه قبل النيابة من كونها منصوبة بفعلها الذي نابت عنه؟
فالجواب: أنها مبنية لما سيذكر عند ذكر الناظم له إن شاء الله.
وفي (أوه) لغات، إحداها: ما ذكره الناظم، وأوه، وأوه، وأوه، وأوه، وأه.
وما بمعنى افعل كامين كثر
…
وغيره كوى وهيهات نزر
يريد أن اسم الفعل، بمعنى فعل الأمر، كثر في كلام العرب، نحو ما ذكر في التمثيل قبل هذا.
ومنه: أمين، وأمين، ممدودا، وهو مثاله، ومقصورًا أيضا، فمن الممدود قوله:
يا رب لا تسلبنى حبها أبدًا
…
ويرحم الله عبدًا قال أمينا
ومن المقصور قوله:
تباعد منى فطحل إذ سألته
…
أمين فزاد الله ما بيننا بعدًا
ومنه أيضا (ها، وهاء) مقصورًا وممدودًا، و (هال، وهاءك) وكلها بمعنى: خذ. ومنه بلا كاف: {هاؤم اقرءوا كتابيه} .
و (هلم) الحجازية، بمعنى: أقبل، أو أحضر، ومنه قوله تعالى:{والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} وقوله: {قل هلم شهداءكم} .
و(تيد، ورويد) كلاهما بمعنى: أمهل. و (حيهل) بمعنى: إيت، نحو: فحيهلا بعمر، بمعنى: أقبل. و (هيت، وهيت، وهيا، وهيك، وهيك، وهيك) بمعنى: أسرع، و (بله) بمعنى: دع، وذلك كثير.
وأما ما كان بمعنى الماضي أو المضارع فقليل كما ذكر.
وقوله: "كوى" مثال من اسم فعل المضارع، وهو بمعنى: أعجب. ومنه عند الخليل وسيبويه. قوله تعالى: {ويكأن الله يبسط الرزق} الآية. وأنشد سيبويه:
وى كأن من يكن له نشب يحـ
…
ـبب ومن يفتقر يعيش عيش ضر
وقد تقدم بعض الأمثلة، ومنه باب (فعال) ثلاثيًا وهو قياس، ورباعيًا وهو سماع، نحو: قرقار، وعرعار.
وقوله: "هيهات" مثال من اسم الفعل الماضي، وفيه لغات: هيهات، وهيهات، فالفتح لأهل الحجاز، والكسر لتميم وأسد.
ومن العرب من يضمها، ومنهم من ينون في اللغات الثلاث، وقرئ بجميع ذلك قوله تعالى:{هيهات هيهات لما توعدون} . فبالكسر لأبي جعفر المدني، ومع التنوين لأبي حيوة، وروي عنه الضم بالتنوين وعدمه، والفتح بلا تنوين للجماعة، وبالتنوين لخالد بن إلياس، وروى سكون التاء عن أبي عمرو، والأعرج، وعيسى بن عمر، وهيها بلا نون، وأيها، وأيهان، وهيهان، وأيهات. هذه كلها لغات منقولة.
وإنما كثر ذلك في الأمر، لأن باب الأمر والنهي لا يكون إلا بالفعل، فلما قويت الدلالة فيه على الفعل حسنت إقامة غيره مقامه، بخلاف الخبر لأنه لا يخص بالفعل؛ إذ كنت تأتي بالخبر من غير فعل، نحو: زيد أخوك، وعمرو صاحبك، والأمر لا يكون ذلك فيه، فلما ضعفت الدلالة على الفعل في الخبر قل ذلك فيه. ونزر الشيء، نزارة ونزورًا، إذا قل.
والفعل من أسمائه عليكا
…
وهكذا دونك مع إليكا
كذا رويد بله ناصبين
…
ويعملان الخفض مصدرين
يعني أن من أسماء الأفعال ظروفًا ومجروراتٍ وفيرها، وعد منها خمسة:
أحدها: (عليك) نحو: عليك زيدًا، بمعنى: الزم زيدًا، ومنه قوله تعالى:{عليكم أنفسكم} .
والثاني: (دونك) نحو: دونك زيدًا، بمعنى: خذ زيدًا.
قالت تميم للحجاج: أقبرنا صالحًا، وكان قد صلبه، فقال: دونكموه.
