الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المضمَر
ص: وهو الموضوع لتعيين مُسَمّاه مشعرا بتكَلُّمِه أو خطابه أو غَيْبَتِه.
ش: المراد بالتعيين جعل المفهوم مُعاينًا للسامع أو في حكم المُعاين، فذكره مخرج للنكرات.
وذكر الوضع مخرج للمنادى، والمضاف، وذي الأداة.
وذكر الإشعار بالتكلم أو الخطاب أو الغيبة مخرج للعلم، واسم الإشارة، والموصول، لأن كل واحد منها لا يختص بواحدة من الأحوال الثلاث، بل هو صالح لكل واحدة منها على سبيل البدل، بخلاف المضمرات، فإن المشعر منها بإحدى الأحوال الثلاث لا يصلح لغيرها.
ص: فمنه واجبُ الخفاء، وهو المرفوعُ بالمضارع ذي الهمزة والنون، وبفعل أمر المخاطب ومضارعِه، واسم فِعْل الأمر مطلقا.
ش: الواجب الخفاء هو الذي لا يزال مستكنا، ولا يغني عنه ظاهر ولا مضمر بارز، كالمَنْوِيِّ في نحو: أفْعَلُ، ونَفْعَلُ، وافْعَلْ، وتَفْعَلُ، ونَزالِ، فكل واحد من هذه الأمثلة الخمسة رافع اسم استغنى بمعناه عن لفظه، فإن قصد توكيده جيء بالبارز المطابق وهو: أنا بعد أفعل، ونحن بعد نفعل، وأنت بعد البواقي.
وذكرت" مطلقا" بعد اسم فعل الأمر تنبيها على أنه يستوي فيه خطاب الواحد المذكر وغيره، نحو: نزال يا زيد، ويا زيدان، ويا زيدون، ويا هند، ويا هندان، ويا هندات. ولم أذكر مطلقا مع فعل الأمر ومضارعه تنبيها على أن وجوب خفاء مرفوعهما مخصوص بالإفراد والتذكير.
ص: ومنه جائز الخفاء، وهو المرفوعُ بفعل الغائب والغائبة، وما في معناه من اسم فِعْل، وصفة، وظرف، وشبهه.
ش: الجائز الخفاء هو الذي يخلفه ظاهر أو مضمر بارز، كقولك: زيدٌ حَسُنَ ففي حسن ضمير منوي مرفوع به، وليس خفاؤه واجبا بل جائزا، لأنه قد يخلفه ظاهر نحو: زيدٌ حَسُنَ وجهُه، ومضمر بارز نحو: زيد ما حَسُنَ إلا هو. وهكذا حكمه مع فعل الغائبة نحو: هند حَسُنَت، وحَسُنَت صورتُها، وما حَسُنَ إلا هي.
ومثال المرفوع باسم الفعل المشار إليه: هند هَيْهات، فهَيهات رافعٌ ضميرا عائدا على هند، وليس خفاؤه واجبا وإن كان لا يثنى ولا يجمع، لكن قد يخلفه ظاهر نحو: هند هيهات دارُها.
ومثال المرفوع بصفة وظرف وشبهه: زيدٌ حسنٌ، وعمرٌو عندك، أو في الدار، فحَسَنٌ وعندَك وفي الدار قد ارتفع بكل منها ضمير مستكن جائز الخفاء، لأنه قد يخلفه ظاهر أو ضمير بارز نحو: زيدٌ حَسَنٌ وجهُه أو ما حَسَنٌ إلا هو. وعمرٌو عندك مقامُه، أو ما عندك إلا هو. وبِشْرٌ في الدار شخصُه، أو ما فيها إلا هو.
ص: ومنه بارزٌ مُتصل، وهو إن عُنِيَ به المَعْنِيٌّ بنفعل "نا" في الإعراب كلِّه. وإن رُفِعَ بفعل ماض "فتاء" تُضَم للمتكلم، وتفتح للمخاطَب، وتكسر للمخاطَبة، وتُوصلَ مضمومةً بميمٍ وألفٍ للمخاطَبَيْن والمخاطَبَتَيْن، وبميم مضمومة ممدودة للمخاطَبين، وبنون مشددة للمخاطبات، وتسكين ممي الجمع إنْ لم يلها ضميرٌ متصل أعرف، وإن وَلِيَها لم يجز التسكين، خلافا ليونس.
وإن رُفِع بفعلٍ غيره فهو "نون" مفتوحة للمخاطبات أو الغائبات، و"ألف" لتثنية غير المتكلم، و"واو" للمخاطَبين أو الغائبين و"ياء" للمخاطَبة.
وللغائب مطلقا مع الماضي ما له مع المضارع، وربما استُغْنِي معه بالضمة عن الواو، وليس الأربع علاماتٍ والفاعلُ مُسْتَكِنٌّ خلافا للمازني فيهنّ، وللأخفش في الياء.
ش: البارز ضد المُسْتكن، وهو على ضربين: متصل ومنفصل:
فالمتصل ما لا يقع أولا، ولا يَسْتغني عن مباشرة العامل لفظا وخطا، فمنه "نا"
للمتكلم المعظم نفسه، أو المبين كونه مشارَكا بواحد أو أكثر. وإلى هذا أشرت بقولي "نا في الإعراب كله".
ومن البارز المتصل المرفوع "تاء" يشترك فيها المتكلم والمخاطب، فَضمُّها مجرَّدةً دليل على نفس المتكلم، وفتحُها مجردةً دليل على المخاطب المذكر، وكسرها مجردة دليل على المخاطبة الواحدة، وضمها متلوةً بما دليل على المخاطَبَيْن والمخاطَبَتَيْن، وضمها متلوة بنون مشددة دليل على المخاطبات، وضمها متلوة بميم ساكنةٍ أو مضمومة باختلاس أو إشباع دليل على ذكور مخاطَبِين، والإشباع هو الأصل، واستعماله أكثر من الاختلاس، وأقل من السكون، ولقلة الاختلاس لم يتعرض له في المتن وإذا ولى الميم ضميرٌ منصوب لزم الإشباع، كقوله تعالى (فقد رأيتموه وأنتم تَنْظُرون) وأجاز يونس السكون نحو "فقد رأيتُمْه" ولا أعلم في ذلك سماعا إلا ما رَوى ابن الأثير في غريب الحديث من قول عثمان رضي الله عنه: أراهُمْني الباطل شيطانا.
والضمير في قولي "وإن رفع بفعل غيره" عائد إلى الضمير البارز، أي إن رُفِع الضمير البارز المتصل بفعل غير الماضي وقصد به إناث مخاطبات أو غائبات فصورته نون مفتوحة نحو: افعَلْنَ وتفعَلْنَ ويفعَلْنَ. وإن قصد به تثنية المخاطب أو المخاطبة، أو تثنية الغائب أو الغائبة، فصورته ألف نحو: افْعَلا وتَفْعَلان، والزيدان يَفْعَلان، والهندان تفْعَلان. وإن قصد به جمع مذكر مخاطب أو غائب فصورته واو نحو: افْعَلُوا، وتَفْعَلُون، ويَفْعَلُون. وإن قصد به مخاطبة واحدة فصورته ياء نحو: افْعَلِي، وتَفْعَلِين.
وتُسنِدُ الماضي في الغيبة إلى ما تُسْنِد إليه المضارع فتقول: زيد فَعَل، وهند فَعَلتْ، والزيدان فَعَلا، والهندان فَعَلتا، والزيدون فَعَلوا، والهندات فَعَلن، وإلى هذا أشرت بقولي "وللغائب مطلقا مع الماضي ماله مع المضارع".
ومن الاستغناء معه بالضمة عن الواو قول الشاعر:
يا رُبَّ ذي لُقُح ببابِك فاحشٍ
…
هاعٍ إذ ما الناسُ جاعُ وأجْدَبُوا
وأنشد السيرافي:
لو أن قومي حين أدعوهم حَمَلْ
…
على الجبال الصُّمِّ لانهد الجبلْ
أراد: حملوا، فحذف الواو واكتفى بالضمة، ثم وقف فسكن، وربما فعل مثل هذا مع فعل الأمر كقوله:
إن ابنَ الأحْوَصَ معروف فبلغُهُ
…
في ساعِدَيه إذا رام العلا قِصَرُ
الأصل فبلغوه.
وزعم المازني أن النون والألف والياء المشار إليها حروف تدل على أحوال الفاعل كالتاء من فَعَلتْ، والفاعل مستكن كاستكنانه في: زيد فَعَل، وهند فَعَلَتْ. وما زعمه غير صحيح، وإنما هي أسماء أسند الفعل إليها ودلت على مسمياتها، كدلالة النون والألف من فعلنا، والتاء من فعلتُ وفعلتَ وفعلتِ، ولأن المراد مفهوم بها، والأصل عدم الزيادة. ولأنها لو كانت حروفا تدل على أحوال الفاعل المستكن كالتاء من: هي فعلتْ، لجاز حذفها في نحو: الزيدان قاما، والزيدون قاموا. كما جاز حذف التاء في نحو:
فإن الحوادثَ أوْدَى بها
ولا أرضَ أبقَل إبقالَها
بل كانت الألف وأخواتها أحق بجواز الحذف لأن معناها أظهر من معنى التأنيث، وذلك أن علامة التأنيث اللاحقة للأسماء لا يوثق بدلالتها على التأنيث إذ قد تلحق المذكرات كثيرا كراوية وعلاّمة وهُمزَة ولمزَة، فدعت الحاجة إلى التاء التي تلحق الفعل، وليس الأمر كذلك في علامتي التثنية والجمع، إذ لا يمكن أن يعتقد فيما اتصلتا به خلوه من مدلولهما، فذكر الفعل على إثر واحدٍ منهما مُغْنٍ عن علامة تلحق الفعل، ولما لم يستغنوا بما يلحق الاسم عما يلحق الفعل علم أن لهم داعيًا إلى التزامه غير كونه حرفا، وليس ذلك إلا كونه اسما مسندًا إليه الفعل، ولذلك لم يجز حذفه بوجه، إذ لو حذف لكان الفعل حديثا عن غير محدثٍ عنه، وذلك محال.
ورُوِيَ عن الأخفش أن ياء المخاطبة حرف يدل على تأنيث الفعل، والفاعل مستكن كما هو مستكن في نحو: هند فعلت، وهذا القول مردود أيضًا بما رَدَّ قول المازني.
وشيء آخر وهو أن الأخفش جعل "ياء" افعلى كتاء فَعَلَتْ، فيقال له: لو كانت الياء كالتاء لساوتها في الاجتماع مع ألف الاثنين، فكان يقال: افعليا كما يقال: فعلتا، لكنهم امتنعوا من ذلك، فعلم أن مانعهم كونُ ذلك مستلزما اجتماع مرفوعين بفعل واحد، وذلك لا يجوز.
ص: ويُسَكَّنُ آخرُ المسنَدِ إلى التاء والنون ونا، ويحذف ما قبله من معتل، وتُنْقَل حركتُه إلى فاء الماضي الثلاثي، وإن كانت فتحةً أُبدِلت بمُجانسةِ المحذوفِ ونقلت، وربما نقل دون إسناد إلى أحد الثلاثة في: زال وكاد، أخْتَيْ كان وعسى، وحركة ما قبل الواو والياء مجانِسةٌ، فإن ماثلها أو كان ألفا حُذِف ووَلِيَ ما قبلَه بحاله. وإن كان الضمير واوا والآخِرُ ياء أو بالعكس، حُذِفَ الآخِرُ، وجعلت الحركةُ المجانِسةُ على ما قبله.
ش: المسند إلى "نا والتاء" لا يكون إلا فعلا ماضيًا نحو: فَعَلْنا وفعلْت. والمسند إلى "النون" قد يكون ماضيا ومضارعا وأمرا نحو: فعلْنَ وتفعلْنَ وافْعَلْنَ. وقد تناول ذلك كله قولي "ويُسَكَّنُ آخر المسند إلى التاء والنون ونا".
وأن يقال "آخر المَسْنَد" أولى من أن يقال "لام المسند" لأن المسكّن كما لكون لاما كضربْتُ، قد يكون حرفا زائدا كتسلقيْتُ.
واختلف في سبب هذا السكون، فقال أكثرهم سببه اجتناب توالي أربع حركات
في شيئين هما كشيء واحد، لأن الفاعل كجزء من الفعل، وهذا السبب إنما هو في الماضي ثم حمل المضارع عليه. وأما الأمر فاستصحب له ما كان يستحقه من سكون، صحيح الآخر كان كاذْهبْن، أو معتلّه كاخشيْن.
وهذا التعليل ضعيف من وجهين: أحدهما: أن التسكين عامّ، والعلة قاصرة عن أكثر الأفعال، لأن توالي الحركات إنما كان يوجد في الصحيح من: فَعَل وفَعِل وانْفَعَل وافْتَعل وفعُل، لا في غيرها ومعلوم أن غيرها أكثر، ومراعاة الأكثر أولى من مراعاة الأقل.
