المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب المبتدأ ص: وهو ما عَدِم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ١

[ابن مالك]

الفصل: ‌ ‌باب المبتدأ ص: وهو ما عَدِم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا

‌باب المبتدأ

ص: وهو ما عَدِم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا من مُخْبَر عنه، أو وصفٍ سابق رافع ما انفصل وأغنى.

والابتداء كون ذلك كذلك، وهو يرفع المبتدأ، والمبتدأ الخبرَ، خلافا لمن رفعهما به، أو بتجرُّدِهما للإسناد، أو رفع بالابتداء المبتدأ، وبهما الخبر، أو قال: ترافعا.

ش: قد تقدم ما يدل على أن الإخبار عن الشيء يكون باعتبار لفظه، كما يكون باعتبار معناه، وأن المخبر عنه بالاعتبارين يكون اسما، نحو: زيد كاتب، وزيد معرب. ويكون غير اسم نحو (وأن تصوموا خيرٌ لكم) فخير خبر عن "أن تصوموا" باعتبار المعنى. فلو قلت: أنْ وتصوموا، ناصب ومنصوب، لكان إخبارا باعتبار اللفظ، ومن الإخبار باعتبار المعنى والمُخْبَر عنه في اللفظ غير اسم قوله تعالى (سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنْذِرهم) أي سواء عليهم الإنذارُ وعدمه. ولذا لم أُصَدِّر حد المبتدأ بالاسم، لأنه بعض ما يكون مبتدأ، بل صَدّرته بما عدم عامِلا لفظيا ليتناول الاسم وغيره.

واحترزت بقولي: أو حكما، من المبتدأ المجرور بحرف زائد نحو (هل من خالقٍ غيرُ الله) فإن "خالقا" مبتدأ، ولم يعدم عاملا لفظيا عدما حقيقًا، بل عدما حكميا، لأن "مِنْ" زائدة، فهي ? وإن وجدت لفظا ? معدومة حكما.

ص: 267

وقُيد العامل الذي عدمه المبتدأ بكونه لفظيا، إشعارا بأن للمبتدأ عاملا معنويا، وهو الابتداء.

ولما كان ما عدم عاملا لفظيا صالحا لتناول أسماء الأفعال، ولتناول الفعل المضارع العاري من ناصب وجازم، وكان المبتدأ ينقسم إلى مُخْبَر عنه وغير مخبر عنه، ذكرت مخبرا عنه والوصف المقيد، منعا لدخول ما لا يقصد دخوله، وجمعا لنَوْعَيْ المبتدأ.

والمراد هنا بالوصف ما كان كضارب أو مضروب من الأسماء المشتقة وما جرى مجراها باطراد. ومن الابتداء بالمشتق: أضاربٌ الزيدان؟ ومامضروبٌ الزيدان. وأذاهبةٌ جاريتاك؟ وأكريمة نساؤكم؟

ومثال الابتداء بما جرى مجرى المشتق باطراد: أقُرَشِيٌّ قومُك؟ وأقرشي أبواك؟ وهذه الأمثلة من أمثلة سيبويه ولو جعل مكان الهمزة منها حرف نفي لم يختلف الحكم، قال سيبويه: ومن قال: ذهب فلانة، قال: أذاهب فلانة؟ وأحاضر القاضي امرأة؟

وقُيِّد الوصف "بسابق" احترازا من نحو: الزيدان قائم أبواهما.

وقيدته "برافع" دون إضافة إلى فاعل، لأعم بذلك الوصف الرافع فاعلا، والرافع مفعولا، نحو: ما مضروبٌ العمران.

وأشرت بقولي "بتقييد المرفوع بالانفصال" إلى أن المرفوع بالوصف المذكور لا يسد مسد الخبر إذا كان متصلا، بل إذا كان منفصلا، وذكر الانفصال أولى من ذكر الظهور، فإن المنفصل يعم الظاهر والضمير غير المتصل، وكلاهما يسد مسد الخبر إذا ارتفع بالوصف المذكور، إذ لا فارق بين قولك: أضارب الزيدان؟ وما ضارب هما. قال الشاعر:

أمُرْتَجِعٌ لي مثلَ أيام حَنَّةٍ

وأيام ذي قارٍ عليَّ الرَّواجعُ

ص: 268

وقال آخر:

أقاطِنٌ قومُ سلمى أم نَوَوْا ظَعَنًا

إنْ يَظعَنُوا فعجيبٌ عيشُ مَنْ قَطَنا

وقال آخر:

خَليلَيَّ ما وافٍ بعهدي أنتما

إذا لم تكونا لِي عَلَى مَنْ أقاطِعُ

ومنه في أحد الوجهين: "أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم".

واحترزت بكون المرفوع مغنيا من نحو: أقائم أبوه زيد، فإن الفاعل فيه منفصل مرتفع بوصف سابق، إلا أنه غير مُغْن، إذ لا يحسن السكوت عليه، فليس مما نحن فيه، بل "زيد" مبتدأ، وقائم خبر مقدم، وأبوه مرتفع به. ويجوز كون قائم مبتدأ مخبرا عنه بزيدٍ، كما قال سيبويه في:"مررت برجل خير منه أبوه" فخير عنده مبتدأ وأبوه خبر، مع أن الأول نكرة، والثاني معرفة، وسيأتي بيان ذلك وأمثاله إن شاء الله تعالى.

والإشارة "بذلك" إلى ما عدم عاملا لفظيا، و"بكذلك" إلى القيود التي قيد بها كل واحد من قسمي المبتدأ.

والحاصل أن الابتداء هو تقديم الشيء في اللفظ والنية مجردا مسندا إليه خبر، ومسندا هو إلى ما يسد مسد الخبر.

ومذهب سيبويه أن المبتدأ مرفوع بالابتداء، وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ، صرح بذلك في مواضع كثيرة، منها قوله: "المبتدأ كل اسم ابتدئ به ليبنى عليه

ص: 269

كلام" ثم قال: "فالمبتدأ الأول، والمبني عليه ما بعده، فهو مسند ومسند إليه" ثم قال:"واعلم أن المبتدأ لا بد أن يكون المبني عليه شيئا هو هو، أو يكون في مكان أو زمان، وهذه الثلاثة يذكر كل واحد منها بعد ما يبتدأ به، فأما الذي بني عليه شيء هو هو فإن المبني يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق، ارتفع عبد الله لأنه ذكر ليبنى عليه المنطلق. وارتفع المنطلق لأن المبني على المبتدأ بمنزلته" هذا نصه، وقوله هو الصحيح، لسلامته مما يرد على غيره من موانع الصحة.