ومنه قول الشاعر، أنشده أبو زيد:
أعياش قد ذاق القيون مرارتي
…
وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل
والثالث: (إليك) نحو قول المرار:
إليكم يالئام الناس إني
…
تشعت العز في أنفي تشوعا
أي: اذهبوا وتنحوا، وقول القطامي:
* إليك إليك ضاق بها ذراعا *
والرابع والخامس على وجهين، تارة يكونان اسمى فعل، وتارة مصدرين.
فأما كونهما اسمى فعل فينصبان المفعول، وهو قوله:"كذا رويد بله ناصبين".
فأما: (بله) فمعناها: دع، ومنه في الحديث: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، بله ما اطلعتم عليه. ويحتمل المصدر، وقال ابن هرمة:
تمشي القطوف إذا غنى الحداة بها
…
مشي النجيبة بله الجلة النجبا
ويروي:
*مشى الجواد فبله الجلة النجبا*
وأنشد اللحياني:
بسطت إلى المعروف كفا عريضة
…
تنال العدى بله الصديق فضولها
وأنشد قوله:
*بله الأكف كأنها لم تخلق*
بالنصب والجر.
وأما (رويد): فمعناها: أمهل، نحو: رويد زيدًا، وأنشد سيبويه للهذلي:
رويد عليا جدما تدى أمهم
…
إلينا ولكن بغضهم متماين
قال: وسمعنا من العرب من يقول: والله لو لأردت الدراهم لأعطيتك، رويد ما الشعر، يريد: أرود الشعر، كقول القائل: لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر.
ومن هذا النوع (على) بمعنى: أولني، نحو: على زيدًا، وعلى بزيدٍ. ومنه (عندك) بمعنى خذ، نحو: عندك زيدًا.
ومنه (لديك) بمعنى: خذ أيضا ومنه قول ذي الرمة:
فدع عنك الصبا ولديك هما
…
توقش في فؤادك واختبالا
أي: وخذهما.
منه (وراءك) بمععنى: تأخر، و (أمامك) بمعنى: تقدم.
ومن كلامهم: "وراءك أوسع لك" أي تأخر وائت أوسع لك.
وقال الفرزدق:
إذا جشأت نفسي أقول لها ارجعي
…
وراءك فاستحي بياض اللهازم
ومنه (مكانك) بمعنى: اثبت، قال الشاعر، وهو ابن الإطنابة:
وقولي كلما جشأت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي
ومنه ما حكان ابن جني من (كذاك) بمعنى: احفظ، أو اتق، وأنشد:
أقول وقد تلاحقت المطايا
…
كذاك القول إن عليك عينا
أي: اتق القول أو احفظه.
ثم قال الناظم بعد ذكر (بله ورويد): "ويعملان الخفض مصدرين" يعني أنهما يكونان مصدرين منصوبين بفعلين لازمي الإضمار، فيعملان إذ ذاك الخفض فيما بعدهما على الإضافة.
والدليل على كونهما غير اسمى فعلٍ إذا خفضا ما بعدهما: أن أسماء الأفعال لا تضاف أبدا، كما تضاف أسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر.
وحكى الفارسي عن أبي عمرو الشيباني: ما بلهك لا تفعل كذا، أي مالك، وأنشدوا في الخفض بـ (بله) لكعب بن مالك:
تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها
…
بله الأكف كأنها لم تخلق
ويقال في (رويد): رويد زيدٍ- بالخفض- قال سيبويه: حدثنا من لا نتهم أنه سمه من العرب من يقول: رويد نفسه، جعله كقوله:"فضرب الرقاب". وكقوله:
عذير الحي.
وقد تأتي صفة أيضا كقولك: ساروا سيرًا رويدًا، هذا بيان كونهما غير اسمى فعل.
وأيضًا هما مصدران، كما قال، أما (رويدًا) فتصغير (إرواد) مصدر: أرود إروادًا، تصغير الترخيم، بمعنى (إمهالًا) فـ (رويد زيدٍ) مرادف: إمهال زيدٍ.
وأما (بله) فقولهم: ما بلهك؟ أي: ما حالك؟ - يرشد إلى معنى المصدرية.
وقد أشعر كلام الناظم أنهما لا يعملان النصب وهما مصدران، وهذا مذهب أبي العباس، أن النصب بها ممتنع، فلا يقال عنده: رويدًا زيدًا، لأجل التصغير، كما لا يقال: ضويرب زيدًا.
قال ابن خروف: وهذا ليس مثل ذلك، لأن اسم الفاعل عمل بشبه الفعل، والفعل لا يصغر، فلم يعمل مصغرا، والمصدر عمل بنفسه، من حيث كان حدثا لا يشبه الفعل، فلا يمنع التصغير عمله، ونقل اجازة سيبويه: رويدك عبدالله، وذكره له في "باب: حذرك" وأنه إنما هو نصب بـ (رويد) المصدر، فقد أجاز النصب به.