والثاني: أن توالي أربع حركات ليس مهملا في كلامهم، بل مُسْتخف بالنسبة إلى بعض الأبنية. بدليل: عُلَبِط، وأصله: عُلابط. وعَرَتن وأصله: عَرَنْتن. وجنَدِل، وأصله: جَنادِل عند البصريين "وجَنْدِيل عند الكوفيين، وعلى كل تقدير فقد حذفوا مدة منه ومن علابط، ونونا من عَرَنتن، مع إفضاء ذلك إلى أربع حركات متوالية، فلو كان توالي أربع حركات منفورًا منه طبعًا، ومقصود الإهمال وضعا، لم يتعرضوا إليه دون ضرورة في الأمثلة المذكورة وأشباهها، ولسِدُّوا باب التأنيث بالتاء في نحو: بَركة، ومعدة، ولُمزة، فإنه موقع في توالي أربع حركات في كلمة واحدة، لا سيما كلمة تلازمها التاء كملازمتها هذه الثلاثة الأسماء. ومن العجب اعتذارهم عن تاء التأنيث بأنها في تقدير الانفصال، وأنها بمنزلة كلمة ثانية، مع أنها جزء كلمة مفردة لا يستغنى بها فيحسن السكوت عليها، ولا يستغنى عنها فيقوم غيرها مقامها، بخلاف تاء فعلتُ فإنها جزء كلام تام، وهي قابلة للاستغناء عنها بغيرها نحو: فعل زيد: وما فعل إلا أنا. فظهر بهذا ضعف القول بأن سبب سكون لام "فعلْتَ" خوف توالي أربع حركات.
وإنما سببه تمييز الفاعل من المفعول في نحو: أكرمْنا وأكرَمَنا، ثم سلك بالمتصل بالتاء والنون هذا السبيل لمساواتهما لنا في الرفع، والاتصال، وعدم الاعتلال.
وإن كان ما قبل المسكن للسبب المذكور حرف علة ساكنا حذف لالتقاء الساكنين، واقتصر على ذلك في الأمر والمضارع نحو: خفْن ولا تخفن. وصحْن ولا تصحن، وقُلْن ولا تقلنَ. وإن كان حرف العلة في عين ماضٍ ثلاثي حرك ما قبله بحركته إن كانت كسرة أو ضمة نحو: جُدْتُ وخِفْتُ. فإن كانت الحركة فتحة أبدلت كسرة فيما عينه ياء، وضمة فيما عينه واو، ثم فُعِل بالكسرة والضمة المبدلتين ما فعل بالأصليتين نحو: بِعتَ وقُمْت، وإلى هذا أشرت بقولي "وإن كانت فتحة أبدلت بمجانِسة المحذوف ونقلت".
وأشرت بقولي "وربما نقل دون إسناد إلى أحد الثلاثة في زال وكاد" إلى قول بعض العرب. ما زيل زيدٌ فاضلا، وكيد زيدٌ يفعل، قال أبو خراش الهذلي:
وكيدَتْ ضِباعُ القُفِّ يأكلْنَ جُثَّتِي
…
وكِيدَ خِراشٌ يومَ ذلك يَيْتَمُ
واحترزت بقولي "أختي كان وعسى" من زال بمعنى ماز وذهب أو تحول، ومن كاد بمعنى احتال وأراد ومكر. ويجمعها أن يقال: التي مضارعها يكيد، فإن مضارع تلك يكاد.
وحركة ما قبل الياء والواو مجانسة، أي ضمة قبل الواو، وكسرة قبل الياء، نحو: يفعلُون وتفعلين، فإن ماثلها، أي إن كان آخرُ المسند إلى الواو واوا، وآخر المسند إلى الياء ياء، أو كان ألفًا مطلقًا، حذفت الواو والياء والألف، واتصل بالمسند إليه -واوا كان أو ياء- ما كان متصلا بالمحذوف دون تبديل حركته نحو: أنتم تدعُون، وأنت ترمين، وأنتم تخشَوْن.
وإن كان الضمير واوا والآخر ياء، أو بالعكس، أي إن كان المسند إليه واو الضمير وآخر الفعل المسند ياء، أو كان المسند إليه ياء الضمير وآخر الفعل المسند واوا، حذف آخر الفعل، وضم ما قبل المحذوف إن كان المسند إليه واوا نحو: أنتم
تَرْمُون، وكسر ما قبله إن كان المسند إليه ياء نحو: أنت تَعفين وتَرمين، والأصل: ترميُون تعفُوِين، واستثقل ضم الياء المكسور ما قبلها، وكسر الواو المضموم ما قبلها، فخففتا بالتسكين، وخيف انقلابهما فحرك ما قبلهما بما يجانسهما.
ص: ويأتي ضميرُ الغائبين كضمير الغائبة كثيرا لتأَوُّلِهم بجماعة، وكضمير الغائب قليلا لتأولهم بواحد يُفْهِم الجمعَ أو لسَدِّ واحد مَسَدَّهم، ويُعاملُ بذلك ضميرُ الاثنين وضمير الإناث بعد أفعل التفضيل كثيرا، ودونه قليلا.
ش: إتيان ضمير الغائبين كضمير الغائبة كقوله تعالى (وإذا الرُّسلُ أُقتت) وكقول الراجز:
قد علمتْ والدَتِي ما ضَمَّت
…
إذا الكماةُ بالكماةِ التفَّت
فهذا كثير، بخلاف إتيانه كضمير الغائب فإنه قليل، ومنه قول الشاعر:
وإنّي رأيتُ الصّامِرِين متاعَهم
…
يموتُ ويَفْنَى فارْضَخِي من وِعائِيا
أراد يموتون، فأفرد، كأنه قال: يموت مَنْ ثَمَّ، أو مَنْ ذكرت، وعلى ذلك يحمل قول الآخر:
تَعَفَّقَ بالأرْطى لها وأرادها
…
رِجالٌ فبذَّتْ نَبْلُهم وكَليبُ
أي تعفق بالأرطى رجال، وأرادها جمعهم، فبهذا التوحيد يصعب الانتصار للكسائي بهذا البيت في حذف الفاعل، وللفراء نسبة العمل إلى العاملين، وقد أجاز سيبويه
أن يقال: ضربت وضربني قومَك، أراد: وضربوني، فأفرد على تقدير: وضربني مَنْ ثم، وأنشد أبو الحسن:
وبالبدو منا أسرةٌ يحفظوننا
…
سراع إلى الداعي عظام كرا كره
فأفرد ضمير الأسرة، لأنهم نسب إليهم الحفظ، فصح تأولهم بحصن أو ملجأ، فجاء بالضمير على وفق ذلك، فكأنه قال: أسرة هم بحفظهم إيانا ملجأ عظيم كراكره.
ومن كلام العرب: هو أحسن الفِتْيان وأجمله، لأنه بمعنى أحسن فتى، فأفرد الضمير حملا على المعنى.
وإلى نحو هذا أشرت بقولي "أو لسَدِّ واحد مسدهم" ومثل هذا قوله تعالى (وإنَّ لكم في الأنعام لعِبرةً نُسْقِيكم مما في بطونه) وقال الراجز:
وطابَ ألبانُ اللِّقاح وبَرَد
لأنّ النَّعمَ واللبَن يَسُدَّان مسد الأنعام والألبان.
ويعامل بذلك ضمير الاثنين وضمير الإناث بعد أفعل التفضيل كثيرا، مثال ذلك في ضمير الاثنين قول الشاعر:
وميَّةُ أحْسَنُ الثَّقَلَين جيدا
…
وسالِفَةً وأحسَنُه قَذالا
وقال الآخر:
شرَّ يومَيْها وأغواه لها
…
ركبَتْ عَنْزٌ بِحدْجٍ جَمَلا
ومثال ذلك في ضمير الإناث (خيرُ النّساء صَوالحُ نساءِ قريش، أحْناه على ولد في صِغَره، وأرْعاه على زوجٍ في ذات يده) كأنه قال صلى الله عليه وسلم: أحق هذا الضرب، أو أحنى مَنْ ذكرت. فهذا بعد أفعل التفضيل وهو كثير.
ومثال ذلك دون أفعل التفضيل قول الشاعر:
أخُو الذَّئبِ يَعْوِي والغُرابِ ومَنْ يكن
…
شَرِيكَيْه تَطْمَعْ نفسُه كُلَّ مَطْمَع
أي ومن يكن الذئب والغراب شريكه، فأفرد الضمير مؤولا، كأنه قال: ومن يكن هذا النوع، أو ومن يكن مَنْ ذكرت، وإلى هذا أشرت بقولي (ودونه قليلا).
ص: ولجمع الغائب غيرِ العاقل ما للغائبة أو الغائباتِ، و"فَعَلَتْ" ونحوُه أولى من "فَعَلْنَ" ونحوِه بأكثر جمعِه وأقله، والعاقلات مطلقا بالعكس. وقد يُوقِعُ "فَعَلْنَ" موقع "فعلوا" طَلبُ التشاكل، كما قد يُسَوِّغُ لكلماتٍ غيرَ مالها من حُكم ووزن.
ش: إعطاء جمع الغائب غير العاقل ما للغائبة نحو قوله تعالى (وإذا الكواكبُ انْتَثرت) وإعطاؤه ما للغائبات كقوله تعالى (فأبَيْنَ أن يحملْنَها وأشْفَقْن منها) إلا أن الأكثر في الاستعمال أن يعطى الكثرة ما للغائبة، والقلة ما للغائبات، كقولهم: الجذوع انكسرت، والأجذاع انكسرن. قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشرَ شهرًا في كتاب الله يومَ خَلق السموات والأرض
منها أربعةٌ حُرُم، ذلك الدين القَيِّمُ فلا تظلموا فيهن أنفسَكم) فمنها عائد على "اثنا عشر" و"فيهن" على أربعة.
وهذا إنما هو في غير العاقلات، وأما العاقلات "ففَعَلن" وشبْهه أولى من "فعلت" وشبهه، كقوله تعالى (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) وكقوله صلى الله عليه وسلم "استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهُن عوانٍ بينكم"، ولو قيل في الكلام موضع (فعلن في أنفسهن) فعلت في أنفسها، وموضع (فإنهن عوان) فإنها عوان لجاز، كقوله تعالى (ولهم فيها أزواج مطهرة) فهذا على طهُرتْ، ولو كان على طهرن لقيل مطهرات. ومن استعمال فَعَلتْ في ضمير العاقلات قول الشاعر:
وإذا العَذارَى بالدُّخانِ تَلفَّعت
…
واستعجلت نَصْب القدروو فملَّت
دَرَّتَ بأرزاقِ العُفاة مَغالِقٌ
…
بيدَيَّ من قَمَعِ العِشار الجِلَّة
وقال آخر:
ولوْ أنّ ما في بَطنِه بَيْن نِسوَة
…
حَبِلْن وما كانت قَواعِد عُقَّرا
وفي بعض الأحاديث المأثورة (اللهم ربَّ السموات وما أظللن، ورب الأرَضَين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضْللنَ) أراد: ومن أضَلوا، لكن إرادة التشاكل حملت على إيقاع النون موقع الواو. كما حملت على الخروج من حكم التصحيح إلى حكم الإعلال في قوله صلى الله عليه وسلم "لا دَريت ولا تلَيت" وإنما بابه
تلوت. ومن حكم الإدغام إلى حكم الفك في قوله صلى الله عليه وسلم "أيتكن صاحبة الجَمل الأدْبَب تَنْبحها كلاب الحوْأب" وإنما بابه الأدَبّ. وكما حملت على الخروج من وزن الكلمة إلى غيره، كقول العرب: أخذه ما قَدُم وما حدُث، وهَنَاه ومرَأه، وفعلته على ما يسُوءُك وينُوءُك. ولا يقولون في الإفراد إلا: حدَث، وأمرأه، وأناءهُ يُنِيئُه. وهذا ونحوه المراد بقولي (كما قد يسَوِّغ لكلمات غيرَ مالها من حكْم ووزن).
ص: ومن البارز المتصل في الجرّ والنصب "ياء" للمتكلم، و"كاف" مفتوحة للمخاطب ومكسورة للمخاطبة، و"ها" للغائبة و"هاء" مضمومة للغائب، وإن ولِيَتْ ياءً ساكنةً أو كسرةً كسَرها غيرُ الحجازيين، وتُشْبَع، حرّكتها بعد مُتحرّك، ويختار الاختلاسُ بعد ساكن مطلقا وفاقا لأبي العباس، وقد تُسَكَّنُ أو تُخْتَلَس الحركة بعد مُتحرّك عند بني عُقَيل وكلابٍ اختيارا، وعند غيرهم اضطرارا، وإن فَصَل المتحركَ في الأصل ساكنٌ حذِفَ جَزْمًا أو وقْفًا جازت فيه الأوجه الثلاثةُ.