فأشهر الأقوال المخالفة لقوله أن الابتداء رافع المبتدأ والخبر معا، وهذا لا يصح لأربعة أوجه: أحدها: أن الأفعال أقوى العوامل، وليس فيها ما يعمل رفعين دون إتباع، فالمعنى إذا جعل عاملا كان أضعف العوامل، وكان أحق بألا يعمل رفعين دون إتباع.

الثاني: أن المعنى الذي ينسب إليه عمل ويمنع وجوده دخول عامل على مصحوبه كالتمني والتشبيه أقوى من الابتداء، لأنه لا يمنع وجوده دخول عامل على مصحوبه، والأقوى لا يعمل إلا في شيء واحد وهو الحال، فالابتداء الذي هو أضعف أحق بألا يعمل إلا في شيء واحد.

الثالث: أن الابتداء معنى قائم بالمبتدأ، لأن المبتدأ مشتق منه، والمشتق يتضمن معنى ما اشتق منه، وتقديم الخبر على المبتدأ ما لم يعرض مانع جائز بإجماع من أصحابنا، فلو كان الابتداء عاملا في الخبر لزم من جواز تقديمه على المبتدأ تقديم معمول العامل المعنوي الأضعف، وتقديم معمول العامل المعنوي الأقوى ممتنع، فما ظنك بالأضعف؟

الرابع: أن رفع الخبر عمل وجد بعد معنى الابتداء ولفظ المبتدأ، فكان بمنزلة وجود الجزم بعد معنى الشرط والاسم الذي تضمنه، فكما لا ينسب الجزم لمعنى

ص: 270

الشرط بل للاسم الذي تضمنه، كذلك لا ينسب رفع الخبر للابتداء بل للمبتدأ.

وأمثل من قول من قال: الابتداء رفع المبتدأ والخبر معا قول أبي العباس: "الابتداء رفع المبتدأ بنفسه، ورفع الخبر بواسطة المبتدأ" وهو أيضا مردود، لأنه قول يقتضي كون العامل معنى متقويا بلفظ، والمعروف كون العامل لفظا متقويا بلفظ، كتقوي الفعل بواو المصاحبة. أو كون العامل لفظا متقويا بمعن، كتقوي المضاف بمعنى اللام أو بمعنى مِن. فالقول بأن الابتداء عامل مُقَوًّى بالمبتدأ لا نظير له، فوجب رده.

وقد جعل بعضهم نظير ذلك إعمال أداة الشرط بنفسها في الجواب بوساطة فعل الشرط، وليس كما زعم، لأن أداة الشرط وفعله لفظان، فإذا قوي أحدهما بالآخر لم يكن بدعا، وأما الابتداء والمبتدأ فمعنى ولفظ، فلو قوي اللفظ بالمعنى لكان قريبا، بخلاف ما يحاولونه من العكس، فإنه بعيد ولا نظير له.

وقول من يقول: إنهما مرفوعان بالتجرد للإسناد مردود أيضا بما رد به قول من قال: هما مرفوعان بالابتداء، وفيه رداءة زائدة من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جعل التجرد عاملا، وإنما هو شرط في صحة عمل الابتداء، والابتداء هو العامل عند سيبويه وغيره من المحققين.

والثاني: أنه جعل تجردهما واحدا، وليس كذلك، فإن تجرد المبتدأ تجرد الإسناد إلى ما يسد مسد مسند إليه، وتجرد الخبر إنما هو ليسند إلى المبتدأ، فبين التجريدين بَوْن، فكيف يتحدان؟

الثالث: أنه أطلق التجرد ولم يقيده، فلزم من ذلك ألا يكون مبتدأ ولا خبرا

ص: 271

ما جُرّ منهما بحرف زائد نحو: ما فيها من أحد، و:

هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم.

وأما كون المبتدأ والخبر مرفوعا أحدهما بالآخر، فهو قول الكوفيين، وهو مردود أيضا، إذ لو كان الخبر رافعا للمبتدأ كما كان المبتدأ رافعا للخبر لكان لكل منهما في التقدم رتبة أصلية، لأن أصل كل عامل أن يتقدم على معموله، فكان لا يمتنع: صاحبها في الدار، كما لا يمتنع: في داره زيد، وامتناع الأول، وجواز الثاني دليل على أن التقدم لا أصلية للخبر فيه.

ص: ولا خبر للوصف المذكور لشدة شبهه بالفعل، ولذا لا يُصَغّر، ولا يُوصَف، ولا يُعَرّف، ولا يُثنى، ولا يجمع، إلا على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة" ولا يجرى ذلك المجرى باستحسان إلا بعد استفهام أو نفي، خلافا للأخفش، وأُجري في ذلك "غير قائم" ونحوه مجرى: ما قائم.

ش: قد تقدم أن أحد قسمي المبتدأ وصف يرفع ما يليه، ويسد مرفوعه مسد خبره، وإياه عنيت الآن بقولي:"ولا خبر للوصف المذكور" وبينت أن سبب استغنائه عن الخبر شدة شبهه بالفعل، لأن قولك: أضارب الزيدان؟ بمنزلة: أيضرب الزيدان؟ فكما لا يفتقر: أيضرب الزيدان، إلى مزيد في تمام الجملة، كذلك لا يفتقر ما هو بمنزلته. ولأن المطلوب من الخبر إنما هو تمام الفائدة بوجود مسند ومسند إليه، وذلك حاصل بالوصف المذكور ومرفوعه، فلم يحتج إلى خبر

ص: 272

لا في اللفظ ولا في التقدير، ولهذا خطئ من يعد هذا مع المبتدآت المحذوفة الأخبار، لأن المبتدأ المحذوف الخبر لو قدرت له خبرا لم يلزم من تقديره ذكر ما لا فائدة فيه، وهذا بخلاف ذلك.

ولما كان الوصف المذكور منزلا منزلة الفعل لم يجز تصغيره، ولا وصفه، ولا تعريفه، ولا تثنيته، ولا جمعه، لأن ذلك كله من خصائص الأسماء المحضة.

ومن قال من العرب: يفعلان الزيدان، ويفعلون الزيدون، قال هنا: أفاعلان الزيدان؟ وأفاعلون الزيدون؟ وكان الوصف مبتدأ، وما بعده فاعل سادٌّ مسد الخبر. وإلى نحو هذه الإشارة أشرت بقولي:"إلا على لغة يتعاقبون فيكم ملائكة" وقد أشرت إلى هذه اللغة في باب الإعراب، وسيأتي ذكرها مستوفى في باب الفاعل إن شاء الله تعالى.