ولم يعرج عليه الناظم، وكأنه رأى النصب على خلاف القياس مع عدم السماع أو ظنه.
وما لما تنوب عنه من عمل
…
لها وأخر مالذي فيه العمل
يعني أن هذه الأسماء التي سميت بها الأفعال لها من العمل ما للأفعال التي نابت عنها، فلابد لها من مرفوعٍ على الفاعلية، إما ظاهرًا إن كان مما يصح ظهور فاعله، كاسم الفعل الماضي، وإما مضمرًا إن لم يصح ذلك فيه، كاسم فعل الأمر.
فمثال ما ظهر فيه الفاعل قول الشاعر:
فهيهات هيهات العقيق وأهله
…
وهيهات خل بالعقيق نواصله
وقال الآخر:
تذكرت أيامًا مضين من الصبا
…
فهيهات هيهاتٍ إليك رجوعها
ومثال المضمر قوله تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا} وهو كثير.
فإذا كل اسم فعلٍ لازم له الفاعل كالفعل، ثم بعد ذلك ينقسم إلى ما ينوب عن متعد، وإلى ما ينوب عن لازمٍ غير متعد.
فأما ما ناب عما يتعدى: فنحو قولك: رويد زيدًا، وهلم زيدًا، بمعنى: قربه.
وقد يكون بمعنى ما لا يتعدى نحو قوله تعالى: {هلم إلينا} أي: تعالوا، وحيهل التريد، وبله زيدًا، وتراكها، ومناعها، وعليك زيدًا، ودونك عمرًا.
وأما ما ناب عما لا يتعدى فكثير، نحو: صه، ومه، وهيت، ونزال، وأمين، وهيهات، وسرعان، ووشكان، وهمهام، ونحو ذلك.
وعلى هذا إذا كان الفعل يتعدى بالحرف تعدى اسمه كذلك، ولذلك قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، لما كان اسما لـ (عجل) وقالوا: حي على الصلاة، لما كان اسما لـ (أقبل) وقالوا: حيهل التريد، اسما لـ (إيت)
وظاهر هذا الإطلاق أن كل ما يكون للفعل من عملٍ في ظرف، أو مجرور، أو حال، أو مستثنى، أو تمييز، أو غير ذلك- فاسم الفعل قائم مقامه فيه، فتقول على هذا: نزال عندي، بمعنى: انزل عندي. ومنه في العمل في المجرور:
*تراكها من إبلٍ تراكها*
ومن العمل في الحال: ما أنشده سيبويه للكميت:
نعاء جذامًا غير موتٍ ولا قتل
…
ولكن فراقًا للدعائم والأصل
فـ (غير موتٍ) حال، أي انعهم غير موتى ولا مقتولين.
وكذلك في الاستثناء: هلم الشهود إلا زيدًا، وفي التمييز، نحو قول المرأة "سرعان ذي إهالة" وكذلك تعمل أيضا في جواب الأمر نحو:
مكانك تحمدي أو تستريحي.
وأنشد ثابت في "دلائله" قول الشاعر:
رويد تصاهل بالعراق جيادنا
…
كأنك بالضحاك قد قام نادبه
وأما النصب بعد الفاء فلا يكون فيها، لأن ذلك يحتاج إلى تقدير العامل بالمصدر نحو: جئني فأكرمك، أي: ليكن منك مجئ فإكرام مني، وهذا لا يتأتى في اسم الفعل، وعلى أن مثل هذا لم يقصد إليه الناظم فلا اعتراض عليه به.
و"ما" في قوله: "وما لما تنوب" مبتدأ، خبره "لها" وهي واقعة على العمل، و"ما" الثانية للفعل، أي: ما للفعل المنوب عنه مستقر لأسماء الأفعال.
ثم قال، "وأخر مالذي فيه العمل"
لما كان إطلاقه في قيام اسم الفعل مقام الفعل في العمل يوهم جواز التصرف في المعمول بالتقديم- نبه لى عدم هذا التوهم، وأنه لا يجوز فيه تقديم المعمول، فلا تقول: زيدًا عليك، ولا عمرًا رويد، ولا نحو ذلك، وهذا مذهب البصريين والفراء.