ش: البارز خلاف المستكن، والمتصل خلاف المنفصل، وإضافة الياء إلى المتكلم لئلا يذهب الوهم إلى ياء المخاطبة. ولما كان سبب وضع الضمائر طلبَ الاختصار ناسب ذلك أن يُشْرَكَ بين الجر والنصب في الضمائر التي منها ياء المتكلم وكاف المخاطب والمخاطبة وها الغائبة وهاء الغائب وما يتفرع من ذلك، وسيأتي الجميعُ مبَيَّنا إن شاء الله تعالى. والمفْتَقَرُ إليه الآن مثُلٌ يستأنس بذكرها، فمثال ذلك في الياء (ربِّي أكْرَمَني) ومثاله في الكاف (ما ودّعك ربُّك) ومثاله في ها الغائبة (وتقْواها* قد أفلح من زكّاها) ومثاله في هاء الغائب (فقال لصاحبه وهو يُحاورُه).
ولغة الحجازيين في هاء الغائب الضم مطلقا، وهو الأصل، فيقولون: ضرته، ومررت بهُ، ونظرت إليهُ.
ولغة غيرهم الكسر بعد الكسرة أو الياء الساكنة إتباعا، وبلغة غيرهم قرأ القرّاء إلا حَفْصًا في (وما أنْسانِيهِ إلا الشيطان) و (بما عاهد عليهِ الله) وحمزة في (لأهلِه امْكثوا) في الموضعين، فإنهما قرآن بالضم على لغة الحجازيين.
وما ذكر من إشباع حركة الغائب فهو الأصل، إلا أنّ اللافظ بذلك بعد ساكن كالجامع بين ساكنين، فلذلك كثر اختلاس الضمة والكسرة في نحو: منه، وتأتيه، ونَرْجوه. ورجح سيبويه الإشباع إذا لم يكن الساكن حرف لين، ورَدَّ ذلك أبو العباس ويَعْضده السماع الشائع. ومن العرب من يكسر هاء الغائب بعد كسرة مفصولة بساكن، ومنه (أرْجِئه وأخاه) في قراءة ابن ذكوان.
وأما اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك فلغة رواها الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب، وبهذه اللغة قرأ أبو جعفر "له وبه" وما أشبههما، قال الكسائي: سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون (إن الإنسانَ لربه لكَنود) بالجزم، و "لربه لكنود" بغير تمامن ولهْ مال وله مال. وغير بني عقيل وبني كلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في "له" وشبهه إلا في ضرورة كقول الشاعر وهو الشماخ:
لَهُ زَجَل كأنَّهْ صَوْتُ حادٍ
…
إذا طلبَ الوسيقةَ أو زميرُ
وقال آخر:
وأشربُ الماءَ ما بي نحوَه عَطَش
…
إلاّ لأنّ عُيُونَهْ سَيْلُ واديها
فإن فَصَل المتحرك في الأصل ساكنٌ حذف جزما أو وقفًا جاز في الهاء التحريك مع الإشباع، والتحريك مع الاختلاس، والتسكين نحو قوله تعالى (وإن تشكروا يَرْضَه لكم) فمن أشبع نظر إلى اللفظ، ولأن الهاء متصلة بحركة، ومن اختلس استصحب ما كان للهاء قبل أن يحذف الألف لأن حذفها عارض، والعارض لا يعْتَد به غالبا. ومن سَكن نظر إلى أن الهاء قد وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه، لو لم يكن حرف علة، أن يسَكَّن، فأعطيت الهاء ما يستحقه المحل من السكون. وهذه الأوجه الثلاثة المشار إليها.
ص: ويَلي الكاف والهاءَ في التثنية والجمع ما وَلِيَ التاءَ، وربما كسِرت الكاف فيهما بعد ياء ساكنة أو كسرة. وكسْر ميم الجمع بعد الهاء المكسورة باختلاس قبل ساكنٍ وبإشباع دونه أقْيَسُ، وضمُّها قبل ساكنٍ وإسكانها قبل متحرك أشهر، وربما كُسِرَتْ قبل ساكنٍ مطلقا.
ش: قد تقدم أن "تاء" الضمير تُوصَلُ مضمومة بميم وألف للمخاطَبَيْن والمخاطَبَتَيْن، وبميم مضمومة ممدودة للمخاطَبِين، وبنون مشددة للمخاطبات. وأنّ تسكين ميم الجمع إنْ لم يلها ضمير متصل أعرف، وإن وَليَها لم يجز التسكين خلافًا ليونس. فإلى جميع ذلك أشرت بقولي "ويلي الكافَ والهاء في التثنية والجمع ما ولى التاء" فكما قيل: فعلتُما، وفعلتُم، وفَعلْتن، يقال: إنّكما معهما، وإنّكم معهم، وإنَّكنّ معهن.
ومَنْ كَسَرَ هاءَ المفرد إتْباعا للكسرة والياء الساكنة كَسَر هاء التثنية والجمع، ومن لم يكسر لم يكسر. وبعض العرب يكسر كاف التثنية والجمع بعد كسرة أو
ياء ساكنة إلحاقًا بالهاء نحو: مررتُ بِكِما وبِكِم وبِكِن، ورغبت فيكِما وفيكِم وفيكِنّ قال الشاعر:
وإن قال موْلاهم على كلِّ حادثٍ
…
من الدَّهرِ رُدُّوا بعضَ أحلامِكِم رَدُّوا
كذا روى هذا البيت بكسر كاف أحلامكم على هذه اللغة. وكسر ميم الجمع بعد كسر الهاء أقيس من ضمها، لأن الخروج من الكسر إلى الضم ثقيل، وضمُّها قبل ساكن نحو (بهمُ الأسباب) أشهر، ولذلك قرأ به أكثر القراء، وقد تكسر الميم قبل ساكن وإن لم يكن قبلها كسرةٌ ولا ياءٌ ساكنة، نحو قوله:
فَهُمُ بطانَتُهُم وَهم وزراؤهم
…
وهمِ القضاةُ ومِنهمِ الحُكّامُ
ومثله قول الآخر:
ألا أن أصحابَ الكُنَيْفِ قصدتهم
…
همِ الناسُ لما أخْصبُوا وتموَّلوا
كذا أنشده ابن جني في المحتسب بكسر ميم "همِ القضاة" و"همِ الناس".
ص: تَلْحَقُ قبل ياءِ المتكلم إن نُصِبَ بغيرِ صفةٍ، أو جُرَّ بمن أو عَنْ أو قد أو قطْ أو بَجَل أو لَدُن، نونٌ مكسورةٌ للوقاية، وحذفُها مع لَدُن وأخوات ليت جائز، وهو مع بَجَل ولعلّ أعرفُ من الثبوت، ومع ليس وليت ومِن وعَن وقط بالعكس.
وقد تلحق مع اسم الفاعل، وأفعل التفضيل، وهي الباقية في: فَلَيْنى، لا الأولى وفاقا لسيبويه.
ش: تقدم في ذكر علامات الفعل أن هذه النون تصحب ياء المتكلم على سبيل اللزوم إذا عمل فيها فعل ماض كأكْرَمَني، أو مضارع كيكرمني، أو أمر كأكرِمْنِي. وينبغي الآن أن تعلم أنّ فعل الأمر أحق بها من غيره، لأنه لو اتصل بياء المتكلم دونها لزم محذوران: أحدهما التباس ياء المتكلم بياء المخاطبة. والثاني: التباس أمر المذكر بأمر المؤنثة. فبهذه النون تُوقِّي هذان المحذوران فسميت نون الوقاية لذلك، لا لأنها وقت الفعل من الكسر، إذ الكسر يلحق الفعل مع ياء المخاطبة لحاقا هو أثبت من لحاق الكسر لأجل ياء المتكلم، لأن ياء المتلكم فضلة فهي في تقدير الانفصال، بخلاف ياء المخاطبة لأنها عمدة، ولأن ياء المتكلم قد تغني عنها الكسرة التي قبلها، ثم يوقف على المكسور بالسكون نحو (فيقول ربي أكرمنْ) وياء المخاطبة لا يعرض لها ذلك. فلما صحبت النون الياء مع فعل الأمر صحبتها مع أخويه ومع اسم الفعل وجوبا، ليدل لحاقها على نصب الياء. ولحقت إنّ وأخواتها جوازا لشبهها بالأفعال. ولو جعل لحاقها مع المضارع أصلا لم يمتنع، لأنها صانتة من خفاء الإعراب وتَوَهُّم صيرورته مبنيا، فاحتُرِز بالنون من ذلك، كما احترز منه حين اتصل بالمضارع ألف الضمير وواوه وياؤه فجيء بالنون بعدهن نائبة عن الضمة، ولم يحتج إلى ذلك في نحو: غلامي، بل اكتفى بتقدير الإعراب لأصالته فيه، فلا يذهب الوهم إلى زواله دون سبب جلي، ثم صارت النون أولى بالياء من غيرها ? إذا عرض سبب كالمحافظة على بقاء سكون- من وأخواتها.
وقد يؤيَّدُ اعتبارُ وقاية الفعل من الكسر بأن الكسر الذي وقى الفعل إنما هو كسر يلحق الاسم مثلُه، وهو كسر ما قبل ياء المتكلم، لا كسر ما قبل ياء المخاطبة فإنه خاص بالفعل، فلا حاجة إلى صون الفعل منه، وهذا فرق حسن، لكنه مرتب على ما لا أثر له في المعنى، بخلاف الذي اعتبرته فإنه مرتب على صون من خلل ولبس فكان أولى.
ولما كان للأمر والمضارع المستقبل الأصالة في لحاق النون لم يمنع عدم التصرف من وجوب اتصالها "بِهَبْ" أخت "ظن"، لأمريَّتها، ولا من وجوب اتصالها "بعسى" للزوم استقبال مصحوبها، ولقولهم في التعجب: أعْسِ به، ولفظه لفظ الأمر، وكذا فعل التعجب لم يمنع من وجوب اتصاله بالنون المشار إليها عدمُ تصرفه لعروضه، ولكون أحد مثاليه بلفظ الأمر.
ولما عدمت "ليس" التصرف، ولزوم الاستقبال، ولم يكن لها في الأمرية نصيب، كمثل ما كان لعسى وفعل التعجب مع شبه لفظها بلفظ ليت، عوملت معاملة ليت في لحاق النون، فقيل: ليتني، كقول بعض العرب: عليه رجلا ليسنى. ولم يرد ليتي وليسي إلا في نظم قال زيد الخيل:
كمُنْيَةِ جابِرٍ إذ قال لَيْتِي
…
أصَادفُه ويتلفَ بعضُ مالي
وقال الراجز:
عددتُ قومي كعَديد الطَّيْس
…
إذ ذَهَب القومُ الكرامُ ليسي
ولحاق النون مع لدن أكثر من عدم لحاقها، وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات وليس كذلك، بل هو جائز في الكلام الفصيح، ومن ذلك قراءة نافع (من لدُنِي عُذرا) بتخفيف النون وضم الدال، ولا يجوز أن تكون نون لدني نون الوقاية، ويكون الاسم لدُ، لأن لد متحرك الآخر، والنون في لدن وأخواته إنما جيء بها لتصون أواخرها عن زوال السكون، فلا حظ فيها لما آخره متحرك، وإنما يقال في "لَدُ" مضافا إلى الياء "لِدى" نص على ذلك سيبويه. وقرأ أبو بكر مثل نافع، إلا أنه أشم الدال ضما، وقرأ الباقون بضم الدال وتشديد النون، مُدْغمين نون لدن في نون الوقاية.
وكان مقتضى الدليل استواء "ليت" وأخواتها في لحاق النون لشبهها بالأفعال
المتعدية، لكن استثقل لحاقها بأواخر غير ليت لأجل التضعيف، فحسن حذفها تخفيفا، وثبوتها للشبه المذكور، ولم يكن في ليت معارض للشبه فلزمها ثبوتُها في غير ندور.