وأشرت بقولي: "ولا يجرى ذلك المجرى باستحسان" إلى أن الوصف المشار إليه لا يحسن عند سيبويه الابتداء به على الوجه الذي تقرر إلا بعد استفهام أو نفي، وإن فُعِل به ذلك دون استفهام أو نفي قبح عنده دون منع. هذا مفهوم كلامه في باب الابتداء، ولا معارض له في غيره. ومن زعم أن سيبويه لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهاما أو نفيا فقد قوّله ما لم يقل.

وأما أبو الحسن الأخفش فيرى ذلك حسنا، ويدل على صحة استعماله قول الشاعر:

خَبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغيا

مقالةَ لِهْبِيٍّ إذا الطيرُ مَرَّتِ

ومنه قول الشاعر:

فخيرٌ نحن عند الناس مِنكم

إذا الدّاعي المُثَوِّبُ قال: يا لا

ص: 273

فخيرٌ مبتدأ، ونحن فاعل، ولا يكون "خير" خبرا مقدما، ونحن مبتدأ، لأنه يلزم في ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل ومِنْ، وهما كمضاف ومضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ، كما لا يقع بين مضاف ومضاف إليه، وإذا جعل "نحن" مرتفعا بخير على الفاعلية لم يلزم ذلك، لأن فاعل الشيء كجزء منه.

والكوفيون كالأخفش في عدم اشتراط الاستفهام والنفي في الابتداء بالوصف المذكور، إلا أنهم يجعلونه مرفوعا بما بعد وما بعد مرفوعا به، على قاعدتهم، ويوافقونه في التزام إفراده وتجرده من ضمير، ويجيزون أيضا إجراءه مجرى اسم جامد فيطابق ما بعده، ويجيزون أيضا جعله نَعت منوي مطابق للآخر في إفراده وتثنيته وجمعه، ولا بد حينئذ من كون النعت مطابقا، ويسمونه خلفا.

ولم أخص من الاستفهام همزة ولا غيرها، ليعلم أن أدوات الاستفهام كلها مستوية في تصحيح الابتداء بالوصف المذكور على الوجه المذكور، فكما يقال: أقائم الزيدان؟ يقال: هل مُعْتَقٌ العبدان؟ وما صانعٌ العُمَرَان؟ ومن خاطبٌ البكران؟ ومتى ذاهب العمران؟ وأين جالس صاحبانا؟ وكيف مصبح ابناك؛ وكم ماكث صديقاك؟ وأيان قادم رفيقاك؟

وكما أطلقت الاستفهام أطلقت النفي، ليتناول كل ناف يصلح لمباشرة الأسماء، وذلك: ما، ولا، وإنْ، وليس، إلا أن ليس يرتفع الوصف بعدها على أنه اسمها، ويرتفع به ما يليه فيسد مسد خبرها، كما سد مسد خبر المبتدأ. وكذلك الحكم بعد "ما" إن جُعِلتْ حجازية، ولم ينتقض النفي. فإن جعلت تميمية، أو انتقض النفي، فالوصف بعدها مبتدأ، والمرفوع به ساد مسد خبر المبتدأ. مثال ذلك بعد ليس: ليس قائم الزيدان، وليس منطلق إلا العمران. ومثال ذلك بعد "ما": ما ذاهب عبداك، وما مقيم إلا أخواك.

ص: 274

وإذا قصد النفي بغير مضافا إلى الوصف فيجعل غير مبتدأ، ويرتفع ما بعد الوصف به كما لو كان بعد نفي صريح، ويسد مسد خبر المبتدأ، وعلى ذلك وجه الزمخشري قول الشاعر:

غيرُ مأسوفٍ على زمن

ينقضي بالهم والحزَن

ومثله قول الآخر:

غيرُ لاهٍ عِداك فاطّرح الَّلهْـ

ـوَ ولا تَغْتَرِرْ بعارضِ سِلْم

وإلى نحو هذا أشرت بقولي: وأُجْرِيَ في ذلك: غير قائم، مجرى: ما قائم.

ص: ويحذف الخبر جوازا لقرينةن ووجوبا بعد لولا الامتناعية غالبا، أو قسم صريح، وبعد واو المصاحبة الصريحة، وقبل حال إن كان المبتدأ أو معموله مصدرا عاملا في مُفَسِّر صاحبها، أو مؤُولا بذلك.

ش: من القرائن المجوزة لحذف الخبر الاستفهام عن المُخْبَر عنه، كقولك: زيدٌ، لمن قال: مَنْ عندك؟ أي: زيد عندي. والعطف عليه نحو: زيدٌ قائم وعمرو، أي وعمرو كذلك. فهذا وشبهه من الحذف الجائز، لأن المحذوف فيه لا يزيد ذكره على ما حصل بالقرينة التي دلت عليه، ولم يكن واجبا إذ ليس في محل المحذوف غيره فيسد مسده، كما في المواضع التي حكم فيها بوجوب الحذف.

ومن الحذف الجائز الحذف بعد إذا المفاجأة، نحو: خرجت فإذا السبع. والحذف بعد إذا قليل، ولذا لم يرد في القرآن مبتدأ بعد إذا إلا وخبره ثابت غير محذوف. كقوله تعالى:(فإذا هي حيَّةٌ) و (فإذا هي بيضاءُ) و

ص: 275

(فإذا هم جميعٌ) و (فإذا هم قيامٌ).

وإنما وجب حذف الخبر بعد لولا الامتناعية لأنه معلوم بمقتضى لولا، إذ هي دالة على الامتناع لوجود، والمدلول على امتناعه هو الجواب، والمدلول على وجوده هو المبتدأ. فإذا قيل: لولا زيدٌ لأكرمت عمرا، لم يشك في أن المراد: وجود زيد مانع من إكرام عمرو، فصح الحذف لتعيّن المحذوف، ووجب لسد الجواب مسده، وحلولِه محله.

