الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الموصول
ص: وهو من الأسماء ما افتقر أبدا إلى عائدٍ أو خَلَفه، وجملةٍ صريحة أو مؤولة غير طلبية ولا إنشائية.
ش: نبهت بقولي "وهو من الأسماء" على أن الحرف الموصول لم يقْصد دخوله في الحد، بل قُصِد الاقتصارُ على حد الموصولات الاسمية.
واحترزت "بالعائد" من: حيث وإذ وإذا، فإنها أسماء تفتقر إلى جملة لكنها مستغنية عن عائد.
واحترزت "بأبدا" من النكرة الموصوفة بجملة فإنها على حال وصفها بها تفتقر إليها وإلى عائد، لكن الموضع بالأصالة لمفرد، وتؤول الجملة به، ويغني ذكره عنها، فالافتقار إلى ما تؤول به لا إليها، وإن صدق في الظاهر أنها مُفْتقرٌ إليها، فلا يصدق على الافتقار إليها أنه كائن أبدا. بخلاف الجملة الموصول بها فإن الافتقار إليها كائن أبدا عند ذكر الموصول، وإذا وقع موقعها ظرف أو حرف جر وجب تعليقه بفعل مسند إلى ضمير الموصول وإذا وقعت الصلة صفة موصولا بها الألف واللام يجب تأولها بفعل، ولذلك تعمل حينئذ ماضية المعنى وحاضرته ومستقبلته. وإذا لم تقع صلة فلا تعمل إلا في حضور أو استقبال. وإلى الصفة المشار إليها والظرف وحرف الجر أشرت بقولي "أو مؤولة".
وأشرت بقولي "أو خَلَفه" إلى أن العائد قد يغني عنه قرينة تدل عليه، أو ظاهر يقوم مقامه كقوله:
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
أراد: وأنت الذي في رحمته أطمعُ
وقيد الجملة الموصول بها بكونها غير طلبية ولا إنشائية لأن الغرض بالصلة تحصيل الوضوح للمحصول، والجملة الطلبية لم يتحصل معناها بعد، فهي أحرى بألا يتحصل بها وضوح غيرها، وأما الإنشائية فإن حصول معناها مقارن لحصول لفظها، فلا يصلح وقوعها صلة، لأن الصلة مُعَرِّفة، والموصولُ مُعَرَّف، فلا بد من تقدم الشعور بمعناها على الشعور بمعناه.
والمشهور عند النحويين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة، وذلك غير لازم، لأن الموصول قد يراد به معهود، فتكون صلته معهودة، كقوله تعالى (وإذ تقولُ للذي أنْعَمَ الله عليه وأنعمت عليه) وكقول الشاعر:
ألا أيُها القلبُ الذي قادَه الهوى
…
أفقْ لا أقَرَّ اللهُ عينَك من قلب
وقد يراد به الجنس فتوافقه صلته، كقوله تعالى (كمثل الذي ينعق بمالا يسمعُ إلا دعاءً ونداء) وكقول الشاعر:
فيَسْعَى إذا أبْنِي ليهدمَ صالحي
…
وليس الذي بيني كمَنْ شأنُه الهدْم
وقد يُقْصدُ تعظيمُ الموصول فتبْهم صلته كقول الشاعر:
فإنْ أستطعْ أغلبْ وإنْ يَغْلب الهوى
…
فمثلُ الذي لا قيْتُ يُغْلَبُ صاحبُه
ومثله قوله عز وجل (فغشيهم من اليَمِّ ما غشيهم) وقال الشاعر:
وكنتَ إذا أرْسَلْتَ رائدا
…
لقلبك يوما أتْعَبَتْكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ص: ومن الحروف ما أُوِّل مع ما يليه بمصدر، ولم يَحْتَج إلى عائد.
ش: لما كان الموصول على ضربين: أحدهما من الأسماء، والآخر من الحروف، وفرغت من حد الأول، شرعت في حد الثاني.
فقولي "ما أوِّل بمصدر" يتناول: صه، أي سكوتا ونحوه، فإنه يؤول بمصدر معرفة إن لم ينون، وبمصدر نكرة إن نون. ويتناول أيضا الفعل المضاف إليه نحو: حين قمت، فإن معناه: حين قيامك. ويتناول أيضا نحو: هو، من قوله تعالى (هو أقرب للتقوى) فإنه بمعنى العدل. فاحترزت من هذه الأشياء ونحوها بقولي "مع ما يليه" فإن هذه الأشياء مؤولة بمصادر لا مع شيء يليها، بخلاف الحروف الموصولة فإنها تؤول بمصادر مع ما يليها من صلاتها.
ولما كان "الذي" قد يوصف به مصدر ثم يحذف المصدر ويقام هو مقامه، فيصدق عليه حينئذ أنه مؤول مع ما يليه بمصدر، مع أنه ليس من الحروف الموصولة، احترزت منه بعدم الاحتياج إلى عائد، فإن "الذي" الموصوف به مصدر على ما قدر لا يستغني عن عائد، ومثال ذلك قوله تعالى (وخُضْتم كالذي خاضوا) أي كالخوض الذي خاضوه، فحذف الخوض وأقيم الذي مقامه، وحذف العائد إلى الذي لأنه منصوب متصل بفعل، وحذف مثله كثير.
ص: فمن الأسماء: الذي والتي للواحد والواحدة، وقد تُشَدُّ ياءاهما
مكسورتين أو مضمومتين، أو تُحْذفان ساكنا ما قبلهما أو مكسورا، ويخلفهما في التثنية علامتُها مُجوَّزا شدُّ نونها وحذفها وإنْ عُنِيَ بالذي من يَعْلَم أو شِبْهُه فجمعه الذين مطلقا. ويُغْني عنه الذي في غير تخصيص كثيرا، وفيه للضرورة قليلا، وربما قيل: اللَّذُون رفعا، وقد يقال: لَذِي ولَذان ولَذين ولَتي ولاتي.
ش: لما ثبت أن الموصول ضربان: أحدهما من الأسماء والآخر من الحروف، شرعت في ذكر الأسماء، فبدأت بالذي والتي لأنهما كالأصل لغيرهما، فإن غيرهما إذا أشكل أمره يستدل على موصوليته بصلاحية موضعه للذي إن كان مذكرا والتي إن كان مؤنثا. وفي الذي والتي ست لغات:
الأولى: ما بدئ به.
والثاني: حذف الياء مع بقاء الذال والتاء مكسورتين كقول الشاعر:
لا تعذِل اللَّذِ لا ينفَكُّ محتسبا
…
حمدا وإن كان لا يُبقي ولا يذَر
والثالثة: حذف الياء وتسكين الذال والتاء كقول الشاعر:
فلم أرَ بيْنا كان أحسنَ بهْجَةً
…
من اللَّذْ له من آل عزَّةَ عامر
وكقول الآخر:
ما اللَّذْ يسوءك سوءًا بعد بَسْط يد
…
بالبِرّ إلا كمثل البغي عدوانا
ومثله:
فما نحن إلا من أناس تحرّموا
…
بأدنى من اللذ نحن فيه وأبرءوا
والرابعة: تشديد الياء مكسورة كقول الشاعر:
وليسَ المال فاعلمهُ بمالٍ
…
وإن أرضاك إلا للَّذيِّ
ينالُ به العلاءَ ويمتهنْه
…
لأقرَبِ أقْرَبيه وللقَصِيِّ
والخامسة: تشديد الياء مضمومة كقول الشاعر:
أغْضِ ما اسطعتَ فالكريمُ الذيُّ
…
يألفُ الحِلمَ إن جفاهُ بذِيُّ
السادسة: حذف الألف واللام وتخفيف الياء ساكنة، وبهذه اللغة قرأ بعض الأعراب، قال أبو عمرو بن العلاء: سمعتُ أعرابيا يقرأ بتخفيف اللام (صراط لذين).
ومن استعمال اللَّتِ قوله:
شُغِفَتْ بكَ اللَّتِ تَيَّمْتك فمثلُ ما
…
بك ما بها من لَوْعَةٍ وغرام
ومن استعمال اللتْ قوله:
أرضنا اللَّتْ أوَتْ ذوي الفقرِ والذُّ
…
لِّ فآضُوا ذوي غِنًى واعتزازِ
ومثله:
فقل لِلَّتْ تلومُك إن نفسي
…
أراها لا تُعَوَّذ بالتَّميم
وقد استغنوا في التثنية بقولهم: اللذان واللتان عن اللذيين واللتيين، فاعتبروا أخف اللغات وإن كانت أقل من الذي والتي. وذلك أن المفرد أخف من المثنى، وخفف جوازا بحذف الياء، فلما قصدوا التثنية وهي أثقل من الإفراد وأحوج إلى التخفيف التزم فيها من حذف الياء ما كان في الإفراد جائزا. وجوز تشديد النون عوضا عن المحذوف. ولما كان الحذف مستعملا في الإفراد بوجه ما لم يكن التعويض لازما بل جائزا.
ولما كانت التثنية من خصائص الأسماء المتمكنة ولحقت الذي والتي، وكان لحاقها لها معارضا لشبهها بالحروف أعربا في التثنية، كما جُعلت إضافة أي معارضة لشبهها بالحروف فأعربت.
ولم يُعربْ أكثر العرب "الذين" وإن كان الجمع من خصائص الأسماء لأن الذين مخصوص بأولي العلم، والذي عام، فلم يجر على سنن الجموع المتمكنة، بخلاف اللَّذَين واللَّتين، فإنهما جرتا على سنن المثنيات المتمكنة لفظا ومعنى.
وعلى كل حال ففي الذي والذين شبه بالشجى والشَّجين في اللفظ وبعض المعنى فلذلك لم تجمع العرب على ترك إعراب الذين، بل إعرابه في لغة هذيل مشهور، فيقولون: نصرت الذين آمنوا على الذين كفروا، ومن ذلك قول بعضهم:
وبنو نويجية الَّذون كأنهم
…
معط مخرمة من الخزان
وإذا لم يقصد بالذي مخصص جاز أن يعبر به عن جمع حملا على مَنْ كقوله
تعالى (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) ولو لم يكن المراد به جمعا لم يشَر إليه بجمع ولا عاد عليه ضمير جمع، ومن ذلك أيضا قوله تعالى (كما يقومُ الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المسِّ) فلو لم يرَد به جمعٌ لم يضرب به مثل لجمع.
فإن قُصِد بالذي مُخَصَّص فلا محيصَ عن اللَّذَيْن في التثنية، والذِين في الجمع، ما لم يضطر شاعر، كقوله:
أبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا
…
قتلا الملوكَ وفَكَّكا الأغلالا
وكقول الآخر:
وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دماؤهم
…
هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالد
ومن قال: الذون رفعًا والذين نصبا وجرا قال في اللاء إذا أريد به ما يراد بالذين: اللاءون رفعا، واللائين جرا ونصبا. ومن قال "الذين" مطلقا قال "اللائين" مطلقا. وقيل: اللاءون في الرفع واللائين في النصب والجر لغة هذيل.
ويقال أيضا في اللاء بمعنى اللاتي إذا جمع اللاءات معربا ومبنيا على الكسر، ومنه قول الشاعر:
أولئك إخواني الذين عرفتهم
…
وأخْواتُكَ اللاءات زُيِّنَ بالكتَم
بضم التاء على الإعراب، وبكسرها على البناء.
ص: وبمعنى الذين الألى والأُلاءِ والَّلاءِ والَّلائين مطلقا، أو جَرًّا ونصبا واللاؤون رفعا. وجمع التي اللائي واللاتي واللواتي. وبلا ياءات، واللَّا واللَّوا، واللاءات مكسورًا أو معربا إعراب أولات والألى. وقد ترادف التي واللاتي ذات وذوات مضمومتين مطلقا.
ش: المشهور في الألى ورودها بمعنى الذين، وفي اللاء ورودها بمعنى اللاتي، وقد ترد الألى بمعنى اللاتي، واللائي بمعنى الذين، وقد جاءت الألى بالمعنيين في قول الشاعر:
وتُفنى الألى يَسْتَلْئِمُون على الألى
…
تَراهُنَّ يوم الرَّوْع كالحِدَأ القُبْل
وقال آخر في ورود الألى بمعنى اللائي:
وأمّا الأُلى يَسْكُنّ غَوْرَ تِهامةٍ
…
فكلُّ فتاةٍ تتركُ الحِجْلَ أفصَما
وقال آخر في ورود اللاء بمعنى الذين:
فما آباؤنا بأمَنَّ منه
…
علينا اللاءِ قد مَهَدوا الحُجورا
وقال ابن الزَّبِير:
أرِحني من اللائي إذا حلّ بينهم
…
يُمَشُّون في الدّارات مشي الأرامل
وقال كثير:
تَرُوق عيونَ اللاء لا يَطْعمونها
…
ويروى بريّاها الضجيع المكافِح
وله:
من اللائي يعود الحلم فيهم
…
ويعطون الجزيل بلا حساب
وقال آخر في اللائين:
وإنّا من اللائين إن قَدَرُوا عَفَوْا
…
وإنْ أتْرَبُوا جادوا وإن تَرِبُوا عَفُّوا
فقوله من اللائين يحتمل أن يكون على لغة من يبني، ويحتمل أن يكون على لغة من يعرب، فإن فيه لغتين كما في الذين، واللاءون رفعا لغة هذيل، ومنه قول بعضهم:
هم اللاءُون فكُّوا الغُلَّ عني
…
بمَرْوِ الشاهِجان وهُمْ جناحي
وقيل الأُلاء بمعنى الألي، قال كثير:
أبى الله للشُّمِّ الأُلاء كأنهم
…
سُيوفٌ أجادَ القَيْنُ يوما صِقالها
والصحيح أن الذين جمع الذي مرادًا به من يعقل، وأن اللائين جمع اللاء مرادف الذين، وأن اللاءات جمع اللاء مرادف اللاتي. وكذلك اللوائي واللواتي هما جمعان للائي واللاتي، على حد قولهم في الهادِي وهو العنق هواد، وفي الهابي وهو الغبار هواب.
