المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ١

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر

‌باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر

ص: فبلا شَرْطٍ: كان، وأضحى، وأصبح، وأمسى، وظل، وبات، وليس، وصار.

وصلة لما الظرفية دام.

ومنفية بثابت، متصل النفي، مذكور غالبا، متصل لفظا أو تقديرا، أو مطلوبة النفي: زال ماضي يزال، وانفك، وبرح، وفتئ وفتأ وأفْتأ، ووَنى، ورام مُرادِفتاها.

ش: شرط الفعل المنسوب إلى هذا الباب أن يدخل على جزأي إسناد، مباين ثانيهما للحالية بتمحض تعريف، أو بتمحض جمود، أو بعدم الاستغناء عنه دون عارض، نحو قولك: صار الذي آمَنَ أخانا بعد أن كان عدونا، وكان مالك فضة فصار ذهبا، ففي منصوبي كان وصار من مباينة الحال ما ذكرته، فمن ألحق بهما فعلا لا يساويهما في هذا الاعتبار فهو محجوج، وسيأتي القول في ذلك مبسوطا إن شاء الله تعالى.

ولأفعال هذا الباب انقسامات بنسب مختلفة: فأول انقساماتها إلى ما يعمل بلا شرط، أي موجبا وغير موجب، وصلة وغير صلة، وهو الثمانية الأول.

وإلى ما يعمل بشرط كونه صلة لما الظرفية المصدرية التي يقصد بها وبصلتها التوقيت كقولك: نجاتُك ما دام الله ملجأك.

وإلى ما يعمل بشرط كونه منفيا أو منهيا عنه، وهو أربعة أفعال مشهورة ملحق بها اثنان. فالأربعة: زال، وانفك، وبرح، وفتئ، وقد يقال: فَتأ وأفتأ.

والملحقات بهن: ونى ورام، التي مضارعها يَريم. ومعنى الستة إذا نفيت داخلة على الجملة، الإعلام بلزوم مضمون الجملة في المضي أو في الاستقبال نحو: ما زال العلم حسنا، ولن يزال الجهل قبيحا.

ص: 333

وقد تناول قولي: منفية، المنهي عنه، لأنه منفي في المعنى، والمنفي بليس، فالمنهي عنه كقول الشاعر:

صاحِ شَمِّر ولا تزلْ ذاكر المو

ت فنِسْيانُه ضلالٌ مُبين

والمنفي بليس كقول الشاعر:

ليس ينفكُّ ذا غِنًى واعتزازِ

كلُّ ذي عِفَّةٍ مُقَلٍّ قَنُوع

وقيدت "زال" بكون مضارعها يزال، احترازا من زال بمعنى تحول، فمضارعه يزول، وهو فعل لازم، احترازا من زال الشيء بمعنى عزله، فمضارعه يزيل.

وقيد: وَنى ورام، الملحقتان بهن بمرادفتهما لهن، احترازا من ونى بمعنى فتر، ومن رام بمعنى حاول، وبمعنى تحوّل، ومضارع التي بمعنى حاول يروم، ومضارع التي بمعنى تحول يريم، وهكذا مضارع المرادفة زال، وهي وونى بمعنى زال غريبتان، ولا يكاد النحويون يعرفونهما، إلا من عُنِيَ باستقراء الغريب. ومن شواهد استعمالها قول الشاعر:

لايَني الخِبُّ شِيمةَ الخَبِّ ما دا

م فلا تحسبنَّه ذا ارعواءِ

وقال آخر في إعمال يريم العمل المشار إليه:

إذا رُمتَ ممن لا يَريم متيما

سُلُوًّا فقد أبْعدتَ في رَوْمِك المرمي

وأشرت بقولي فيهما وفي أخواتهما: "منفية بثابت متصل غالباً" إلى أن نافيهما قد يحذف، كقوله تعالى:(تَفْتَأ تذكر يوسف) أي لا تزال تذكر يوسف. ومن حذف لا فيهما قول الشاعر:

ص: 334

تَنْفكُّ تسمعُ ما حَيِيـ

ـت بهالكٍ حتى تكونَه

ومنه قول امرأة من العرب:

تزال حبالٌ مُبْرَماتٌ أعَدّها

لها ما مشى منها على خُفِّه الجمل

أي لا تزال. وأشرت بقولي: "متصل غالبا" إلى أن النافي قد يوجد منفصلا كقول الشاعر:

ما خِلْتُني زِلتُ بعدكم ضَمِنًا

أشكو إليكم حُمُوَّة الألم

أراد: خلتني ما زلت بعدكم، وخلت جاءت هنا بمعنى أيقنت، وهو أيضا غريب.

ومن الفصل بين النافي والمنفي في هذا الباب قول الآخر:

ولا أُراها تزال ظالمةً

تُحْدِثُ لي قُرْحةً وتَنْكَؤُها

أراد: وأراها لا تزال.

ص: وكلها تدخل على المبتدأ إن لم يخبر عنه بجملة طلبية، ولم يلزم التصدير، أو الحذف، أو عدم التصرف، أو الابتدائية لنفسه أو مصحوب لفظي أو معنوي، وندر: وكُوني بالمكارم ذَكِّرِيني.

ش: جرت عادة النحويين بإطلاق القول في كون هذه الأفعال تدخل على المبتدأ، فلا يبينون امتناع بعض المبتدآت من دخولها عليها، وقد تعرض لذلك بعضهم دون حصر، وقد بينت ما أغفلوه من ذلك، فإن الحاجة داعية إلى معرفته.

ص: 335

فمن ذلك المبتدأ المخبر عنه بجملة طلبية، نحو: زيدٌ اضربه، وعمرٌو لا تصحبه، وبشْرٌ هل أتاك؟ لا تدخل عليه هذه الأفعال ولا غيرها من العوامل اللفظية، وقول من قال: وكُوني بالمكارم ذَكِّريني

نادر لأن الخبر فيه جملة طلبية.

ومن المبتدآت التي لا تدخل عليها هذه الأفعال كل مبتدأ تضمن معنى الاستفهام أو الشرط فاستحق لذلك أن يكون مُصَدَّرا نحو: أيُّ القوم أفضل؟ وأيُّهم يأت فله حق. وكذا المبتدأ المضاف إلى ما تضمن ذلك.

ومما يجب تصديره فيمتنع دخول هذه الأفعال عليه المقرون بلام الابتداء، لأن لها صدر الكلام، فلا يعمل فيما اقترنت به غير الابتداء.

ومما لا تدخل عليه هذه الأفعال ما لزم حذفه، كالمبتدأ المنوي قبل النعت المقطوع، كقولك: الحمدُ للهِ الحميدُ، بالرفع، وقد تقدم الإعلام بما يحذف من المبتدآت على سبيل اللزوم.

ومما لا تدخل عليه هذه الأفعال ما لا يتصرف. نحو: طُوبَى للمؤمن، وسلامٌ عليك، وويلٌ للكافر. وما لزم الابتدائية بنفسه نحو قولك: أن تفعل، أقاموه مقام ينبغي لك أن تفعل، فلم تدخل الأفعال عليه، كما لا تدخل على ما أقيم مقامه. وكذا قولهم: أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدا، أقاموه مقام: ما يقول ذلك رجل إلا زيد، فعاملوه معاملته في امتناع دخول الفعل عليه، ومجيء إلا بعده.

ومما لزم الابتدائية لمصحوب لفظي المبتدأ الواقع بعد لولا الامتناعية، والواقع بعد إذا المفاجأة.

ومما لزم الابتداء لمصحوب معنوي "ما" التعجبية، وما بعد "لله" في التعجب، نحو: لله درك. ومن اللازم الابتدائية لمصحوب معنوي ما جرى مَثَلا،

ص: 336

نحو قولهم: الكلابُ على البقر، والعاشيةُ تهيج الآبية، والإيناسُ قبل الإبْساس. فهذه وأمثالها من المبتدآت التي وردت أمثالا لا تفارقها الابتدائية، لأن الأمثال لا تغير.

ص: فترفعه ويسمى اسما وفاعلا، وتنصب خبره ويسمى خبرا ومفعولا، ويجوز تعدده خلافا لابن درستويه.