ولما نقص شبه لعل بالفعل من أجل أنها تُعَلِّقُ في الغالب ما قبلها بما بعدها، ومن أجل أنها تجُر على لغة، ضعف وجوب لحاق النون المذكورة بها، فكثر "لَعَلِّي" كقوله تعالى (لعلي أبلغ الأسباب) و (لعلي أرجع إلى الناس) وقلَّ لعلني ومنه قول الشاعر:
فقلت أعِيراني القَدُومَ لعلني
…
أخُطُّ بها قَبْرا لأبيض ماجد
والضمير من قولي "وهو مع بجل ولعل أعرف" عائد إلى الحذف، أي قول العرب: بَجَلي ولعلِّي أعرف من قولهم: لعلني وبجلني، ومعنى "بجل" حسب، وكذلك معنى "قد وقط" ومن قال: بجلي وقدي وقضي بلا نون شبهها بحسب، إلا أن بجل أشبه به لأنه ثلاثي مثله، ولمساواته في اشتقاق فعل منه إذا قيل: أبجله وأحسبه، بمعنى كفاه، فلذلك فاق عدمُ النون مع بجل ثبوتها، بخلاف قد وقط، وفي الحديث "قط قط بعزتك وكرمك" يروى بسكون الطاء وكسرها، مع ياء ودون ياء، وقطني بنون الوقاية، وقطٍ بالتنوين، وبالنون أشهر، قال الراجز:
امْتَلأ الحوضُ وقال قَطْنِي
…
مَهْلاً رُوَيْدًا قدْ ملَأتَ بطني
وقال آخر في قدنى وقدى:
قَدْنى مِنْ نصرِ الخُبَيبَيْنِ قدى
وقال الشاعر في الحذف مع عن ومن:
أيُّها السائلُ عَنْهم وعني
…
لستُ من قيس ولا قيسُ مني
وحكى سيبويه: عليكني، وعليك بي. وسمع الفراء بني سليم تقول: مكاني، يريد: انتظرني في مكانك. وإذا أعملت رويد في الياء قلت: رويدني، أي أمهلني. وكذلك تفعل بكل معتد من أسماء الأفعال.
ومثال لحاقها الصفة قول الشاعر، أنشده الفراء:
وما أدْري وَظني كلُّ ظن
…
أمُسْلمُنِي إلى قومِي شَرّاح
وأنشد ابن طاهر في تعليقه على كتاب سيبويه:
وليس بمُعْيِيني وفي الناس مَمْتَع
…
صديقٌ إذا أَعيا عَلَيّ صديقُ
وأنشد غيرهما:
وليس المُوافِيني ليُرفَدَ خائبا
…
فإنّ له أضعافَ ما كان أَمَّلا
ومعييني والموافيني يرفعان تَوَهُّم كون نون مسلمني تنوينا، لأن ياء المنقوص المنون لا ترد عند تحريك التنوين لملاقاة ساكن نحو: أغادٍ ابنُك أم رائح؟ وياء معييني الثانية ثابتة في: وليس بمعييني، فعلم أن النون الذي وليه ليس تنوينا وإنما هو نون
الوقاية، ولذلك ثبت مع الألف واللام في الموافيني. وأيضا فإن التنوين إذا اتصل بما معه كشيء واحد حذف تنوينه نحو: وابن زيدَاه، ولا يقال: وابن زيدَناه فتحرك التنوين، بل تحذف، لأن زيادة المندوب للندبة كشيء واحد. وكذا ياء المتكلم مع متلوها كشيء واحد، ولذا كسر ما قبلها كما كسر ما قبل ياء النسب.
وأجاز الكوفيون تحريك التنوين لأجل ألف الندبة في نحو: وابن زيدناه.
وأيضًا فمقتضى الدليل مصاحبة النون الياء مع الأسماء المعربة لتقيها خفي الإعراب، فلما منعوها ذلك كان كأصل متروك فنبهوا عليه في بعض أسماء الفاعلين كما مضى من: أمسلمني، ومعييني، والموافيني. ومن ذلك قراءة بعض القراء (هل أنتم مُطْلِعُون) بتخفيف الطاء وكسر النون. وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود "هل أنتم صادقوني" كذا في ثلاثة مواضع في أكثر النسخ المعتمد عليها. ولما كان لأفعل التفضيل شبه بالفعل معنى ووزنًا، وخصوصًا بفعل التعجب اتصلت به النون المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم "غيرُ الدّجّال أخوفني عليكم" والأصل: أخوف مخوفاتي عليكم، فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه، فاتصل أخوف بالياء معمودة بالنون كما فعل بأسماء الفاعلين المذكورة، وأخوف على هذا الوجه مصوغ من فعل المفعول كقولهم: أشْغَلُ من ذات النِّحْيَيْن، وأزْهى من دِيك. وكقوله صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون" ويمكن أن يكون من "أخاف" فإنَّ صَوْغَ أفعل التفضيل وفعل التعجب من فِعْلٍ على أفْعَل مطرد عند سيبويه، فيكون المعنى على هذا: غير الدجال أشد إليَّ إخافة عليكم من الدَّجال. ويجوز أن يكون من باب وصف المعاني على سبيل المبالغة بما يوصف به الأعيان، فيقال: شِعْرٌ شاعرٌ، وخَوْفٌ خائفٌ، ومَوْت مائت، وعَجَبٌ عاجب، ثم يصاغ أفعل باعتبار ذلك المعنى فيقال: شعرك أشعر من شعره، وخوفي أخوف من خوفك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم" أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد".
ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلٌ
ومنه قول الشاعر:
يداك يدٌ خيرُها يُرتَجى
…
وأخْرَى لأعدائِها غائِظه
فأمّا التي خيرُها يُرتجى .. فأجودُ جودًا منَ اللافِظه
وأمّا التي يُتَّقى شرُّها
…
فَنَفْسُ العدُوِّ بها فائظَه
وتقديره الحديث مسلوكا به هذا السبيل: خوفُ غير الدجالِ أخوفُ خَوْفي عليكم، فحذف المضاف إلى غير وأقيم غير مقامه، وحذف المضاف إلى الياء وأقيمت الياء مقامه فاتصل أخوف بالياء معمودة بالنون على ما تقرر.
ولما كان للفعل بهذه النون صون ووقاية مما ذكر حوفظ على بقائها مطلقا إذا لَقِيها مثلها ودعت الحاجة إلى حذف، فهي الباقية عند سيبويه في قول الشاعر:
تَراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكا
…
يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْنِي
أراد: إذا فلينني، فحذف الأولى وبقيت الثانية. كما أنها هي الباقية في (أفغَير الله تأمروني) وقد تقدم الكلام على ذلك.
فصل: ص: من المُضَمَرِ مُنْفَصِل في الرفع، للمتكلم منه أنا، محذوف الألف في وصل عند غير تميم، وقد يقال هَنا، وأنَ وآنَ، ويتلوه في الخطاب "تاء" حرفية كالاسمية لفظا وتصرفا، ولفاعل نفعل "نحن" وللغيبة "هو" و"هي" و"هم" و"هن" ولميم الجمع في الانفصال ما لها في الاتصال.
ش: زعم الأكثرون أن ألف "نا" زائدة للوقف كزيادة هاء السكت، وأيدوا
ذلك بأن الهاء تعاقبها، كقول حاتم، هذا فزدى أنه، والصحيح أنا (أنا) بثبوت الألف وقفا ووصلا هو الأصل، وهي لغة بني تميم، وبذلك قرأ نافع قبل همزة قطع (كأنا أحيي) و (إن ترن أنا أقل) وقرأ بها أيضا ابن عامر في قوله تعالى (لكنا هو الله ربي) والأصل: لكن أنا، ثم نقلت حركة الهمزة إلى النون، وأدغمت النون في النون.
ولمراعاة الأصل كان نون أنا مفتوحا في لغة من لفظ به دون ألف وجعل الفتحة دليلا عليها، كما أنّ من حذف ألف "أما" في الاستفتاح قال: أمَ والله. ولو كان وضع أنا في الأصل من همزة ونون فحسب لكانت النون ساكنة، لأنها آخر مبني بناء لازما، وقبلها حركة، وما كان هكذا فحقه السكون كمن وعن وأن ولن، ولو حرك على سبيل الشذوذ لم يعبأ بحركته حيث يلزم صونها في الوقف بزيادة ألف أو هاء سكت، فإذا قيل: إن الألف أصل وحذفها عارض، وأبقيت الفتحة دليلا عليها، سلم من مخالفة النظير وتكلف التقدير، لكون "أنا" في تخفيفه بحذف ألفه وبقاء الفتحة دليلا مُذَكِّرا بِرَدِّ ما يوقف عليه، نظير "أما" حين قيل:"أمَ والله، ونظير "ما" الاستفهامية إذا حذف ألفها في الجر فقيل: لِمَ فعلت؟
وفي قول من قال في: أنا فعلت: أنْ فعلت من الشذوذ ما في قول من قال: لِمْ فعلت؟ كما قال الشاعر:
يا أسَدِيًّا لِمْ أكلتَه لِمَه
…
لو خافك اللهُ عليه حرّمه
ومن قال: آنَ فعلت بالمد، فإنه قلب أنا كما قال بعض العرب في رأى راء،
ومنه قول الشاعر:
وكلُّ خليلٍ راءني فهو قائل
…
منَ اجْلك هذا هامةُ اليومِ أو غد
ولا ينبغي أن يكون آن بالمد من الإشباع، لأن الإشباع لا يكون غالبا إلا في الضرورة.
وأما من قال: هَنا فعلت، فمن إبدال الهمزة هاء، وهو كثير، وعكسه قليل.
ويلتزم في الخطاب حذف الألف والتسكين، لأن الحاجة إلى تخفيف المركب أشد من الحاجة إلى تخفيف المفرد. وفاعل نفعل هو المتكلم العظيم أو المشارك، وقد تقدم بيان ما لميم الجمع من هيأتها حال التلفظ بها، فأغنى عن إعادته الإحالة عليه.
ص: وتسكينُ هاء "هو" و"هي" بعد الواو والفاء والام وثمَّ جائزٌ، وقد تسَكَّنُ بعد همزة الاستفهام، وكافِ الجَرِّ، وتحذف الواو والياء اضطرارا، وتُسَكِنهما قيس وأسد، وتُشَدِّدهما هَمْدان.
ش: في هو وهي مخالفة للنظائر من وجهين: أحدهما بناؤهما على حركة بعد حركة، وإنما يكون ذلك فيما بناؤه عارض كالمنادى واسم لا، أو فيما حذف منه حرف كأنا. والثاني سكون أولهما بعد الحروف المذكورة.
فأما سبب بنائهما على حركة فقصد امتيازهما من ضمير الغائب المتصل، فإنه في اللفظ هاء مضمومة وواو ساكنة، أو هاء مكسورة وياء ساكنة، فلو سكن آخر هو وهِي لالتبس المنفصل بالمتصل، ولم يبال بذلك قيس وأسد حين قالوا: هُو قائم، وهي قائمة، لأن موضع المنفصل في الغالب يدل عليه فيؤمن التباسه بالمتصل. وإما قلت في الغالب، لأن من المواضع ما يصلح للمتصل والمنفصل نحو: من أعطيته زيد، ومن لم أعطه منه هند، فيجوز أن يراد بالضميرين الاتصال فيكونا مفعولين، وأن يراد بهما الانفصال على لغة قيس وأسد فيكونا مبتدأين، والعائد محذوف،
والأصل: من أعطيته هو زيد، ومن لم أعطها هي هند، ثم حذف العائدان لمفعوليتهما واتصالهما، وأسكن آخر هو وهي فأشبها متصلين.
ويجوز أن يكون الأصل: هُوّ وهِيّ كما يقول همدان، ثم خففا وتركت الحركة مشعرة بالأصل.
وأما تسكين الهاء ففرارا من مخالفة النظائر، وذلك لأنه ليس في الكلمات ما هو على حرفين متحركين ثانيهما حرف لين غيرهما، فقصد تسكين أحدهما، فكان ثانيهما أولى، إلا أنه لو سُكِّنَ وُقِعَ بتسكينه في التباس المنفصل بالمتصل، فعُدِل إلى تسكين الأول من الحروف المذكورة لأنها كثيرة الاستعمال، وبمنزلة الجزء مما يدخل عليه، أعني الواو والفاء واللام، وألحقت بها ثم. وبمقتضى ذلك قرأ قالون والكسائي ووافقهما أبو عمرو مع غير ثم، ولم يجئ السكون مع الهمزة والكاف إلا في الشعر، فمن ذلك قول الشاعر:
فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعا وأرَّقني
…
فقلتُ أهْيَ سَرَت أم عادني حُلُم
وقال آخر:
وقالوا اسْلُ عن سَلْمَى برؤية شبهها
…
من النَّيِّرات الزُّهر والعين كالدُّمى
وقد علموا ما هُنَّ كهْيَ فكيف لي
…
سُلُوٌّ ولا أنفَكُّ صَبّا مُتَيَّما
ومثال حذف الواو والياء اضطرارا قول الشاعر:
بَيْناهُ في دار صدق قد أقام بها
…
حينا يُعَللنا وما نُعَلله
وقال آخر في حذف ياء هي:
سالمتُ من أجلِ سلمى قومها وهم
…
عِدًى ولولاهِ كانوا في الفلا رِمما
ومثال تسكين الواو والياء على لغة قيس قول الشاعر:
ورَكْضُكَ لولا هُو لقيتَ الذي لَقُوا
…
فأصبحتَ قد جاوزت قومًا أعاديا
وقال الآخر:
إنَّ سَلمى هي التي لو تراءت
…
حَبَّذا هي من خُلَّة لو تُخالى
كأنه أراد تخالل، فأبدل لاياء من أحد حرفي التضعيف.