وأما اللاتي فيحتمل أن يكون اسما للجمع، لأنه ليس على بناء من أبنية الجمع، ويحتمل أن يكون جمعا لأنه متضمن لحروف التي، ويغتفر كونه مخالفا لأبنية الجموع كما اغتفر في اللتيا كونه مخالفا لأبنية التصغير.
وأما اللاء والألي وغيرهما من الموصولات الدالة على جمع فأسماء جموع، لأنها لا تتضمن حروف الواحد. وإثبات ياءات اللاتي واللائي واللواتي واللوائي هو الأصل، وحذفها تخفيف واجتناب للاستطالة، وقد بالغوا حتى حذفوا التاء والياء من اللاتي واللوائي فقالوا: اللا واللوا، قال الراجز:
جمعتُها من أيْنُق غِزار
…
من اللَّوا شُرِّفْن بالصِّرار
وقال الكميت:
وكانت من الَّلا لا يغيِّرُها ابنُها
…
إذا ما الغلامُ الأحمقُ الأمَّ غيَّرا
وقال آخر:
فدومي على العهد الذي كان بيننا
…
أم أنت من الَّلا ما لهُنّ عُهُود
والأظهر عندي أن الأصل في: اللّوا، اللواء. وفي: اللا، اللاء، ثم قصرا.
وروى الفراء عن بعض فصحاء العرب: بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذاتُ
أكرمكم الله بَهْ، أراد: التي أكرمكم الله بها، فحذف الألف، وحرك الباء بحركة الهاء. وأنْشد في ذوات بمعنى اللاتي:
جَمَعْتُها من أيْنَقٍ مَوارِقِ
…
ذواتُ يَنْهَضْنَ بغير سائق
أراد اللاتي ينهضن. وتاء ذات وذوات مضمومة أبدًا.
ص: وبمعنى الذي وفُروعِه "مَنْ" و"ما" و"ذا" غيرَ مُلغى ولا مُشارٍ به بعد استفهام بما أو مَنْ، و"ذو" الطائيةُ مبنيةً غالبا، و"أيّ" مضافًا إلى معرفة لفظا أو نية، ولا يلزم استقبال عامله ولا تقديمُه خلافا للكوفيين، وقد يؤنث بالتاء موافِقا للتي، وبمعنى الذي وفروعه "الألف واللام" خلافا للمازني ومن وافقه في حرفيتها، وتُوصَل بصفةٍ مَحْضة، وقد تُوصَل بمضارع اختيارا، وبمبتدأ وخبر أو ظرف اضطرارا.
ش: فروع الذي اللذان والذين والتي واللتان واللاتي، فمن وما صالحان لمواقعها كلها كقولك لمن قال: مررت برجل وبرجال وبامرأة وبنسوةٍ: عرفت مَن مررت به ومَن مررت بهم، ومن مررت بها، ومن مررت بهن. وكقولك لمن قال: اشتريت كتابا وثوبين وعمامة وملاحف، عرفت ما اشتريته، وما اشتريتهما، وما اشتريتها، وما اشتريتهن.
وكذلك "ذا" بعد استفهام بما أو من يقع أيضا موقع الذي وموقع كل واحد من فروعه المبنية عليها، نحو: ماذا علمت أخير أم شرٌّ؟ وماذا أنفقت أدرهمان أم ديناران؟ وماذا صليت أركعةٌ أم تسليمةٌ؟ ومن ذا خطبت أهندٌ أم دعدٌ؟
فلو ألغيت (ذا) حقيقة بتقدير سقوطها، أو حكما بجعلها مع (ما) و (من) شيئا واحدا حكم للموضع بما يستحقه لفظ أي الاستفهامية لو وقعت فيه، ويظهر أثر ذلك في الجواب والتفصيل. فالجواب كقولك: خيرا، لمن قال لك: ماذا صنعت؟
والتفصيل كقولك: أخيرا أم شرا؟ وأزيدا أم عمرا؟ فلو جعل (ذا) بمعنى
الذي لكان الرفع أولى من الحالين، كما قال الشاعر:
ألا تسألانِ المرءَ ماذا يحاول
…
أنَحْبٌ فَيقْضى أم ضلالٌ وباطلُ
وعلى هذا تحمل قراءة أبي عمرو (قل العفوُ) بالرفع، وقراءة غيره بالنصب محمولة على الوجه الآخر.
ولو قصد "بذا" الإشارة، لكان "ماذا" و"من ذا" مبتدأ وخبرا واستغنى عن جواب وتفصيل.
وقد تكون "ماذا" في غير الاستفهام والإشارة اسما واحدا بمعنى الذي، أو بمعنى شيء كقول الشاعر:
دَعي ماذا علمتُ سأتَّقيه
…
ولكن بالمُغَيَّبِ حَدِّثِيني
وأنشد أبو علي قول الشاعر:
أنَوْرًا سَرْعَ ماذا يا فَرُوق
…
وحَبْلُ الوَصْلِ مُنْبَتٌّ حَذِيق
وقال: فاعل سرع "ماذا" وما زائدة، ويجوز أن يكون "ماذا" اسما واحدا كما هما في قوله: دعي ماذا علمت
…
أي دعي شيئا علمت، كذا قال أبو علي. وعندي أن جَعْلَ "ماذا" في البيت الذي أوله "دعى" بمعنى الذي أولى من جعلها بمعنى شيء.
ومثل "ماذا" في احتمال معنى شيء ومعنى الذي في غير استفهام قول الشاعر:
فلله ماذا هَيَّجَتْ من صبابة
…
على هالِكٍ يَهْذِي بهند ولا يدري
ويتعين إلغاء "ذا" أو جعلها مركبة مع ما في قول جرير:
يا خُزْرَ تَغْلبَ ماذا بالُ نِسْوَتكم
…
لا يَسْتَفِقْن إلى الدَّيْرَيْنِ تحنانا
ويترجح ذلك إذا كان بعدها الذي كقول ابن الدُميْنة:
فماذا الذي يَشْفى من الحب بعدما
…
تشربه بطنُ الفؤادِ وظاهره
وقد تجعل "ذا" في هذا البيت بمعنى الذي، والذي بعدها توكيدا أو خبر مبتدأ مضمر، كقول معاوية رضي الله عنه:
إنَّ الذين الألى أدخلتهم نَفرٌ
…
لولا بوادر إرعاد وإبراق
ويتعين أيضا التركيب والإلغاء في قول الشاعر:
وأبلغ أبا سعد إذا ما لقيته
…
نذيرا وماذا ينفعنَّ نذير
لأنها لو جعلت (ذا) بمعنى الذي لم يؤكد الفعل بعدها بالنون لأنه موجب، وإذا لم يجعل بمعنى الذي كان الاستفهام مستوليا على الفعل بعدها فيسوغ توكيده بالنون.
ومثال "ذا" الموصولة بعد مَن الاستفهامية قول الأعشى ميمون:
وغريبة تأتي الملوك كريمة
…
قد قُلْتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها
والاحتجاج بهذا البيت أولى من الاحتجاج بقول ابن أبي كاهل:
ويحسب أنَّ النائباتِ تركنه
…
ومن ذا الذي عَرينه فهو وازرُ
لاستصعاب دخول موصول على موصول، إلا أن يجعل الثاني توكيدا لفظيا، أو خبر مبتدأ كما تقدم من قول ابن الدمينة:
فماذا الذي يشفي من الحب
ومثل قول الأعشى قول أمية بن أبي عائذ الهذلي:
ألا إنّ قلبي لدى الظاعِنين
…
حزينٌ فَمَنْ ذا يُعَزِّي الحَزينا
وبمعنى الذي وفروعه "ذو" في لغة طيء، قال حاتم:
ومن حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيّ قوم
…
وأيُّ الدهر ذُو لم يحسدوني
أراد، أي الدهر الذي لم يحسدوني فيه، ويتميز بعضها من بعض بالعائد أو بما هي له كقول الشاعر:
فإن الماءَ ماءُ أبي وجدّي
…
وبِئري ذو حفَرتُ وذو طويتُ
أي التي حفرت والتي طويت.
وبناؤها هو المشهور، وبعضهم يعربها بالحروف كما يعرب "ذو" بمعنى صاحب. ويروى بالوجهين قول الشاعر:
وإما كرامٌ موسِرُون أتيتُهم
…
فَحَسْبِيَ من ذي عندهم ما كَفانيا
ومنهم من يقول: رأيت ذاتُ فعلت، وذواتُ فعلن، بمعنى التي فَعلت واللاتي فعلن. وقد تقدم التنبيه على ذلك.
وأطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها. وأظن حامله على ذلك قولهم: ذات وذوات بمعنى: التي واللاتي. فأضربت عنه لذلك.
ومن المستعمل بمعنى الذي وفروعه "أيّ" مضافة إلى معرفة لفظا كقولك: أقصد أيَّهم هو أكرم. أو نية كقولك: سل منهم أيا تلقاه. ولا يلتزم استقبال عامله
ولا تقديمه كما لا يلزم مع غيره. وقال الكوفيون بلزوم ذلك، ولا حجة لهم إلا كون ما ورد على وفق ما قالوه. كقوله تعالى (ثم لننزِعَنّ من كلِّ شيعةٍ أيُّهم أشدُّ) وكقول الشاعر:
فادْنُوا إلى حقكم يأخذْه أيكمُ
…
شئتم وإلا فإياكم وإيانا
وتقول في "أي" قاصدا بها معنى التي: عليك من النساء بأيِّهن تُرْضيك، وبأيتهن ترضيك، قال الشاعر:
أمّا النّساء فأهوى أيْهن أرى
…
للحب أهلا فلا أنْفَك مَشْغُوفا
وقال آخر:
إذا اشتبه الرُّشدُ في الحادثا
…
ت فارْضَ بأيَّتها قد قُدِرْ
ومن المستعمل بمعنى الذي وفروعه "الألف واللام" في نحو: رأيت الحسن وجهُه، والحسن وجهُها، والكريمَ أبوهما، والكريم أبوهم، والكريم أبوهن.
وزعم المازني أن الألف واللام للتعريف، وأن الضمائر عائدة على موصوفات محذوفة. وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما أن ذلك لو جاء مع الألف واللام المعرفة لجاز مع التنكير، إذ لا فرق بين تقدير الموصوف منكرا وتقديره معرفا، بل كان ذلك مع التنكير أولى، لأن حذف المنكر أكثر من حذف المعرف.
الثاني: أن الألف واللام لو كانت المعرفة لكان لحاقها اسم الفاعل قادحا في صحة عمله مع كونه بمعنى الحال والاستقبال، والأمر بخلاف ذلك، فإن لحاق الألف واللام به يوجب صحة عمله وإن كان ماضي المعنى، فعلم بذلك أن الألف واللام غير المعرفة، وأنها موصولة بالصفة، لأن الصفة بذلك يجب تأولها بفعل ليكون في حكم الجملة المصرح بجزأيها، ولأجل هذا التأويل وجب العمل مطلقا، وحسُن
أن يعطف على اسم الفاعل الموصول به فعل صريح، كقوله تعالى (فالمغيرات صبْحا* فأثرْن به نقعا) و (إن المصدقين والمصدّقات وأقرضوا الله قرضا حسنا).
وعَنيْت بالصفة المحضة أسماء الفاعلين وأسماء المفعولين والصفات المشبهة بأسماء الفاعلين.
ووصل الألف واللام بفعل مضارع نحو قول الشاعر:
ما أنتَ بالحَكم الْتُرْضَى حكومَتُه
…
ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجَدَل
وكقول الآخر:
يقولُ الخَنا وأبْغَضُ العُجْم ناطقا
…
إلى ربِّنا صوتُ الحمار اليُجَدَّع
وكذا قول الآخر:
ما كاليرُوحُ ويَغْدُو لاهِيًا مَرِحا
…
مُشَمِّرًا يستديمُ الحزمَ ذو رَشَد
ومثله:
وليس اليُرَى للخِلِّ مثل الذي يرى
…
له الخِلُّ أهلا أن يُعَدّ خليلا
واستدل ابن بَرهان على موصولية الألف واللام بدخولها على الفعل. واستدلاله قوي، لأن حرف التعريف في اختصاصه بالاسم كحرف التنفيس في اختصاصه
بالفعل، فكما لا يدخل حرف التنفيس على اسم، لا يدخل حرف التعريف على فعل، فوجب اعتقاد الألف واللام في: الترضى، واليجدع، واليرى، واليروح أسماء بمعنى الذي، لا حرف تعريف.
وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة، لتمكن قائل الأول أن يقول:
ما أنت بالحكم المرضي حكومته
ولتمكن قائل الثاني من أن يقول:
إلى ربنا صوت الحمارِ يُجدع
ولتمكن الثالث من أن يقول: ما مَنْ يروح
ولتمكن الرابع من أن يقول: وما من يري
فإذ لم يفعلوا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار.
وأيضا فمقتضى النظر وصل الألف واللام، إذ هما من الموصولات الاسمية، بما توصل به أخواتها من الجمل الاسمية والفعلية والظروف، فمنعوها ذلك حملا على المعرِّفة، لأنها مثلها في اللفظ، وجعلوا صلتها ما هو جملة في المعنى ومفرد في اللفظ صالح لدخول المعرفة عليه، وهو اسم الفاعل وشبهه من الصفات. ثم كان في التزام ذلك إيهام أن الألف واللام معرفة لا اسم موصول، فقصدوا التنصيص على مغايرة المعرفة، فأدخلوها على الفعل المشابه لاسم الفاعل وهو المضارع، فلما كان حاملهم على ذلك هو السبب، وفيه إبداء ما يحق إبداؤه، وكشف ما لا يصلح خفاؤه، استحق أن يجعل مما يحكم فيه بالاختيار ولا يخص بالاضطرار، ولذلك لم يقلّ في أشعارهم، كما قل الوصل بجملة من مبتدأ وخبر كقوله:
مِنَ القومِ الرسُولُ اللهِ منهم
…
له دانَتْ رِقابُ بني مَعَدّ
وبظرف كقول الراجز:
مَنْ لا يزال شاكرا على المعه
…
فهو حَرٍ بعِيشَةٍ ذاتِ سَعَة
والتقدير: الذين رسول الله منهم، وعلى الذي معه. وقال متمم:
وغَيَّرني ما غال سَعْدا ومالكا
…
وعمرًا وحجرا بالمُشَقرّ ألْمَعا
قال بعضهم: أراد الذين معا، وقال الكسائي: أراد معا فأدخل الألف واللام، والقولان متقاربان.