وذهب الكسائي إلى جواز التقديم في الاب مطلقا، محتجًا في ذلك بقوله تعالى:{كتاب الله عليكم} لأن المعنى عنده: عليكم كتاب
الله، أي الزموا، كما قال في الآية الأخرى {عليكم أنفسكم} وبقول الراجز:
يا أيها المائح دلوى دونكا
…
إني رأيت الناس يحمدونكا
فالمعنى عنده: دونك دلوى.
وما استشهد به لا يتعين فيه ما قال، والظاهر في الآية أن "كتاب الله" منصوب على المصدر، أي كتب الله ليكم كتابًا، ودل عليه قوله تعالى قبل ذلك:{حرمت عليكم أمهاتكم} وكذا وكذا، كما انتصب (صبغة الله) فـ (صنع الله) ونحوه على مثل ذلك.
وأما البيت فلى إضمار الفعل، كأنه قال: الزم دلوى، دونك دلوى، وإذا أمكن هذا لم يكن فيما ذكر متمسك مع فقد السماع.
وأيضًا فالقياس مانع من ذلك، وذلك أن اسم الفعل لا يشبه الفعل لفظًا، ولا يتصرف تصرفه، ولذلك لا تتصل به ضمائر الرفع البارزة، ولا تلحقه نون التوكيد ولا نون وقاية في غير الشذوذ، ولا أداة من أدوات الأفعال.
وإذا كان كذلك لم يسغ أن يجرى مجراه، ولا أن يتصرف تصرفه في المعمول وهذا ظاهر.
و"ذي" في قوله: "وأخر مالذي" إشارة إلى أقرب مذكور، وهو اسم الفعل المشتغل بذكره.
وفي بعض النسخ: "وأخر مالذا فيه العمل" فالأول إشارة إلى الأسماء والثاني إشارة الأسم، ووقع في قافية البيت الأول "عمل" وفي الثاني "العمل" معرفا، وليس بإيطاء، وقد تقدم مثله.
واحكم بتنكير الذي ينون
…
منها وتعريف سواه بين
يعني أن ما كان من هذه الأسماء قد دخله التنوين فهو نكوة، ومالم يدخله التنوين فهو معرفة. والتنوين الذي يدخلها يسمى "تنوين التنكير".
وأسماء الأفعال بهذه النسبة على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما لا يأتي إلا معرفة، فلا يدخله تنوين نحو: رويد، بله، وأمين.
والثاني: ما لا يأتي إلا نكرة، فيلزمه التنوين نحو (إيها) في الكف، و (واهًا) في التعجب و (ويهًا) في الإغراء و (فداءٍ لك) بالكسر والتنوين.
والثالث: ما يجوز فيه الوجهان، والتنكير: فيلحقه التنوين، والتعريف: فلا يلحقه، نحو: إيه وإيهٍ، وصه وصهٍ، ومه ومهٍ.
وحكى الفارسي في "التذكرة" عن أبي عثمان، عن أبي زيد، أنه سمع أبا السماك يقول: هؤلاءٍ قومك، فنون على جهة التنكير. وهذا غريب في أسماء الإشارة.
ومعنى التنكير أن يكون مدلول اسم الفعل غير معهود عند المأمور أو المنهي، فكأنه يأمره بأمرٍ غير معين أو ينهاه عنه، والتعريف بخلافه، وهو أن يكون مدلوله معهودًا عند السماع.
فإذا قال: إيه، بغير تنوين، فكأنه قال له: حدث الحديث الذي أنت فيه، وإذا قال إيهٍ، فكأنه قال له ك حدث بكل ما تريد.
وكذلك إذا قال: صه، فكأنه قال: اسكت عن هذا الذي أنت تذكر، وإذا قال: صهٍ، فكأنه قال: اسكت عن كل حديث. وكذلك سائر أسماء الأفعال.
وقوله: (وتعريف سواه بين) أي وتعريف ما سوى المحكوم بتنوينه بين لا إشكال فيه.
ويشعر قوله: (واحكم بينكير الذي ينون منها) بأن هذا موقف على السماع، كأنه يقول: ما جاء في السماع منونا حكمت عليه بالتنكير، وما لم ينون فاحكم عليه بالتعريف، فجعل إليك الحكم بالتنكير أو التعريف عند وجود التنوين أو عدمه، ولم يجعل لك إلحاق التنوين فيما ليس فيه، ولا حذفه مما هو فيه ولو أراد هذا لقال: إذا أردت التنكير فألحق التنوين، وإذا أردت التعريف فاحذفه أو لا تلحقه.
وما أشار إليه هو الحق، لأن ذلك متلقى من السماع، ليس للقياس فيه مدخل.