ش: الشائع في عرف النحويين التعبير عن مرفوع هذا الباب ومنصوبه باسم وخبر، وعبر سيبويه عنهما باسم الفاعل واسم المفعول، فقال قاصدا هذا الباب:"هذا باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد" وكذا فعل المبرد، فإنه ذكر هذه الأفعال في بابها ثم قال:"وهذه أفعال صحيحة كضرب، ولكنا أفردنا لها بابا، إذ كان فاعلها ومفعولهما يرجعان إلى معنى واحد". فأيَّ التعبيرين استعمل النحوي أصاب، ولكن الاستعمال الأشهر أولى.

وإذا دخل شيء من هذه الأفعال على خبر متعدد نصب الجميع، كما ينصب الخبر الذي لم يتعدد، فيقال في: هذا حلوٌ حامضٌ: كان هذا حلوا حامضا، وذلك أن ارتفاع الخبرين فصاعدا ثبت بعامل، أي بالابتداء، وكان وأخواتها أقوى منه، ولذلك انتسخ عمله بعملها، فكما جاز للعامل الأضعف أن يعمل في خبرين فصاعدا، كذلك يجوز للعامل الأقوى، بل هو بذلك أولى.

ص: 337

وذهب ابن درستويه إلى منع تعدد الخبر في هذا الباب، لأنه شبيه بمفعول ما يتعدى إلى مفعول واحد، فكما لا يتعدى الفعل المتعدي إلى واحد إلى أكثر من واحد، لا يُنْصَب بأفعال هذا الباب إلا خبر واحد، وهذا منع لا يلتفت إليه، ولا يُعَرَّج عليه.

ص: وتسمى نواقص لعدم اكتفائها بمرفوع، لا لأنها تدل على زمن دون حدث، فالأصح دلالتها عليهما إلا ليس.

ش: زعم جماعة منهم ابن جني وابن برهان والجرجاني أن كان وأخواتها تدل على زمن وقوع الحَدَث، ولا تدل على حدث، ودعواهم باطلة من عشرة أوجه: أحدها: أن مدعي ذلك معترف بفعلية هذه العوامل، والفعلية تستلزم الدلالة على الحدث والزمان معا، إذ الدال على الحدث وحده مصدر، والدال على الزمان وحده اسم زمان، والعوامل المذكورة ليست بمصادر ولا أسماء زمان، فبطل كونها دالة على أحد المعنيين دون الآخر.

الثاني: أن مدعي ذلك معترف بأن الأصل في كل فعل الدلالة على المعنيين، فحكمه على العوامل المذكورة بما زعم إخراج لها عن الأصل، فلا يقبل إلا بدليل.

الثالث: أن العوامل المذكورة لو كانت دلالتها مخصوصة بالزمان، لجاز أن تنعقد جملة تامة من بعضها ومن اسم معنى، كما ينعقد منه ومن اسم زمان، وفي عدم جواز ذلك دليل على بطلان دعواه.

الرابع: أن الأفعال كلها إذا كانت على صيغة مختصة بزمان معين فلا يمتاز بعضها من بعض إلا بالحدث كقولنا: أهان وأكرم، فإنهما متساويان بالنسبة إلى الزمان، مفترقان بالنسبة إلى الحدث. فإذا فرض زوال ما به الافتراق، وبقاء ما به التساوي، لزم ألا يكون بين الأفعال المذكورة فرق ما دامت على صيغة واحدة، ولو كان الأمر كذلك، لم يكن فرق بين: كان زيد غنيا، وصار غنيا، والفرق حاصل، فبطل ما يوجب خلافه. ولو كان الأمر كذلك لزم تناقض قول من قال: أصبح زيد

ص: 338

ظاعنا وأمسى مقيما، لأنه على ذلك التقدير بمنزلة قوله: زيد قبل وقتنا ظاعن مقيم، وإنما يزول التناقض بمراعاة دلالة الفعلية على الإصباح والإمساء، وذلك هو المطلوب.

الخامس: أن من جملة العوامل المذكورة انفك، ولا بد معها من ناف، فلو كانت لا تدل على الحدث الذي هو الانفكاك، بل على زمن الخبر، لزم أن يكون معنى: ما انفك زيد غنيا: ما زيد غنيا في وقت من الأوقات الماضية، وذلك نقيض المراد، فوجب بطلان ما أفضى إليه.

السادس: أن من جملة العوامل المذكورة دام، ومن شرط إعمالها عمل كان كونها صلة لما المصدرية، ومن لوازم ذلك صحة تقدير المصدر في موضعها، كقولك: جُدْ ما دمت واجدا، أي: جد مدة دوامك واجدا، فلو كانت دام مجردة عن الحدث لم يقم مقامها اسم الحدث.

السابع: أن هذه الأفعال لو لم يكن لها مصادر لم تدخل عليها أنْ، كقوله تعالى:(إلا أنْ تكونا ملكين) لأنّ أنْ هذه وما وصلت به في تأويل المصدر، وقد جاء مصدرها صريحا في قول الشاعر:

ببذلٍ وحِلْم سادَ في قومه الفتى

وكونُك إياه عليك يسيرُ

وقد حكى أبو زيد في كتاب الهمزة مصدر فتئ مستعملا، وحكى غيره: ظللت أفعل كذا ظَلولا. وجاءوا بمصدر كاد في قولهم: لا أفعل ذلك ولا كيدا، أي ولا أكاد كيدا، وكاد فعل ناقص من باب كان، إلا أنها أضعف من كان، إذ لا يستعمل لها اسم فاعل، واسم فاعل كان مستعمل، ولا يستعمل منها أمر، والأمر من كان مستعمل، وإذا لم يمتنع استعمال مصدر كاد، وهي أضعف من كان، فأن لا يمتنع استعمال مصدر كان أحق وأولى.

ص: 339

الثامن: أن هذه الأفعال لو كانت لمجرد الزمان لم يغن عنها اسم الفاعل، كما جاء في الحديث:"إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا" وقال سيبويه: "قال الخليل: هو كائنُ أخيك على الاستخفاف، والمعنى: كائنٌ أخاك" هذا نصه. وقال الشاعر:

وما كلُّ مَنْ يُبْدِي البشاشة كائنا

أخاك إذا لم تُلْفِه لك مُنْجِدا

لأن اسم الفاعل لا دلالة فيه على الزمان، بل هو دال على الحَدث وما هو به قائم، أو ما هو عنه صادر. ومثل ذلك قول الآخر:

قضى الله يا أسماءُ أنْ لستُ زائلا

أحِبُّك حتى يُغْمِضَ العينَ مُغْمِضُ

أراد: لست أزال أحبك، فأعمل اسم الفاعل عمل الفعل.

التاسع: أن دلالة الفعل على الحدث أقوى من دلالته على الزمان، لأن دلالته على الحدث لا تتغير بقرائن، ودلالته على الزمان تتغير بالقرائن، فدلالته على الحدث أولى بالبقاء من دلالته على الزمان.

العاشر: أن هذه الأفعال لو كانت مجردة عن الحدث، مخلصة للزمان لم يُبْن منها أمرن كقوله تعالى:(كونوا قَوّامين بالقسط) لأن الأمر لا يبنى مما لا دلالة فيه على الحدث.

وما ذهبت إليه في هذه المسألة من كون هذه الأفعال دالة على مصادرها، هو الظاهر من قول سيبويه والمبرد والسيرافي. وأجاز السيرافي الجمع بين كان ومصدرها توكيدا، ذكر ذلك في شرح الكتاب.

فإذا ثبت بالدلائل المذكورة أن هذه الأفعال غير ليس دالة على الحدث والزمان

ص: 340

كغيرها من الأفعال، فليعلم أن سبب تسميتها نواقص إنما هو عدم اكتفائها بمرفوع، وإنما لم تكتف بمرفوع، لأن حدثها مقصود إسناده إلى النسبة التي بين معموليها، فمعنى قولك: كان زيد عالما، وجد اتصاف زيد بالعلم، والاقتصار على المرفوع غير واف بذلك، فلهذا لم يستغن به عن الخبر التالي، وكان الفعل جديرا بأن ينسب إلى النقصان.

وقد أشار إلى هذا المعنى سيبويه بقوله: "تقول: كان عبد الله أخاك، فإنما أردت أن تخبر عن الأخوّة" فبيّن أن كان مسندة إلى النسبة، فمن ثمّ بينا عدم الاكتفاء بالمرفوع.