والمراد هنا بالثبوت الكون المطلق، ولو أريد كون مُقَيّد لا دليل عليه لم يجز الحذف، نحو: لولا زيد سالَمَنا ما سلم، ولولا عمرٌو عندنا لهلك. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "لولا قومُك حديثٌ عهدُهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم". فلو أريد كون مقيد مدلول عليه جاز الإثبات والحذف، نحو: لولا أنصار زَيد حموه لمْ ينج، فحموه خبر مفهوم المعنى، فيجوز إثباته وحذفه، ومن هذا القبيل قول المعري في صفة سيف:

فلولا الغِمْدُ يُمْسِكه لسالا

وهذا الذي ذهبت إليه هو مذهب الرماني والشجري والشلوبين وغفل عنه أكثر الناس. ومن ذكر الخبر بعد لولا قول أبي عطاء السندي:

ص: 276

لولا أبوك ولا بعده عمر

ألقت إليك مَعَدٌّ بالمَقاليد

وأما المبتدأ المقسم به فيجب حذف خبره بشرط كونه قسما صريحا، نحو: لعمرك، وايمن الله. وإنما وجب حذف خبره لأن فيه ما في خبر المبتدأ بعد لولا من كونه معلوما، مع سد الجواب مسده. فلو كان المبتدأ في القسم صالحا لغير القسم، نحو: عهد الله، لم يجب الحذف، فجائز أن يقال: عليّ عهد الله لأفعلن، فيؤتى بالخبر، وجائز أن يقال: عهد الله لأفعلن، فيحذف الخبر، لأن ذكر "لعمرك" و"ايمن الله" مشعر بالقسم قبل ذكر المقسم عليه، بخلاف عهد الله، فإنه لا يشعر حتى يذكر المقسم عليه، ففرق بينهما، وجعل أحدهما واجب الحذف، والآخر جائزه، فلذلك قلت: أو قسم صريح.

ومن الحذف الواجب حذف خبر المبتدأ بعد واو المصاحبة الصريحة، كقولك: أنت ورأيت، وكلّ عمل وجزاؤه، وكل ثوب وقيمتُه. وإنما كان الحذف هنا واجبا لأن الواو وما بعدها قاما مقام "مع" وما ينجر بها، مع ظهور المعنى، فكما أنك لو جئت بمع موضع الواو لم تحتج إلى مزيد عليها وعلى ما يليها في حصول الفائدة، وكذلك لا يحتاج إليه في اللفظ مع الواو ومصحوبها، لكن بشرط أن يكون نصًّا في قصد المصاحبة، فينزل اللفظ بهذه الواو ومصحوبها في الاستغناء بهما عن الخبر منزلة "سقيا" وأمثاله في الاستغناء بها عن الأفعال، فكما أن الحذف هناك لازم كان هنا لازما. قال أبو الحسن بن خروف في هذا: ولا يحتاج فيه إلى حذف خبر لتمامه وصحة معناه، وإن قدر "مقرونان" فلبيان المعنى. قلت: يلزم ابنَ خروف أن يكون الأمر كذلك في كل موضع التزم فيه حذف الخبر، ولا نقول بذلك. فالقول ما قاله غيره: أن الخبر محذوف.

فلو كان الكلام مع الواو محتملا لقصد المصاحبة ولمطلق العطف لم يجب الحذف، نحو قولك: زيد وعمرو، وأنت تريد: مع عمرو، فإنه غير صالحن فلك أن تأتي

ص: 277

بالخبر فتقول: زيد وعمرو مقترنان، ولك أن تستغني عن الخبر اتكالا على أن السامع يفهم من اقتصارك عليهما معنى الاقتران والاصطحاب.

ومن الحذف الواجب حذف الخبر قبل الحال، إذا كان المبتدأ أو معموله عاملا في مفسر صاحبها، أو مؤولا بذلك، نحو: ضربي زيد قائما، وأصله عند أكثر البصريين: ضربي زيدا إذا كان قائما، فالمبتدأ "ضربي" وخبره "إذا" وكان تامة، لأنها لو كانت ناقصة لكان خبرها قائما، ولو كان خبرها لجاز أن يعرف، ولامتنع أن تقع موقعه الجملة الاسمية المقرونة بواو الحال، ولكن العرب التزمت تنكيره، وأوقعت موقعه الجملة الاسمية المقرونة بواو الحال، فعلم أنه حال لا خبر. ومثال وقوع الجملة المذكورة موقعه قول النبي عليه السلام:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" ومثله قول الشاعر:

خيرُ اقترابي من المولى حليفَ رِضًى

وشرُّ بُعْدي منه وهو غضبان

ومثال كون المصدر العامل في مفسّر صاحب الحال معمولَ المبتدأ قولك: كلُّ شربي السَّويق مَلْتوتا، وبعضُ ضربك زيدا بريئا.

وإلى نحو: أقربُ ما يكون العبد، وخير اقترابي من المولى، أشرت بقولي:"أو مؤولا بذلك" أي بالمصدر المقيد، لأن "ما يكون" مؤولا بالكون، وأقرب الكون كون، وخير الاقتراب اقتراب.

واحترزت بأن يكون المصدر المشار إليه عاملا في مفسر صاحب الحال من مصدر لا يكون كذلك، كقولك: ضربي زيدا قائما شديد، فالمبتدأ فيه مصدر عامل في صاحب الحال وفيها، فلم يصح أن تغني عن خبره، لأنه من صلته. وكذا لو جعلت عاملها كان مقدرة مضافا إليها "إذا" أو "إذ" أو "ما" متعلقة

ص: 278

بالمصدر فإن الحال لا يغني عن الخبر، لأنها معمولة لما أضيف إليه معمول المصدر، فالجميع من الصلة، فلا يغني شيء منه عن الخبر.

وتناول احترازي أيضا قولهم: "حكمك مُسَمّطا" فإن المبتدأ فيه مصدر مستغن عن خبره بحال استغناء شاذا، لأن صاحب الحال ضمير عائد على المبتدأ الذي هو حكمك، بخلاف: ضربي زيدا قائما، فإن صاحب الحال فيه فاعل كان المقدرة، وهو ضمير عائد على زيد، وزيد معمول المصدر المجعول مبتدأ. وإنما قلت: إن مسمطا حال من ضَمير عائد على المصدر، لأن التقدير: حكمك لك مسمطا، أي مثبتا، فصاحب الحال الضمير المستكن في "لك" وهو عائد على المصدر المجعول مبتدأ، فهذا ونحوه الحذف فيه شاذ غير لازم، ونحو: ضربي زيدا قائما، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، الحذف فيه ملتزم.

وليس وجود المفعول في نحو: ضربي زيدا قائما، شرطا، بل يجوز سد الحال مسد خبر المصدر مع كونه من فعل لازم، كقولك: قيامك محسنا، وإحسانك قائما. وهذا النوع أيضا داخل تحت قولي:"إذا كان المبتدأ عاملا في مفسر صاحبها" فإن المضاف عامل في المضاف إليه.

ص: والخبر الذي سدت مسده مصدر مضاف إلى صاحبها، لا زمان مضاف إلى فعله، وفاقا للأخفش، ورفعها خبرا بعد أفعل مضافا إلى ما موصولة بكان أو يكون جائز، وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع.