وكذلك أصل هذا الباب إنما هو السماع، والأحكام القياسية فيه قليلة كما رأيت.
واعلم أن هذا الكلام يقتضي أن ما لم تنونه العرب فهو معرفة، وأن ذلك بين ظاهر.
وهذه المسألة تحتاج إلى نظرٍ فيها وتتع لكلام الأئمة، هل الأمر كذلك أم لا؟
وهنا فرغ من الكلام على النوع الأول من أنواع هذا الباب، ثم أخذ في النوع الثاني والثالث فقال:
ومابه خوطب ما لا يعقل
…
من مشبه اسم الفعل صوتًا يجعل
كذا الذي أجدى حكايةً كقب
…
والزم بنا النوعين فهو قد وجب
وهذا النوع الثاني هو ما خوطب به غير العاقل على سبيل الزجر أو الحث أو الاستدعاء، أو غير ذلك مما يراد منها، فقال: إن هذا النوع مما خوطب به ما لا يعقل يسمى صوتًا، وإنما سمي صوتًا، ولم يطلق عليه أنه اسم فعل، لأنه لم يضع ليدل على فعلٍ وينوب منابه، وإنما وضع ليحصل به زجر البهيمة، أو دعاؤها، أو نحو هذا، لأن الكلام إنما يوضع للعاقل الذي يفهم الخطاب.
فلو قيل: إنها تدل على معاني أفعالٍ- لصح أن يقال إن العرب وضعت لغير العاقل كلامًا تخاطبه به، وهذا غير صحيح، فلذلك يسمى صوتا.
فإن قيل: فقد أطلق عليها لفظ القول في نحو قول عدى بن الرقاع:
هن عجم وقد عرفن من القو
…
ل هئ واجدمى وياى وقومى
وهذه أسماء أصوات لزجر الإبل، فجعلها من جملة ما يطلق عليه القول، والقول لا يكون إلا دالًا على معنى، كما مر من أنه يعم الكلمة والكلم والكلام، وكل واحد من هذه تدل على معانٍ وضع له، فهذه الأصوات إذا دالة على معنٍ، ومعانيها الأفعال بلا شك، فقد استوت مع أسماء الأفعال.
فالجواب: أنه أطلق عليها لفظ القول مجازا، كما جعل البكاء قولًا في قول الشاعر:
وقالت له العينان سمعًا وطاعةً
…
وحدرتا كالدر لما يثقب
وجعل ما يفهم من حال الشيء قولًا في قوله.
امتلأ الحوض وقال قطني
…
مهلًا رويدًا قد ملأت بطني
وقول الآخر:
قالت له الطير تقدم راشدًا
…
إنك لا ترجع إلا حامدا
فهذا كله من الإطلاق المجازي الذي لا يعد في الإطلاقات الحقيقية التي كلامنا فيها.
لكنه لما كانت مفرداته شبيهة بألفاظ التخاطب بين العقلاء؛ إذ ليست بأصواتٍ مطلقة كالمدات والترنمات، وكانت مقاصدها كمقاصد الأمر والنهي في خطاب العقلاء، وألفاظها لا توازن الأفعال، أشبهت أسماء الأفعال من هذه الأوجه، فأتي بها الناظم وغيره مع أسماء الأفعال وقال فيها:(من مشبه اسم الفعل) أي مشبهه بالأوجه المذكورة، و"يجعل" في قوله:(صوتًا يجعل) بمعنى يسمى، تقول:
جعلت ولدي زيدًا، ومنه قوله تعالى:{وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا} ، فسره الجوهري بـ (سموا)،
فمما وضع منها للزجر (هلًا) للخيل، قال الشاعر:
*وأي جوادٍ لا يقال له هلا*
و(عدس) للبغل، قال ابن مفرغ:
عدس ما لعادٍ ليك إمارة
…
نجوت وهذا تحملين طليق
و(هيد) و (هاد) زجر للإبل، وأنشد أبو عمرو:
*وقد حدوناها بهيدٍ وهلا*
و(هيج) زجر للناقة، قال الشاعر:
*تنجو إذا قال حاديها لها هيج*
وكذلك (عاج قال الشاعر:
كأني لم أزجر بعاجٍ نجيبًة
…
ولم ألق ن شحطٍ صديقًا مصافيا
ومما وضع منها للدعاء (هئ، وهؤ) دعاء للإبل إلى العلف.
و(عو) دعاء للجحش، و (بس) للغنم، و (جوت) دعاء الإبل إلى الماء.