ص: وإنْ أريد بكان ثَبَت، أو كَفَل، أو غزل، وبتواليها الثلاثِ دخل في الضُّحى والصباح والمساء، وبظل دام أو طال، وببات نزل ليلا، وبصار رجع أو ضَمّ أو قطع، وبدام بقِي أو سكن، وببرح ذهب أوظهر، وبونى فتر، وبرام ذهب أو فارق، وبانفك خلص أو انفصل، وبفتأ سكّن أو أطْفأ، سميت تامة، وعملت عمل ما رادفت. وكلها تتصرف إلا ليس ودام، ولتصاريفها ما لها، وكذا سائر الأفعال.

ش: جميع هذه الأفعال تكون ناقصة وتامة، إلا ليس، وزال التي مضارعها يزال، وفتِئ بكسر التاء مهموزا، وكذا فَتَأ وأفتأ مراد فتاها، وحكم ما ينسب إلى التمام حكم ما هو بمعناه.

وأجاز أبو علي في الحلبيات وقوع زال تامة، وقد يعضد رأيه في ذلك بقول الراجز:

ص: 341

وفي حُمَيّا بَغْية تَفجُّسُ

ولا يزال وهو ألْوَى ألْيَسُ

فاستغنى بالجملة الحالية عن الخبر. ولنا أن نقول: الخبر محذوف، والتقدير: ولا يزال متفجسا، وهو ألوى أليس، والتفجس التكبر، والأليس الشجاع.

وتتم كان بأن يراد بها معنى ثبت، وثبوت كل شيء بحسبه، فتارة يعبر عنه بالأزلية نحو: كان الله ولا شيء معه. وتارة يعبر عنه بحَدَث، كقوله:

إذا كان الشتاءُ فأدْفِئوني

فإنّ الشيخَ يُهرِمه الشتاءُ

وتارة يعبر عنه بحضرن كقوله تعالى: (وإنْ كان ذو عُسْرة).

وتارة يعبر عنه بقدر أو وَقَع نحو: ما شاء الله كان.

وتتم كان أيضا بأن يراد بها معنى كفل، فتتعدى بعلى، ومصدرها كِيانة. وتتم كان أيضا مرادا بها معنى غزل، ذكر ذلك أبو محمد البطليوسي.

وتتم توالي كان الثلاث وهن: أضحى وأصبح وأمسى، بأن يراد بهن الدخول في الضحى والصباح والمُسْي، كقوله تعالى:(فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) وكقول الشاعر:

ومِنْ فَعَلاتي أنني أُحْسِنُ القِرَى

إذا الليلةُ الشهباءُ أضْحَى جليدها

وتتم ظل بأن يراد بها معنى دام أوطال.

وتتم بات في قولهم: بات بالقوم، أو بات القومَ إذا نزل بهم ليلا، فتستعمل متعدية بالباء وبنفسها.

وتتم صار بأن يراد بها معنى رجع فتتعدى بإلى، أو معنى ضم أو قطع فتتعدى

ص: 342

بنفسها إلى مفعول واحد.

وتتم دام بأن يراد بها معنى بقي، كقوله تعالى:(خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) أو سكن، ومنه الحديث:(نَهى أن يُبال في الماء الدائم) أي الساكن.

وتتم برح بأن يراد بها معنى ذهب، أو معنى ظهر، وقد فسر قولهم: برح الخفاء، بالوجهين.

وتتم ونى بأن يراد بها معنى فتر، وهو أشهر من استعمالها بمعنى دام الناقصة.

وتتم انفك بأن تكون مطاوع فك الخاتم وغيره إذا فصله، والأسير إذا خلصه.

وتتم فتئ إذا أراد بها كسر وأطفأ، قال الفراء: فتأته عن الأمر كسرته، وفتأت النار أطفأتها.

وما سوى ليس ودام من أفعال هذا الباب يتصرف، أي يستعمل منه ماض ومضارع وأمر واسم فاعل ومصدر، إلا أن الأمر لا يتأتى صوغه من ملازمات النفي، ولمضارعها والأمر ما لماضيها، وكذا جميع الأفعال المتصرفة.

ص: ولا تدخل ليس وتوابعها على ما خبره مفرد استفهامي أو مضاف إليه، ويوافقهن في عدم الدخول على ما خبره فعل ماض صار باتفاق، والبواقي على رأي، وقد تخالفهن ليس.

ش: المراد بتوابع ليس دام وزال وانفك وبرح وفتئ وونى ورام، لأنهن تبعن ليس حين ذكرت في أول الباب.

والحاصل أن ليس والمذكورات بعدها متساويات في عدم الدخول على مبتدأ خبره مفرد استفهامي نحو: كيف زيد؟ وأين عمرو؟ أو مضاف إلى مفرد استفهامي، نحو: غلام من زيد؟

ص: 343

وصار مساوية لليس وتوابعها السبعة في عدم الدخول على مبتدأ خبره فعل ماض، وربما خالفتهن ليس فوليها فعل ماض، كما جاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أليس قد صليت معنا؟ " وحكى سيبويه عن بعض العرب: "ليس خلق الله أشعر منه، وليس قالها زيد" وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي: "وقد تخالفهن ليس" أي قد تخالف ليس صار ودام وما ذكر بعدها بالدخول على فعل ماض.

وأشرت بقولي: "والبواقي على رأي" إلى ما ذهب إليه بعض النحويين من أن كان وأصبح وأمسى وأضحى وظل وبات لا تدخل على ما خبره فعل ماض، فلا يقال على هذا الرأي: كان زيد فعل، ولا أصبح عمرو قرأ. وهذا الرأي باطل، إذ ليس لصاحبه حجة مع الاستعمال لخلافه، كقول الشاعر:

وكنّا حَسِبنا كلَّ بيضاءَ شحمةً

لياليَ لاقَيْنا جُذام وحِمْيرا

وكقول الآخر:

أمست خلاءً وأمسى أهلُها احتملوا

أخْنَى عليها الذي أخنى على لُبَد

ص: وتَرِد الخمسة الأوائل بمعنى صار، ويلحقها ما رادفها من: آض، وعاد، وآل، ورجع، وحار، واستحال، وتحوّل، وارتد، وندر الإلحاق بصار في: ما جاءت حاجتك؟ وقعدت كأنها حربة، والأصح ألا تلحق بها آل ولا قعد مطلقا، وألا يجعل من هذا الباب غدا وراح، ولا أسحر وأفجر وأظهر.

ص: 344

ش: الخمسة الأوائل هي: كان وأضحى وأصبح وأمسى وظل.

والأصل في كان الدلالة على دَوام مضمون الجملة إلى زمن النطق بها دون تعرض لانقطاع، ولذا قيل في قول الله تعالى:(وكان الله على كل شيء قديرا) أي: لم يزل على كل شيء قديرا، ومنه قول الشاعر:

ولكني مضيت ولم أجَدِّف

وكان الصبر عادةَ أولينا

ومثله قول الآخر:

وكنت إذا جاري دعا لمَضُوفةٍ

أُشَمِّرُ حتى يُنْصِفَ الساقَ مئزري

فإن قصد الانقطاع جيء بقرينة، كقوله تعالى:(إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم) وكقول الشاعر:

وكانوا أناسا يَنْفَحُون فأصبحوا

وأكثرُ ما يُعطُونك النَّظرُ الشَّزْرُ

وتستعمل بمعنى صار دالة على التحول من وصف إلى آخر، كقوله تعالى:(وبُسَّت الجبال بَسًّا* فكانت هباءً مُنْبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة).

وكقول الشاعر:

بتَيهاءَ فَقْرٍ والمطيُّ كأنها

قَطا الحَزْن قد كانت فِراخا بُيُوضُها

والأصل في: أضحى وأصبح وأمسى وظل النواقص الدلالة على ثبوت مضمونِ

ص: 345

الجملة في الضحى والصباح والمساء والنهار، وقد يَردْن بمعنى صار، كقول الشاعر:

ثم أضْحَوْا كأنهم ورقٌ جَـ

.ـفَّ فألْوَتْ به الصَّبا والدبورُ

وكقوله تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) وكقول الشاعر:

أمست خلاءً وأمسى أهلُها احتملوا

أخنى عليها الذي أخنى على لُبَد

وكقوله تعالى: (فظلت أعناقهم لها خاضعين) وزعم الزمخشري أن بات قد تستعمل بمعنى صار، وليس بصحيح، لعدم شاهد على ذلك، مع التتبع والاستقراء، وحمل بعض المتأخرين على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" ولا حاجة إلى ذلك، لإمكان حمل بات على المعنى المجمع عليه، وهو الدلالة على ثبوت مضمون الجملة ليلا، كما أن ظل غير المرادفة لصار لثبوت مضمون الجملة نهارا، كما قال الشاعر:

أظلُّ أرعَى وأبيتُ أطحنُ

الموتُ من بعضِ الحياة أهْوَنُ

ومن أصلح ما يتمسّكُ به جاعلُ بات بمعنى صار قول الشاعر:

أجِنِّي كُلَّما ذُكِرَتْ كليبٌ

أبيت كأنني أُطْوَى بجمر

ص: 346

لأن كلما تدل على عموم الأوقات، وأبيت إذا كانت على أصلها مختصة بالليل.