وقال الشلوبين: الدليل على أن الألف واللام حرف قولك: جاء القائمُ، فلو كانت اسما لكانت فاعلا واستحق قائم البناء، لأنه على هذا التقدير مهمل، لأنه صلة، والصلة لا يتسلط عليها عامل الموصول.
والجواب أن يقال: قد قام الدليل على أنها غير المعرفة بدخولها على الفعل، وتصحيحها عمل اسم الفاعل ذي المضي، فلم يبق إلا كونُها اسما موصولا إذ لا ثالث.
والجواب عن شبهة الشلوبين أن يقال: مقتضى الدليل أن يظهر عمل عامل الموصول في آخر الصلة، لأن نسبتها منه نسبة أجزاء المركب منه، لكن منع من ذلك كون الصلة جملة، والجمل لا تتأثر بالعوامل، فلما كانت صلة الألف واللام في اللفظ غير جملة جيء بها على مقتضى الدليل لعدم المانع.
ص: ويجوزُ حذفُ عائد غير الألف واللام إن كان متصلا منصوبا بفعل أو وصف، أو مجرورا بإضافة صفة ناصبة له تقديرا، أو بحرفٍ جُرَّ بمثله معنى ومَتَعَلَّقا الموصولُ أو موصوفٌ به. وقد يحذف منصوبُ صلة الألف واللام، والمجرور بحرف وإن لم يكمل شرط الحذف.
ولا يحذف المرفوع إلا مبتدأ ليس خبره جملة ولا ظرفا، بلا شرط عند الكوفيين، وعند البصريين بشرط الاستطالة في صلة غير "أيّ" غالبا، وبلا شرط في صلتها.
ش: قيد العائد الذي يجوز حذفه بكونه لغير الألف واللام، لأن عائدهما عند الأكثر لا يحذف، لأنه يكمل صلتهما تكميل صلة غيرهما ويميزهما من المعرفتين، ويبدي من التأنيث والتثنية والجمع ما لا يبديانه.
وقيد بالنصب احترازا من غير المنصوب، فإنه فيه تفصيل يأتي ذكره.
وقيد المنصوب بالاتصال احترازا من المنفصل فإنه لا يجوز حذفه، إذ لو حذف جهل كونه منفصلا.
واشترط في المتصل انتصابه بفعل أو وصف احترازا من نصبه بغيرهما، نحو: رأيت الذي كأنه أسد، فإن حذفه لا يجوز. ومثل الجائز الحذف لاتصاله بفعل كقوله تعالى:(وآمنوا بما أنزلتُ مصدقا) ومنه قول الشاعر:
كأنك لم تُسْبَقْ من الدهرِ ساعة
…
إذا أنت أدركتَ الذي كنت تطلب
وقال آخر:
وحاجةٍ دون أخرى قد سمحت بها
…
جعلتُها للتي أخْفَيْتُ عنوانا
ومما جاء بوجهين قوله تعالى (وما عملته أيديهم) و (وفيها ما تشتهيه الأنفسُ) قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالحذف فيهما، ووافقهم في "تشتهي"
ابن كثير وأبو عمرو.
ومثال المتصل الجائز الحذف لنصبه بوصف قوله:
ما الله مُوليكَ فضلٌ فاحْمَدَنْه به
…
فما لدى غيرِه نفعٌ ولا ضرر
وقوله:
وليس من الراجي يخيب بما جد
…
إذا عجزه لم يَسْتَبِن بدليل
تقدير الأول: موليكه، وتقدير الثاني: من الراجيه.
ومثال المجرور بالإضافة صفة ناصبة تقديرا قوله تعالى (وتُخْفي في نفسِك ما الله مبديه) فهذا مثال الإثبات. ومثال الحذف قوله تعالى (فاقض ما أنت قاض) ومثله قول الشاعر:
ويَصْغُر في عيني تِلادي إذا انثنت
…
يميني بإدراكِ الذي كنتُ طالبا
ومثله:
لَعَمْرُك ما تدري الضواربُ بالحصى
…
ولا زاجراتُ الطير ما الله صانع
ومثال المجرور بحرف جُرَّ بمثله الموصول أو موصوف به: مررت بالذي مررت به، أو بالرجل الذي مررت به، فهذا مثال الإثبات. ومثال الحذف قوله تعالى (ويشرب مما تشْربون) ومثله قول الشاعر:
نُصلِّي لِلَّذي صَلَّتْ قريشٌ
…
ونعبده وإن جَحَد العمومُ
أراد نصلي للذي صلت له، فحذف العائد المجرور باللام، لأن الموصول مجرور بمثلها معنى ومتعلقا، وكذا لو كان أحد المتعلقين فعلا والآخر صفة بمعناه كقوله:
وقد كنتَ تُخْفي حُبَّ سمراءَ حِقبَةً
…
فَبُحْ لان منها بالذي أنت بائح
وكذا لو كان الموصوف مجرورا بها كقوله:
إنْ تُعْن نفسُك بالأمرِ الذي عُنِيَت
…
نفوسُ قوم سَمَوْا تَظْفَرْ بما ظَفِروا
أراد الذي عنيت به فحذف المجرور بالباء لأن الموصوف بالموصول مجرور بمثلها.
ولا يجوز حذف العائد المجرور إن خلا مما شرط في جواز حذفه إلا قليلا، ومنه قول حاتم:
ومِنْ حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيّ قومي
…
وأيُّ الدهرِ ذو لم يَحْسَدُوني
ومثله قول الفرزدق:
لعل الذي أصْعَدْتِني أن يردَّني
…
إلى الأرض إنْ لم يَقْدِر الحينَ قادر
وربما حذف إن جر بمثل ما جر به الموصول معنى لا متعلقا كقول الشاعر:
فأبلغ الحارث بن نضلة والـ
…
مَرء معنى بلوم من يثق
أراد من يثق به، ومثله:
وإنّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفى بها
…
وهُوَّ عَلى مَنْ صَبِّه اللهُ عَلْقَمُ
أراد: من صبه الله عليه، وقد يحذف منصوب صلة الألف واللام كقوله:
ما المستفِزُّ الهوى محمودَ عاقبة
…
ولو أُتِيحَ له صفوٌ بلا كَدَرِ
وقد يحذف العائد المجرور لوجود مثله بعد الصلة كقوله:
لو أنَّ ما عالجتُ لين فؤادِها
…
فقسا استُلِينَ به لَلان الجَنْدَل
أراد: لو أن ما عالجت به لين فؤادها فقسا، فحذف به المتصل بعالجت استغناء عنه بالمتصل باستلين وإن كان بعد الصلة، لأنه عائد على ما، والكلام واحد، وإلى مثل هذين أشرت بقولي: وقد يحذف المجرور بحرف، وإن لم يكمل شرط الحذف.
وقيدت جواز حذف العائد المرفوع بكونه مبتدأ احترازا من غير المبتدأ كالفاعل، فإن حذفه وحذف ما أشبهه لا يجوز، وأما المبتدأ فإن عاد على أيّ جاز حذفه بإجماع طالت الصلة أو لم تطل، ما لم يكن خبره جملة أو ظرفا. وإن عاد على غير أي ولم يكن خبره جملة ولا ظرفا جاز حذفه عند الكوفيين مطلقا كجوازه في صلة أي، ولم يجز حذفه عند البصريين دون استكراه إلا إذا طالت الصلة، كقول بعض العرب: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءا، أراد: ما أنا بالذي هو قائل لك سوءا، فحسُن الحذف لطول الصلة بالمجرور والمنصوب. فإن زاد الطول ازداد الحذف حسنا كقوله تعالى (وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إله) التقدير والله أعلم: وهو الذي في السماء إله، وهو في الأرض إله.
فإن عدمت الاستطالة ضعف الحذف ولم يمتنع كقول الشاعر:
مَنْ يُعْنَ بالحمد لم يَنْطِق بما سَفَهٌ
…
ولا يَحِد عن سبيل الحلم والكرم
أراد: لا ينطق بما هو سفه. ومثله قراءة بعض السلف (تماما على الذي أحسنُ).
واشترط في جواز الحذف كون الخبر غير جملة ولا ظرف، لأنه لو كان أحدهما ثم حذف المبتدأ لم يعلم حذفه، لأن ما بقي من الجملة أو الظرف، صالح للوصل به دون شيء آخر، فامتنع الحذف.
ص: وهي حينئذ على موصوليتها مبنية على الضم غالبا، خلافا للخليل ويونس، وإن حُذِف ما تُضافُ إليه أعربت مطلقا، وإنْ أنثتْ بالتاء حينئذ لم تمنع الصرفَ خلافا لأبي عمرو.
ش: مذهب الخليل ويونس أن "أيًّا" الموصولة معربةٌ أبدا، وما ورد عنهم مما يوهم البناء عند حذف شطر صلتها كقوله تعالى (ثم لَنَنْزِعَنّ من كلِّ شيعةٍ أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيًّا) جعله الخليل محكيا بقول مقدر. وحكم يونس بتعليق الفعل قبلها، لأن التعليق عنده غير مخصوص بأفعال القلوب، والحجة عليهما قول الشاعر:
إذا ما لَقيتَ بَني مالِك
…
فسَلِّم على أيُّهم أفضلُ
لأن حروف الجر لا تعلق، ولا يضمر قول بينها وبين معمولها، وإذا بطل التعليق وإضمار القول تعين البناء، إذ لا قائل بخلاف ذلك.
ونبهت بقولي "غالبا" على أن بناء أي عند حذف شطر صلتها غير لازم، وإنما هو أحق من الإعراب، ومن شواهد الإعراب قراءة طلحة بن مُصرِّف ومعاذ بن مسلم (لننزِعَنَّ من كلِّ شيعة أيَّهم) بالنصب، وإعرابها حينئذ مع قلته قوي،
لأنها في الشرط والاستفهام تعرب قولا واحدا لمخالفتها غيرها من أسماء الشرط والاستفهام، بإضافتها ووفاقها في المعنى لبعض إن أضيفت إلى معرفة، ولكلِّ إن أضيفت إلى نكرة. والموصولة أيضا مخالفة لغيرها من الأسماء الموصولة بإضافتها، إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة، فوافقت في المعنى بعضا دون كلٍّ، فضعف بذلك مُوجِبُ إعرابها، فجعل لها حالان: حال بناء وحال إعراب، وكان أولى أحوالها بالبناء الحال التي يحذف فيها شطر صلتها مع التصريح بما تضاف إليه، لأن حذف شطر صلتها لم يستحسن فيها ولا في غيرها إلا لتنزيل ما تضاف إليه منزلته، وذلك يستلزم تنزُّلها حينئذ منزلة غير مضاف لفظا ولا نية، وإنما أعربت لإضافتها، فإذا صارت في تقدير ما لم يضف ضعف سبب إعرابها فبنيت غالبا. فإن حذف ما تضاف إليه أعربت على كل حال، لأن ذلك يبدي تمكنها في الإضافة لاستغنائها بمعناها عن لفظها، وإلحاق التنوين بها عوضا، فأشبهت بذلك كلاًّ، وفإن كُلَّا يحذف ما يضاف إليه كثيرا ويجاء بالتنوين عوضا منه.
وإذا قيل في "أيّ" أية لإرادة معنى التي فإما أن يصرح بما تضاف إليه وإما أن يحذف وينوى، فإن صرح به فحكم "أية" معه حكم "أي" حين يصرح بما تضاف إليه بلا خلاف، وإن نوى فكذلك أيضا، وكان أبو عمرو يمنعها الصرف حينئذ للتأنيث والتعريف، لأن التعريف بالإضافة المنوية شبيه بالتعريف بالعلمية ولذلك منع من الصرف جُمعَ المؤكد به، لأن فيه عدلا وتعريفا بإضافة منوية فكان كالعلم المعدول، إلا أنَّ شَبَه جُمعَ بالعلم أشد من شبه أيَّة، لأن جُمع لا يستعمل ما يضاف إليه، بخلاف أية فإن استعمال ما تضاف إليه أكثر من عدمه، فلم تشبه العلم.
ص: ويجوز الحضور أو الغيبة في ضمير المخبر به أو بموصوفه عن حاضر مقدم، ما لم يُقْصَد تشبيهه بالمخبر به فتَتعين الغيبة، ودون التشبيه يجوز الأمران إن وُجد ضميران.
ش: الإشارة بهذا الكلام إلى نحو: أنت الذي فعل، وأنت فلان الذي فعل، وأنت رجل فعل، ففي فعل الأول ضمير عائد على موصول مخبر به، وفي فعل الثاني ضمير عائد على موصول موصوفُه مُخْبرٌ به، وفي فعل الثالث ضمير عائد على نكرة مخبر به، والمخبر عنه في الأمثلة الثلاثة حاضر مقدم، وقد جيء بمضمر خبره غائبًا
مُعتبرا به حال الخبر، ولو جيء به حاضرا معتبرا به حال المخبر عنه جاز، فكنت تقول: فعلتَ، في الأمثلة الثلاثة، لأن المخبر عنه والمخبر به شيء واحد في المعنى، وفي حديث محاجَّةِ موسى آدم عليهما السلام "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته؟ " وفي رواية "أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته؟
ومن اعتبار حال المخبر عنه قول الفرزدق:
وأنتَ الذي تَلْوِي الجنودُ رءوسها
…
إليك وللأيتامِ أنتَ طعامُها
ومثله قول قيس العامري:
وأنت الذي إن شئت نَعَّمتَ عيشتي
…
وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
ومن اعتبار حال الخبر قول الفرزدق:
وأنت الذي أمست نزار تَعُدُّه
…
لدَفْعِ الأعادي والأمور الشدائِد
فلو قصد تشبيه المخبر عنه بالمخبر به تعين كون العائد بلفظ الغيبة كقولك: أنت الذي فعل، بمعنى كالذي فعل. وكذلك تتعين الغيبة عند تأخر ما يدل على الحضور كقولك: الذي فعل أنت، فلذلك قلت في الأصل "عن حاضر مقدم".