و(هدع) لصغار الإبل، المسكنة عند النفار. ولا يقال: ذاك لجلتها ولامسانها ويكفي هذا المقدار في التمثيل.
ثم قال: "كذا الذي أجدى حكاية".
"أجدى حكاية" بمعنى أعطى قصدها وأصل ذلك من (الجدوى) وهي العطية. والجادي: السائل، وأجديته: أعطيته الجدوى يعني أن ما كان من الألفاظ يعطي قصد الحكاية، ويفهم منه يسمى صوتًا أيضا.
وهذا هو النوع الثالث من التنويع الأول، وهو عند الناظم، مع ما قبله، نوع واحد، لأنه يشبهه في كونه لفظًا غير مرادٍ به معنى من المعاني المرادة في التخاطب، لكن الأول يزيد على هذا بكونه زجرًا أو دعاءً، وهذا ليس كذلك، وإنما المقصود به أن يحكى به صوت ما واقع في الوجود، من حي أو غيره، فالذي من الحي كـ (غاق) في حكاية صوت الغراب، و (شيب) في حكاية صوت مشافر الإبل للشرب قال الشاعر:
تداعين باسم الشيب في متثلم
…
جوانبه من بصرةٍ وسلام
و(عيط) في حكاية صوت الفتيان إذا تصايحوا في اللعب. و (طيخ) في حكاية صوت الضحك.
و (مص) في حكاية صويتٍ يخرج من ضم الشفتين، معناه (لا) وفيه إطماع. والذي من غير الحي وما في معنى غير الحي نحو (طاق) في حكاية صوت الضرب، تقول العرب: سمعت طاق طاق، و (طق) في حكاية صوت وقع الحجارة، و (قب) في حكاية صوت وقع السيف. وهذا مثال الناظم.
ومنه أيضا (خاز باز) للذباب، أصله حكاية صوته، قال ابن أحمر:
تفقأ فوقه القلع السواري
…
وجن الخاز باز به جنونا
و(خاسن ماسن) للقماس، كأنه حكاية صوته إذا حرك.
وأتى بالمثال لفائدة، وذلك أن الحكاية تطلق عند النحويين على وجهين معناهما واحد:
أحدهما: حكاية الأصوات الواقعة في الوجود وهي التي تكلم فيها الأن.
والثاني: حكاية الكلام، وهو الذي يحكى بالقول وغيره، نحو: قلت: زيد قائم. ويقال لزيد: ابن فلان، [ومن زيدًا؟ ] ومن زيدٍ؟ ونحو ذلك. فلو لم يأت بالمثال لأوهم أن المراد غير ما قصد له، فين مقصوده. بمثاله.
ثم قال: "والزم بنا النوعين فهو قد وجب".
أراد بالنوعين أسماء الأفعال وأسماء الأصوات، يريد أن بناء هذين النوعين لازم على كل حال، لأن سبب البناء موجود، فلا بد من وجود مسببه.
فأما (أسماء الأفعال) فسبب بنائها مختلف فيه، فمنهم من جعله تضمنها معنى لام الأمر، وهذا إنما يمشي في أسماء فعل الأمر.
فإذا قلت: (نزال) فهو بمعنى: لتنزل، وكذلك (صه) بمعنى: لتسكت، و (مه) بمعنى: لتكفف، وكذلك سائرها. فلما تضمنت معنى الحرف بنيت كما بنيت أسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، لتضمنها معنى "إن" والهمزة.
واتذر قائل هذا عما جاء منها للماضي والمضارع بأن الأصل والباب للأمر، وما عداه محمول ليه. وهذا رأي جماعة.
ومن النحويين من جعل سبب البناء فيها مناسبتها لما وقعت موقعه، وهي الأفعال المبنية.
وضعفه المؤلف بأن ما لا يعرب من الأفعال شبيه بالمعرب، لوقوع الماضي موقع المضارع في مواضعه المذكورة، ولذلك لم تلحقه هاء السكت، إذ كانت لا تلحق معربًا ولا شبيهًا به، ولكون الأمر جاريًا في أحكامه مجرى المجزوم، فيسكن آخره حيث يسكن آخر المجزوم، ويحذف حيث يحذف، بخلاف غيره من المبنيات كـ (الذي والتي) وأيضا فمنها ما وقع موقع المضارع، وهو مبني بخلاف فعله.
والذي ارتضاه المؤلف في بناء هذه الأسماء ما قاله أول الرجز من كون هذه الأسماء. نابت عن الأفعال، وكانت عاملة غير معمولة، فأشبهت (إن) وأخواتها، فبنيت، وذلك قوله:(وكنيابةٍ عن الفعل بلا تأثرٍ) وقد تقدم شرحه.