ومثال التشديد على لغة هَمْدان قول الشاعر:
وإنّ لساني شُهدةٌ يُشتَفى بها
…
وهُوَّ على من صبّه الله عَلقَمُ
وقال آخر في تشديد ياء هي:
والنَّفْس إنْ دُعِيَتْ بالعُنْفِ آبيةٌ
…
وهِيَّ ما أُمِرَتْ باللطفِ تَأتمر
ص: ومن المُضْمَرات "إيّا" خلافا للزَّجَّاج، وهو في النصب كأنا في الرفع، لكن يليه دليل ما يُراد به من متكلم أو غيره، اسما مضافًا إليه وفاقا للخليل والأخفش والمازني، لا حرفًا خلافًا لسيبويه ومن وافقه، ويقال: إيّاكَ وأيّاك وهِيّاك وهَياك.
ش:"إيَّا" ضمير لا ظاهر خلافا للزجاج أبي إسحق، والدليل على أنه ضمير أنه يخلف ضمير النصب المتصل عند تعذره، لتقديم على العامل نحو: إياك أكرمت، أو لإضماره نحو: إياك والأسدَ، أو لانفصاله بحصر أو غيرها نحو: ما أكْرِمُ إلا إياك،
وأكرمتُه وإياك، فَخَلَفَهُ كما يخلف ضمير الرفع المنفصل ضمير الرفع المتصل عند تعذره، فنسبة المنفصلين من المتصلين نسبة واحدة. ولأن بعض المرفوعات كجزء من رافعه، وقد ثبت لضميره منفصلٌ، فثبوت ذلك لضمير النصب أولى، إذ لا شيء من المنصوبات كجزء من ناصبه، ولأن "إيا" لا تقع دون ندور في موضع رفع، وكل اسم لا يقع في موضع رفع فهو مضمر أو مصدر أو ظرف أو حال أو منادى، ومُبايَنَةُ "إيّا" لغير المضمر متيقنة، فتعيَّن كونه مضمرا.
ولأن "إيا" لو كان ظاهرا لكان تأخره عن العامل واتصاله به جائزا بل راجحا على انفصاله عنه وتقدمه عليه كحال غيره من المنصوبات الظاهرة. والأمر بخلاف ذلك، فامتنع كونه ظاهرا ولزم كونه ضميرا، لكنه وضع بلفظ واحد، فافتقر إلى وصله بما يبين المراد به من الكاف وأخواتها، وهي ضمائر مجرورة بالإضافة لا حروف. هذا هو مذهب الخليل والأخفش والمازني وهو الصحيح، لأن فيه سلامة من ستة أوجه مخالفة للأصل:
أحدها: أن الكاف في "إياك" لو كانت حرفا كما هي في "ذلك" لاستعملت على وجهين: مجردة من لام، وتالية لها، كما استعملت مع "ذا" و"هُنا" ولحاقها مع "إيا" أولى لأنها ترفع توهم الإضافة، فإن ذهاب الوهم إليها مع "إيا" أمكن منه مع "ذا" لأن "إيا" قد يليها غير الكاف، ولذا لم يختلف في حرفية كاف "ذلك" بخلاف كاف "إياك".
الثاني: أنها لو كانت حرفا لجاز تجريدها من الميم في الجمع كما جاز تجريدها مع "ذا" كقوله تعالى (فما جزاءُ من يفعلُ ذلك منكم) و (ذلك خير لكم وأطهر).
الثالث: أنه لو كانت اللواحق "بإيا" حروفا لم يحتج إلى الياء في "إياي" كما لم يحتج إلى التاء المضمومة في "أنا".
الرابع: أن غير الكاف من لواحق "إيا" مجمع على اسميته مع غير "إيا" مختلف
في اسميته معها، فلا يترك ما أجمع عليه لما اختلف فيه، ثم تلحق الكاف بأخواتها ليجرى الجميع على سنن واحد.
الخامس: أن الأصل عدم اشتراك اسم وحرف في لفظ واحد، وفي القول باسمية اللواحق سلامة من ذلك، فوجب المصير إليه.
السادس: أن هذه اللواحق لو لم تكن أسماءً مجرورةَ المحل لم يلحقها اسم مجرور بالإضافة فيما رواه الخليل من قول العرب: إذا بَلَغَ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشَّوابِّ، وروى: فإياه وإيا السَّوْءاتِ. وهذا مستند قوي، لأنه منقول بنقل العدل بعبارتين صحيحتي المعنى، ثم إن هذا الكلام يتضمن وعظا وترغيبا لمن بلغ الستين في ذكر الموت والإعراض عن الفتنة بالنساء الشواب فإنهن يلهينه ويعجز عما يبغينه، ومن رواه بالسِّين والتاء فقد أصاب أيضا، ومعناه النهي عن القبائح، فإن اجتنابها مأمور به عموما، والشيخ باجتنابها أحق لأن صدورها منه أقبح.
فإن قيل: هذه الوجوه مؤدية إلى إضافة (إيا) وهي ممتنعة من وجهين:
أحدهما: أن "إيا" لو كان مضافا لم تخل إضافته من قصد تخفيف أو تخصيص فقصد التخفيف ممتنع لأنه مخصوص بالأسماء العاملة عمل الأفعال، وإيا ليس منها وقصد التخصيص ممتنع أيضا لأن "إيا" أحد الضمائر، وهي أعرف المعارف، فلا حاجة بها إلى تخصيص.
الثاني: أن "إيا" لو كان مضافا لكانت إضافته إضافة شيء إلى نفسه وهي ممتنعة.
فالجواب أن يقال: أما إضافة التخفيف فمسلم امتناعها من "إيا" وأما إضافة التخصيص فغير ممتنعة، فإنها تصير المضاف معرفة إن كان قبلها نكرة، وإلا ازداد بها وضوحًا كما يزداد بالصفة كقول الشاعر:
علا زيدُنا يومَ النَّقا رأسَ زيدِكم
…
بأبيضَ ماضِي الشَّفْرَتَيْنِ يَمانِي
فإضافة زيد هنا أوجبت له من الزيادة الوضوح مثل ما يوجب وصفه إذا قيل: علا زيد الذي منا زيدا الذي منكم، فكما قبل زيادة الوضوح بالصفة قبل زيادة الوضوح بالإضافة من غير حاجة إلى انتزاع تعريفه. وقد يضاف عَلَمٌ لا اشتراك فيه على تقدير وقوع الاشتراك المحْوجِ إلى زيادة الوضوح، كقول وَرقَةَ بنِ نَوْفَل:
وَلُوجا في الذي كَرِهت قريشٌ
…
ولو عَجَّت بمكتها عَجيجا
فإذا جازت إضافة مكة ونحوها مما لا اشتراك فيه، فإضافة ما فيه من الاشتراك أولى بالجواز كإيَّا، فإنه قَبْلَ ذكر ما يليه صالح أن يراد به واحد من اثني عشر معنى، فالإضافة إذا له صالحة، وحقيقته بها واضحة. وكان انفرادها بالإضافة دون غيرها من الضمائر كانفراد "أي" بها دون سائر الموصولات. ورفعوا تَوَهُّم حرفية ما يضاف إليه بإضافتها إلى الظاهر في قولهم: فإياه وإيا الشَّواب. والاحتجاج بهذا للخليل على سيبويه شبيه باحتجاج سيبويه على يونس بقول الشاعر:
دَعَوْتُ لما نابَني مِسْوَرا
…
فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَر
لأن يونس يرى أن ياء "لَبَّيْك" ليست للتثنية، بل هي كياء "لَدَيْك" فاحتج سيبويه بثبوت ياء لَبَّى مع الظاهر، ولو كانت كياء لَدَى لم تثبت إلا مع المضمر كما أن ياء "لدى" لا تثبت إلا مع المضمر، وأما إلزامهم بإضافته أيضا إضافة الشيء إلى نفسه فنلتزمها معتذرين بما اعتذر عنها في نحو: جاء زيد نفسه، وأشباه ذلك.
والكلام على ما في إياك من اللغات غني عن التفسير، إذ ليس فيه إلا النقل، وأعرف لغاته تخفيف الياء.
فصل: ص: يتعينُ انفصالُ الضمير إنْ حُصر بإنما، أو رُفِع بمصدر مضاف إلى المنصوب، أو صفةٍ جَرَتْ على غير صاحبها، أو أُضْمِرَ العاملُ، أو أخِّر،
أو كان حرف نفي، أو فَصله مَتْبُوعٌ، أو وَلِيَ واوَ المصاحبة، أو إلاّ، أو إمّا، أو اللامَ الفارقةَ، أو نَصَبَه عاملٌ في مضْمَر قبله غير مرفوع إن اتفقا رُتْبَة، وربما اتصلا غائبين، إن لم يشتبها لفظا.
وإن اختلفا رُتْبةً جاز الأمران.
ووجبَ في غير نُدُورِ تقديم الأسبق رتبةً مع الاتصال، خلافا لكثير من القدماء، وشذ "الاّكِ" فلا يقاس عليه.
ش: يتعين انفصال الضمير لحصره بإنما كقوله:
أنا الفارسُ الحامي الذِّمار وإنما
…
يُدافِع عن أحْسابه أنا أو مثلي
ومن ذلك قول الشاعر:
كأنّا يومَ قُرَّا
…
إنّما نَقْتُل إيانا
وقد وَهم الزمخشري في قوله:
إنما نقتل إيانا
فظن أنه من وُقوع المنفصل موقع المتصل، وليس كذلك، لأنه لو أوقع هنا المتصل فقال: إنما نقتلنا، لجمع بين ضميرين متصلين أحدهما فاعل والآخر مفعول مع اتحاد المسمى، وذلك مما يختص به الأفعال القلبية: وغَرَّ الزمخشري ذكرُ سيبويه هذا البيتَ في باب: ما يجوز في الشعر من إيّا ولا يجوز في الكلام ثم قال: (فمن ذلك قول حُمَيد الأرقط:
إليك حتى بَلَغَت إياكا
فهذا ونحوه مخصوص بالشعر، لأنه لولا انكسار الوزن لقال:(حتى بلغتك) ثم ذكر البيت الذي أوله: كأنا، لا لأن ما فيه لا يجوز إلا في الشعر، بل لأن "إيانا" مُوقَعٌ فيه موقع أنفسنا، فبينه وبين الأول مناسَبة من قِبَل أن "إيا" في الموضعين واقعٌ موقعا غيرُه به أولى، لكن في الثاني من معنى الحصر المستفاد بإنما ما جعله مساويًا للمقرون بإلا، فحسُنَ وقوع "إيا" فيه كما يحسن بعد إلا، وهذا مطرد "فمن اعتقد شذوذه فقد وهم".
ومثال الانفصال لكون الضمير مرفوعا بمصدر مضاف إلى المنصوب قول الشاعر:
بَنَصرِكم نحن كنْتُم ظافرين وقد
…
أغْرى العِدا بكم اسْتِسْلامُكم فَشَلا
ومثال انفصاله لكونه مرفوعا بصفة جرت على غير صاحبها قوله:
غَيْلانُ ميَّةَ مَشْغُوفٌ بها هَوَ مُذْ
…
بَدَتْ له فحِجاه بان أو كَربا
ومثال انفصاله لإضمار العامل قوله:
فإنْ أنتَ لم ينْفَعْكَ عِلمُك فانْتَسِب
…
لعلّك تهديك القرونُ الأوائِل
ومثال انفصاله لتأخير العامل قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين).
ومثال انفصاله لكون العامل حرف نفي قوله تعالى (وما أنتم بمعجزين)
وقول الشاعر:
إنْ هو مُسْتَوْلِيا على أحدٍ
…
إلا على أضْعَفِ المجانين
ومثال المفصول بالمتبوع قوله تعالى (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) وقول الشاعر:
مُبَرَّأ من عُيوبِ الناس كلِّهم
…
فاللهُ يرعى أبا حَرْب وإيّانا
ومثال المفصول بواو المصاحبة قول الشاعر:
فآلَيْتُ لا أنفَكُّ أحْذُو قصيدة
…
تكونُ وإيّاها بها مثلا بعدى
ومثال المفصول بإلا قوله تعالى (أمر ألا تعبدوا إلا إياه).
ومثال المفصول بإما قول الشاعر:
بكَ أو بي اسْتعانَ فليلِ إمّا
…
أنا أو أنت ما ابتغى المستعينُ
وقال الأخفش في كتاب المسائل بعد أن مثل بإن كان زيد لصالحا: فإن جئت في هذا القياس بفعل لا يحتاج إلى مفعول أوقعت اللام على الفاعل فقلت: إن قام لزيد، وإن كان الاسم مضمرا قلت: إن قعد لأنا، لأنك إذا لم تصل إلى التاء جعلتها أنا إذا عَنى بها المتكلم نفسه، وأنت إذا عَنى غيره، وكذلك: إن قام لنحن. هذا نصه. وإليه أشرت بقولي "أو ولى واو المصاحبة، أو إلا، أو إما، أو اللام الفارقة" ومن هذا النوع قول الشاعر.