ومثال ما يجوز فيه الأمران إن وجد ضميران مع عدم التشبيه قولُ بعض الأنصار رضي الله عنهم:
نحن الذين بايَعُوا محمدا
…
على الجهادِ ما بقينا أبدا
ومثله:
أأنت الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً
…
سمعنا به والأرحبيُّ المعَلَّقُ
أي ومعه الأرحبي.
ص: ويُغْني عن الجملة الموصول بها ظرفٌ أو جارٌ ومجرورٌ منْويٌّ معه استقَرَّ أو شبهُه، وفاعلٌ هو العائد أو ملابسٌ له، ولا يُفْعَل ذلك لذي حَدَث خاص ما لم يعمل مثله في الموصول أو موصوف به، وقد يغني عن عائد الجملة ظاهرٌ.
ش: الظرفُ الموصول به جملةٌ في المعنى، لأنه لا بد من تعلقه بفعل لا يستغني عن فاعل، وكذا حرف الجر الموصول به، فلو استغنيت عن ذكرهما بذكر الجملة لكان الإلغاء، إلا أن التصريح بذكرهما أجود، وذلك نحو: عرفت الذي عندك، أي الذي استقر عندك، والذي في الدّار، أي الذي استقر فيها. وتقدير الفعل هنا مجمع عليه، بخلاف تقديره في غير صلة ففيه خلاف يذكر في باب المبتدأ إن شاء الله تعالى.
ولو تعلق الظرف والجار بذي حدث خاص كجلس أو قام لم يجز الاستغناء بتقدير، إذ ليس بعض المقدرات أولى من بعض، فإن عمل مثلُه في الموصول أو موصوف به جاز الاستغناء به، فقد حكى الكسائي: نزلنا المنزل الذي البارحة، والمراد: نزلنا المنزل الذي نزلناه البارحة.
ومثل ورود الظاهر مغنيا عن عائد الجملة قول الشاعر ? أنشده الكسائي:
فيا ربّ ليلى أنتَ في كلِّ موِطِن
…
وأنتَ الذي في رحمةِ الله أطمع
أراد: وأنت الذي في رحمته، فاستغنى بالظاهر عن الضمير، ومثله:
إن جُملَ التي شغفت بجمل .. ففؤادي وإن نأت غيرُ سال
ومثله:
سعادُ التي أضناكَ حبُّ سعادا
…
وإعراضُها عنك استمر وزادا
أراد سعاد التي أضناك حبها، فاستغنى بظاهر سعاد عن ضميرها، ومن هذا القبيل: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري. ومثل هذا في الصلة نادر، وإنما يكثر الاستغناء بالظاهر عن المضمر في الإخبار، وله موضع يأتي إن شاء الله تعالى.
فصل: ص: "مَنْ وما" في اللفظ مفردان مُذَكَّران، فإن عُنِي بهما غير ذلك فمراعاةُ اللفظ فيما اتصل بهما وبما أشْبَههُما أولى، ما لم يَعْضُد المعنى سابقٌ فيُخْتارُ مراعاتُه، أو يلزم بمراعاة اللفظ لَبْسٌ أو قُبْح فيجب مراعاة المعنى مطلقا، خلافا لابن السَّرَّاج في نحو: مَنْ هي مُحْسِنةٌ أمُّك، فإنْ حُذِفَ "هي" سَهل التذكير.
ويُعْتَبَر المعنى بعد اعتبار اللفظ كثيرا، وقد يُعْتَبر اللفظ بعد ذلك.
ش: قد تقدم أن "مَنْ" و"ما" يقع كل واحد منهما موقع الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، والكلام الآن في أنهما في اللفظ مفردان مذكران، فإن وافق معناهما لفظهما
…
المتكلم واستوى العالم والمتعلم وإذا خالف معناهما لفظهما فلك فيما لهما من ضمير وغيره مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى لكن مراعاة اللفظ فيما اتصل بهما أولى كقوله تعالى (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله) و (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).
ومراعاة المعنى فيما اتصل بهما جائز، كقوله تعالى:(ومنهم من يستمعون إليك) و (ومن الشياطين من يَغُوصون له) ومنه قول امرئ القيس:
فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يعفُ رسمُها
…
لما نَسَجَتْها من يمين وشمأل
أي للذي نسجتها، ومثله قول الآخر:
تعشَّ فإن عاهدتَني لا تخونُني
…
نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
أي نكن مثل اللذين يصطحبان. هذا إذا لم يعضد المعنى سابق فيختار مراعاته كقول الشاعر:
وإن من النِّسْوانِ مَنْ هي روضةٌ
…
تَهِيجُ الرياضُ قبلها وتَصُوحُ
فاعتضد اعتبار المعنى وهو التأنيث بسبق النسوان.
والإشارة بقولي "أو بما أشبههما" إلى: كم وكأين.
وأشرت بقولي "ما لم يلزم لبس" إلى نحو قولك: أعط من سألتْك لا مَنْ سألك، وأعرض عمن مررت بها، فهذا وأمثاله يجب فيه مراعاة المعنى لئلا يوقع في لبس وفهم غير المراد.
وأشرت "بما يلزم منه قبح" إلى نحو: من هي حمراء أمتُك، فإن مراعاة المعنى فيه متعينة، إذ لو استعمل التذكير مراعاة للفظ (مَنْ) فقيل: مَنْ هو أحمر أمتك، لكان في غاية من القبح.
ووافق ابن السراج على منع التذكير في هذا وأمثاله. وأجاز في نحو: مَنْ هي محسنةٌ أمك، أن يقال: من هي محسن أمُّك، أو: منْ محسنٌ أمك. فأما: مَنّ محسن أمك، فغريب، وأما: من هي محسنٌ أمُّك، ففيه من القبح قريب ما في: من هي أحمر أمتك، فوجب اجتنابهما.
والذي حمل ابنَ السراج على جواز: من هي محسن أمك، شبه محسن بمرضع ونحوه من الصفات الجارية على الإناث بلفظ خالٍ من علامة، بخلاف أحمر فإن إجراء مثله على مؤنث لم يقع، فلذلك اتفق على منع: من هي أحمر أمتك.
واعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ كقوله تعالى (ومِن الناس من يقولُ آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين).
فلو عُضِد المعنى بعد اعتبار اللفظ تعين اعتبار المعنى، ولذلك قرأ (ومن يَقنُت منكنّ لله ورسوله وتعمل) بالتأنيث الخمسةُ غير حمزة والكسائي، لأن معنى التأنيث قد اعتضد بسبق (من يقنت منكن) وهو نظير اعتضاد التأنيث في (من هي روضة) لسبق (وإن من النسوان).
واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى كقوله تعالى (ومنْ يؤمن بالله ويعمل صالحا يُدْخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) ومثله قول الشاعر:
لست ممن يَكِعّ أو يستَكِينو
…
ن إذا كافَحَتْه خيلُ الأعادي
ص: وتقعُ "مَنْ وما" شرطِيَّتين واستفهاميتين، ونكرتين موصوفتين، ويُوصف بما على رأى.
ولا تزاد "مَنْ" خلافا للكسائي، ولا تقع على غير من يعقل إلا مُنَزَّلا منزلتَه
أو مُجامِعا له بشُمُولٍ أو اقترانٍ خلافا لقطرب.
و"ما" في الغالب لما لا يعقل وحدَه، وله مع من يعقل، ولصفات من يعقل، وللمُبْهَم أمرُه، وأفْرِدَت نكرة، وقد تساويها "مَنْ" عند أبي علي.
وقد تقع "الذي" مصدريةن وموصوفة بمعرفة أو شبهها في امتناع لحاق أل.
ش: مثال (من وما) في الشرط قوله تعالى (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتِيَ خيرا كثيرا) و (وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه) ومثالهما في الاستفهام قوله تعالى (ومَنْ أصدقُ من الله حديثا) و (وما تلك بيمينك يا موسى).
ومثالهما نكرتين موصوفتين قول الشاعر:
ألا رُبَّ من تَغْتَشُّه لك ناصحٌ
…
ومُؤتَمنٍ بالغيبِ غيرُ أمين
وقال آخر:
ربما تكره النفوسُ من الأمـ
…
ـر له فَرْجَةٌ كحلِّ العِقال
وأجاز الأخفش تنكير (أيّ) ووصفها قياسا على (من وما) نظرا إلى أنها أمكن في الاسمية منهما، فهي أحق منهما بأن تستعمل معرفة ونكرة وموصوفة وغير موصوفة، وقد وصفت في النداء، فوصفها في غيره ليس بِبِدْع، إلا أن السماع بذلك مفقود.
واختُلفَ في (ما) من نحو قولهم: لِأمْر ما جَدَع قصيرٌ أنفه، فالمشهور أنها حرف زائد منبه على وصف مُراد لائق بالمحل، وقال قوم: هي اسم موصوف به.
والأول أولى، لأن زيادة ما عوضا عن محذوف ثابت في كلامهم، من ذلك قولهم: أمّا أنت منطلقا انطلقت، فزادوا ما عوضا من كان، ومن ذلك قولهم: حيثما تكنْ أكنْ، فزادوا ما عوضا من الإضافة. وليس في كلامهم نكرةٌ موصوفٌ بها جامدةٌ كجمود ما إلا وهي مردفة بمُكَمِّل كقولهم: مررت برجل أيِّ رجل، وأطعمنا شاةً كلّ شاة، وهذا رجلٌ ما شئت من رجل، فالحكم على ما المذكورة بالاسمية واقتضاء الوصفية جاء بما لا نظير له، فوجب اجتنابه.
وأجاز الكسائي وقوع مَن زائدة مستشهدا بقول الشاعر:
يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لمن حَلَّت له
…
حَرُمَت عليّ وليتها لم تحرم
ولا حجة فيما استشهد به لوجهين: أحدهما: أن الرواية: يا شاة ما قنص، بزيادة ما. والثاني: أن (من) على تقدير صحة الرواية بها يحتمل أن تكون نكرة موصوفة بقنص، على تقدير: يا شاة رجل قنص، أي ذي قنص، والحمل على هذا راجح لأنه تقدير شائع أمثاله بإجماع، إذ ليس فيه إلا حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وأمثال ذلك كثيرة. بخلاف ما ذهب إليه الكسائي رحمه الله فإنه لم يثبت مثله دون احتمال فوجب اجتنابه.
وزعم محمد بن المستنير الملقب قطْرُبًا أن (مَنْ) تقع على ما لا يعقل دون اشتراط ما يصحح ذلك، وجعل من ذلك قوله تعالى (ومَنْ لستم له برازقين) وهذا القول غير مرضي، إذ لا دليل عليه ولا محْوج إليه، وإنما تقع على ما لا يعقل إذا نزل منزلة من يعقل كقوله تعالى (ومَنْ أضلُّ مِمّن يدعو من دون الله مَنْ
لا يستجيب له) فعبر بمن عن الأصنام لتنزلها منزلة من يعقل، ومثله:
بكيتُ على سِرْب القَطا إذ مَرَرْنَ بي
…
فقلتُ ومثلي بالبكاء جديرُ
أسِرْبَ القطا هَل مَنْ يعير جناحَه
…
لعلي إلى مَنْ قد هَويتُ أطيرُ
وكذا إذا جامع من يعقل بشمول كقوله تعالى (ألم ترَ أن الله يسبح له من في السموات والأرض) وباقتران كقوله تعالى (خلق كلَّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين) وكقوله تعالى (أفمَنْ يخلق كمَنْ لا يخلق) ومثله ما حكى الفراء من قول بعض العرب: اشتبه عليَّ الراكب وجمله، فما أدري مَنْ ذا ومن ذا.
وما في الغالب لما لا يعقل، واحترزت بقولي (في الغالب) من نحو قوله تعالى (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ومن قول العرب: سبحان ما سخَّركن لنا، ومجيئها لما لا يعقل كثير.
وله مع من يعقل كقوله تعالى (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة) ولصفات من يعقل كقوله تعالى (فانْكِحوا ما طاب لكم من النساء) وللمبهم أمره كقولك وأنت ترى شبحا تُقَدِّر إنسانيته وعدم إنسانيته أبصرت ما هناك. وكذا لو علمت إنسانيته ولم تدر أذكر هو أم أنثى، ومنه قوله تعالى (إني نذرتُ لك ما في بطني محررًا).
وأردت "بإفرادها نكرة" إخلاؤها من صفة ومن تضمين معنى شرط أو استفهام، وذلك في التعجب نحو: ما أحسن فلانا. وفي باب نعم وبئس كقوله تعالى (فنعماهي) على رأي. وفي نحو قولهم: إني مما أفعل، أي من أمر أن أفعل.
وقد تساويها "مَنْ" في وقوعها نكرة غير موصوفة ولا مضمنة شرطًا ولا استفهاما، وهذا مما انفرد به أبو علي الفارسين وحجته في ذلك قول الشاعر:
وكيفَ أرْهَبُ أمرا أو أراعُ به
…
وقد زكاتُ إلى بِشْرِ بنِ مروان
ونِعْمَ مَزْكَأ مَنْ ضاقَتْ مذاهبه
…
ونِعْمَ مَنْ هو في سِرٍّ وإعلان
فمن الثانية في موضع نصب على التمييز، وفاعل نعم مضمر مُفَسَّر بمَنْ كما فُسِّر بما في نعما، وهو مبتدأ خبره الجملة التي قبله، وفي سر وإعلان متعلق بنعم.
والصحيح غير ما ذهب إليه، وبيان ذلك مستوفى في باب نعم وبئس.