ش: فاعل سدّت من قولي: والخبرُ الذي سدّت مَسَدَّه ضمير عائد على الحال التي أغنت عن الخبر في: ضربي زيدا قائما، ونحوه، والغرض من هذا الكلام بيان ما هو أولى الوجوه في هذه المسألة، وينبغي أن يعلم أولا أن فيها ستة أوجه:

ص: 279

أحدها: أن يكون التقدير: ضربي زيدا إذا كان قائما، وهذا هو المشهور عند البصريين.

الثاني: أن يكون التقدير: ضربي زيدا ضَرْبُه قائما، وهذا مذهب الأخفش.

الثالث: أن يكون فاعل المصدر مغنيا عن الخبر كما أغنى عنه فاعل الوصف في نحو: قائم الزيدان.

الرابع: أن تكون الحال مغنية عن الخبر لشبهها بالظرف، كما أغنى بالظرف عنه.

الخامس: أن تكون الحال منصوبة بالمصدر، وقد حذف الخبر حذفا لأجل الاستطالة، كما حذف عند أبي علي الخبر في قولهم: أول ما أقول إني أحمد الله، بالكسر، والتقدير عنده: أول ما أقول إني أحمد الله ثابت. وكذلك يكون التقدير في هذه المسألة المشار إليها: ضربي زيدا قائما ثابت.

السادس: أن يكون "ضربي" فاعل بثبت مضمرا، ويكون المسوغ لتقديره أولا كالمسوغ لتقديره "ثابت" آخرا.

وأجود هذه الأقوال الأول والثاني، إلا أن الثاني أقل حذفا مع صحة المعنى، فكان أولى. وإنما قلت: إن الثاني أقل حذفا، لأنه لم يحذف فيه إلا خبر مضاف إلى مفرد، والأول حذف فيه خبر ثم نائب عن الخبر مع فعل وفاعل، لأن الأصل فيه عند من يراه: ضربي زيدا مستقر إذا كان قائما. وأيضا فإن الثاني حذف فيه خبر عامل بقي معموله، ودلالة المعمول على عامله قوية، والوجه الأول بقي فيه بعد الحذف معمول عامل أضيف إليه نائب عن الخبر الأصلي الذي هو مستقر، فضعفت الدلالة لبعد الأصل، وكثرة الوسائط. وأيضا فإن الحاذف على الوجه الثاني أبين عذرا في الحذف، لأن المحذوف لفظه مماثل للفظ المبتدأ، فيستثقل لذلك ويقوى الباعث على الحذف، وليس في قول القائل: ضربي زيدا ضربه قائما، تعرض لكون زيد وقع به غير الضرب المقارن لقيامه أو لم يقع به، بل تعرض به كما تعرض بقولك ضربته قائما.

ص: 280

وأما الوجه الثالث من الخمسة، وهو أن يغني فاعل المصدر عن الخبر إغناء الفاعل عنه في نحو: أقائم الزيدان، فضعفة بَيِّن، لأنه لو صح لصح الاقتصار على المصدر والفاعل، كما يصح الاقتصار على الوصف وفاعله، فكان يقال: ضربى، فيحسن السكوت عليه، لأن فيه معنى ضربت، كما يحسن السكوت على: أقائم الزيدان؟ لأن فيه معنى: أيقوم الزيدان؟ وفي امتناع ذلك، وجواز هذا، دليل على فساد القول بتساويهما.

وأما الوجه الرابع، وهو أن تكون الحال مغنية عن الخبر لشبهها بالظرف فغير صحيح أيضا، لأن الحال إذا أقيمت مقام الخبر لشبهها بالظرف، فإما أن لا يقدر لها عامل أو يقدر، فإن لم يقدر لها عامل لزم من ذلك استغناؤها عما لا يستغنى عنه الظرف، مع أنه أصل بالنسبة إليها، ولو جاز ذلك مع المصدر لجاز مع غيره، فكان يقال: زيد قائما، لأنه بمعنى في حال قيام. وإن قدر لها عامل لم يكن ذلك العامل إلا مثل المقدر للظرف، فكما يقال في قولك: زيد في حال قيام، تقديره: زيد مستقر في حال قيام، كان يقال في: ضربى زيدا قائما، ضربى زيدا مستقر قائما، فيلزم من ذلك الإخبار عن الضرب بما للضارب، وذلك محال، وما أفضى إلى المحال محال. وصاحب هذا الوجه الرابع هو ابن كيسان، قال في كتابه: وقد يجعلون الحال خبرا للمصدر كالوقت، فيقولون: ضربك زيدا قائما، وخروجك معنا راكبا، قال: وقد يجعلون الواو خبرا للمصدر، لأنها تكون بمعنى الحال والوقت، كقولك: قيامك والناس قعود، وخروجك والركب يسير. وقال: المصدر يكون خبره الحال كقولك: قيامك محسنا، وإحسانك قائما، يريد: قيامك في إحسانك، وإحسانك في قيامك.

وأما الخامس فإنه وجه يلزم أبا على القول به، لأنه أجاز في قولهم: أول ما أقول إني أحمد الله، بالكسر، أن يكون "إني" محكيا بالقول، فيكون من صلته، ويكون خبر المبتدأ الذي هو: أول ما أقول، محذوفا، كأنه قال: أول قولي

ص: 281

هذا الكلام ثابت. فكما جاز أن يحذف الخبر هناك بلا دليل زائد على الحاجة إليه، كذلك يلزمه تجويز حذف الخبر هنا، وتقديره بمثل ما قدَّره هناك، لأن الحاجة إليهما سواء، والمخبر عنه في الصورتين مصدر، لأن أول القول قولي. والصحيح في قولهم: أول ما أقول إني أحمد الله، بالكسر، أن يكون كلاما تاما، فيجعل "أول ما أقول" مبتدأ، و"إني أحمد الله" خبره. كأنه قال: مبتدأ كلامي هذا الكلام. ولا يصح أن يقدر "ثابت" خبرا، لأن ذلك يقتضي ثبوت أول هذا القول، وأول الشيء غير جميعه، فيكون الثابت أول حرف من الجملة، إن نويت حروفها، وأول كلمة منها إن نويت كلماتها، وكلاهما ليس مقصودا، فتعين كونه مردودا. وأيضا فإن تقدير "ثابت" خبرا بعد: إني أحمد الله، وبعد: ضربى زيدا قائما، وأمثالهما، تقدير ما لا دليل عليه، إذ ليس هو بالتقدير أولى من غيره من المقدرات الممكنة، وحذف ما كان في حذفه ذلك ممنوع.

وفي رد هذا الوجه الخامس إشعار برد الوجه السادس، لأن مبناه على تقدير ما لا يتعين تقديره، وتقدير ما عدم نظيره. فثبت بمجموع ما ذكرته أن أولى الأوجه الستة بالصواب ما ذهب إليه الأخفش، ويليه الأول، وما سواهما ضعفه بيّن، واطراحه متعين.