إنْ وجدتُ الصديقَ حقًا لإيّا
…
ك فَمُرْني فلن أزال مُطِيعا
فوافق في الرتبة: علمتك إياك، أي أنت في علمي الآن كما كنت قبلُ.
والمراد بالموافقة في الرتبة كونهما لمتكلم كعلمتني إياي، أو لمخاطب كعلمتك إياك، أو لغائب كزيد علمته إياه، أو لغائبين كقولك: مال زيد أعطيته إياه، فانفصال ثاني الحاضرين متعين أبدًا، لأنه لا يكون إلا مثل الأول لفظا ومتحدا به معنى فاستثقل اتصالهما، ولأن اتصالهما يوهم التكرار.
وانفصال ثاني الغائبين متعين أيضا إن كان هو الأول في المعنى نحو: زيد علمته إياه. أو شبيها بما هو الأول في المعنى نحو: مال زيد أعطيته إياه.
فإن غاير الأولَ لفظا جاز اتصاله على ضعف، فمن ذلك ما رَوى الكسائي من قول بعض العرب: هم أحسنُ الناسِ وجوها وأنْضَرهموها، ومنه قول مَغلس بن لقيط:
وقد جَعَلَتْ نفسي تطيب لِضَغْمَة
…
لضَغْمِهماها يقرعُ العظمَ نابُها
ومثال جواز الأمرين لاختلاف الرتبة: الدرهم أعطيتكه، وأعطيتك إياه.
فمع الانفصال لك أن تقدم الأسبق رتبة وأن تؤخره، نحو: أعطيته إياك. ومع الاتصال ليس لك إلا تقديمه سماعا على العرب، فلو قلت: أعطيتهوك أو نحوه لم يجز عند سيبويه وفاقا للمسموع واقتصارا عليه. وأجازه غيره قياسا، قال سيبويه:
فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكني، أو بدأ بالغائب قبل المخاطب فقال: أعطاهوك، فهذا قبيح لا تتكلم به العرب، ولكن النحويين قاسوه.
قلت: ولا يعضد قول من أجاز القياس في ذلك قولُ العرب: عليكني، لكون الكاف فيه متقدمة على الياء، لأن الكاف في عَليك فاعل في المعنى، فيتنزَّل تقدمها على الياء منزلة تقدم التاء في قولك: أكرمتني، فلا يجوز أن يجرى مُجْراها "كاف" ليس لها حظ في الفاعلية نحو" كاف" أعطاك، ولكن يعضد قولَ من أجاز القياس في ذلك ما روى ابن الأنباري في غريبه من قول عثمان رضي الله عنه: أراهُمني الباطل شيطانا، فقدم ضمير الغائب على ضمير المتكلم المتصل.
وأشرت بقولي "وشذ إلاكِ" إلى قول الشاعر:
وما نُبالي إذا ما كُنتِ جارتَنا
…
ألا يُجاورَنا إلَاّكِ دَيّارُ
والأكثرون على أن الاتصال فيه لم يستبح إلا للضرورة، لأن حق الضمير الواقع بعد إلا الانفصال اعتبارًا بأن إلا غير عاملة، ومن حكم على إلا بأنها عاملة لم يعدّ هذا من الضرورات، بل جعله مُراجعة لأصل متروك، ويعتذر عن مثل: قاموا إلا إياك، بكون الاستعمال استمر بالانفصال، والأولى به الاتصال، وهذا متعلق بالاستثناء، فأخّرْت استيفاء الكلام فيه إلى بابه حتى نأتيه إن شاء الله تعالى.
وأما ما أجاز ابنُ الأنباري من أن يقال: حتاك، فلا مسموع له، إلا إن جعِلتْ حتى جارة وذلك أيضا مفتقر إلى نقل عن العرب، لأن العرب استغنت في المضمر بإلى عن حتى، كما استغنت بمثل عن كاف التشبيه، وقد يرد دخول الكاف على ضمير الغائب، ولم يرد دخول حتى على ضمير أصلا.
ص: ويُخْتارُ اتصال نحو "هاء" أعطيتكه، وانفصال الآخر من نحو: فِرَاقيها ومَنْعُكها وخِلْتُكَه. وكهاء أعطيتكه هاء نحو: كُنته، وخَلَف ثاني مفعولي نحو: أعطيت زيدا درهمًا، في باب الإخبار. ونحو: ضَمِنَتْ إياهم الأرضُ، ويَزيدُهم حُبًّا إليَّ هُم، من الضرورات.
ش: لما ذكرت ما يجوز فيه الاتصال والانفصالن وكان بعضُه مختارَ الاتصال،
وبعضه مختار الانفصال، أخذت في بيان ذلك فكل ضمير تراه كهاء أعطيتكه، في كونه ثاني منصوبين بفعل غير قلبي، فهو جائز الاتصال والانفصال، واتصاله أجود، ولذلك لم يأت في القرآن إلا متصلا كقوله تعالى (إذ يُريكهمُ اللهُ في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) وظاهر كلام سيبويه أن الاتصال لازم، ويدل على عدم لزومه قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الله مَلّككم إياهم، ولو شاء ملكهم إياكم".
وأشرت "بالآخر من نحو (ومنعكها) إلى ما كان من الضمائر منصوبا بمصدر مضاف إلى ضمير قبله وهو فاعل أو مفعول أول، أو باسم فاعل مضاف إلى ضمير هو مفعول أول.
فالمنصوب بمصدر مضاف إلى ضمير هو فاعل كقول الشاعر:
لَئِن كان حُبِّيكِ لي كاذبًا
…
فقد كان حُبِّيكِ حقّا يقينا
ومثله قول الآخر:
تَعَزَّيْتُ عنها حِقْبَةً فتركتُها
…
وكان فِراقيها أمرَّ من الصبر
والمنصوب بمصدر مضاف إلى ضمير هو مفعول أوَّل كقوله:
فلا تَطْمَعْ أبيتَ اللعنَ فيها
…
ومَنعُكها بشيء يُسْتَطاع
وإلى ذا البيت والأول الذي قبله أشرت بقولي "من نحو: فِراقيِها، ومنعكها".
والمنصوب باسم فاعل مضاف إلى ضمير هو مفعول أول كقول الشاعر:
لا تَرْجُ أو تَخْشَ غيرَ الله إنَّ أذًى
…
واقيكه اللهُ لا يَنْفَكّ مأمونا
وإنما المختار في هذه الثلاثة وأمثالِها الانفصال، ولكنه تُرِك واستعمل الاتصال، لأن الوزن لم يتأت إلا به.
وإذا كان الضمير كهاء "خِلتكه" في كونه ثاني مفعولي أحد أفعال القلوب، فالانفصال به أولى، لأنه خبر مبتدأ في الأصل، وقد حجزه عن الفعل منصوب آخر، بخلاف هاء كنته فإنه خبر مبتدأ في الأصل، ولكنه شبيه بهاء ضربته في أنه لم يحجزه إلا ضمير مرفوع، والمرفوع كجزء من الفعل، فكأن الفعل مباشر له، فكان مقتضى هذا ألا ينفصل كما لا ينفصل هاء ضربته، إلا أنه أجيز الانفصال به مرجوحا لا راجحا خلافا لسيبويه ومن تبعه. ودليلنا على ذلك من وجهين:
أحدهما: أن المشار إليه ضمير منصوب بفعل لا حاجز له إلا ما هو كجزء منه، فأشبه مفعولا لم يحجزه من الفعل إلا الفاعل، فوجب له من الاتصال ما وجب للمفعول الأول، فإن لم يساوه في وجوب الاتصال فلا أقل من كون اتصاله راجحا.
الوجه الثاني: أن الوجهين مسموعان فاشتركا في الجواز، إلا أن الاتصال ثابت في النظم والنثر، والانفصال لم يثبت في غير استثناء إلا في النظم، فرجح الاتصال لأنه أكثر في الاستعمال، ومن الوارد من ذلك في النظم دون ضرورة قول الشاعر:
كم ليث اغترَّ بي ذا أشْبُلٍ غَرَثَت
…
فكأنني أعْظمُ الليثين إقداما
فقال فكأنني مع تمكنه أن يقول: فكنته أعظم الليثين إقداما، جعل أعظم بدلا من الضمير، كما قالوا: اللهم صل عليه الرءوفِ الرحيم. ومن الوارد منه في النثر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها "إياكِ أن تكونيها يا حميراء" وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ابن صياد "إن يكُنْه فلن تُسَلّط عليهن وإن لا يكنه فلا خير لك
في قتله" ومن ذلك قول بعض العرب: عليه رجلا ليسني. وقال سيبويه: بلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني، وكذلك كأنني. هذا نَصُّه، ولم يحك في الانفصال نثرا إلا قولهم في الاستثناء: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك، وهذا يتعين انفصاله في غير الضرورة، لأن ليس ولا يكون فيه واقعان موقع إلا، فعومل الضمير بعدهما معاملته بعدها، فلا يقاس على ذلك ما ليس مثله، والاتصال في قوله:
إذْ ذَهَب القومُ الكرامُ ليسي
من الضرورات، لأنه استثناء، ولو لم يكن استثناء لكان الاتصال أولى من الانفصال كما تقرر.
ومن انفصال ثاني مفعولي أفعال القلوب قول الشاعر:
أخي حَسِبْتُكَ إياه وقد مُلِئَت
…
أرجاءُ صدرِك بالأضْغانِ والإحَنِ
ومن وروده متصلا قوله:
بُلِّغْتُ صنعَ امرِئٍ بَرٍّ إخالكه
…
إذ لم تزلْ لاكتساب الحمدِ مُبْتَدِرا
ومثال الإخبار عن ثاني مفعولي أعطيت زيدا درهما: الذي أعطيته زيدا درهمٌ، هذا على أن تخبر بالضمير الذي هو خلف عن المخبر عنه متصلا، وإن جئت به منفصلا مراعاة للترتيب الأصلي قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهم. والاتصال رأي أبي عثمان المازني، وباختياره أقول، لأن الاتصال هو الأصل، فإذا أمكنَ بلا محذور فلا عدول عنه عند مراعاة الأولى، فلو كان بدل الدرهم مفعولا لا يعلم كونه ثانيًا إلا بالتأخير نحو: أعطيت زيدا عمرا، فأخبر عنه، تعين انفصاله، لأن وصله بالفعل يوهم كونه أولا، فلو عضد بهذا قول غير المازني لاعتضد، فيقال: إذا تعين
الانفصال في بعض صور الإخبار فيلتزم في جميعها، ليجري الباب على سنن واحد كما فعل في غيره.
والإشارة بنحو: ضمنت إياهم الأرض، إلى قول الشاعر وهو الفرزدق:
إني حَلَفْتُ ولم أحْلِفْ على فَنَدٍ
…
فناءَ بيتٍ من السَّاعين معمور
بالباعثِ الوارثِ الأموات قد ضمِنت
…
إياهم الأرضُ في دهرِ الدَّهارير
فأوقع الضمير المنفصل بغير سبب موقع المتصل، فلولا ضرورة إقامة الوزن لكان خطأ. وكذا قول الآخر:
وما أصاحِبُ من قومٍ فأذكرهم
…
إلا يزيدهم حُبًّا إليّ هُمُ
فهم الأخير فاعل يزيد، وظن بعضهم أن هذا جائز في غير الشعر، لأن قائله لو قال: يزيدونهم، لصلح، فيجعل المتصل وهو الواو فاعلا، والمنفصل توكيدًا، وهذا وهم، لأن لك ضميرين متصلين لمسمى واحد أحدهما فاعل والآخر مفعول وذلك لا يكون في غير فعل قلبي.
ص: الأصلُ تقديمُ مُفَسِّر ضميرِ الغائب، ولا يكون غيرَ الأقرب إلا بدليل، وهو إما مُصَرَّحٌ بلفظه، أو مُسْتَغنى عنه بحضور مدلوله حِسًا أو علْمًا، أو بِذِكْرِ ما هو له جزءٌ أو كلٌّ أو نظير، أو مُصاحِبٌ بوجهٍ ما.
ش: لما كان ضميرُ الحاضر مُفسَّرًا لمشاهدة تقارنه، ولم يكن لضمير الغائب مشاهدة تقارنه، جعلوا تقديم مُفَسِّره خلفًا عما فاته من مُقارنةِ المشاهدة، ومقتضى هذا القصد تقديم الشعور بالمفسِّر كما يتقدم الشعور بذاتٍ يصلح أن يُعَبَّر عنها بضمير حاضر. واللائق بالمفسِّر لكونه جزءَ المفَسَّر في تكميل وضوحه أن يتصل به، فلذلك
إذا ذكر ضمير واحد بعد اثنين فصاعدا جُعل للأقرب، ولا يجعل لغيره إلا بدليل من خارج.