وحكى أبو علي في الشيرازيات عن أبي الحسن عن يونس وقوع الذي مصدريَّة غير محتاجة إلى عائد، وتأول على ذلك قوله تعالى (ذلك الذي يُبَشِّرُ الله عباده) قال أبو علي: ويقوي هذا أنها جاءت موصوفة غير موصولة، وأنشد الأصمعي:
حتى إذا كانا هما اللذَيْن
…
مثلَ الجَدِيلَيْن المُحَمْلَجَيْن
فنصب مثل الجديلين وجعله صفة للذين. قال أبو علي: ويجيء قوله تعالى (كالذي خاضوا) على قياس، فيكون التقدير: وخضتم كخوضهم، فلا يعود
إلى الذي شيء، لأنها في مثل هذا حرف.
قلت: حاصل كلام أبي على أن الذي على ثلاثة أقسام: موصولة، وموصوفة مستغنية بالصفة عن الصلة، ومصدرية محكوم بحرفيتها. وهذا المذهب أيضا هو مذهب الفراء رحمه الله، وهو الصحيح، وبه أقول.
وأجاز الفراء في قوله تعالى (تمامًا على الذي أحسن) أن يكون الذي مصدرية والتقدير: تمامًا على إحسانه، أي على إحسان موسى عليه السلام. وأجاز أن تكون موصوفة بأحسن على أن أحسن أفعل تفضيل، قال: لأن العرب تقول: مررت بالذي خير منك، ولا تقول: مررت بالذي قائم، لأن خيرًا منك كالمعرفة إذ لم تدخل فيه الألف واللام. وكذا يقولون: مررت بالذي أخيك، وبالذي مثلك، إذا جعلوا صفة الذي معرفة أو نكرة لا تدخله الألف واللام، جعلوها تابعة للذي، أنشد الكسائي:
إنّ الزُّبَيْرِيّ الذي مثلَ الجَلَم
…
مشى بأسلافك في أهل الحرم
قلت: وهذا الذي أنشد الكسائي مثل الذي أنشد الأصمعي:
حتى إذا كانا
…
البيت
وحكى الفراء عن بعض العرب: أبوك بالجارية الذي يكفل، وبالجارية ما يكفل، والمعنى: أبوك بالجارية كفالته، وهذا صريح في ورود الذي مصدرية. ومنه قول عبد الله بن رواحة:
فثبَّتَ الله ما أتاك من حسن
…
في المُرْسَلين ونَصْرًا كالذي نُصِرُوا
أي ونصرا كنصرهم، ومثله قول جرير:
يا أُمَّ عَمْرٍو جزاك الله مغفرة
…
ردّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
ومثله قول ابن أبي ربيعة:
لو أنّهم صبروا عنّا فنعرفه
…
منهم إذا لصبرنا كالذي صبروا
ومثله قول الآخر:
دعاني أبو سعد وأهدى نصيحة
…
إليّ ومما أن تغر النصائح
لأجرر لحيى كلب نبهان كالذي
…
دعا القاسطيَّ حَتفُه وهو نازح
فصل: ص: وتقع "أيٌّ" شرطية، واستفهامية، وصفة لنكرة مذكورة غالبا، وحالا لمعرفة، ويلزمها في هذين الوجهين الإضافة لفظا ومعنى إلى ما يماثل الموصوف لفظا ومعنى، أو معنى لا لفظا.
وقد يُسْتَغنى في الشرط والاستفهام بمعنى الإضافة إن علم المضاف إليه.
وأيّ فيهما بمنزلة كلّ مع النكرة، وبمنزلة بعض مع المعرفة.
ولا تقع نكرة موصوفة خلافا للأخفش.
وقد يحذف ثالثُها في الاستفهام، وتضاف فيه إلى النكرة بلا شرط، وإلى المعرفةِ بشرطِ إفهام تثنيةٍ أو جمعٍ أو قصدِ أجزاءٍ أو تكريرها عطفا بالواو.
ش: من شواهد أي الشرطية قول الشاعر:
أيَّ حين تلمّ بي تَلْقَ ما شِئْـ
…
ـتَ من الخير فاتخذني خليلا
ومن شواهد الاستفهامية قوله تعالى (فأيُّ الفريقين أحقُّ بالأمن) وقول
ابن مسعود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم "أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاةُ على وقتها" ومن شواهد الواقعة صفة لنكرة قول الشاعر:
دعوت امرأ أيَّ امرئ فأجابني
…
وكنتُ وإيّاه ملاذًا وموْئِلا
وأشرت بقولي "مذكورة غالبا" إلى ندور قول الفرزدق:
إذا حاربَ الحجاجُ أيَّ منافق
…
علاه بسيف كلّما هزّ يقطع
أراد: منافقا أيَّ منافق. ومن شواهد الواقعة حالا لمعرفة قول الآخر:
فأوْمَاتُ إيماءً خفِيًّا لِحَبْترٍ
…
فلله عينا حَبْترِ أيّما فتى
ولا تستغني في هذين الوجهين عن الإضافة معنى ولفظا إلى نكرة تماثل ما هي له لفظا ومعنى نحو: دعوت امرأ أي امرئ، أو معنى لا لفظا نحو: دعوت امرأ أي فتى.
فأما في الشرط والاستفهام فيجوز استغناؤها بمعنى الإضافة عن لفظها إن كان المضاف إليه معلوما كقوله تعالى (أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فهذا مثال حذف المضاف إليه في الشرط، ومن حذفه في الاستفهام قول ابن مسعود رضي الله عنه "ثم أيّ؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أيٌّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" وهي فيهما مع النكرة بمنزلة كلِّ، ومع المعرفة بمنزلة بعض. ولهذا يقال في التنكير: أيُّ الرجلين أتيا؟ وأيُّ رجال ذهبوا؟ فتثنى الضمير وتجمعه كما تفعل حين تقول:
كل رجلين أتيا، وكل رجال ذهبوا.
ويقال في التعريف: أيُّ الرجلين أتى؟ وأيُّ الرجال ذهب؟
وأجاز الأخفش وقوع أي نكرة موصوفة نحو قولك: مررت بأيِّ كريم، ولا حجة له إلا القياس على "ما" و"من" في قول العرب: رغبتُ فيما خيرٍ مما عندك، و:
فكفى بنا فضلا على مَنْ غيرِنا
والقياس في مثل هذا ضعيف.
وأشرت بقولي "وقد يحذف ثالثها في الاستفهام" إلى قول الفرزدق:
تنظرت نضرًا والسِّماكين أيْهما
…
عليَّ من الغَيْث استهلت مواطره
وتناول قولي "وإلى المعرفة بشرط إفهام تثنية أو جمع" ما أضيف إلى مثنى لفظا ومعنى، وإلى جمع لفظا ومعنى، وإلى مثنى معنى لا لفظا نحو: أيُّ الرجلين أفضل؟ وأيّ الرجال أفضل؟ وأيُّهما أكرم؟ وأيُّهم أكرم؟ فإن كانت المعرفة التي أضيف إليها أي مفردة اللفظ والمعنى لم يضف إليها إلا مقصودا أجزاؤها، نحو: أيُّ ثوبك بلى؟ أو معطوفا عليها بالواو، ومثله قول الشاعر:
فلئن لقيتُك خالييْن لتعلمَنْ
…
أيِّي وأيُّك فارس الأحزاب
فصل: ص: من الموصولات الحرفية "أنْ" الناصبةُ مضارعا، وتوصَلُ بفعل متصرف مطلقا.
ومنها "أنّ" وتوصل بمعموليها.
ومنها "كَيْ" وتوصل بمضارع مقرونةً بلام التعليل لفظا أو تقديرا.
ومنها "ما" وتوصل بفعل متصرف غيرِ أمر، وتختص بنيابتها عن ظرف زمان، موصولةً في الغالب بفعل ماضي اللفظ، مثبتٍ أو منفيٍّ بلم، [وليست اسما فتفتقر إلى ضمير، خلافا لأبي الحسن وابن السراج،] وتُوصلُ بجملة اسمية على رأي.
ومنها "لو" التاليةُ غالبا مُفْهِمَ تمنٍّ، وصلتها كصلة "ما" في غير نيابة، وتغني عن التمني فينتصب بعدها الفعلُ مقرونًا بالفاء].
ش: قد تبين من كلامي في أول هذا الباب أن الموصولات الحرفية هي التي تقوم بصلاتها مقام مصادر، والحاجة الآن داعية إلى تعيينها.
فمنها "أنْ" وقيدت "بنصبها المضارع" احترازا من التي أصلها "أنّ" نحو (علم أن سيكون) ومن الزائدة نحو (فلما أن جاء البشير) ومن التفسيرية نحو (فأوْحيْنا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر) ولهن موضع يذكرن فيه، وكذا المصدرية لاستيفاء القول فيها موضع آخر.
والذي دعت الحاجة إليه هنا كيفية وصلها وبيان ما توصل به، فذكر أنها توصل بفعل متصرف مطلقا، ليتناول ذلك الفعل المضارع المتصرف نحو: أريد أن تفعل، والماضي المتصرف نحو، عجبت من أن أتيت، والأمر المتصرف نحو: أرسلت إليه بأن افعلْ، وقرنت أن بالباء بعد: أرسلت، لئلا يوهم تجردها من الباء أنها التفسيرية.
وعلم بذكر "التصرف" قيدا لما توصل به أنْ، أنها لا توصل بما لا تصرف له من مضارع كينبغي في الأشهر، ولا ماض كعسى، ولا أمر كهَلُمَّ في لغة بني تميم.
وإذا ثبت هذا فاعلم أن الواقعة في قوله تعالى (وأنْ عسى أنْ يكون قد اقترب أجلهم)(وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى) مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، والجملة بعدها خبرها.
ومثال وصل "كي" مقرونة بلام التعليل لفظا، جئت لكي أراك. ومثالها مقرونة بها تقديرا: جئت كي أراك. ولا يتعين كون "كي" مصدرية إلا وهي مقرونة باللام لفظا، وأما إذا لم تقارنها اللام لفظا فيحتمل أن تكون مصدرية، واللام مقدرة كما تقدر مع "أن" في: جئت أنْ أراك. ويحتمل أن تكون حرف جر بمعنى اللام، ويكون الفعل بعدها منصوبا بأن مقدرة، فإذا لفظ باللام لم تكن بمعناها لئلا يلزم دخول حرف جر على حرف جر وأما قول الشاعر:
فقالت أكلَّ الناسِ أصبحتَ مانحًا
…
لسانَك كيما أن تَغُرّ وتخدعا
فكي فيه حرفُ جرٍ لا حرفٌ مصدري، لئلا يلزم دخول حرف مصدري على حرف مصدري، وأجاز الفراء ذلك وجعل أحدهما مؤكدا للآخر، وأيّدَ مذهبه في ذلك بقول الشاعر:
أردتُ لكيما أن تطيرَ بِقرْبَتي
…
فتتركها شَنًّا ببيداء بَلْقَع
فجمع بين اللام وكي وأن، فهذا لا محيص فيه من أحد أمرين مُسْتَغْرَبَيْن: إمّا أن تكون كي مصدرية فيلزم اجتماعها مع أنْ وهما حرفان مصدريان، وإمّا أن تكون حرف جر فيلزم اجتماعها مع اللام وهما حرفا جر. إلا أن اجتماع حرفين مصدريين أسهل
من اجتماع حرفي جر، لأن للحرف المصدري شبها للأسماء بوقوعه مواقعها، وتوكيد اسم بمثله جائز ولو كان موصولا كقراءة زيد بن علي رضي الله عنهما (خلقكم والذين مَنّ قبلكم) وكقول معاوية رضي الله عنه:
إنّ الذين الألى أدخلتهم نفر
…
.لولا بَوادِرُ إبْراق وإرْعاد
وكذا توكيد ما له شبه بالأسماء من الحروف، بخلاف ما لا شبه له بها كحروف الجر.
ويجوز جعل: مَنّ في الآية، والألى في البيت خبرَ مبتدأ مضمر، هو وخبره صلة الذين.
وأشرت بالتنبيه على أن "كي" لا تخلو من لام التعليل إلى أنها لا تتصرف تصرف "أنْ" فإنَّ أنْ يبتدأ بها، وتكون فاعلة ومفعولة ومضافًا إليها ومجرورة بأكثر حروف الجر. وكي لا تقع إلا مجرورة باللام، أو مقدرًا معها اللام.
وأما "ما" المصدرية فتوصل بفعل متصرف غير أمر، وأكثر ما يكون ماضيًا كقوله تعالى (وضاقت عليكم الأرضُ بما رَحُبَت) وكقول الشاعر:
يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي
…
وكان ذهابُهنّ له ذهابا
وتقع هي وصلتها موقع ظرف الزمان كقولك: جُدْ ما دُمْتَ واجدا، أي مدة دوامك واجدا، ولا يشاركها في هذا الاستعمال غيرها.
وقد أجاز الزمخشري مشاركة "أنْ" إياها في ذلك، وجعل من ذلك قوله تعالى (ألمْ تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أن آتاه الله الملك) والذي ذهب إليه غير جائز عندي؛ لأن استعمال أن في موضع التعليل مجمع عليه، وهو لائق في هذا الموضع فلا يعدل عنه. واستعمالها في موضع التوقيت لا يعترف به أكثر
النحويين، ولا ينبغي أن يعترف به، لأن كلّ موضع ادُّعي فيه ذلك صالح للتعليل، فالقول به موقع في لبس.
وأجاز الزمخشري أيضًا في قوله تعالى (ودية مُسَلَّمَةٌ إلى أهله إلا أنْ يصدقوا) ما أجاز في (أن آتاه الله) وأن يكون حالا، كأنه قيل:
مسلمة إليهم إلا حين يتصدقون على القاتل بالعفو، أو متصدقين بالعفو. وليس كما قال، بل التقدير: مسلمة إليهم إلا بأن يصدقوا بالعفو، وهذا التقدير موافق للمعنى والاستعمال المجمع على مثله، إذ ليس فيه إلا حذف حرف جر داخل على أن، وهو مطرد، بخلاف الوجهين اللذين ادعاهما الزمخشري.