ومثال استحال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فاستحالت غَرْبا" ومثله قول الشاعر:

إنّ العداوةَ تستحيلُ مودةً

.بتدارُكِ الهَفَوات بالحسنات

ومثال تحول قول امرئ القيس:

فيالَكِ من نُعْمى تحوّلن أبْؤُسا

ومثله قول الآخر:

لا يُوئِسَنّكَ سُؤْل عِيقَ عنك فكم

بُؤْسٍ تحوّل نُعْمَى أنست النِّقَما

ومثال ارتد قول الله تعالى: (ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) وإنما استحق ارتد أن يكون بمعنى صار لأنه مطاوع ردّ بمعنى صيّر، كقوله تعالى:(وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو يَرُدُّونكم من بعد إيمانكم كفارا) وكقول الشاعر:

فردّ شعورَهن السُّود بيضا

وردّ وجوهَهن البيضَ سودا

وندر إلحاق جاء وقعد بصار في قولهم: ما جاءت حاجتك؟ وفي قولهم: أرهف شفرته، حتى قعدت كأنها حربة.

ص: 347

والفراء يرى استعمال قعد بمعنى صار مطردا، وجعل من ذلك قول الراجز:

لا يُقْنعُ الجاريةَ الخضابُ

ولا الوشاحان ولا الجلباب

من دون أن تلتقي الأركاب

ويقعدَ

له لُعاب

وحكى الكسائي: قعد لا يُسْألُ حاجة إلا قضاها، بمعنى: صار. ويمكن أن يكون من ذلك قول الشاعر:

ما يَقْسِم اللهُ أقبلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ

منه وأقعد كريما ناعمَ البال

وألحق قوم بأفعال هذا الباب: غدا وراح، وقد يستشهد على ذلك بقول ابن مسعود رضي الله عنه:"اغد عالما أو متعلما ولا تكن إمّعة". وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير، تغدو خِماصا، وتروح بِطانا" والصحيح أنهما ليسا من الباب، وإنما المنصوب بعدهما حال إذ لا يوجد إلا نكرة.

ص: وتوسيط أخبارها كلها جائز، ما لم يعرض مانع أو موجِب، وكذا تقديم خبر صار وما قبلها، جوازا ومنعا ووجوبا.

وقد يقدم خبر زال وما بعدها منفية بغير "ما" لا بها، خلافا لابن كيسان وللكوفيين إلا الفراء.

ولا يتقدم خبر دام اتفاقا، ولا خبر ليس على الأصح.

ش: وتوسيط الخبر كقوله تعالى: (فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا)

ص: 348

والاستشهاد بهذا أولى من الاستشهاد بقوله تعالى: (وكان حقا علينا نصرُ المؤمنين) لأن بعض القراء أجاز الوقف على "حقا" ناويا في كان ضميرا. وأمثلة التوسيط مع غير كان من أخواتها سهلة، فاستغنى عن ذكرها، والتوسيط أيضا جائز مع ليس ودام، وإن كانا لا يتصرفان، لأن الأقل محمول على الأكثر، ومثال ذلك مع ليس قول الشاعر:

سَلِي إن جَهلتِ الناسَ عنا وعنهم

فليس سواءً عالمٌ وجهولُ

ومثال ذلك مع دام قول الآخر:

لا طيبَ للعَيْشِ ما دامت مُنَغّصَةً

لذّاتُه بادّكار الموتِ والهَرَم

وإنما اختصت ليس ودام بالاستشهاد على توسيط خبرهما لأنهما ضعيفتان لعدم تصرفهما في أنفسهما، فربما اعتقد عدم تصرفهما في العمل مطلقا. وقد وقع في ذلك ابن معط رحمه الله فضمن ألفيته منع توسيط خبر ليس وما دام، وليس له في ذلك متبوع، بل هو مخالف للمقيس والمسموع، وأما مخالفته للمقيس فبيِّنة، لأن توسيط خبر ليس جائز بإجماع، مع أن فيها ما في دام من عدم التصرف، وتفوقها ضعفا بأن منع تصرفها لازم، ومنع تصرف دام عارض، ولأن ليس تشبه "ما" النافية معنى، وتشبه ليت لفظا، لأن وسطها ياء ساكنة سالمة، ومثل ذلك مفقود في الأفعال، فثبت بهذا زيادة ضعف ليس على ضعف دام، وتوسيط خبر ليس لم يمتنع، فأن لا يمتنع توسيط خبر دام لنقصان ضعفها أحق وأولى.

ونبهت بقولي: "ما لم يمنع مانع" على أن توسيط الخبر قد يمتنع، وذلك إما لسبب يقتضي وجوب تقدمه نحو: كم كان مالك؟ وأين كنت؟ وإما لسبب يقتضي وجوب تأخيره نحو: كان فتاك مولاك، وما كان زيد إلا في الدار.

ص: 349

ونبهت بقولي: "أو موجب" على أن توسيط الخبر قد يجب، وذلك إذا كان الاسم مقصودا بحصر، نحو قوله تعالى:(وما كان حجتَهم إلا أن قالوا) وقد يحمل الموجب على موجب تقديم أو توسيط على سبيل التخيير، وذلك إذا اشتمل الاسم على ضمير ما اشتمل عليه الخبر نحو: كان شريكَ هند أخوها، ووليَّها كان أبوها، فواجب في هذه المسألة وشبهها تقديم الخبر أو توسيطه، وممتنع تأخيره لئلا يتقدم الضمير على مُفَسِّرٍ مؤخرٍ رتبة ولفظا. فلو كان في مثل هذه المسألة قبل الفعل ما له صدر الكلام تعيّن التوسيط، نحو قولك: هل كان شريكَ هند أخوها؟

وأشرت بقولي: "وكذا تقديم خبر صار وما قبلها" إلى أنه يجوز تقديم الأخبار المذكورة إن لم يعرض مانع ولا موجب، فمن أسباب عروض المانع خوف اللبس نحو: كان فتاك مولاك، فمثل هذا لا يتميز فيه الاسم إلا بالتقديم، ولا الخبر إلا بالتأخير، فالتزم، وكان غيره ممنوعا، وكذا نحو: صار عدوي صديقي.

ومن أسباب عروض المانع حصر الخبر نحو: إنما كان زيد في المسجد، فتأخير الخبر في مثل هذا ملتزم، وغيره ممنوع، لأن حصر الخبر مقصود، ولا يفهم إلا بالتأخير.

ومن أسباب عروض المانع اشتمال الخبر على ضمير ما اشتمل عليه الاسم نحو: كان بَعْلُ هند حبيبَها، فتأخير الخبر في مثل هذا ملتزم، وغيره ممنوع، لأنه لو توسط أو قدم لزم عود الضمير إلى متأخر لا يتعلق به العامل. وبعض النحويين لا يلتزم تأخير الخبر في مثل هذا، لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو وسط الخبر فقيل: كان حبيبَها بعلُ هند، لم يضر، لأن الضمير عائد على ما هو كجزء مرفوع الفعل، ومرفوع الفعل مقدم التقديم، وما هو كجزئه معه، إذ لا يتم معناه إلا به. ويلزم من جواز هذا جواز كان حبيبَها الذي خطب هندا، لأن ما يتم به المضاف بمنزلة ما يتم به الموصول، وهذا لا يجوز، فكذلك ما أشبهه.

وأما عروض موجب تقديم الخبر فإذا كان فيه معنى استفهام نحو: كم كان مالك؟

ص: 350

وكيف كان زيد؟ وكذا إذا كان مضافا إلى ما فيه معنى استفهام نحو: غلام من كان زيد؟

ولا حظّ لزال وما بعدها في وجوب تقديم الخبر، لأنهن لا يدخلن على مبتدأ مخبر عنه بأداة استفهام ولا مضاف إليها، وقد تقدم التنبيه على ذلك.