وأجاز الأخفش في نحو: أخطب ما يكون الأمير قائما، رفع قائم خبر أخطب، فيلزم من ذلك ارتكاب مجازين:

أحدهما: إضافة "أخطب" مع أنه من صفات الأعيان إلى "ما يكون" وهو في تأويل الكون.

والثاني: الإخبار بقائم مع أنه في الأصل من صفات الأعيان عن "أخطب ما يكون" مع أنه في المعنى كون، لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه، والحامل على ذلك قصد المبالغة، وقد فتح بابها بأول الجملة، فعضدت بآخرها مرفوعا.

وإلى هذا أشرت بقولي: "ورفعها خبرا بعد أفعل مضافا إلى ما موصولة بكان أو يكون جائز. وقولي: وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع" أشرت به إلى نحو قول القائل: ضربى زيدا قائم، على تقدير: وهو قائم، فحقه أن يمنع مطلقا،

ص: 282

لأنه شبيه بقولك: جاء زيد راكب، على تقدير: وهو راكب، لكن الضرورة أباحت حذف المبتدأ المقرون بالفاء في جواب الشرط وهو أضعف، فإجازة حذف مبتدأ مقرون بواو الحال أولى. ومثال حذف المبتدأ مقرونا بالفاء قول الشاعر:

بني ثُعَل لا تَنْكِعُوا العَنْزَ شِرْبها

بني ثُعَل مَنْ يَنْكَعِ العَنْزَ ظالم

أراد فهو ظالم.

ص: وليس التالي لولا مرفوعا بها، ولا بفعل مضمر، خلافا للكوفيين، ولا يغني فاعل المصدر المذكور عن تقدير الخبر إغناء المرفوع بالوصف المذكور، ولا الواو والحالُ المشار إليهما، خلافا لزاعمي ذلك. ولا يمتنع وقوع الحال المذكورة فعلا خلافا للفراء، ولا جملة اسمية بلا واو، وفاقا للكسائي، ويجوز إتباع المصدر المذكور، وفاقا له أيضا.

ش: قد تقدم أن المرفوع بعد لولا الامتناعية مبتدأ ملتزم حذف خبره، وهو الصحيح، لأنه إذا كان مبتدأ محذوف الخبر كان نظير المقسم به في كونه مبتدأ محذوف الخبر للعلم به وسد الجواب مسده، بل يكون أولى بصحة حذف الخبر، لأن في لولا إشعارا بالوجود المانع من ثبوت معنى الجواب، والوجود الذي يشعر به هو المفاد بالخبر لو نطق به، ففي حذف الخبر بعد لولا من العذر ما في حذف خبر المقسم به وزيادة.

وروي عن الفراء أن لولا الامتناعية هي الرافعة للاسم بعدها. وروى غيره من الكوفيين أنه مرفوع بفعل مضمر. والقولان مردودان، لأنهما مستلزمان ما لا نظير له، إذ ليس في الكلام حرف يرفع ولا ينصب، ولا حرف التزم بعده إضمار فعل رافع، ولا يقبل ما يستلزم عدم النظير، مع وجدان ما له نظير.

وأيضا فإن المبتدأ أصل المرفوعات على ما بين في فصل إعراب الاسم، فأي

ص: 283

موضع وجد فيه اسم مرفوع محتمل للابتداء وغيره فالابتداء به أولى.

وأيضا فإذا حكم بالابتداء على الاسم الواقع بعد لولا كان المحذوف من الجملة مؤخرا، وإذا حكم بفاعليته كان المحذوف منها مقدما، والأواخر بالحذف أولى من الأوائل.

وإذا ثبت أن الابتداء به أولى، وأن موضعه لا يصلح للفعل، وجب التحيّل في تخريج ما وقع بخلاف ذلك، كقول الشاعر:

ولولا يحسَبون الحلمَ جهلا

لما عَدِم المسيئون احتمالي

أراد: ولولا أن يحسبوا، فحذف أن، ورفع الفعل، والموضع موضع مبتدأ على تقدير أن، كما قالوا:"تسمع بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه".

وقد تدخل "لو" على "لا" التي بمعنى "لم" فيليها الفعل لزوما، فيتخيل أنها لولا الامتناعية، وليست إياها، ومنه قول الشاعر:

لا دَرَّ دَرُّكِ إني قد رَمَيْتُهم

لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرى لِمَحْدُود

أراد: لو لم أحد، ومجيء "لا" بمعنى "لم" كثير، ومنه قول الراجز:

لا هُمَّ إن الحارثَ بن جَبَلَه

زنا على أبيه ثم قتله

وأيُّ شيءٍ سَيِّءٍ لا فَعَله

ص: 284

وقد تقدم الكلام على مضمون قولي: "ولا يغني فاعل المصدر المذكور عن تقدير الخبر إغناء المرفوع بالوصف المذكور".وكذا تقدم الإعلام بقول ابن خروف في نحو: كلُّ رجلٍ وضيعتُه، لا يحتاج فيه إلى حذف خبر، لتمامه وصحة معناه، وإن قدر: مقرونان، فلبيان المعنى، وهذا الذي ذهب إليه ابن خروف هو مذهب مهجور. وكذا القول بأن الحال المذكورة في نحو: ضربى زيدا قائما، تغني عن الخبر لشبهها بالظرف، هو قول ضعيف، وقد بينت ضعفه من قبل.

ومنع الفراء وقوع الحال المذكورة فعلا فرارا من كثرة مخالفة الأصل، وذلك أن الحال إذا سدّت مسدّ الخبر فهو على خلاف الأصل، وإذا وقع الفعل موقع الحال فهو على خلاف الأصل، فلا ينبغي أن يحكم بجوازه، فإنه مخالفة بعد مخالفة. وهذا الذي اعتبره قد دلت العرب على أنه غير معتبر، بوقوع الجملة الاسمية موقع الحال المذكورة، فلو لم تقع الجملة الفعلية موقع الحال المذكورة نقلا، لجاز وقوعها قياسا على وقوع الجملة الاسمية، ومع ذلك فقد سمع من العرب وقوع الجملة الفعلية موقع الحال المذكورة، ومن ذلك قول الشاعر، أنشده سيبويه:

ورأيُ عَيْنَيّ الفتى أباكا

يُعطِي الجزيلَ فعليك ذاكا

والمشهور من قول النحويين غير الكسائي أن الحال التي تسد مسد الخبر إذا كانت

ص: 285

جملة اسمية لا تستغنى عن الواو، والذي حملهم على ذلك أن الاستعمال لم يرد بخلافه، فأفتوا بالتزامه، ولم ير الكسائي ذلك ملتزما بعد سدها مسد الخبر، كما لم يكن ملتزما قبله، وبقوله أقول. وقد كان مقتضى الدليل أن حذف الواو هنا أولى، لأنه موضع اختصار، لكن الواقع بخلاف ذلك، وباب القياس مفتوح، ومما حكى ابن كيسان: مسرتك، أخاك قائما أبوه، ثم قال: فإن قلت: مسرتك أخاك قائما أبوه، أو مسرتك أخاك هو قائم، جازت المسألتان عند الكسائي وحده، فإن جئت بالواو قبل "هو" جازت المسألة في كل الأقوال.