وقد استشهد بعضهم على وقوع أنْ وصلتها موقع ظرف الزمان بقول الشاعر:
فقلتُ لها لا تَنْكِحِيه فإنه
…
لأول سَهْمٍ أنْ يلاقِيَ مَجْمَعا
وزعم المستشهد به أن معناه: لأول سهم زمان ملاقاته مجمعا، ولا حجة فيه لإمكان أن يكون التقدير: فإنه لأول سهم بأن يلاقى مَجْمَعًا، أي سبب ملاقاته مجمعًا، وهذا التقدير موافق للمعنى، مع الاتفاق على كثرة نظائره، فهو أولى.
وإذا وقعت "ما" المصدرية موضع الظرف لم توصل في الغالب إلا بفعل ماضي اللفظ مثبت أو منفي بلم كقول الشاعر:
ولن يلبث الجُهّالُ أنْ يَتَهَضَّمُوا
…
أخا الحِلم ما لم يَسْتَعِنْ بجهول
وقد توصل بمضارع خال من النفي بلم كقول الشاعر:
نُطوِّف ما نُطَوِّف ثم يأوي
…
ذوو الأموال منا والعديمُ
إلى حُفَر أسافِلُهن جُوفٌ
…
وأعلاهن صُفَّاحٌ مُقيمُ
وقد توصل بجملة اسمية كقول الشاعر:
واصِلْ خليلَك ما التوصلُ ممكنٌ
…
فَلأنتَ أو هو عن قريبٍ ذاهب
وقال آخر:
فعسْهُم أبا حسَّانَ ما أنت عائِسُ
وقد توصل بمضارعٍ المصدريةُ غير الظرفية كقول الشاعر:
وللمنية أسباب تُقَرِّبُها
…
كما تقرب للوحْشية الذُّرُع
وقد توصل بجملة اسمية كقول الشاعر:
أحلامُكم لسقام الجهل شافيةٌ
…
كما دماؤُكُم تشفى من الكَلَب
وكذا قول الآخر:
أعَلاقةً أمَّ الوُليدِ بعدما
…
.أفنانُ رأسِكَ كالثِّغام المُخْلِس
والحكم على "ما" هذه بالمصدرية أولى من جعلها كافة، لأنها إذا كانت مصدرية كانت هي وصلتها في موضع جر بالكاف في البيت الأول، وبإضافة الظرف في البيت الثاني، ولم يصرف شيء عما هو له ثابت، بخلاف الحكم بأن (ما) كافة.
وأيضًا فإن النظر يقتضي أن تكون (ما) مصدرية لكثرة استعمالها، وعملها غير مقصورة على الوصل بالفعل، بخلاف أنْ وكي، ولا تستحق ذلك (لو) المصدرية لقلة استعمالها، فإن الحاجة إلى اختلاف المصحوب في صلة وغيرها دون كثرة استعمال غير ماسة.
وأيضًا فمن مواقع ما المصدرية النيابة عن وقت واقع ظرفا، والوقت الواقع ظرفًا يضاف إلى جملة اسمية كما يضاف إلى جملة فعلية، فإذا وصلت ما بكلتا الجملتين حين وقوعها موقع ذلك الوقت سلك بها سبيل ما وقعت موقعه، فكان الحكم بجواز وصلها بجملة اسمية راجحا على الحكم بمنعه، هذا على تقدير عدم ذلك مسموعًا، فكيف وقد ظفرت به في البيتين السابق ذكرهما: أعني:
واصلْ خليلك، و: فعسهم أبا حسان. وإذا ثبت وصل ما المصدرية النائبة عن الظرف بجملة اسمية، لم يستبعد وصلها بها إذا لم تكن نائبة عن ظرف.
وأما "لو" المصدرية فعلامتها أن تصلح في موضعها "أن"، وأكثر وقوعها بعد ما يدل على تمنٍّ كقوله تعالى (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) وقد تكون غير مسبوقة بتمنٍّ كقول قَتيلة أخت ضرار:
ما كان ضَرَّك لو مننتَ وربما
…
مَنْ الفتى وهو المَغيظُ المُحْنَق
وقال آخر:
لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى
…
بليت وقد أنَى لي لو أبيد
وقال آخر:
وربّما فاتَ قومًا جلُّ أمرِهم
…
من التأنِّي وكان الحزمَ لو عَجِلوا
ولا توصل إلا بفعل متصرف ماض أو مضارع، وهذا المراد بقولي:"وصلتها كصلة ما في غير نيابة" وأكثر النحويين لا يذكرون "لو" في الحروف المصدرية، وممن ذكرها الفراء وأبو علي، ومن المتأخرين التبريزي وأبو البقاء. وقال أبو علي في التذكرة، وقد حكى قراءة بعض القراء (وَدُّوا لو تدهن فيدهنوا) بنصب فيدهنوا، حمله على المعنى كأنه قال: ودوا أنْ تدهن فيدهنوا كما حمل (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر) على: أو ليس بقادر.
وأشرت بقولي "وتغني عن التمني فينصب بعدها الفعل مقرونا بالفاء" إلى نحو قول الشاعر:
سَرَيْنا إليهم في جموع كأنها
…
جبالُ شَرَوْرَى لو نُعانُ فَنَنْهَدا
فلك في نصب ننهد أن نقول: نصب لأنه جواب تَمن إنشائي كجواب ليت لأن الأصل: وددنا لو نعان، بحذف فعل التمني لدلالة لو عليه، فأشبهت ليت في الإشعار بمعنى التمني دون لفظه، فكان لها جواب كجواب ليت، وهذا عندي هو المختار.
ولك أن تقول: ليس هذا من باب الجواب بالفاء بل من باب العطف على المصدر. لأن "لو" والفعل في تأويل مصدر، والمصدر قد يعطف عليه الفعل فينصب بإضمار أن، كقول الشاعر:
لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويْتَه
…
تَقَضِّي لُبانات ويسأمَ سائم
ومنه قراءة السبعة إلا نافعًا (إلا وَحْيا أو من وراء حجاب أو يرسلَ) بالنصب عطفا على "وحْيا".
وذهب أبو علي في "لو" التي بعدها: نعان، وشبْهها إلى أنها بمعنى الأمر وأن النصب بعدها كالنصب بعد الأمر، قال في التذكرة بعد كلامه على قراءة من قرأ "فيدهنوا" بالنصب: يجوز أن تكون "لو" هذه أجريت مجرى (لو) التي بمعنى الأمر في قوله: (لو نعان فنَنهد) أي: أعنا يا الله (فننهد). وقال أيضا في قوله تعالى (فلو أنّ لنا كَرَّة فنكون من المؤمنين) أي: أحدِثْ لنا كرة فنكون. هذا نص كلامه في التذكرة.
وأما الزمخشري فإنه قال: وقد يجيءُ (لو) في معنى التمني كقولك: لو تأتيني فتحدثني، كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني، فإن أراد بهذا الكلام ما أردته أنا فهو صحيح، وإن أراد أن (لو) حرف موضوع للتمني كليت فغير صحيح، لأن ذلك يستلزم منع الجمع بينها وبين فعل التمني كما لا يجمع بينه وبين ليت. وذلك أن حروف المعاني مقصودها النيابة عن أفعال على سبيل الإنشاء، فالجمع بينها وبين تلك الأفعال ممتنع لامتناع الجمع بين نائب ومنوب عنه، ولهذا امتنع الجمع بين لعلَّ وأترجى، وبين إلا وأستثني، فلو كانت (لو)) موضوعة للتمني كليت لساوتها في امتناع ذكر فعل التمني معها، فكان قول القائل: تمنيت لو تفعل، غير جائز، كما أن قولك: تمنيت ليتك تفعل غير جائز، والأمر بخلاف ذلك، فصح ما قلته والحمد لله.
فإن قيل: كيف دخلت "لو" المصدرية على أنّ في نحو (فلو أن لنا كرة)؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن لو داخلة على (ثبت) مقدرا رافعا لأنَّ، فلا يلزم من ذلك مباشرة حرف مصدري لحرف مصدري.
الثاني: أن يكون هذا من باب التوكيد اللفظي، وهو من أحسنه، لأنه توكيد كلمة بما يوافقها معنى دون لفظ، وهو أجود من التوكيد بإعادة اللفظ بعينه، ومنه
توكيد السبل بالفجاج في قوله تعالى (لتَسْلكوا منها سبلا فجاجا) ومنه توكيد الذين بمَنْ في قراءة زيد بن علي (والذين مَنْ قبلكم) ولتفضيل هذا النوع من التوكيد على إعادة اللفظ بعينه كان قولك: زيد كمثل عمرو، شائعا مستحسنا في النثر والنظم، بخلاف: زيد ككعمروا، فإنه مخصوص بالضرورة كقوله: ككما يُؤَثْفين، وقد اجتمعت أنْ ولو المصدرية في قول علي رضي الله عنه مخاطبا لعامله: ما كان عليك أن لو صمت لله أياما، وتصدقت بطائفة من طعامك محتسبا.
فصل: ص: الموصول والصلة كجزأي اسم، فلهما ما لهما من ترتيب، ومَنْع فصل بأجنبي إلا ما شَذَّ، فلا يُتْبَع الموصولُ، ولا يُخْبَرُ عنه، ولا يُسْتثنى منه قبل تمام صلته أو تقدير تمامها.
وقد تَرِدُ صلةٌ بعد موصولين أو أكثر مُشتَركا فيها، أو مَدْلولا بها على ما حذف إلا أل.
وقد يُحْذَفُ ما عُلِم من موصولٍ غير الألف واللام، ومن صلة غيرهما.
ولا تُحْذَفُ صلةُ حرفٍ إلاّ ومعمولُها باق، ولا موصولٌ حرْفيّ إلا "أنْ".
وقد يلي معمولُ الصّلة الموصول إن لم يكن حرفا، أو الألف واللام.
ويجوز تعليق حرف جر قبل الألف واللام بمحذوفٍ دَلُّ عليه صلتُها، ويندر ذلك في الشعر مع غيرها مطلقا، ومعها غير مجرورة بمن.
ش: للموصول مع الصلة شبَه بشطري الاسم، وأشبَه الأسماء بهما المركبُ تركيب مَزْج كبعلبك، فإن المفرد مباين لهما بعدم التركيب، والمضاف والجملة
مباينان لهما بتأثير صدرهما في عجزيهما، والمركب تركيب مزج خال من تلك المباينات، فكان شبهه أولى بالاعتبار.
والضمير من قولي (فلهما) عائد إلى الموصول والصلة، ومن قولي (ما لهما) عائد على جزأي الاسم، أي للموصول من التقدم ما لصدر الاسم المشار إليه، وللصلة من التأخر ما لعجزه، فهذا هو المراد بالترتيب، لأن الصلة لا يتقدم بعض أجزائها على بعض، كما لا يتقدم بعض أجزاء العجز على بعض، بل يجوز في الجملة الموصول بها من تقديم وتأخير ما يجوز فيها قبل كونها صلة، ما لم يعرض في الوصل مانع من بعض ما كان جائزا، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
وكما وجب الترتيب وجب منع الفصل بأجنبي إلا ما شذ، ولا يدخل في الأجنبي القسم لأنه يؤكد الجملة الموصول بها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "وأبنوهم بمَنْ والله ما علمت عليهم من سوء قط" ولا جملة الاعتراض كقول الشاعر:
ماذا ولا عَتْبَ في المقدور رُمْتَ أما
…
يَكْفيك بالنُّجْحِ أم خُسْرٌ وتضليل
ففصل بين (ذا) و (رمت) بلا عتب في المقدور، لأن فيه توكيدا وتشديدا لمضمون الجملة الموصول بها.
والجملة الحالية أولى ألا تعدَّ أجنبية كقول الشاعر:
إنّ الذي وهو مُثْرٍ لا يَجود حَر
…
بفاقةٍ تعتريه بعد إثراء
فقوله: وهو مثر، جملةٌ حاليةٌ العاملُ فيها فعل الصلة وهو يجود، وما عَمِلَ فيه فعل الصلة فهو من الصلة، فلا يكون أجنبيا.
ومما لا ينبغي أن يُعَدّ أجنبيا النداء الذي يليه مخاطَبٌ كقول الشاعر:
وأنتَ الذي يا سعد بُؤْتَ بمَشْهَد
…
كريم وأثوابِ المكارم والحمد
فلو لم يَله مخاطب عُدَّ أجنبيا ولم يجز إلا في ضرورة كقوله:
تَعشَّ فإن عاهَدْتني لا تخونُني
…
نكن مثل مَنْ يا ذئب يصطحبان
ومن الفصل الذي يعد شاذا لكونه أجنبيا محضا قوله:
وأبْغَضُ مَنْ وضعْت إليّ فيه
…
لسانِيَ مَعشَرٌ عنهم أذُوذُ
ففصل بين "فيه" و"لساني" وبين ما يتعلقان به وهو وضعت "بإليّ" وهو أجنبي، لأنه متعلق بما قبل الموصول وهو "أبغض" والأصل أن يقال: وأبغض من وضعت فيه لساني إليّ معشرٌ.
ومثال ورود الصلة مشتركا فيها قول الشاعر:
صِلِ الذي والتي مِنّا بآصرة
…
وإن نأتْ عن مدى مرماهما الرحمُ
ومثال ورودها مدلولا بها على ما حذف قوله:
وعند الذي واللات عُدنك إحنة
…
عليك فلا يغررك كيدُ العوائد
ومثله قول الآخر:
من اللواتي والتي واللاتي
…
يزعمن أني كبرت لِداتي
وإذا كان الموصول "الألف واللام" لم يجز حذفه ولا حذف صلته.