وتشارك زال وأخواتها إذا نفيت بغير "ما" صار وأخواتها في جواز تقديم الخبر، نحو: قائما لم يزل زيد. وفي التخيير بين تقديمه وتوسيطه عند امتناع تأخيره، نحو: في الدار لم يبرح صاحبها، ولا ينفك مع هند أخوها.

فلو كان النفي بما لم يجز التقديم، لأن لها صدر الكلام، ولذلك جرت مجرى حرف الاستفهام في تعليق أفعال القلوب. وقياس "إنْ" النافية أن تجرى مجراها في غير التعليق كما جرت فيه مجراها، كقوله:(وتظنون إنْ لبثتم إلا قليلا).

وأجاز ابن كيسان التقديم مع النفي بما، مع أنه موافق للبصريين في أن "ما" لها صدر الكلام، لأنه نظر إلى أن: ما زال زيد فاضلا، بمنزلة: كان زيد فاضلا، في المعنى، فاستويا في جواز تقديم الخبر. وهذا الذي اعتبره ضعيف، لأن عروض تغير المعنى لا يغير له الحكم، ولذلك استصحب للاستفهام في نحو: علمت أزيد ثَمّ أم عمرو، ما كان له من التزام التصدير، مع أن معنى الاستفهام قد تغير. وأجاز الكوفيون إلا الفراء ما أجازه ابن كيسان، لأن "ما" عندهم ليس لها تصدير مستحق، حكى ذلك ابن كيسان.

واختلف في تقديم خبر ليس عليها، فأجازه سيبويه، ووافقه السيرافي والفارسي وابن برهان والزمخشري. ومنعه الكوفيون وأبو العباس وابن السراج والجرجاني، وبه أقول، لأن ليس فعل لا يتصرف في نفسه، فلا يتصرف في عمله، كما وجب لغيره من الأفعال التي لا تتصرف كعسى ونعم وبئس وفعل التعجب، مع أن ليس شبيهة في المعنى بحرف لا يشبه الأفعال وهو "ما" بخلاف عسى، فإنها تشبه حرفا يشبه الأفعال وهو "لعل"، والوهن الحاصل بشبه الحرف لا يشبه الأفعال أشد

ص: 351

من الوهن الحاصل بشبه حرف يشبه الأفعال. وكان مقتضى شبه ليس بما وعسى بلعل امتناع توسيط خبريهما، كما امتنع توسيط خبري شبيهيهما، ولكن قصد ترجيح ما له فعلية على ما لا فعلية له، والتوسيط كاف في ذلك، فلم تجز الزيادة عليه تجنبا لكثرة مخالفة الأصل.

قال السيرافي: بين ليس وفعل التعجب ونعم وبئس فرق، لأن ليس تدخل على الأسماء كلها مظهرها ومضمرها ومعرفتها ونكرتها، ويتقدم خبرها على اسمها، ونعم وبئس لا يتصل بهما ضمير المتكلم ولا العلم، وفعل التعجب يلزم طريقة واحدة، ولا يكون فاعله إلا ضمير ما، فكانت "ليس" أقوى منها.

قلت: فعلية نعم وبئس أظهر من فعلية ليس من ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى نعم وبئس يستقل باسم واحد، لأن معنى نعم الرجل، مدح الرجل، أو كمل الرجل، إلا أن الرجل مبهم، والمراد تعيين ممدوح، فاحتيج إلى مخصوص بعد الفاعل، أو إلى ما يدل عليه قبل نعم، فالحاصل أن مطلوب نعم إنما هو الفاعل، والمخصوص بالمدح إنما يطلبه الفاعل لا نعم، لأنها غير عالمة فيه بإجماع، بخلاف الجزء الثاني من مصحوبي ليس، فإنه معمول لها، فمعنى ليس لا يستقل إلا بجزأين: مسند ومسند إليه، فكانت أشبه بالحروف، وكانت نعم وبئس أشبه بالأفعال.

الثاني: أن نعم وبئس يقوم كل واحد منهما مقام فعل صريح، ويقوم الفعل الصريح مقامه، فمن كلام العرب الفصيح، عَلُم الرجل فلان، بمعنى نعم العالم فلان، وليس لا تقوم إلا مقام حرف، ولا يقوم مقامها إلا حرف.

الثالث: أن ليس ونعم وبئس مشتركة في مفارقة الأصل، لأن أصل كل منها فعل، لكن لسي فارقت أصلها فراقا لازما على وجه عدم به النظير في الأفعال، وثبت به شبه الحرف، ونعم وبئس بخلاف ذلك، لأنهما لا يفارقان أصلهما فراقا لازما، بل أصلهما مستعمل، ولم يعدم بما فعل بهما النظير في الأفعال،

ص: 352

ولا ثبت به شبه الحرف، لأن الذي فعل بهما من كسر الفاء وسكون العين مطرد في كل فعل على فَعِل ثانيه حرف حلق، وفعلية ما روعي أصله، وسلك به سبيل مطردة في الأفعال أقوى من فعلية ما لم يعامل بهذه المعاملة.

وأما تفضيل ليس على نعم وبئس بإعمالها في الظاهر والمضمر، والمعرفة والنكرة، فشيء ثبت على خلاف الأصل، لأن شبهها في اللفظ والمعنى بالحرف أقوى من شبهها بالفعل، فأن يسلك بها سبيل الأشبه بها أولى، ولكن لو فعل بها ذلك لم يبق ما يدل على فعليتها، فرفعت الضمائر المتصلة لذلك، وإذا كان هذا التفضيل محوجا إلى اعتذار، فلا يجعل سببا لتفضيل آخر، فيستباح من أجله تقديم الخبر، لأن ذلك تكثير لمخالفة الأصل، ومُحْوج إلى اعتذار ثان. ومع هذا فقد شاركتها نعم وبئس في رفع الضمير مستترا وبارزا، قال الكسائي: روي عن بعض العرب: الزيدان نِعْما رجلين، الزيدون نِعْموا رجالا. وقال الأخفش: ناس من العرب يرفعون النكرة بنعم مفردة ومضافة.

وأما فعل التعجب فهو ? وإن لزم طريقة واحدة ? راجح على ليس من أربعة أوجه: أحدها: تمكنه في الفعلية لفظا ومعنى، لأنه على وزن أفعلَ، وهمزته معدية كأكرم وغيره من الأفعال المعداة بالهمزة، وهو مع ذلك متضمن لحروف مصدر، ودال على معناه، وليس بخلاف ذلك.

الثاني: أن فعل التعجب تلزمه نون الوقاية مع ياء المتكلم، كما تلزم سائر الأفعال المتعدية، وليس بخلاف ذلك.

الثالث: أن لفعل التعجب صيغتين: إحداهما كصيغة الماضي، والأخرى كصيغة الأمر، وذلك ضرب من التصرف. وليس بخلاف ذلك.

الرابع: أن فعل التعجب يعمل في الظرف والحال والتمييز بخلاف ليس، فإنها لا تعمل إلا في جزأي إسناد.

وأما عسى فشاركت ليس في إعمالها في الأسماء كلها، مظهراتها ومضمراتها، ومعارفها ونكراتها، وتفوقها بأشياء منها:

إن فعليتها مجمع عليها، وفعلية ليس مختلف فيها.

الثاني: أن ليس من الأفعال المعتلة العين، وعسى من الأفعال المعتلة اللام، وهي

ص: 353

جارية على ما يجب لنظائرها من اعتلال بالقلب كرمى، وليس جارية على خلاف ما يجب لنظائرها من اعتلال كاعتلال هاب، وسلامة كسلامة صَيِدَ البعير.

الثالث: أن عسى وإن لم تتصرف بأن يجعل لها مضارع وأمر واسم فاعل، فقد جعل لها حظ من التصرف، بأن أجيز في عينها الفتح والكسر، فقيل: عَسَيت وعسِيت، وبنوا منها فعل تعجب فقالوا: ما أعساه بكذا، وأعس به أن يكون، وقالوا: هو عَسٍ بكذا، أي خليق، وبالعسى أن تفعل، وهو مصدر عسيت، وهذا كله موجب للمزية على ليس، فلو قدم خبر ليس مع كون هذه الأفعال لا يُقدَّم عليها شيء مما يتعلق بها لكان ذلك تفضيلا للأضعف على الأقوى، فوجب ألا يصار إليه.