ومما أجاز الكسائي وحده إتباع المصدر المذكور على وجه لا يقدح في البيان، كقولك: ضربي زيدا الشديدُ قائما، وشربي السَّويق كله ملتوتا. ومن منع احتج بكون الموضع موضِع اختِصار، وأنّ السماع لم يرد فيه إتباع، ومن أجازه تبع القياس، ولم يرد عدم السماع مانعا، لأن الحاجة داعية إلى استعمال ما منعوه في بعض المواضع، فإجازته توسعة، ومنعه تضييق.

ص: ويحذف المبتدأ أيضا جوازا لقرينة، ووجوبا كالمُخْبَر عنه بنعت مقطوع لمجرد مدح أو ذم أو ترحم، أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله، أو بمخصوص في باب نعم، أو بصريح في القسم، وإن ولى معطوفا على مبتدأ يليه فعلٌ لأحدهما واقعٌ على الآخر صحت المسألة، خلافا لمن منع. وقد يغني مضاف إليه المبتدأ عن معطوف فيطابقهما الخبر.

ش: ومن حذف المبتدأ جوازا لقرينة حذفه بعد استفهام عن الخبر، كقولك: صحيح، وفي المسجد، وغدا، وعشرون، لمن قال: كيف أنت؟ وأين اعتكافك؟ ومتى سفرك؟ وكم دراهمك؟

ومن ذلك حذفه عند شم طيب، أو سمع صوت، أو رؤية شبح، فيقال: مسك، وقراءة، وإنسان، بإضمار: هذا، ونحوه. ولو كان المذكور من هذه الثلاثة ونحوها معرفة جاز جعله خبرا لمبتدأ محذوف، ومبتدأ لخبر محذوف.

ص: 286

ومن القرائن المحسنة لحذف المبتدأ وجود فاء الجزاء داخلة على ما لا يصلح أن يكون مبتدأ، كقوله تعالى:(مَنْ عَمِل صالحا فلنفسه ومَنْ أساء فعليها) أي: فصلاحه لنفسه، وإساءته عليها. فحذف المبتدأ لهذه القرائن وأشباهها جائز.

وأما الحذف الواجب فكحذف المبتدأ المخبر عنه بنعت مقطوع لتعين المنعوت بدونه لكونه لمجرد مدح، كقولهم: الحمدُ للهِ الحميدُ، وصلى الله على محمدٍ سيدُ المرسلين. أو لمجرد ذم، كقولك: أعوذُ بالله من إبليس عَدُوُّ المؤمنين. أو لمجرد الترحم كقولك: مررت بغلامِك المسكينُ، فهذه ونحوها من النعوت المقطوعة للاستغناء عنها بحصول التعيين بدونها، لك فيها النصب بفعل ملتزم إضماره، والرفع بمقتضى الخبرية لمبتدأ لا يجوز إظهاره، وذلك أنهم قصدوا إنشاء المدح، فجعلوا إضمار الناصب أمارة على ذلك، كما فعلوا في النداء، إذ لو أظهر الناصب لخفي معنى الإنشاء وتوهم كونه خبرا مستأنف المعنى، فلما التزم الإضمار في النصب التزم أيضا في الرفع ليجرى الوجهان على سنن واحد.

ومن التزام حذف المبتدأ أن يحذف لكون خبره مصدرا جيء به بدلا من اللفظ بفعله، كقول الشاعر:

فقالتْ: حنانٌ ما أتى بك ههنا

أذُو نَسَبٍ أم أنت بالحيِّ عارِف

ومنه قولهم: سمع وطاعة، أي: أمري حنان، وأمري سمع وطاعة. والأصل في هذا النوع النصب، لأنه مصدر جيء به بدلا من اللفظ بفعله، فالتزم إضمار ناصبه لئلا يجتمع بدل ومبدل منه في غير إتباع، ثم حمل المرفوع على المنصوب في

ص: 287

التزام إضمار الرافع الذي هو المبتدأ، قال سيبويه: وسمعت من يوثق بعربيته يقال له: كيف أصبحت؟ فقال: حمدُ الله وثناء عليه، أي: أمري حمد الله. وأنشد قول الآخر:

صبرٌ جميل فكلانا مُبْتَلى

ثم قال سيبويه: "والذي يرفع عليه "حنان" و"صبر" وما أشبه ذلك لا يستعمل إظهاره كترك إظهار ما نصب به. قال: ومثله قول بعض العرب: من أنت؟ زيدٌ، أي: من أنت؟ كلامك زيد، فتركوا إظهار الرافع، كترك إظهار الناصب" هذا نصه.

ومن الملتزم حذفه المخبر عنه بممدوح نعم، ومذموم بئس، إذا جعلا خبري مبتدأين، فإن للقائل: نعم الرجل زيد، أن يجعل "زيدا" خبر مبتدأ محذوف، وأن يجعله مبتدأ مخبرا عنه بنعم وفاعلها، فعلى القول بأنه خبر، يكون ما هو له خبر واجب الحذف.

ومن المبتدأ الملتزم حذفه قول العرب: في ذمتي لأفعلن، يريدون: في ذمتي ميثاق، أو عهد، أو يمين، فاقتصروا في هذا القسم على خبر المبتدأ، والتزموا حذف المبتدأ، كما فعلوا عكس ذلك في قولهم: لعمرك لأفعلنّ. ذكر هذه المسألة أبو علي رحمه الله، ومن شواهد هذا الاستعمال قول الشاعر:

تُساوِرُ سَوَّارا إلى المجد والعُلا

وفي ذِمّتي لئن فعلت ليفعلا

ومثال معطوف على مبتدأ يليه فعل لأحدهما قولهم: زيد والريح يباريها، وفي

ص: 288

هذه المسألة خلاف: فمن البصريين والكوفيين من لم يجزها، ومنهم من أجازها. فمن أجازها من البصريين جعل التقدير: زيد والريح يجريان يباريها، فيجريان خبر محذوف، ويباريها في موضع نصب على الحال، فاستغنى بها عن الخبر لدلالتها عليه. ومن أجازها من الكوفيين أجازها حملا على معنى يتباريان، ولم يحتج إلى تقدير محذوف. واستدل أبو بكر بن الأنباري على صحة هذا الاستعمال بقول الشاعر:

واعلم بأنّك والمنيّسـ

.ـةَ شاربٌ بعُقارها

وقد يقصد اشتراك المضاف والمضاف إليه في خبر، فيجيء الخبر مثنى، كقول بعض العرب: راكب البعير طليحان، والأصل: راكب البعير والبعير طليحان، فحذف المعطوف لوضوع المعنى. وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي: وقد يغني مضاف إليه المبتدأ عن معطوف فيطابقهما الخبر.