وعَوْدُ هو من قولي: "وهو إما مصرح بلفظه" على المُفسَّر، أي المفسِّر إما مصرح بلفظ كزيد لقيته، وإما مستغنى عن لفظه بحضور معناه في الحس كقوله تعالى (هي راودتني عن نفسي) و (يا أبَتِ استأجره) أو بحضور معناه في العِلْم كقوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدْر) أو بذكر ما صاحب الضمير كقول الشاعر:
أماوِيّ ما يُغْني الثَّراءُ عن الفتى
…
إذا حشْرَجت يوما وضاق بها الصَّدْرُ
فذكر الفتى مُغْنٍ عن ذكر النفس لأنها جزؤه، فعاد إليها فاعل حشرجت والضمير المجرور بالباء، ومن هذا قولهم: من كَذَب كان شرًّا له، فأُضْمِر في كان ضمير الكذب لأنه جزء مدلول كَذَب، ومثله قوله تعالى (اعدلوا هو أقربُ للتقوى) فهو عائد إلى العدل، لأنه جزء مدلول اعدلوا، ومن هذا أيضًا قول الشاعر:
وإذا سُئِلت الخيرَ فاعلم أنها
…
حُسْنى تُخَصُّ بها من الرحمن
فأعاد الضمير على المسألة لأنها جزء من مدلول سئلت، ومن هذا أيضًا قول الشاعر:
إذا نُهِيَ السَّفيه جَرَى إليه
…
وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلاف
فالهاء من إليه عائدة على السَّفه، فإنه جزء مدلول السفيه.
ويستغنى أيضا عن ذكر صاحب الضمير بكونه كُلاًّ وكون المذكور جزءا، فإن الجزء يدل على الكل، كما يدل الكل على الجزء، ومن ذلك قوله تعالى (ولا ينفقونها في سبيل الله) فإن الذهب والفضة بعض المكنوزات، فأغنى ذكرهما عن ذكر الجميع حتى كأنه قيل: والذين يكنزون أصناف ما يُكْنز ولا ينفقونها، ومن ذلك أيضا قول الشاعر:
ولو حلفت بين الصَّفا أمُّ مَعْمَر
…
ومروتها بالله بَرَّتْ يمينُها
فأعاد الضمير إلى مكة لأن الصفا جزء منها، وذكر الجزء مُغْنٍ عن ذكر الكل في بعض الكلام. ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى (كلُّ من عليها فانٍ) فيكون الضمير للدنيا وإن لم يجرد ذكرها في هذه السورة، لأن ما جرى ذكره بعضها، والبعض يدل.
وقد يستغنى عن ذكر صاحب الضمير بذكر ما لصاحبه بوجه ما كالاستغناء بمستلزِم عن مستلزَم، فمن ذلك قوله تعالى (فمن عُفِي له من أخيه شيء فاتِّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) فعُفي يستلزم عافِيًا فأغنى ذلك عن ذكره، وأعيد الهاء من إليه عليه. ومثال هذا أيضًا قول الشاعر:
فإنَّك والتأبينَ عُرْوَة بعد ما
…
دعاكَ وأيدينا إليه شوارعُ
لكا لرَّجُل الحادي وقد تَلَع الضُّحى
…
وطيرُ المنايا فوقهن أوَاقع
فالحادي يستلزم إبلا مَحْدُوّة، فأغنى ذلك عن ذكرهن، وأعاد ضمير فوقهن عليهن، ومثل هذا قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) ففاعل توارت ضمير
الشمس ولم تذكر، لكن أغنى عن ذكرها ذكر العشي وأوله وقت الزوال، فذكره يستلزم معنى الشمس فكأنها مذكورة، ويجوز أن يكون فاعل توارت ضمير الصافنات.
وقد يستغنى عن ذكر صاحب الضمير بذكر ما يصاحبه ذكْرًا أو استحضارا، كذكر الخير وحده متلوا بضمير اثنين مقصود بهما المذكور وضده، كقول الشاعر:
وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أمرا
…
أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني
وقد يعاد الضمير على المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له كقوله تعالى (إنا جعلنا في أعناقِهم أغلالا فهي إلى الأذقان) فهي عائد على الأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال، فأغنى ذكر الأعناق عن ذكرها، ومثله قوله تعالى (وما يُعَمَّرُ من مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ من عمره) أي من عمر غير المعمَّر، فأعيد الضمير على غير المعمر، لأن ذكر المعمَّر مُذَكّر به لتقابلهما، فكان مصاحبه في الاستحضار الذهني.
ص: ويقدم الضمير المكمل معمول فعل على مُفَسِّرٍ صريح كثيرا إن كان المعمول مُؤخّر الرتبة، وقليلا إن كان مُقَدَّمهان وشاركه صاحب الضمير في عامله.
ش: مثال ما يقدم كثيرا اضرب غلامَه زيدٌ، وغلامَه ضربَ زيدٌ، وضربَ غلامَ أخيه زيدٌ، وغلامَ أخيه ضربَ زيدٌ، وما أراد أخذ زيدٌ، وضربَ جاريةً يحبُّها زيدٌ، وهذه الأمثلة وأشباهها مندرجة تحت قولي: المكمل معمول فعل، لأن المضاف إليه يكمل المضاف، ومعمول الصلة يكمل الموصول، كما يكمل "ما" بفاعل "أراد" الممثل به، ومعمول الصفة مكمل للموصوف كما تكمل جارية بفاعل يحبها.
ومثل: ضرب غلامه زيدٌ، قوله تعالى (فأوْجَس في نفسه خيفةً موسى).
ومثل: غلامَه ضرب زيدٌ، قول العرب: في بيته يُؤْتَى الحكم، وشَتَّى تَئُوبُ الحَلبَةُ، فإن بيته في موضع نصب بيؤتى والهاء عائدة على الحكم، وقد تقدما على العامل والمفسر، وشتّى حال من الحَلبَة وفيه ضمير عائد عليهم وقد تقدما على العامل والمفسِّر. والكوفيون لا يجيزون مثل هذا. وسماعه عن فصحاء العرب، وهو حجة عليهم.
ومثال: غلامَ أخيه ضربَ زيدٌ قول الشاعر:
شرَّ يَوْمَيْها وأغواه لها
…
ركبتْ عَنْزٌ بِحِدْجٍ جَمَلا
لأن شر يوميها ظرف لركبت.
ومثل: ما أراد أخذ زيد، قول رجل من العرب:
ما شاء أنشأ ربِّي والذي هو لم
…
يشأ فلستَ تراه ناشئا أبدا
ومثال الضمير الذي يتقدم قليلا قول حسان يرثي مطعم بن عدي جد نافع بن جبير:
ولو أن مَجْدًا أخْلَدَ الدهرَ واحدا
…
من الناس أبقى مجدُه الدهرَ مُطْعِما
وقال غيره:
كَسا حِلْمُه ذا الحِلْمِ أثوابَ سُؤْدَدٍ
…
ورَقَّى نداه ذا الندى في ذُرا المجد
وقال:
لما رأى طالِبُوه مُصْعَبا ذُعِرُوا
…
وكاد لو ساعد المقْدُورُ ينتصر
وقال:
لقد جاز من يعني به الحمدُ إن أبَى
…
مكافأة الباغين والسفهاء
وأنشد أبو الفتح بن جني:
ألا ليتَ شعري هل يَلُومَنَّ قومُه
…
زُهَيْرًا على ما جَرَّ من كل جانب
وأنشد أيضا:
جَزَى بنوه أبا الغِيلان عن كِبَر
…
وحُسْنِ فعل كما يُجْزى سِنِمَّارُ
والنحويون إلا أبا الفتح يحكمون بمنع مثل هذا، والصحيح جوازه لوروده عن العرب في الأبيات المذكورة وغيرها، ولأن جواز نحو: ضرب غلامُه زيدا، أسهل من جواز: ضربوني وضربت الزيْدِين،، ونحو: ضربته زيدا، على إبدال زيد من الهاء. وقد أجاز الأولَ البصريون، وأُجيز الثاني بإجماع، حكاه ابن كيسان، وكلاهما فيه ما في: ضرب غلامُه زيدا من تقديم ضمير على مُفَسِّر مُؤَخر الرتبة، لأن مفسِّر واو ضربوني معمولُ معطوفٍ على عاملها، والمعطوف ومعمولهُ أمكن في استحقاق التأخير من المفعول بالنسبة إلى الفاعل، لأن تقدم المفعول على الفاعل
يجوز في الاختيار كثيرا، وقد يجب، وتقدم المعطوف وما يتعلق به على المعطوف عليه بخلاف ذلك، فيلزم من أجاز: ضربوني وضربت الزيدين أن يحكم بأولية جواز: ضربَ غلامُه زيدا، لما ذكرناه. وكذلك يلزم من أجاز إبدال ظاهر من مضمر لا مفسِّر له غيره نحو: ضربته زيدا، واللهم صل عليه الرءوف الرحيم، لأن البدل تابع، والتابع مؤخر بالرتبة، ومؤخر في الاستعمال على سبيل اللزوم، والمفعول ليس كذلك إذا لم يلزم تأخيره.
ومما حكم بجوازه لشبهه بما نحن بصدده أن يقال: ضَرَبَتْ جاريةٌ يُحبُّها زيدا، فيتقدم "يحبها" وهو مسند إلى ضمير يعود إلى زيد وإن كان متأخرا لفظا ورتبة، لأن يحبها مكمل لجارية إذ هو صفتها، فجاز تأخر مفسِّر ضميرها، كما جاز تأخر مفسر ضمير المضاف إليه نحو: ضرب غلامُه زيدا.
ولو لم يشارك صاحب الضمير المكمل به في عامله لم يجز التقديم نحو: ضربَ غلامُها جارَ هند، لأن "هند" مؤخر الرتبة من وجهين، ولا تعلق لها بضرب، بخلاف ضرب غلامُها هندًا.
فمن مثل هذا احترزت بقولي: وشاركه صاحب الضمير في عامله، فإن صاحب الضمير في: ضربَ غلامُه زيدا قد شارك المكمل به الضمير في عامله، وصاحب الضمير في: ضرب غلامُها جارَ هند غير مشارك في العامل.
ص: ويتقدم أيضا غيرَ مَنْويّ التأخير إن جُرَّ بِرُبَّ، أو رُفِعَ بِنِعْم أو شبهها أو بأول المتنازعين، أو أبدل منه المفسِّر، أو جُعِل خَبَرَه، أو كان المسَمَّى ضميرَ الشأنِ عند البصريين، وضمير المجهول عند الكوفيين.
ش: مثال المتقدم المجرور برب قولُ الشاعر أنشده أبو العباس أحمد بن يحيى:
واهٍ رَأبت وشيكا صَدْع أعظمِه
…
ورُبّه عَطِبًا أنقذتُ من عَطَبه
ومثال المتقدم المرفوع بنعم قول الشاعر:
نِعمَ امْرَأ هَرِمٌ لم تَعْرُ نائبة
…
إلا وكان لمُرْتاع بها وَزَرا
ومثال المتقدم المرفوع بأول المتنازعين قول الشاعر:
جَفَوْني ولم أجْفُ الأخلاءَ إنني
…
لغير جميلٍ من خَليلي مُهْمل
ومثال المفسَّر ببدل: اللهم صل عليه الرءوفِ الرحيم، حكاه الكسائي.
ومثال المفسَّر بخبره (إن هي إلا حياتنا الدنيا) قال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به غلا بما يُتْلى به، وأصله، إن الحياة إلا حياتنا، ثم وضع هي موضع الحياة، لأن الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت، وهذا من جيد كلامه.
وفي تنظيره بهي النفس وهي العرب ضعف، لإمكان جعل النفس والعرب بدلين.
ومثال ضمير الشأن (قل هو الله أحد) ولكل واحد منها موضع يستوفى فيه ما يحتاج إليه من البيان إن شاء الله تعالى.
ص: ولا يُفسَّر إلا بجملةٍ خبرية مُصَرَّج بجزأيها خلافا للكوفيين في نحو: ظننته قائما زيدٌ، وإنّه ضُرِب أو قام.
ش: إذا قصد المتكلم أن يستعظم السامع حديثه فقبل الأخذ فيه افتتحه بالضمير المسمى ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين، وهو بمنزلة ضمير غائب تقدم ذكره، فلذلك استتر مرفوعا بكان أو كاد أو إحدى أخواتهما، ولا يجوز عند البصريين حذف بعض الجملة التي تفسره، لأنها مؤكدة به، ومدلول به على فخامة مدلولها، واختصارها مناف لذلك فلا يجوز، كما لا يجوز ترخيم
المندوب، ولا حذف حرف النداء قبله.