وإذا كان حرفا مصدريا لم يجز حذفه أيضا، إلا إذا كان "أنْ" فإنها فاقت أخواتها بكثرة الاستعمال، فأوثِرَتْ بجواز الحذف، لأن الشعور بها عند حذفها ممكن، بخلاف أخواتها، وهي في حذفها على ضربين: أحدهما أن تحذف ويبقى عملها، والثاني أن تحذف ولا يبقى لها عمل:
فأما الحذف الباقي معه عملها فيذكر إن شاء الله في باب إعراب الفعل.
وأما الثاني وهو الذي لا يبقى معه عملها فمنه قوله تعالى (ومن آياته يريكم البرق) فيريكم صلة (لأن) حذفت وبقي (يريكم) مرفوعا، وهذا هو القياس، لأن الحرف عامل ضعيف، فإذا حذف بطل عمله، ومن ذلك أيضا قول الشاعر:
فجاءت به وهو في غربة
…
فلولا تُجاذبُه قد غلب
أراد: فلولا أن تجاذبه، ومثله قول الفرزدق:
ألا إنّ هذا الموتَ أضحى مسَلَّطا
…
وكلُّ امرئ لا بُدَّ يُرْمى مُقاتله
وقال ذو الرمَّة:
وحُقَّ لِمَنْ أبو موسى أبوه
…
يُؤَفقُّه الذي نَصَب الجِبالا
ومثله قول الآخر:
أو ليس من عجب أسائلكم
…
ما خطبُ عاذِلتي وما خطبي
أراد أن أسائلكم، وقال الفرزدق:
بحقِّ امرئٍ بين الأقارع بيتُه
…
وصعْصَعَةَ البحرِ الجزيل المواهب
يكون سبوقا للكرام إلى العلا
…
إذا اتصل المقياس بين الحلائب
المقياس الغاية والحلائب المسابقة ومثله:
وقالوا ما تشاءُ فقلت ألهُو
…
إلى الإصباح آثِرَ ذي أثير
أراد أن ألْهُوَ. ومن كلام بعض العرب: أذهبُ إلى البيت خيرٌ لي، وتزورني خيرٌ لك، وتسمعُ بالمعيدي خيرٌ لا أن تراه.
وإذا كان الموصول اسما أجاز الكوفيون حذفه إذا علم، وبقولهم في ذلك أقول، وإن كان خلاف قول البصريين إلا الأخفش، لأن ذلك ثابت بالقياس والسماع، فالقياس على "أنْ" فإنَّ حذفها مكتفًى بصلتها جائز بإجماع مع أن دلالة صلتها عليها أضعف من دلالة صلة الموصول من الأسماء عليه، لأن صلة الاسم مشتملة على عائد يعود عليه ويميل المذهب إليه، وفي ذلك مزيد على ما يحصل بالصلة. وصلة الحرف لا مزيد فيها على ما يحصل بها، فكان الموصول الأسمى أولى بجواز الحذف من الموصول الحرفي. وأيضًا فإن الموصول الاسمي كالمضاف، وصلته كالمضاف إليه، وحذف المضاف إذا علم جائز، فكذلك ما أشبهه.
وأما السماع فمنه قول حسان:
فوالله ما نِلتُم ولا نِيلَ منكم
…
بمُعْتَدلٍ وَفْقٍ ولا متقارِبِ
أراد: ما الذي نلتم وما نيل منكم.
ومنه قول بعض الطائيين:
ما الذي دَأبُهُ احتياط وحزم
…
وهواه أطاع يستويان
أراد: والذي هواه أطاع، وأقوى الحجج قوله تعالى (وقُولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) أي: وبالذي أنزل إليكم، ليكون مثل (آمِنُوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزلَ من قبل).
ومثال حذف صلة الاسم للعلم بها قول الشاعر:
أبِيدوا الألى شَبُّوا لَظى الحرب وادرَءُوا
…
شذاها عن اللائي فَهُنّ لكم إما
فحذف صلة اللائي للعلم بها، وهذا من الاستدلال بالمتقدم، وهو كثير في ذا الباب وغيره. ومثله قول الشاعر:
أُصيب به فَرْعا سُلَيْمٍ كلاهما
…
وعزّ علينا أن يُصابا وعَزَّما
أي وعزَّ ما أصيبا به.
ومن الاستدلال في هذا بالمتأخر قول الشاعر:
نحنُ الألى فاجْمَعْ جمو
…
عَك ثم وَجِّههم إلينا
فحذف صلة الألى لدلالة ما بعده فكأنه قال: نحن الألى عرفت عدم مبالاتهم بأعدائهم، وفهم هذا بقوله: فاجمع جموعك ثم وجههم إلينا.
ومثال حذف صلة الحرف باقيا معمولُها قول العرب: لا أفعل ذلك ما أنَّ حِراء مكانه، وما أن في السماء نجما، أي ما ثبت أن حراء مكانه، وما ثبت أن في السماء نجما فحذفوا الفعل الموصول به وأبقوا فاعله، وهو أنّ وما عملت فيه. ومن ذلك قولهم: أمّا أنت منطلقا، أي: لأن كنت، فحذفوا كان وهي صلة أنْ، وأبقوْا اسمها وهو أنت، وخبرها وهو المنصوب، وجعلوا ما عوضا من كان. ومن ذلك أيضا قول العرب: كلُّ شيء مَهَهٌ ما النساءَ وذكرَهن، أرادوا: ما عدا النساءَ وذكرهن، فحذفوا صلة "ما" وهو "عدا" وأبقَوْا المنصوب به والمعطوف عليه.
وقد يلي الموصولَ معمولُ الصلة نحو قولك في: جاء الذي أعطى أبوه زيدا درهما:
جاء الذي زيدا درهما أعطى أبوه، فجاء هذا في صلة الذي، إذ لا ضرر في جوازه، بخلاف صلة الحرف وصلة "الألف واللام" فإن معمولها لا يتقدم عليها.
فأمّا الحرف فلأن امتزاجه بصلته أشدُّ من امتزاج الاسم بصلته، لأن اسميته منتفية بدونها، فلو تقدم معموله كان تقدمه بمنزلة وقوع كلمة بين جزأي مصدر، وليس كذلك تقدم معمول صلة الاسم غير الألف واللام، لأن له تماما بدونها، ولذلك جعل إعرابه إن كان معربا قبلها، والإعراب الاسمي قبل تمام المعرب. ولما له من التمام بدونها جاز أن يستغنى عنها وعن معمولها إذا علمت، بخلاف الموصول الحرفي، فأما "الألف واللام" فامتزاجها بالصفة التي توصل بها أشد من امتزاج أنْ بالفعل الذي توصل به، لأن "أن" قد تفصل من الفعل بلا النافية كقوله تعالى (وحسبوا أن لا تكون فتنة) ولا تفصل الألف واللام من الصفة بلا ولا غيرها، لأنها أشبهت أداة التعريف، فعوملت معاملتها لفظا.
ويجوز تعليق حرف جر قبل الألف واللام بمحذوف تدل عليه صلتها كقوله تعالى (وكانوا فيه من الزاهدين) و (إني لعملكم من القالين) و (إني لك من الناصحين) أي: كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، وإني قال لعملكم من القالين، وإني ناصح لك من الناصحين.
ويكثر هذا الحذف قبل الألف واللام داخلا عليه من التبعيضية، لأن في ذلك إشعارا بأن المحذوف بعض المذكورين بعد، فتقوى الدلالة عليه.
ويقل إذا لم تدخل مِنْ على الألف واللام، ومنه قول الشاعر:
تقول ودَقتْ صدرَها بيمينها
…
أبَعْلِيَ هذا بالرَّحَى المتقاعسُ
أراد: بعلي هذا كائنا بالرحى، ومتقاعسا بالرحا.
وكذلك يقل الحذف قبل غير الألف واللام، وُجِدَت مِنْ أو لم تُوجَد، ومثال ذلك مع وجود مِنْ قول الشاعر:
لا تظلموا مِسْورا فإنه لكُمُ
…
من الذين وَفوْا في السرِّ والعَلَن
ومثاله مع كون الموصول لم يجر بمن قول الشاعر:
وأهْجُو مَنْ هجاني مِنْ سِواهم
…
وأُعْرِضُ منهم عمَّن هجاني
أراد: وأعرض عمن هجاني منهم عمن هجاني منهم، على سبيل التوكيد، ثم حُذِف (منهم) من المُؤَكِّد، وحُذِف ما سواهما من المُؤكَّد، ومثال هذا والذي قبله لا يجوز إلا في الضرورة بخلاف ما تقدم.
باب اسم الإشارة
ص: وهو في القُرب مفردا مذكرا "ذا" ثم "ذاك" ثم "ذلك" و"آلك".
وللمؤنثة "تي" و"تا" و"تِهْ" و"ذي" و"ذِهْ" وتُكسَرُ الهاءان باختلاس وبإشباع. و"ذاتُ" ثم "تِيكَ" و"تَيْكَ" و"ذِيكَ" ثم "تِلك" و"تَلكَ" و"تَيْلِكَ" و"تالِكَ".
ش: للنحويين في أسماء الإشارة مذهبان:
أحدهما: أن لها مرتبتين، قريبة وبعيدة كالمنادى.
والثاني: أن لها ثلاث مراتب، قريبة وبعيدة ومتوسطة، وهذا هو المشهور، وإن كان الأول أولى بالصواب، وسأبين ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد سردتها على وفق المشهور لأنه السابق إلى أكثر الأذهان، فما عطفته بالواو فهو لغة فيما عطف عليه وفي مرتبته، وما عطفته بثم فهو في المرتبة التي تلي.
والحاصل أن المشار إليه في المرتبة الأولى إن كان مفردًا ولم يقصد معه تثنية فله في التذكير لفظ واحد وهو "ذا". وله في التأنيث عشرة ألفاظ، خمسة بتاء وخمسة بذال والتي بالتاء: تي، وتا، وتِهْ بسكون أو كسر مختلس أو كسر مشبع. والتي بالذال: ذي، وذات، وذِهْ بسكون أو كسر مختلس أو كسر مشبع.
وإن كان المشار إليه المفرد في المرتبة الثانية، ولم يقصد معه تثنية فله في التذكير لفظ واحد وهو "ذاك" وله في التأنيث ثلاثة ألفاظ وهي: تيك وتَيْك وذِيك.
وإن كان المشار إليه المفرد في المرتبة الثالثة فله في التذكير لفظان وهما:
ذلك وآلك. وله في التأنيث أربعة ألفاظ وهي: تِلك وتَلك، وتِيلِك وتالِك، كلها مروية عن العرب إلا أن بعضها أشهر من بعض.
ص: وتلي الذّالَ والتاءَ في التثنية علامتها مجوّزا تشديد نُونِها، وتليها الكاف وحدها في غير القرب، وقد يقال "ذانِيكَ" وفي الجمع مطلقا أولاء، وقد ينون،
ثم أولئك، وقد يقصران، ثم أولالِك على رأيٍ، وعلى رأيٍ أولاءِ، ثم أولاك، ثم أولئك وأولالِكَ.
وقد يقال: هُلاءِ، وأولاءُ، وقد تُشْبَعُ الضمةُ قبل اللام، وقد يقال: هَوْلاءِ وألَاّك.
ش: لما أنهيت القول في مفرد المشار إليه، شرعت في مثناه وجمعه باعتبار المراتب، وأشرت بقولي "وتلي الذالَ والتاءَ في التثنية علامتُها" إلى أن ألفي "ذاوتا" تحذفان في التثنية، وتتصل بالذال من "ذا" وبالتاء من" تا" ألف في الرفع، وياء في الجر والنصب، بعدهما نون مكسورة، كما يفعل بالأسماء المتمكنة إذا ثنيت، إلا أن هذه التثنية مخالفة لتثنية الأسماء المتمكنة بأمرين:
أحدهما: حذف الألف التي كانت آخر المفرد لزوما، ومثل ذلك لا يفعل باسم متمكن إلا شذوذا.
والثاني: أن نون هذه التثنية يجوز تشديدها، ونون تثنية الاسم المتمكن لا يجوز تشديدها، وقد مضى الكلام على مثل ذلك في باب الموصولات.
والهاء من قولي "وتليها الكاف" عائدة على نونها. وقلت "وحدها في غير القرب" ليعلم أن اللام تجتمع مع الكاف في التثنية كما اجتمعت في الإفراد، وأنّ لِمُثَنَّى المشار إليه في البعد ما له في التوسط، لأنهم استثقلوا اللام بعد النون.
وزعم قوم أن من قا ل "ذانِّك" بتشديد النون قصد تثنية "ذلك". ويبطل هذا القولَ جوازُ التشديد في نون "ذين وتين" بل التشديد جابر لما فات من بقاء
الألف التي حقها ألا تحذف كما لا تحذف ألف المقصور. ويؤيد صحة هذا الاعتبار جواز تشديد نون "اللذين واللتين" ليكون جابرا لما فات من بقاء ياء "الذي والتي" كما تبقى ياء المنقوص حين يثنى.
وإذا جمع اسم الإشارة وهو في المرتبة الأولى قيل فيه "أُولاءِ" مطلقا، أي في التذكير والتأنيث، عاقلا كان المشار إليه أو غير عاقل.
وحكى قطرب أن "أولاءٍ" بالتنوين لغة، وتسمية هذا تنوينا مجاز، لأنه غير مناسب لواحد من أقسام التنوين.
والجيد أن يقال: أن صاحب هذه اللغة زاد بعد همزة "أولاء" نونا، كما زيد بعد فاء "ضيف" نون، إلا أن "ضيفا" معرب، فلما زيد آخرَه نونٌ صار حرف إعراب فتحرك، و"أولاء" مبني فلما زيد آخره نون سكن إذ لا موجب لتحركه، فإنه آخر مبني بحركة.
وإذا كان جمع المشار إليه مجاوزا للمرتبة الأولى قيل فيه "أولئك" ثم "أولالك" على رأي قوم.
وعلى رأي آخرين أن جمع المشار إليه في المرتبة الثالثة "أولئك وأولا لك" معا، وله في المرتبة المتوسطة "أولاك"، بالقصر.