وعضد قوم جواز تقديم خبر ليس بـ: (ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفا عنهم) قالوا: لأن يوم معمول مصروفا، ولا يقع المعمول إلا حيث يقع العامل. ولنا ثلاثة أجوبة:

أحدها: أن المعمول قد يقع حيث لا يقع العامل، نحو: أمّا زيدا فاضرب، وعمرا لاتهن، وحقك لن أضيع، فكما لم يلزم من تقديم معمول الفعل بعد أمّا تقديم الفعل، ولا من تقديم معمولي المجزوم والمنصوب عل "لا" و"لن" تقديمهما عليهما، كذا لا يلزم من تقديم معمول خبر ليس تقديم الخبر.

الثاني: أن يجعل "يوما" منصوبا بفعل مضمر، لأن قبله "ما يَحْبِسُه""فيوم يأتيهم" جواب، كأنه قيل: يعرفون يوم يأتيهم، و"ليس مصروفا" جملة حالية مؤكدة أو مستأنفة.

الثالث: أن يكون "يوم" مبتدأ فبني لإضافته إلى الجملة، وذلك سائغ مع المضارع كسوغه مع الماضي، وللاحتجاج على بناء المضاف إلى المضارع موضع آخر.

ص: 354

ص: ولا يلزم تأخير الخبر إن كان جملة خلافا لقوم، ويمنع تقديم الخبر الجائز التقديم تأخرُ مرفوعه، ويُقَبِّحه تأخر منصوبه، ما لم يكن ظرفا أو شبهه. ولا يمتنع هنا تقديم خبرٍ مشارك في التعريف وعدمه إن ظهر الإعراب. وقد يخبر هنا وفي باب "إنّ" بمعرفة عن نكرة اختيارا.

ش: ذكر ابن السراج أن قوما من النحويين لا يجيزون تقديم الخبر ولا توسيطه إذا كان جملة، والقياس جوازه وإن لم يسمع، فأجاز أن يقال: أبوه قائمٌ كان زيد، فهذا مثال التقديم، وأجاز أيضا أن يقال: كان أبوه قائمٌ زيد، وما ذهب إليه من الجواز هو الصحيح، لأنه وإن لم يسمع مع كان فقد سمع مع الابتداء، كقول الفرزدق:

إلى ملكٍ ما أمُّه من محارب

أبوه ولا كانت كليبٌ أقاربه

أراد: أبوه ما أمه من محارب، فأبوه مبتدأ، وأمه مبتدأ ثان، ومن محارب خبره، وهما خبر المبتدأ الأول، فقدم الخبر وهو جملة، فلو دخلت كان لساغ التقديم أيضا، كقولك: ما أمه من محارب كان أبوه. والتوسيط أولى بالجواز كقولك: ما كان أمه من محارب أبوه.

وإذا كان للخبر المقدم معمولٌ مؤخر امتنعت المسألة إن كان مرفوعا، مفردا أو مصحوبا بغيره، نحو: قائما كان زيد أبوه، وآكلا كان زيد أبوه طعامك.

فإن كان المعمول منصوبا لا مرفوع معه، جازت المسألة على قبح، نحو: آكلا كان زيد طعامك.

فإن كان المعمول ظرفا أو شبهه حسنت المسألة نحو: مقيما كان زيد عندك، وراغبا كان عمرو فيك.

وسبب ذلك أن حق العامل ألا يفصل بينه وبين معموله، فإن كان مرفوعا كان فصله أصعب لكونه كجزء رافعه، فلم يجز بوجه. وإن كان مفعولا به قبح ولم

ص: 355

يمتنع، لأنه ليس كجزء ناصبه. فإن كان ظرفا أو شبهه حسن فصله، لاتساعهم في الظروف وشبهها. وإلى هذا أشرت بقولي: ويَمْنَعُ تقديمَ الخبر الجائز التقديم تأخرُ مرفوعه.

وإذا اشترك في هذا الباب الخبر والمخبر عنه في تعريف أو تنكير، لم يلزم ما لزم في باب الابتداء من تأخر الخبر، إلا إذا لم يظهر الإعراب، نحو: كان فتاك مولاك، ولم يكن فتى أزكى منك. فإن ظهر الإعراب جاز التوسيط والتقديم نحو: كان أخاك زيد، وأخاك كان زيد، ولم يكن خيرا منك أحد، وخيرا منك لم يكن أحد.

ولما كان المرفوع هنا مشبها بالفاعل، والمنصوب مشبها بالمفعول جاز أن يغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع، كما جاز ذلك في باب الفاعل، لكن بشرط الفائدة، وكون النكرة غير صفة محضة، فمن ذلك قول حسان رضي الله عنه:

كأنّ سُلافةً في بيت رأس

يكون مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ

فجعل مزاجها وهو معرفة خبر كان، وعسل اسمها وهي نكرة، وليس القائل مضطرا لتمكنه من أن يقول: يكون مزاجُها عسلٌ وماءُ، فيجعل اسم كان ضمير سلافة، ومزاجها عسل، مبتدأ وخبر في موضع نصب بكان. ومثله قول القطامي:

قِفى قبل التَفَرُّق يا ضُباعا

ولايكُ موقفٌ منكِ الوَداعا

فأخبر بالمعرفة عن النكرة مختارا لا مضطرا، لتمكنه من أن يقول: ولا يك موقفي منك الوداعا، أو: ولا يك موقفنا الوداعا. والمحسن لهذا مع حصول الفائدة شبه المرفوع بالفاعل والمنصوب بالمفعول، وقد حصل هذا الشبه في باب إنّ، على أنْ

ص: 356

جعل فيه الاسم نكرة، والخبر معرفة، كقول الشاعر:

وإنّ حراما أن أسُبَّ مُجاشِعا

بآبائيَ الشُّمِّ الكرام الخَضارِم

فصل: ص: يقترن بإلا الخبرُ المنفيُّ إنْ قُصِد إيجابُه وكان قابلا، ولا يفعل ذلك بخبر برح وأخواتها، لا، نفيها إيجاب، وما ورد منه بإلا مؤول.

ش: يتناول الخبر المنفي خبر ليس وما قبلها من أفعال هذا الباب إذا تلت نفيا، ويتناول أيضا ثاني مفعولي ظنَّ وأخواتها إذا تلت نفيا أيضا، فإن قصد إمضاء النفي جيء بالخبر مجردا، نحو: ليس زيد قائما، وما زال منطلقا، وما علمته عاجزا.

وإن قصد إيجاب جيء بإلا، نحو: ليس زيد إلا قائما، وما كان إلا منطلقا، وما علمته إلا عاجزا.

فإن كان الخبر مما لا يستعمل إلا في نفي لم يقترن بإلا نحو: ما كان مثلك أحدا، وما كنت تعيج، أي تنتفع. فلو قرنت أحدا أو تَعيج بإلا لم يجز، لأن إلا تنقض النفي، وأحد وتعيج من الكلم التي لا تستعمل إلا في النفي، فإليهما وإلى مثلهما أشرت بقولي: إن قُصِد إيجابه وكان قابلا" ثم قلت: "ولا يفعل ذلك بخبر برح وأخواتها" أي لا يقترن خبر برح وأخواتها بإلا، لأنه موجب، وإنما يجاء بإلا لإيجاب ما ليس موجبا، فكما لا يقال: كان زيد إلا قائما، لا يقال: ما زال زيد إلا قائما، لأن مقتضى كان وما زال واحد، فأما قول ذي الرمة:

حَراجِيحُ ما تنفكّ إلا مُناخَة

على الخَسْف أو نَرْمِي بها بلدا قفرا

ففيه أربعة أقوال: أصَحها: أن تنفك فعل تام، وهو مطاوع فكه إذا خلصه

ص: 357

أو فصله، فكأنه قال: ما تتخلص من السير أو تنفصل منه إلا في حال إناختها على الخسف.

الثاني: أن تكون "تنفك" ناقصة، والخبر على الخسف، ومناخة حال، فكأنه قال: ما تنفك كائنة على الخسف، أي الذل والتعب، أو مرميا بها بلد قفر إلا في حال إناختها.

الثالث: أنّ غلا زائدة، قاله ابن جني في المحتسب، وحمل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(وإن كلٌّ إلا ليوفينّهم).