فبهذا يعلم أن ما أجازه الكوفيون من: إنه ضرب، وإنه قام، ونحوهما غير مستقيم ولا سليم، لافتتاحه بمزيد الاعتناء بالمحدث عنه، واختتامه بحذف ما لا بد منه.
وأما تجويزهم نحو: ظننته قائما زيد، على أن تكون الهاء ضمير الشأن، فمردود أيضا؛ لأن سامعه يسبق إلى فهمه كون زيد مبتدأ مؤخرا، وكون ظننت ومفعوليها خبرا مقدم، وذلك مفوت للغرض الذي لأجله جيء بضمير الشأن، لأن من شرطه عدم صلاحية الضمير لغير ذلك، حتى يحصل به من فخامة الأمر ما قصده المتكلم.
ص: وإفرادُه لازمٌ، وكذا تذكيرُه، ما لم يله مؤنث، أو مذكر شُبِّه به مؤنث، أو فعلٌ بعلامة تأنيث فيرجَّح تأنيثه باعتبار القصة، على تذكيره باعتبار الشأن. ويبرز مبتدأ، واسم ما، ومنصوبا في بابي إنّ وظنّ، ويَسْتَكِنُّ في بابَيْ كان وكاد.
ش: لا يجوز أن يكون ضمير الشأن مثنى ولا مجموعا، لأنه كناية عن الشأن في التذكير وعن القصة في التأنيث، وهما مفردان فوجب إفراد ما هو كناية عنهما، فيقال: إنه أخواك منطلقان، وإنها جاريتاك حسنتان، وإنه إخوتك صالحون، وإنها إماؤك مُطيعات، ولا يؤنث إلا إذا وليه مؤنث كقوله تعالى (فإذا هي شاخصةٌ أبصارُ الذين كفروا) أو مذكر شُبِّه به مؤنث نحو: إنها قمرٌ جاريتك، أو فعل بعلامة تأنيث مسندا إلى مؤنث كقوله تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار) وقول الشاعر:
على أنها تَعْفُو الكلومُ وإنما
…
نُوكلُ بالأدنى وإنَ جَلْ ما يمضي
فهذا وأمثاله التأنيث فيه أجود من التذكير، لأن مع التأنيث مشاكلة تحسن اللفظ
مع كون المعنى لا يختلف، إذ القصة والشأن بمعنى واحد، والتذكير مع ذلك جائز، كما قال أبو طالب:
وإنْ لا يكنْ لحمٌ غَرِيض فإنه
…
تُكَبُّ على أفواهِهن الغرائرُ
وكما قال غيره:
نَخَلَت له نَفْسِي النصيحةَ إنَّه
…
عند الشدائد تذهبُ الأحقادُ
فلو كان المؤنث الذي في الجملة بعد مذكر لم يُشبَّه به مؤنث فضلة أو كالفضلة لم يُكْتَرث بتأنيثه فيؤنث لأجله الضمير، بل حكمه حينئذ التذكير، كقول الشاعر:
ألا إنّه من يلغ عاقِبة الهوى
…
مطيع دواعيه يبؤ بهوان
وكذلك لا يكترث بتأنيث ما هو كفضله، كقوله تعالى (إنّه من يأتِ ربَّه مُجرِما فإن له جهنم) فذكّر تعالى الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة، لأنها في حكم الفضلة، إذ المعنى: من يأت ربه مجرما فجزاؤه جهنم.
وكذلك لا يُكْتَرَثُ بتأنيث ما ولِي الضمير من مؤنثٍ شبِّه به مذكر نحو: إنه شمس وجهك.
ولا بتأنيث فاعل فعل وَلِي الضمير بلا علامة تأنيث نحو: إنه قام جاريتك.
وبروزه مبتدأ كقوله تعالى (قل هو الله أحد).
وبروزه اسم ما كقول الشاعر:
وما هو مَنْ يَأسُو الكُلُومَ ويُتَّقَى
…
به نائباتُ الدهر كالدَّائم البخل
وبروزه في باب إن كقوله تعالى (وإنه لما قام عبد الله يدعوه).
وفي باب ظن كقول الشاعر:
علمتُه الحقُّ لا يخفى على أحد
…
فكُنْ مُحِقًّا تنل ما شئتَ من ظَفَر
واستكنانه في باب كان كقول الشاعر:
إذا مِتُّ كان الناسُ صنفان شامتٌ
…
وآخرُ مثْن بالذي كنت أصنع
واستكنانه في باب كاد كقوله تعالى (كاد يزيغُ قلوب فريق منهم) في قراءة حمزة وحفص.
ص: ويُبْنى المُضْمَرُ لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا وجُمودا، أو للاستغناء باختلاف صِيَغِه لاختلاف المعاني.
وأعلاها اختصاصا ما للمُتكلم، وأدناها ما للغائب، ويُغَلَّبُ الأخص في الاجتماع.
ش: المراد بشبه الحرف وضعا كون بعض المضمرات على حرف واحد كتاء فعلت، وكاف حدثتك. وعلى حرفين كنا، فبناء ما هو كذا واجب لخروجه عن وضع الأسماء المختصة والتحاقه بوضع الحروف، وحملت البواقي على هذه، لأن هذه أصول أو كالأصول، وليجري الباب على سنن واحد.
والمراد بالافتقار كون المضمر لا تتم دلالته على مسماه إلا بضميم من مشاهدة أو ما يقوم مقامها، فأشبه بذلك الحرف لأنه في الغالب لا يفهم معناه بنفسه بل مع ضميم.
والمراد بالجمود عدم التصرف في لفظه بوجه من الوجوه حتى بالتصغير، وبأن يوصف أو يوصف به كما فعل بالمبهمات، وبأن يبنى منه مفعلة دالا على الكثرة كما فعل بالمتمكن من الأسماء، وإن لم يكن مشتقا، كمسْبعة لموضع كثرة السباع، ومَذْأبة لموضع كثرة الذئاب.
والمراد باختلاف صيغه لاختلاف المعاني أن المتكلم إذا عبر عن نفسه خاصة فله تاء مضمومة في الرفع، وفي غيره ياء. وإذا عبر عن المخاطب فله تاء مفتوحة في الرفع، وفي غيره كاف مفتوحة في التذكير ومكسورة في التأنيث، فأغنى ذلك عن إعرابه، لأن الامتياز حاصل بدونه.
وتغليب الأخص عند الاجتماع بأن يقال: أنا وأنت فعلنا، وأنت وهو فعلتما، ولا يغلب غير الأخص فيقال في الأولى: فعلتما، ولا في الثاني فعلا.
فصل: ص: من المضمرات المسمَّى عند البصريين فَصْلا وعند الكوفيين عمادا، ويقع بلفظ المرفوع المنفصل، مطابقًا لمعرفةٍ قبلُ، باقي الابتداء أو منسوخه، ذي خبرٍ بعدُ، معرفة أو كمعرفة في امتناع دخول الألف واللام عليه. وأجاز بعضهم وقوعه بين نكرتين كمعرفتين، وربما وقع بين حال وصاحبها، وربما وقع بلفظ الغيبة بعد حاضرٍ قائمٍ مقامَ مُضاف.
ش: الضمير المسمى فصلا وعمادا كهو من قولك: حسبت زيدا هو الكريم، فسمي فصلاً للفصل به بين شيئين لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولانفصال السامع عن توهم الخبر تابعًا. وسمي عمادًا لأنه معتمد عليه في تقرير المراد ومزيد البيان.
وذكر التابع أولى من ذكر النعت، لأن الضمير المشار إليه قد يقع بعد ما لا ينعت، وقبل ما لا ينعت به. ولا بد من مطابقةٍ لما قبله في حضوره وغيبته وتذكيره وتأنيثه، وإفراده وتثنيته وجمعه. ولا يكون ما قبله عند غير الأخفش إلا مبتدأ أو ما كان مبتدأ، ثم دخل عليه بعض نواسخ الابتداء. وقد تناول هذا قولي "باقي الابتداء أو منسوخه".
وقلت "مطابقًا لمعرفة قبلُ وذي خبر بعدُ" ليعلم أنه لو قدم الخبر لاستغنى عنه.
ولا يكون ما بعده إلا معرفة أو مضارعًا لها في عدم قبول حرف التعريف، كحسبتك أنت مثله أو خيرًا منه. ولو أوقع قبل نكرة تقبل حرف التعريف لم يجز.
والإشارة بوقوعه بين نكرتين كمعرفتين إلى نحو: ما أظن أحدًا هو خيرا منك، فإن أحدًا بما فيه من العموم شبيه بالمعرف بالألف واللام الجنسية، وخيرًا منك شبيه بمعرفة في امتناع دخول حرف التعريف عليه. وقد حكى سيبويه أن أهل المدينة يجيزون وقوع الفصل بين نكرتين كهاتين. وروى عن يونس أن أبا عمرو رآه لحنا. ولم يجعلوه فصلا وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفا ولا بدلا لنكرة.
وحكى الأخفش أن بعض العرب يأتي بالفصل بين الحال وصاحبها فيقول: ضربت زيدًا هو ضاحكا، وعلى هذه اللغة قرأ بعضهم (هؤلاءُ بناتي هنَّ أطهرَ لكم) بنصب أطهر.
وأشرت بقولي "وربما وقع بلفظ الغيبة بعد حاضر" إلى قول الشاعر:
وكائِنْ بالأباطِح من صديقٍ
…
يراني إنْ أُصِبْتُ هو المصابا
تقديره عند أكثرهم: يرى مصابي إن أصبتُ هو المصاب، فحذف المضاف إلى الياء وأقامه في اللفظ مقامه، وطابق الفصل المحذوف لا الثابت. ويجوز أن يكون هو توكيدا لضمير الفاعل.
ص: ولا يتقدَّمُ مع الخبر المُقَدَّم خلافا للكسائي، ولا موضع له من الإعراب على الأصح، وإنما تتعين فصليته إذا وليه منصوبٌ وقُرِنَ باللام، أو وَلِي ظاهرا، وهو مبتدأ مخبر عنه بما بعده عند كثير من العرب.
ش: لما كانت فائدة الفصل صون الخبر من توهمه تابعًا لزم من ذلك الاستغناء عنه إذا قدم الخبر، لأن تقدمه يمنع من توهمه تابعًا، إذ التابع لا يتقدم على المتبوع، فلو قدم المفعول الثاني: في حسبت زيدًا هو خيرًا منك، لترك الفصل لعدم الحاجة
إليه مع كونه في محله، فلأن يترك ولا يجاء به بعد الخبر المقدم أحق وأولى. فظهر بهذا بطلان ما أجازه الكسائي رحمه الله من ذلك.
ولا موضع له من الإعراب، خلافًا لقوم يجعلونه توكيدًا لما قبله، قال سيبويه: لو كان كذلك لجاز: مررت بعبد الله هو نفسه، ثم قال:"ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا لنحن الصالحين، فالعرب تنصب هذا، والنحويون أجمعون، ولا يكون هو ونحن صفة وفيهما اللام" يعني بالصفة التوكيد. ثم قال سيبويه "فصارت هو وأخواتها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغوا، في أنها لا تغير ما بعدها عن حاله قبل أن تذكر". فكلام سيبويه مشعر بأن الفصل لا موضع له من الإعراب، ويؤيد ذلك عدم تغيره لتغيِّر ما قبله كقولك: زيدٌ هو الفاضلُ، وعلمت زيدًا هو الفاضلَ، فلو كان له موضع من الإعراب لقلت: علمت زيدا إياه الفاضل، كما تقول: ما أكرمني إلا أنت، وما أكرمت إلا إياي.
والحاصل أن الضمير المشار إليه إذا وقع بين مخبر عنه وخبر متأخر، فإن كان الخبر نكرة لا تشبه المعرفة كشبه مثلك وخير منك امتنعت الفصلية، فإن كان معرفة أو شبهها ورفعته احتمل أن يكون الضمير فصلا وأن يكون مبتدأ، فإن نصبته وقرن الضمير باللام المفتوحة تعينت الفصلية ظاهرا كان ذو الخبر أو ضميرا. وإن نصبت الخبر ولم يقرن الضمير باللام تعينت الفصلية إن كان المخبر عنه ظاهرًا، وجاز التوكيد والفصلية إن كان المخبر عنه ضميرا.
ومن العرب من يجعل الضمير المشار إليه مبتدأ ويرفع ما بعده بمقتضى الخبرية مطلقا، قال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيدًا هو خيرٌ منك، وحدثنا عيسى أنَّ ناسًا كثيرًا من العرب يقولون (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون) وأنشد:
تبكي على لُبْنى وأنت تركتها
…
وكنت عليها بالملا أنتَ أقْدر