المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ زيادة الباء في الخبر المنفي - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ١

[ابن مالك]

الفصل: ‌ زيادة الباء في الخبر المنفي

(لا يمسهم فيها نَصَب وما هم منها بمخرجين)(يَصلَوْنها يوم الدين وما هم عنها بغائبين) ومن ورود ذلك في غير القرآن قول الشاعر:

وما الدنيا بباقية لحيٍّ

ولا أحدٌ على الدنيا بباق

ومثله قول امرئ القيس:

وما المرء ما دامت حُشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

وشواهد ذلك شائعة ذائعة.

ص: وتزاد الباء كثيرا في الخبر المنفي بليس وما أختها، وقد تزاد بعد نفي فعل ناسخ للابتداء، وبعد: أو لم يروا أنّ، وشبهه، وبعد "لا" التبرئة، وهل، وما المكفوفة بإنْ، والتميمية، خلافا لأبي علي والزمخشري، وربما زيدت في الحال المنفية، وخبر إنّ ولكنّ.

ش:‌

‌ زيادة الباء في الخبر المنفي

بليس قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبدَه) وفي الخبر المنفي بما قوله تعالى: (وما ربك بغافل عما تعملون) وقلت: في الخبر المنفي، ولم أقل في خبر ليس، ليعلم أن الموجب بعد ليس وغيرها لا تدخله الباء.

ومثال دخولها بعد نفي فعل ناسخ للابتداء قول الشاعر:

وإنْ مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشعُ القوم أعجلُ

ص: 382

ومثله:

دعاني أخي والخيل بيني وبينه

فلما دعاني لم يجبرني بأقْعَد

ومثال دخولها بعد أنَّ المسبوقة بأوَ لمْ يَرَوْا، قوله تعالى:(أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يَعْيَ بخلقهن بقادر) وهذا من إجراء الشيء على ما هو في معناه، لأن معنى: أو لم يروا أن الله، أو ليس الله.

ومثال دخول الباء بعد "لا" التبرئة قول العرب: لا خير بخير بعده النار، إذا لم تجعل الباء بمعنى في.

ومثال دخولها بعد هل قول الشاعر:

يقول إذا اقْلَوْلَى عليها وأقْرَدَت

ألا هل أخو عيش لذيد بدائم

ومثال دخولها بعد ما المكفوفة بإنْ قول الشاعر:

لعَمْرُك ما إن أبو مالك

بواهٍ ولا بضعيف قواه

ومثال دخولها بعد ما التميمية قول الفرزدق:

لعمرك ما مَعْنٌ بتارك حقه

ولا مُنْسِئٌ معْنٌ ولا مُتَيسِّرُ

وزعم أبو علي أن دخول الباء على الخبر بعد ما مخصوص بلغة أهل الحجاز، وتبعه في ذلك الزمخشري، وهو بخلاف ما زعماه لوجوه:

أحدها: أن أشعار بني تميم تتضمن الباء كثيرا بعد ما، كقول الفرزدق المتقدم.

ص: 383

الثاني: أن الباء إنما دخلت على الخبر بعد ما لكونه منفيا، لا كونه خبرا منصوبا، ولذلك دخلت على خبر لم أكن، وامتنع دخولها على خبر كنت. وإذا ثبت أن كون المسوغ لدخولها النفي، فلا فرق بين منفي منصوب المحل ومنفي مرفوع المحل.

الثالث: أن الباء المذكورة قد ثبت دخولها بعد بطلان العمل، وبعد هل، كقوله:

بواه ولا بضعيف قواه

وقوله: ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم

وإنما دخلت على الخبر بعد هل لشبه هل بحرف نفي، فلأن تدخل على ما التميمية أحق وأولى، لأن شبه ما بما، أكمل من شبه هل بما، وقد تقدم أن الفراء حكى أن أهل نجد كثيرا ما يجرون الخبر بعد ما بالباء، وإذا أسقطوا الباء رفعوا، وهذا دليل واضح على أن وجود الباء جارة للخبر بعد ما لا يلزم منه كون الخبر منصوب المحل، بل جائز أن يقال: هو منصوب المحل، وأن يقال هو مرفوع المحل، وإن كان المتكلم به حجازيا، فإن الحجازي قد يتكلم بلغة غيره، وغيره قد يتكلم بلغته، إلا أن الظاهر أن محل المجرور نصب إن كان المتكلم حجازيا، ورفع إن كان المتكلم تميميا أو نجديا.