الرابع: أن ذا الرمة أخطأ بإيقاع إلا موقعا لا يصلح إيقاعها فيه، وهذا أضعف الأقوال.

ص: وتختص ليس بكثرة مجيء اسمها نكرة محضة، وبجواز الاقتصار عليه دون قرينة، واقتران خبرها بواو إن كان جملة موجبة بإلا، وتشاركها في الأول كان بعد نفي أو شبهه، وفي الثالث بعد نفي، وربما شبهت الجملة المخبر بها في ذا الباب بالحال فوليت الواو مطلقا.

ش: قد تقدم في باب الابتداء أن من أسباب تجويز كون المبتدأ نكرة وقوعه بعد نفي، واسم ليس لإفادتها النفي كالمبتدأ الواقع بعد نفي، فلذلك اختصت ليس بكثرة مجيء اسمها نكرة محضة كقول الشاعر:

كم قد رأيتُ وليس شيءٌ باقيا

من زائرٍ طُرُق الهوى ومَزُور

ولإفادتها النفي أيضا اختصت من بين أخواتها بجواز الاقتصار على اسمها دون قرينة زائدة على كون الاسم نكرة عامة، لأنه بذلك يشبه اسم لا، فيجوز أن يساويه في الاستغناء به عن الخبر، كقول الشاعر:

ص: 358

ألا يا ليلُ وَيْحَكِ نَبِّئينا

فأما الجودُ منكِ فليس جودُ

أراد فليس منك جود، أو ليس عندك جود. ومثله قول الآخر:

يَئِسْتم وخِلْتم أنه ليس ناصر

فَبُوِّئْتُم من نصرنا خيرَ مَعْقِل

وحكى سيبويه: "ليس أحدٌ" أي ليس هنا أحد.

ومثال اقتران خبرها بواو لكونه جملة موجبة بإلا قول الشاعر:

ليس شيءٌ إلا وفيه إذا ما

قابَلَتْه عينُ البصير اعتبارُ

ومثال ذلك في مجيء كان بعد نفي قول الشاعر:

ما كان من بَشَرٍ إلا ومِيتَتُه

مَحْتومَةٌ لكن الآجالُ تختلفُ

وأما مشاركة كان بعد نفي ليس في مجيء اسمها نكرة محضة فكثير، ومنه قول الشاعر:

إذا لم يكنْ أحدٌ باقيا

فإنّ التأسِّي دواء الأسى

ومثال ذلك بعد شبه النفي قول الشاعر:

ولو كان حَيٌّ في الحياة مُخَلّدا

خَلَدْتَ ولكنْ ليس حيٌّ بخالدِ

ومثله قول الآخر:

فإن يكُ شيءٌ خالدا أو مُعَمَّرا

تأمَّلْ تَجِدْ من فوقه اللهَ غالبا

ومثال تشبيه الجملة الخبرية بالحالية في اقترانها بالواو قول الشاعر:

ص: 359

فظلُّوا ومنهم سابِقٌ دَمْعة له

وآخر يثْني دَمْعةَ العَيْنِ بالمَهْل

ومثله قول الآخر:

وكانوا أُناسا يَنْفَحُون فأصبحوا

وأكثر ما يُعْطونك النَّظَرُ الشَّزْرُ

ص: وتختص كان بمرادفة "لم يزل" كثيرا، وبجواز زيادتها وسطا باتفاق، وآخرا على رأي. وربما زيد أصبح وأمسى ومضارع كان، وكان مسندة إلى ضمير ما ذكر، وبين جار ومجرور.

ش: الأصل في كان أن يدل بها على حصول معنى ما دخلت عليه فيما مضى، دون تعرض لأولية ولا انقطاع، كغيرها من الأفعال الماضية، فإن قصد الانقطاع ضمن الكلام ما يدل عليه، كقوله تعالى:(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم).

وكقول الشاعر:

وتركى بلادي والحوادثُ جمةٌ

طريدا وقِدْما كنتُ غير مُطرّد

وقد يقصد بها الدوام كما يقصد بلم يزل، كقوله تعالى:(وكان الله على كل شيء قديرا) وكقول الشاعر:

وكنتُ امرَأ لا أسمعُ الدهرَ سُبَّةً

أُسَبُّ بها إلا كشفتُ غطاءها

وتختص كان بجواز زيادتها بلفظ الماضي، متوسطة بين مسند ومسند إليه، نحو:

ص: 360

ما كان أحسنَ زيدا، أو: لم يُرَ كان مثلُهم. أو بين صفة وموصوف، كقول الشاعر:

فكيف إذا مررتُ بدار قومٍ

وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ

ولا يمنع من زيادتها إسنادها إلى الضمير، كما لم يمنع من إلغاء ظن إسنادها في نحو: زيد ظننت قائم، هذا مذهب سيبويه.

وشذت زيادتها بين على ومجرورها في قول الشاعر:

سراةُ بني أبي بكرٍ تسامَوْا

على كان المُطَهَّمةِ الصِّلاب

وزعم السيرافي أن كان الزائدة مسندة إلى مصدر منوي، ولا حاجة إلى ذلك، ولا يُبالى بأن يقال: خلوُّها من الإسناد إلى منوي يلزم منه كونُ الفعل حديثا عن غير محدّث عنه، لأن كان المحكوم بزيادتها تشبه الحرف الزائد، فلا يُبالى بخلوها من الإسناد، كما أن الضمير الواقع فصلا لمّا قصد به ما يقصد بالحروف من الدلالة على معنى في غيرها استُجيز ألا يكون له موضع من الإعراب.

وأيضا فإن كان قد زيدت بين على ومجرورها، فإذا نوى معها فاعل لزم الفصل بين جار ومجرور بجملة، ولا نظير لذلك، وإذا لم ينو معها ضمير فاعل كان الفصل بكلمة واحدة، فلا يمتنع، كما لم يمتنع في "ما" بين عن، ومن، والباء، ورب، والكاف ومجروراتها.

وأجاز بعض النحويين زيادة كان آخرا قياسا على إلغاء ظن آخرا، والصحيح منع ذلك لعدم استعماله، ولأن الزيادة على خلاف الأصل، فلا تستباح في غير مواضعها المعتادة.

ص: 361

وشذت زيادة يكون في قول أم عقيل بن أبي طالب:

أنت تكونُ ماجدٌ نبيل

إذا تَهُبُّ شمأل بَلِيل

وأجاز الفراء زيادة تكون بين "ما" وفعل التعجب، نحو: ما يكون أطولَ هذا الغلام، ويشهد لقوله قول رجل من طيء:

صَدّقتَ قائلَ ما يكون أحقَّ ذا

طفلا يَبُذُّ ذوي السيادة يافعا

قال الفراء: وأخوات كان تجرى مجراها.

قلت ولا خلفا في زيادة كان بعد "ما" التعجبية، كقول الشاعر:

ما كان أسعدَ مَنْ أجابك آخِذا

بِهُداك مُجْتنبا هوى وعنادا

وشذت أيضا زيادة أصبح وأمسى في قول بعض العرب: ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها. وأجاز أبو علي زيادة أصبح في قول الشاعر:

عَدُوُّ عَيْنَيْك وشانيهما

أصبح مشغولٌ بمشغول

وكذا أجاز زيادة أمسى في قول الآخر:

أعاذِل قولي ما هوِيتِ فأوِّبي

كثيرا أرى أمسى لَدَيْك ذُنُوبي

ص: ويختص كان أيضا بعد "إنْ" أو "لو" بجواز حذفها مع اسمها، إن كان ضمير ما عُلِم من حاضر أو غائب، فإن حَسُن مع المحذوفة بعد "إنْ" تقدير: فيه أو معه أو نحو ذلك، جاز رفع ما وَليها، وإلا تعيّن نصبه، وربما جُرّ مقرونا

ص: 362

بإن لا، أو بإن وحدها، إن عاد اسم كان إلى مجرور بحرف. وجَعْلُ ما بعد الفاء الواقعة جواب "إنْ" المذكورة خبر مبتدأ، أولى من جعله خبر كان مضمرة، أو مفعولا بفعل لائق، أو حالا. وإضمار كان الناقصة قبل الفاء أولى من التامة. وربما أضمرت الناقصة بعد "لَدُن" وشبهها.