وهو أولى مما ذهب إليه غيره.
فإن قلت: إنه قد تقدم من جملة هذه الأسماء (عليك، ودونك، وإليك) وما جلب معها، فاقتضى هذا العموم أنها مبنية، وظاهرها أنها ليست بمبنية، لظهور النصب فيما كان أصله النصب منها كـ (دونك، وأمامك، ووراءك) ونحو ذلك، فمن لك ببنائها؟
وأيضًا، هي مضافات، والمضاف لا يبنى، لأن الإضافة تعارض البناء.
وأيضًا، فإن البناء إنما يكون فيما كانت النيابة بحق الأصل والوضع الأول، كصه، ونزال، وأما ما كانت النيابة فيه عارضةً فلا.
وهذه الأشياء من هذا القبيل الثاني، لأن (دونك، وأمامك، وإليك) ونحوها استعملت غير نائبة، ثم عرضت لها النيابة، فهي مثل (ضربًا زيدًا) وبابه في هذا المعنى، فأحد الأمرين لازم، إما بناء الجميع، فيبنى (باب. ضربًا زيدًا)، وإما إعراب الجميع، فيكون (دونك) وبابه معربًا، لكن الأول باطل بالإجماع، فثبت الثاني، وهو إعراب الجميع.
وقد حكى ابن خروف الاتفاق على أنها معربه، ونصبها بالأفعال التي صارت أسماءً لها.
ولا يمكن أن يقال: لم يردها في عقد البناء لقوله قبل: "والفعل من أسمائه عليك .. إلى آخره" فلم يجعله جنسًا خارجا عنها، بل أدخله فيها، فهذا مناقض لما قالوه، وكذلك فعل في "التسهيل" الصغير والكبير.
فالجواب: أن القول بإعرابها مما ينبغي أن ينظر فيه، وذلك أنهم أطلقوا على هذه الألفاظ أنها أسماء أفعال، ولم يطلقوا ذلك على قولك: ضربًا زيدًا، وسقيًا لزيدٍ، ورعيًا له، فدل على المخالفة بينهما في الأحكام.
وإيضًا، فإن (عليك، ودونك) وابه قد تحملت ضمائر مرفوعة لابد منها، كالأفعال وأسماء الأفعال، كقولهم: عليك أنت نفسك زيدًا، ودونك أنت نفسك، وعندك أنت وزيد عمرًا، وما أشبه ذلك، فوكدوا وعطفوا ليها، وأجروها مجرى الأفعال.
وأنت لا تقول في (ضربًا زيدًا) وبابه: إنه قد تحمل ضميرا فاعلا، فتفعل فيه هذه الأشياء؛ بل جرت (عليك) وأخواتها مجرى (صه، ومه، وهلم) ونحوها في ذلك، وإذا كانت كذلك فلا محذور في دعوى البناء فيها كلها، كسائر أسماء الأفعال، لأنها- وإن كان أصلها المصادر والظروف ونحوها- قد خرجت عن ذلك الباب إلى باب آخر، وإلى وضع آخر لازمٍ لها، فليس ذلك بمخرجٍ لها عن باب ما دخلت فيه في حكم من الأحكام.
ومما يحقق لك تمحضها في أسماء الأفعال أنها لا يصح تعلقها بالفعل إذا ظهر، فإن القائل:(عليك زيدًا) بمعنى: الزمه- لو أظهرته. فقلت: الزم زيدًا عليك، لم يصح، كما صح في (ضربًا زيدًا) أن تقول: اضرب زيدًا ضربا، وكذلك (إليك) لو قلت:(تنح إليك) لم يسغ، وفي (دونك زيدًا) خذ زيدًا دونك، وإن ساغ في عضها لم يطرد في سائرها.
وهذا دليل على عدم مراعاتهم لأصلها، وعلى تمحص النيابة، كما في (صه، ومه) ونحوه، فلا فارق في البناء بين البابين.
وأما كونها مضافاتٍ. فلا يخرجها ذلك عن حكم البناء، وذلك لأن من المضاف ما هو مبنى كـ (كم) في قولك: كم رجلٍ عندك؟
وأما موافقتها المعرب لفظًا: فلا يلزم منه كونها معربةً، كما كان (لا غلامين في الدار) ونحوه موافقًا لقولك:(مررت بغلامين) ولم يمنع ذلك من القول ببنائه مع (لا) ولذلك في العربية نظائر.