فمن دخول اللغة التميمية في الحجازية كسر هاء الغائب بعد كسرة أو ياء ساكنة، وإدغام نحو:(ولا يضار كاتب ولا شهيد) ورفع الله من قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللهُ) لأن اللغة الحجازية بهُ وفيهُ بالضم، ولا يضارر بالفك، وإلا اللهَ بالنصب، لأن الاستثناء منقطع. وإذا جاز للحجازي أن يتكلم باللغة التميمية، جاز للتميمي أن يتكلم باللغة الحجازية، بل التميمي بذلك أولى لوجهين: أحدهما: أن الحجازية أفصح، وانقياد الفصيح

ص: 384

لموافقة الأفصح أكثر وقوعا من العكس.

الثاني أن معظم القرآن حجازي، والتميميون يتعبدون بتلاوته كما أنزل، ولذلك لا يقرأ أحد منهم:(ما هذا بشرا) بالرفع إلا من جهل كونه منزلا بالنصب.

ومثال دخول الباء على حال منفية قول الشاعر:

فما رجعتْ بخائبة ركابُ

حكيمُ بنُ المُسَيَّب منتهاها

ومثله:

كائن دُعيت إلى بأساءَ داهمةٍ

فما انبعثتُ بمَزْءُود ولا وَكَل

ومثال دخولها على خبر إنّ قول امرئ القيس:

فإنْ تَنأَ عنها حِقْبة لا تُلاقها

فإنك مما أحدثت بالمجرِّب

ومثال دخولها على خبر لكن قول الشاعر:

ولكنّ أجْرًا لو فعلتِ بهين

وهل ينكرُ المعروف في الناس والأجرُ

ص: وقد يجر المعطوف على الخبر الصالح للباء مع سقوطها، ويندر ذلك مع غير ليس وما، وقد يفعل ذلك في المعطوف على منصوب اسم الفاعل المتصل.

ش: لما كثر دخول الباء على خبر ليس وخبر ما، جاز للمتكلم أن يجر المعطوف بعدهما على الخبر المنصوب كقول الشاعر:

مشائِيمُ ليسُوا مصلحين عشيرة

ولا ناعبٍ إلا ببَيْنٍ غرابُها

ص: 385

وقال آخر في جر المعطوف على المنصوب بما:

ما الحازمُ الشهمُ مِقداما ولا بطلٍ

إنْ لم يكنْ للهوى بالعقل غلّابا

فكأنه قال: ما الحازم بمقدام ولا بطل.

وقد عومل بهذه المعاملة المعطوف على منصوب كان المنفية، كقول الشاعر:

وما كنتُ ذا نَيْرَبٍ فيهمُ

ولا مُنْمِشٍ فيهم مُنْملِ

وإلى هذا أشرت بقولي: ويندر ذلك بعد خبر غير ليس وما.

فجر منمشا لعطفه على منصوب كان المنفية لشبهه بمنصوب ليس في صلاحيته للباء، حتى كأنه قال: وما كنت بذي نيرب ولا منمش، والنيرب النميمة، والمنمش المفسد ذات البين، والمنمل كذلك.

ونبهت بقولي: "الصالح للباء" على أن المعطوف على خبر لا يصلح للباء لا يجوز جره، نحو: لست تفعل ولا مقاربا.

وقد يجر المعطوف على المنصوب باسم الفاعل كقول امرئ القيس:

فظلّ طُهاةُ اللحم من بين مُنْضِج

صَفِيفَ شِواء أو قديرٍ مُعَجَّل

لأن المنصوب باسم الفاعل يجر كثيرا بإضافته إليه، فكأنه إذا انتصب مجرور، وجواز جر المعطوف على منصوب اسم الفاعل مشروط بالاتصال، كاتصال منضج بالمنصوب، فلو كان منفصلا لم يجز الجر، نحو أن يقال: من بين منضج بالنار صفيف شواء، لأن الانفصال يزيل تصور الإضافة المقتضية للجر، فلذلك لا يجوز جر المعطوف مع انفصال اسم الفاعل من معموله.