والتزم حذفها معوضا منها "ما" بعد "أنْ" كثيرا، وبعد "إنْ" قليلا.

ويجوز حذف لامِها الساكن جزما، ولا يمنع ذلك ملاقاةُ ساكن وفاقا ليونس.

ش: مثال حذف كان بعد "إنْ" مع اسمها وهو ضمير غائب معلوم قول الشاعر:

انطِقْ بحقٍّ وإنْ مستخرِجا إحَنا

فإنّ ذا الحق غلّابٌ وإنْ غُلِبا

ومثال الحذف مع كون الاسم ضمير حاضر قول الآخر:

حَدبت عليَّ بُطونُ ضبّةَ كلُّها

إن ظالما فيهم وإن مظلوما

ومثال الحذف بعد لو والاسم ضمير غائب قول الشاعر:

لا يأمنُ الدَّهر ذو بَغْي ولو ملِكا

جنودُه ضاقَ عنها السهلُ والجبل

ومثاله والاسم ضمير حاضر:

علمتك منّانا فلستُ بآملٍ

نداك ولو غَرْثانَ ظمآن عاريا

فالنصب في مثل هذا متعين لعدم صلاحية تقدير ما يجعل خبرا من "فيه" أو "معه" أو نحوهما. فلو صلح تقدير شيء من ذلك لجاز الرفع نحو: الناس

ص: 363

مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ومثله: المرء مقتول بما قَتَل به إن سيفا فسيف، وإن خنجرا فخنجر. ومما مثل به سيبويه: مررت برجل صالح، إن لا صالحا فطالحٌ، وإلا صالحا فطالحا، أي: إن لم يكن صالحا فقد لقيته طالحا، هذا تقدير سيبويه، فنصب طالحا على الحال، وحكى يونس: إن لا صالحٍ فطالحٍ، والتقدير: إن لا أمر بصالح فقد مررت بطالح وأجاز: امرر بَأيُّهم أفضلُ، إن زيدٍ وإن عمرٍو، على تقدير: إن مررت بزيد وإن مررت بعمرو. وجعل سيبويه إضمار الباء بعد إنْ هذه أسهل من إضمار رب بعد الواو.

وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: وربما جُرَّ مقرونا بإن لا، أو بإن وحدها إن عاد اسم كان إلى مجرور بحرف.

ثم بينت أن الاسم الواقع بعد الفاء في الحديثين المذكورين ونحوهما، يرفع على أنه خبر مبتدأ، وينصب على أنه خبر كان مضمرة، وقد يجعل مفعولا به، أو منصوبا على الحال، إلا أن رفعه أجود، لأن المحذوف معه شيء واحد، ومع النصب شيئان: فعل واسم مرفوع به. وأن وقوع الجملة الاسمية بعد الفاء المجاب بها الشرط أكثر من وقوع الجملة الفعلية. ويجوز جعل ما بعد الفاء مفعولا به، فيكون التقدير: إن كان عمله خيرا فيجزى خيرا، أو فيعطى خيرا. ويجوز جعله حالا، فيكون التقدير: إن كان عمله خيرا فيلقاه خيرا، ونحو ذلك. وقد أشار سيبويه إلى ذلك كله.

ثم بينت أن ارتفاع الاسم قبل الفاء في مثل: إن خير فخير، بكان الناقصة أولى من ارتفاعه بكان التامة، وسبب ذلك أن إضمار الناقصة مع النصب

ص: 364

متعين، وهو مع الرفع ممكن، فوجب ترجيحه، ليجرى الاستعمالان على سنن واحد، ولا يختلف العامل. ولأن الفعل التام إذا أضمر بعد إن الشرطية لا يستغنى عن مفسر، نحو:(وإن أحد من المشركين استجارك فأجِرْه) فخولف هذا في كان الناقصة، لوقوع ثاني جزأيها موقع المفسر، ولأنها تُوسع فيها بما لا يستعمل في غيرها، فمقتضى الدليل ألا تشاركها التامة في الإضمار المشار إليه، لكن أجيز فيها لشبهها بالناقصة، فلا يستويان في التقدير.

ومثال إضمار كان الناقصة بعد لدن قول الشاعر:

من لَدُ شَوْلا فإلى إتلائها

يصف إبلا، والتقدير: من لد أن كانت شولا، كذا يقدره الجمهور، وعندي أن تقدير "أنْ "مستغنى عنه، كما يستغنى عنها بعد مُذْ.

ومثال إضمار كان بعد شبه لدن قول الشاعر:

أزمانَ قومي والجماعةَ كالذي

لَزِم الرِّحالةَ أن تَميل مَمِيلا

أراد: أزمان كان قومي مع الجماعة كالذي لزم الرحالة، كذا قال سيبويه.

ومثال التزام إضمار كان بعد "أنْ" معوضا منها قول الشاعر:

أبا خُراشَةَ أمّا أنت ذا نفرٍ

فإن قومي لم تأكلهم الضّبع

أراد: لأن كنت، فحذف اللام، فبقى "أنْ كنت" ثم حذف "كان" وجاء بالمنفصل خلفا عن المتصل، وبـ"ما" قبله عوضا من كان، فالتزم حذفها، لئلا يجتمع العوض والمعوض منه. ومثال: أما أنت ذا نفر: أمّا أنت مرتحلا، من قول

ص: 365

الشاعر:

إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا

فالله يَكْلأ ما تأتي وما تذرُ

ومثال إضمار كان معوضا منها "ما" بعد "إنْ" قول العرب: افعل هذا إما لا، أي: إن كنتَ لا تفعل غيره. ومثله قول الراجز:

أمرعت الأرضُ لو أنّ ما لا

لو أنّ نُوقا لك أو جِمالا

أو ثَلَّةً من غَنَم إمّا لا

أراد: إن كان لا يكون لك غيرها.

وأمثال: أمّا أنت ذا نفر، كثيرة، بخلاف "إما لا" فإن استعماله قليل، لأن الحذف فيه أكثر.

ومما تختص به كان جواز حذف لام مضارعها الساكن جزما، كقوله تعالى:(ولم يك من المشركين) وكقوله تعالى: (ولا تك في ضيق مما يمكرون) فإن ولى ساكن امتنع الحذف عند سيبويه، ولم يمتنع عند يونس، وبقوله أقول، لأن هذه النون إنما حذفت للتخفيف، وثقل اللفظ بثبوتها قبل ساكن أشد من ثقله بثبوتها دون ذلك، فالحذف حينئذ أولى. إلا أن الثبوت دون ساكن ومع ساكن أكثر من الحذف، فلذلك جاء القرآن بالثبوت مع الساكن في قوله تعالى:(ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) وفي قوله: (لم يكن الذين كفروا) وقد استعملت العرب الحذف قبل الساكن كثيرا، ومنه قول الشاعر:

ص: 366

لم يكُ الحقُّ سِوى أنْ هاجَه

رسْمُ دار قد تَعَفَّى بالسَّرَر

ومنه قول الآخر:

فإنْ لم تكُ المرآةُ أبدت وسامةً

فقد أبدت المرآةُ جَبْهَة ضَيْغم

ومنه قول الآخر:

إذا لم تك الحاجاتُ من همة الفتى

فليس بمُغْنٍ عنه عقد الرتائم

ولا ضرورة في هذه الأبيات، لإمكان أن يقال في الأول: لم يكن حق سوى أن هاجه، وفي الثاني: فإن تكن المرآة أخفت وسامةن وفي الثالث: إذا لم يكن من همة المرء ما نوى.

ص: ولا يلي عند البصريين كان وأخواتها غيرُ ظرف وشبهِه من معمول خبرها، واغْتَفر ذلك بعضُهم مع اتصال العامل، وما أوهم خلاف ذلك قُدّر فيه ضمير الشأن اسما، خلافا للكوفيين.

ش: لا يجوز عند البصريين أن يفصل بمعمول خبر كان بينها وبين اسمها والخبر متأخر، نحو: كان طَعامَك زيدٌ يأكل، وكذل لو لم يتأخر الخبر نحو: كان طعامك يأكل زيدٌ، وهو أيضا غير جائز عند سيبويه كالأول.

ومن الناس من أجاز الأخير دون الأول.

وكلاهما عند الكوفيين جائز، ومن حجتهم قول الشاعر:

قَنافِيذُ هَدَّاجُون حول بُيوتهم

بما كان إياهم عطيَّةُ عوَّدا

ص: 367