وقد حكى الفراء أن المدفى "أولاء وأولئك" لغة الحارثيين، وأن القصر فيهما لغة التميميين. وهذا هو المأخوذ به، لأن مستنده رواية، ومستند غيره رأي، والرواية أولى من الرأي.
و"هُلاءِ" في "أولاء" من باب إبدال الهمزة هاء، وهو باب واسع.
وأما "أولاءُ" بضم الهمزتين، و"وأولاءِ" و"أولئك" بإشباع الضمة فلغتان عربيتان ذكرهما قطرب.
وذكر أبو علي الشلوبين أن من العرب من يقول (هَوْلاءِ) وأنشد:
تَجَلَّد لا يَقُلْ هَوْلاءِ هذا
…
بَكَى لمَّا بَكَى حَذَرًا عليك
وقال أبو علي أيضًا: حكى اللغويون (أولّاك) بالقَصْر والتشديد، وأنشد:
مِنْ بين أولّاك إلى أولّاكا
وقرأ ابن كثير في شاذ: (فذانِيك) بتخفيف النون وزيادة ياء.
ص: ومن لم يرَ التوسط جعل المجرَّد للقرب، وغيرَه للبعد، وزعم الفرَّاء أنّ تركَ اللام لغة تميم.
ش: المراد بالمجرد ما ليس معه كاف الخطاب، سواء كان معه التثنية أو لم تكن معه، وقد تقدم أن للنحويين في اسم الإشارة مذهبين: أحدهما أن له مرتبتين بعيدة وقريبة. والثاني: أن له ثلاث مراتب.
والأول هو الصحيح، وهو الظاهر من كلام المتقدمين، ويدل على صحته أربعة أوجه: أحدها: أن النَّحويين مجمعون على أن المنادى ليس له إلا مرتبتان مرتبة للقرب تستعمل فيها الهمزة، ومرتبة للبعد وما هو في حكمه تستعمل فيها بقية الحروف. والمشار إليه شبيه بالمنادى، فليقتصر فيه على مرتبتين إلحاقا للنظير بالنظير.
والثاني: أن المرجوع إليه في مثل هذا النقل لا العقل، وقد روى الفراء أن بني تميم يقولون: ذاك وتيك، بلا لام، حيث يقول الحجازيون: ذلك وتلك، باللام، وأن الحجازيين ليس من لغتهم استعمال الكاف بلا لام، وأن التميميين ليس من لغتهم استعمال الكاف مع اللام، فلزم من هذا أن اسم الإشارة على اللغتين ليس له
إلا مرتبتان: إحداهما للقرب، والأخرى لأدنى البعد وأقصاه.
الثالث: أن القرآن العزيز ليس فيه إشارة إلا لمجرد من اللام والكاف معًا، أو لمصاحب لهما معًا. أعني غير المثنى والمجموع، فلو كانت الإشارة إلى المتوسط بكاف لا لام معها لكان القرآن العزيز غير جامع لوجوه الإشارة، وهذا مردود بقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء).
الرابع: أن التعبير "بذلك" عن مضمون كلام على إثر انقضائه شائع في القرآن وغيره ولا واسطة بين النطقين، كقوله تعالى (ذكل ما كنا نبغي) و (ذلك ليعلم أني لم أخُنْه) و (ذلك تأويلُ ما لم تسطع عليه صبرا) و (ذلكم حكم الله).
الخامس: أنه لو كانت مراتب الإشارة ثلاثًا لم يكتف في باقي التثنية والجمع بلفظين، لأن في ذلك رجوعًا عن سبيل الإفراد، وفي اكتفائهم بقولهم "هذان وذانك" و"هؤلاء وأولئك" دليل على أن "ذاك وذلك" مستويان، وأن ليس للإشارة إلا مرتبتان.
ولا التفات إلى قول من قال: إن تشديد نون ذانك دليل على البعد، وتخفيفها دليل على القرب، لأنه قد سبق الإعلام بأن التشديد عوض مما حذف من الواحد، لأنه يستعمل مع التجريد من الكاف كما يستعمل مع التلبس بها.
وكذلك لا يلتفت إلى قول من زعم أن "أولا لك" للبعد دون "أولئك" لقلة "أولا لك" وكثرة الحاجة إلى جمع "ذلك" لأنه يلزم منه خلو القرآن من إشارة إلى جماعة بعُداء، وذلك باطل بمواضع كثيرة من القرآن، فثبت ما أردناه والحمد لله.
ص: وتصحَبُ هاءُ التنبيه المجرّد كثيرا، والمفردَ المقرونَ بالكاف دون اللام قليلا.
وفَصْلها من المجرد "بأنا" وأخواتِه كثيرٌ، وبغيرها قليل، وقد تعاد بعد الفصل توكيدا.
والكافُ حرف خطاب يُبَيِّن أحوال المُخاطَب بما يُبَيِّنُها إذا كان اسما. وقد يغني ذلك عن ذلكم، وربما استغني عن الميم بإشباع ضمة الكاف.
ش: قد تقدم أن المراد بالمجرد ما لم تتصل به كاف الخطاب فيدخل في ذلك "ذا وذان وذي وأخواتها". و"تان وأولا وأولاء" فيقال: هذا، وهذان، وهذي إلى العاشرة، وهاتان وهؤلا وهؤلاء.
ولا تلحق المقرون بكاف الخطاب إلا مجردًا من اللام، وعدم لحاقها إياه أكثر من لحاقها. ومن لحاقها إياه قول طرفة:
رأيتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونني
…
ولا أهلُ هذاكَ الطرافِ الممدد
ومثله قول الآخر:
ياما أُمَيْلح غِزلانا شَدَنْ لنا
…
من هؤُليّائِكُن الضّالِ والسَّمُر
ولا تلحق المقرون باللام فلا يقال هذالك، كرهوا كثرة الزوائد ولا تلحق أيضًا المقرون بالكاف في التثنية والجمع فلا يقال: هذانك، ولا هؤلائك لأن واحدهما ذاك وذلك، فحمل على ذلك مثناه وجمعه لأنهما فرعاه
وحمل عليهما مثنى ذاك وجمعه لتساويهما لفظًا ومعنى.
وفصل هاء التثنية من اسم الإشارة المجرد بأنا وأخواته كقولك: هأنذا، وها نحن أولاء، إلى: هاهنّ أولاء. ومنه قول السائل عن وقت الصلاة: "هأنذا يا رسول الله" وقوله تعالى (ها أنتم أولاء تحبونهم) ومثل الفصل بغير ذلك قول الشاعر:
ها إنّ ذي عِذْرَة إن لا تكنْ نَفَعت
…
فإن صاحبَها مُشارك النَّكد
وأنشد سيبويه:
ونحنُ اقْتسمنا المالَ نصفين بيننا
…
فقلتُ لهم هذا لها ها وذا لِيا
قال سيبويه: كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصير الواو بين "ها" و"ذا" وزعم الخليل أن مثل ذلك: أي ها الله ذا.
وقال سيبويه: وقد تكون "ها" في: ها أنت ذا، غير مقدمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في "هذا" يدلك على ذلك قوله تعالى "ها أنتم هؤلاء" فلو كانت "ها" المتقدمة مصاحبة أولاء لم تعد مع أولاء.
وإلى نحو "ها أنتم هؤلاء" أشرت بقولي "وقد تعاد بعد الفصل".
والكاف حرف خطاب كتاء أنت، تدل على أحوال المخاطب في حرفيتها بما تدل في اسميتها، فيقال: ذاكَ وذاك وذاكم وذاكنّ، كما يقال: رأيتكَ ورأيتك ورأيتكما ورأيتكم ورأيتكنّ، فيستوي اللفظ بالحرفية والاسمية، كما استوى اللفظ بتاء أنت وتاء فعلت.
وقد يقال في خطاب جماعة الذكور كما يقال في خطاب الواحد، كقوله تعالى (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) و (ذلك خير لكم وأطهر) فأغنى ذلك عن ذلكم، ولم يُغن أنت عن أنتم. وذلك أن "الذال والألف" قد يستغنى بهما عن الكاف عند تقدير القرب أو قصد الحكاية كقوله تعالى (هذا ما توعدون ليوم الحساب) و (هذا من شيعته وهذا من عدوه) و (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) فجاز الاستغناء بالكاف عن مصحوبها، ولا يستغنى بالهمزة والنون عن التاء، فلم يجز الاستغناء بالتاء عن الميم.
وأشرت بقولي "وربما استغنى عن الميم بإشباع ضمة الكاف" إلى ما أنشده بعض الكوفيين من قول الراجز:
وإنما الهالك ثم التالكُ
…
ذو حَيْرة ضاقت به المسالكُ
…
كيف يكون النوْك إلا ذلكُ
أراد: ذلكم فأشبع الضمة واستغنى عن الميم بالواو الناشئة عن الإشباع.
ص: وتتَّصل "بأَرأَيت" موافقة "أخْبِرْني" هذه الكاف، مُغْنيًا لحاقُ علامات الفروع بها عن لحاقها بالتاء، وليس الإسنادُ إليها مُزالا عن التاء خلافا للفرّاء، وتتصل أيضا بحيَّهل، والنَّجاء، ورُوَيد، أسماء أفعال. وربما اتصلت بِبَلى، وأبْصَرَ، وكَلاّ، وليس، ونعْم، وبِئْس، وحسبت.
ش: إذا أريد "بأرأيت" معنى "أخْبرني" جاز أن تتصل به كاف الخطاب وألا تتصل به، فإن لم تتصل به وجب للتاء ما يجب لها مع سائر الأفعال من تذكير
وتأنيث وتثنية وجمع، ومنه قوله تعالى (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم).
وإن اتصلت به اسْتُغْنِيَ بما يلحق الكاف من علامة تأنيث وتثنية وجمع عما يلحق التاء، وألزمت التاء ما يلزمها في خطاب المفرد المذكر، ومنه قوله تعالى (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله). ولو كان الخطاب لاثنين بهذا المعنى لقيل: أرأيتَكما. ولو كان لأنثى لقيل: أرأيتَكِ. ولو كان لإناث لقيل: أرأيتَكنَّ. فيلزم التاء الفتح، ويلزم الكاف التحريك. والكاف في هذا كله حرف خطاب لا موضع له من الإعراب.
واستدل سيبويه على ذلك بقول العرب: أريتَكَ فلانا ما حاله. ومنه قوله تعالى (أرأيتَك هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ).
وزعم الفراء أن موضعه رفع بالفاعلية، وأن التاء حرف خطاب.
والقول الأول أولى، لأن التاء لا يستغنى عنها والكاف يستغنى عنها، وما لا يستغنى عنه أولى بالفاعلية مما يستغنى عنه. ولأن التاء محكوم بفاعليتها على غير هذا الفعل بإجماع والكاف بخلاف ذلك، فلا يعدل عما ثبت لهما دون دليل.
فلو لم يُرَد بأرأيت معنى أخبرني وجب للتاء والكاف مجتمعَيْن ما يجب لهما منفردين فيقال: أرأيتَكَ قادرًا، وأرأيتِكِ قادرة، وأرأيتكما قادرين، وأرأيتموكم قادرين، وأرأيتنكن قادرات، كما يقال أعلمتك قادرا وأعلمتماكما قادرين، وأعلمتموكم قادرين، وأعلمتك قادرة، وأعلمتماكما قادرتين وأعلمتنكن قادرات.
ومثال اتصال الكاف المذكورة بحَيَّهَل، والنَّجاءن ورُوَيْد: حَيَّهلَك،
والنجاءَكَ ورُوَيْدَك، بمعنى: ائت، وأسرع، وأمهل.
وروى أيضًا اتصالها ببلى، وأبصر، وكَلاّ، وليس، ونعم، وبئس، وحسِب، أنشد أبو علي:
وحِنْتَ وما حَسِبْتُك أن تَحِينا
وأجاز أن تكون فيه حرف خطاب، وحمله على ذلك وجود "أنْ" بعدها، فإنه إن يكن الأمر كما قال لزم الإخبار بأن والفعل عن اسم عين، وذلك لا سبيل إليه في موضع يخبر عنه فيه بمصدر صريح نحو: زيد رضًى، فكيف به في موضع بخلاف ذلك.
ص: وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي البعد لحكاية الحال، وقد يتعاقبان مُشارا بهما إلى ما قد ولِياه، وقد يشار بما للواحد إلى الاثنين وإلى الجمع.
ش: من نيابة ذي البعد عن ذي القرب لعظمة المشير قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى). ومن نيابته عنه لعظمة المشار إليه قوله تعالى (ذلكم الله ربي) ومنه قول امرأة العزيز مُشِيرةً إلى يوسف عليه السلام (فذلِكُنّ الذي لُمتُنَّنِي فيه) بعد أن أشارت إليه النسوة بهذا إذ قلن (ما هذا بَشَرًا) والمجلس واحد، إلا أن مَرْأى يوسف عند امرأة العزيز كان أعظمَ من مَرْآه عند النسوة، فأشارة إليه بما يشار به إلى البعيد إجلالا وإعظاما.
ومن نيابة ذي القرب عن ذي البعد لحكاية الحال قوله تعالى (كُلًّا نُمِدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) وقوله تعالى (فوَجد فيها رجلين يَقْتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه).
وأما تعاقب ذي القرب وذي البعد على إثر ما الإشارة إليه فكقوله تعالى متصلا بقصة عيسى عليه السلام (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) ثم قال (إنّ هذا لهو القَصص الحق) ومنه قوله تعالى (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) وقوله تعالى (وعندهم قاصرات الطرف أتراب* هذا ما تُوعَدُون ليوم الحساب) ومنه (إن في ذلك لذكرى) و (إن في هذا لبلاغا).
والإشارة بما للواحد إلى الاثنين كقوله تعالى (عَوانٌ بين ذلك) أي بين الفارض والبكر، ومنه قول الشاعر:
إن الرَّشادَ وإن الغَيَّ في قَرَنٍ
…
بكل ذلك يأتيك الجديدان
والإشارة بما للواحد إلى الجمع كقول لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
…
وسؤال هذا الناسِ كيفَ لبيدُ