قال الفارسي: فإن قيل: ما تنكر ألا تكون هذه الأشياء مبنيةً لأن فيها جارًا ومجرورًا، نحو (عليك، وإليك) والجار والمجرور إنما يقع في موقع المعرب، ألا ترى قولهم: مررت بزيدٍ وعمروٍ؟
فالجواب: أن ما ذكر لا دليل فيه، لأن الجار والمجرور قد يقعان موقع المبنى، ألا ترى قولهم: يا لزيد، ويا لرجال، فقد وقعا مفردين مبنيين نحو: يا زيد، ويا رجال، فكما جاز وقوع هذا موقع المبنية، وكذلك (عليك، وإليك).
وإيضًا، فإذا ادعى فيها الإعراب لم يخل من أن يكون العامل فيها فعلها أو غيره. أما غيره فغير عاملٍ فيه باتفاق. وأما فعلها: فقد تضمنته، فهي العاملة دونه، والشيء لا يعمل في نفسه.
وإن قلت: إنها لم تتضمنه (مطلقا- لزم ألا تكون أسماء أفعال، وقد فرض أن الأمر كذلك، هذا خلف.
وأيضا، يلزم في (صه، ومه) ونحوها أن تكون معمولةً لعاملٍ هو الفعل الذي تضمنته)، وذلك فاسد.
فإن قلت: فهذا الذي زعمت خرق للإجماع الذي نقله ابن خروف، وخرق الإجماع ممتنع، وصاحبه مخطئ قطعًا، لأن يد الله مع الجماعة.
فالجواب أن يقال: أما أولًا فادعاء الإجماع لا يصح، وذلك أني أظن أنه مر على ما تقدم في كلام ابن جنى في بعض كته أن شيخه الفارسي قال البناء فيها، محتجًا بما تقدم من تمحضها للدلالة على الأفعال حتى دخلت في أسمائها، ثم رأيته منقولا عن أبي الحسن، تحقيقًا لا ظنًا، ذكره عنه الفارسي في "التذكرة" فالإجماع الذي ادعاه ابن خروف غير ثابت.
وأما ثانيا، فإن سلمناه فليست المخالفة للإجماع في حكمٍ من الأحكام المتقررة التي يلزم عنها المخالفة في قياسٍ أو سماع، لأن (عندك، ووراءك) ونحوهما مع القول بالإعراب والبناء على حد سواء، فإنما حقيقة الخلاف في تأويلٍ لا في حكمٍ، إذ كانت هذه الأشياء لازمةً للإضافة لا يجوز إفرادها، فلم يظهر فيها فرق بين الإعراب والبناء.
وأما لو كانت المخالفة فيما يوجب حكمًا ظاهرًا لكانت المخالفة حينئذٍ محظورة: وعلى هذا النحو جاءت مخالفة ابن جنى في نحو: هذا جحر ضب خرب، إنما خالفهم في تأويل لا في نفس حكم قياسي أو سماعي.
وقد نص الأصوليون، في مسألة إحداث دليلٍ أو تأويلٍ مخالفٍ لما أجمعوا عليه مع الموافقة في محصول الحكم، على الخلاف.
ورجح المحققون منهم الجواز؛ إذ لا مخالفة في الحكم. وهذه المسألة مذكورة في "الأصول" وهذا أقصى ما ظهر في بيان هذه المسألة، والله الموفق للصواب.
وأما (أسماء الأصوات) فسبب بنائها أنها لا تكون في الكلام عاملة ولا معمولة؛ إذ لا يدخلها معنى من المعاني التي تستحق بها دخول العوامل، فصارت في الحكم كـ (هل وبل، وقد) ونحوها، فاستحقت البناء لذلك.
فإن قلت: فأين ذكر الناظم هذا السبب؟
فالجواب: أنه قد يدخل له تحت قوله "وكنيابةٍ عن الفعل بلا تأثرٍ" لأن أسماء الأصوات تعطى من المقصود، في الزجر والاستدعاء، ما يعطيه الفعل لو كان المزجور أو المستدعى ممن يخاطب، فأشبه اسم الصوت اسم الفعل (لذلك، فكان داخلا تحت نيابة الفعل بلا تأثر، أو يكون لها عدم التأثر علةً تامة) على ما تقرضر في "باب المعرب والمبنى".
وأما (حكاية الأصوات) كغاق، وقب، فحملت على أسماء الأصوات المزجور بها، أو المدعو بها، على اعتبار شبهها بأسماء الأفعال، أو يجعل عدم التأثر لها علةً تامة مستقلة، كما مر والله أعلم.