ص: وإن وَلِيَ العاطفَ بعد خبر ليس أو ما وصفٌ يتلوه سببي، أعْطِيَ الوصفُ

ص: 386

ما له مفردا، ورفع السببي، أو جعلا مبتدأ وخبرا. وإن تلاه أجنبي عُطف بعد ليس على اسمها، والوصف على خبرها. وإن جُرَّ بالباء جاز على الأصح جرُّ الوصف المذكور، ويتعين رفعه بعد ما.

ش: إذا وقع بعد معمولي ليس أو ما عاطفٌ يليه وصف بعده سببي نحو: ليس زيد قائما ولا ذاهبا أبوه، وما عمرو مقيما ولا ظاعنا أخوه، فلك أن تعطي الوصف من النصب والجر ما كنت تعطيه دون مذكور بعده، وترفع به السببي، أو ترفعهما مبتدأ وخبرا فتقول: ليس زيد قائما، ولا ذاهب أبوه، وما عمرو مقيما، ولا ظاعنٌ أخوه.

وإن تلا الوصفَ أجنبيٌّ والعامل ليس، جاز رفعه عطفا على اسمها ونصب الوصف عطفا على الخبر، وجاز جعلهما مبتدأ وخبرا، نحو: ليس زيد قائما ولا ذاهبا عمرو، وليس زيد قائما ولا ذاهبٌ عمرٌو.

وإن كان خبر ليس مجرورا بالباء جاز جر الوصف المذكور بباب مقدرة مدلول عليها بالمتقدمة، وهو كثير في الكلام، ومنه قول الشاعر:

وليس بمُدْنٍ حَتْفه ذو تقدم

لحرب ولا مُسْتَنْسِئ العُمر مُحْجِم

ومنه قول الآخر:

فليس بآتيك مَنْهيُّها

ولا قاصرٍ عنك مأمورُها

ومنه قول الآخر:

وليس بمعروف لنا أنْ تَرُدَّها

صِحاحا ولا مُسْتنكرٍ أن تُعَقّرا

وليس هذا من العطف على عاملين، بل من حذف عامل لدلالة عامل مثله عليه، وحذف حرف الجر من المعطوف لدلالة مثله عليه كثير، ومنه قوله تعالى:

ص: 387

(وفي خلقكم وما يَبُثُّ من دابة آياتٌ لقوم يوقِنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون) فحذف في الجارة لاختلاف الليل والنهار لدلالة الجارة لخلقكم عليها. ومثله قول الشاعر:

أخْلِقْ بذي الصَّبْر أن يحظى بحاجته

ومُدْمِن القَرْع للأبواب أن يَلجا

وإذا استسهل بقاء الجر بمضاف حذف لدلالة مثله عليه، كان بقاء الجر بحرف الجر المحذوف لدلالة مثله عليه أحق وأولى، لأن حرف الجر في عمل الجر أمكن من الاسم المضاف. ومن حذف المضاف وبقاء المضاف إليه قول الشاعر:

أكلَّ امرْئ تحسبين امرَأ

ونارٍ تَوقّدُ بالليل نارا

ومثله قراءة بعض القراء: (تُريدون عَرَض الدنيا والله يريد الآخرةِ) على تقدير: عرض الآخرة. ويستقصى الكلام على نظائر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

وليس بعد "ما" في الوصف التاليه أجنبيٌّ بعد عاطف إلا الرفع كقولك: ما زيد قائما ولا ذاهب عمرو، لأن المعطوف عليه مع قربه من العامل لو قدم فيه الخبر لبطل العمل، فبطلانه بالتقديم في المعطوف لبعده من العامل أحق وأولى، ومثال ذلك قول الشاعر:

لعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حقه

ولا مُنْسِئٌ معنٌ ولا مُتَيَسِّر

ص: 388