ص: والأصل تعريف المبتدأ وتنكير الخبر، وقد يعرفان، وقد ينكران بشرط الفائدة، وحصولها في الغالب عند تنكير المبتدأ بأن يكون: وصفا، أو موصوفا بظاهر أو مقدر، أو عاملا، أو معطوفا، أو معطوفا عليه، أو مقصودا به العموم. أو الإبهام، أو تالي استفهام، أو نفي، أو لولا، أو واو الحال، أو فاء الجزاء، أو ظرف مختص أو لاحق به، أو بأن يكون دعاء، أو جوابا، أو واجب التصدير، أو مقدرا إيجابه بعد نفي. والمعرفة خبر النكرة عند سيبويه في نحو: كم مالك؟ ? واقصد رجلا خيرٌ منه أبوه.

ش: لما كان الغرض بالكلام حصول فائدة، وكان الإخبار عن غير معين لا يفيد، كان أصل المبتدأ التعريف، ولذا إذا أخبر عن معرفة لم تتوقف الإفادة على زيادة، بخلاف النكرة فإن حصول الفائدة بالإخبار عنها يتوقف على قرينة لفظية أو معنوية. ويلزم من كون المبتدأ معرفة في الأصل كون الخبرة نكرة في الأصل،

ص: 289

لأنه إذا كان معرفة مسبوقا بمعرفة، توهم كونهما موصوفا وصفة، فمجيء الخبر نكرة يدفع ذلك التوهم، فكان أصلا.

وأيضا فإن نسبة الخبر من المبتدأ كنسبة الفعل من فاعله، والفعل يلزمه التنكير، فاستحق الخبر لشبهه به أن يكون راجحا تنكيره على تعريفه.

وقد يتعرفان، كقوله تعالى (الله ربنا وربكم) و (محمد رسول الله)، وقد ينكران، كقوله تعالى:(ولعبدٌ مؤمن خير من مشرك).

ونبهت قائلا: "بشرط الفائدة" على أن عدم حصولها مانع من كون المبتدأ والخبر كلاما، سواء كانا معرفتين أو نكرتين، أو معرفة ونكرة. وقولي: وحصولها في الغالب بكذا وكذا" تنبيه على أن الفائدة قد يندر حصولها في الإخبار عن نكرة خالية من جميع ما ذكر، كقول من خرقت له العادة برؤية شجرة ساجدة، أو بسماع حصاة مسبحة: شجرة سجدت، وحصاة سبحت.

ومثال الابتداء بنكرة موصوفة بظاهر قوله تعالى: (ولعبدٌ مؤمن خير من مشرك) وفي الحديث: "شوهاء ولود خير من حسناء عقيم".

ومثال الابتداء بنكرة موصوفة بمقدر قولهم: السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم، فمنوان نكرة ابتدئ بها لأنها موصوفة بوصف مقدر، ومنه قوله تعالى (يَغْشى طائفة منكم وطائفةٌ قد أهمتهم أنفسهم) فالواو واو الحال، وطائفة مبتدأ خبره ما بعده، وجاز الابتداء بها لأنها موصوفة بمقدّر، كأنه قال: وطائفة من غيركم، وهم المنافقون. ومن هذا القبيل قول الشاعر:

ص: 290

إنّي لأكثر مما سُمْتِني عجبا

يدٌ تَشُجُّ وأخرى منك تأسوني

أي: يد منك تشج، فيد مبتدأ خبره تشج، ومنك صفة مخصصة حذفت للعلم بها، كما حذفت صفة طائفة في الآية، ومنه قول الآخر:

وما برح الواشُون حتى ارتَموْا بنا

وحتى قلوبٌ عن قلوب صوادفُ

أي قلوب منا، عن قلوب منهم.

ومثال الابتداء بنكرة عاملة قوله صلى الله عليه وسلم: "أمر بمعروف صدفة، ونهي عن منكر صدقة".

ويدخل في هذا أيضا المضاف إلى نكرة كقوله: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد".

ومثال الابتداء بنكرة لأجل عطفها قول الشاعر:

ص: 291

عندي اصطِبارٌ وشَكْوَى عند قاتلتي

فهل بأعجبَ من هذا امرؤُ سمعا

ومثله قول رؤبة:

حتى ترامى بالظُّنون الظُّنَّنِ تَخْلِطُ قولِ الكاذبين المُيَّن

إذ مِنْ هنٍ قولٌ وقولٌ من هنِ

ومثال الابتداء بنكرة لأجل العطف عليها قوله تعالى: (طاعةٌ وقولٌ معروف) على أن يكون التقدير: طاعة وقول معروف أمثل، أو نحو ذلك، وهو أحد تقديري سيبويه.

ومن الابتداء بالنكرة لأجل العطف عليها قول الشاعر:

غرابٌ وظبيٌ أعْضَبُ القَرْنِ نادَيا

بِصَرْمٍ وصْرْدانُ العَشِيِّ تصيح

ص: 292

وقول العرب: "شهرٌ ثَرَى، وشهرٌ تَرَى، شهر مَرْعَى" ومنه قول الشاعر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا

ويوم نُساءُ ويوم نُسَرّ

ومثال النكرة المبدوء بها لأجل العموم، وما روي من قول ابن عباس رضي الله عنهما:"تمرة خير من جرادة"، ومن كلام العرب: خُبَأَةُ صِدْق خيرٌ من يَفَعة سَوْء.

ومثال المبتدأ بها لقصد الإبهام: ما أحسن زيدا.

ومثال التالية استفهاما: أرجل في الدار؟

ومثال التالية نفيا: ما رجل في الدار.

ومثال التالية لولا، قول الشاعر:

ص: 293

لولا اصطبارٌ لأودَى كلُّ ذي مِقة

حين استقلتْ مطاياهن للظَّعَن

ومثال التالية واو الحال قول الشاعر:

عَرَضْنا فَسَلّمنا فسلّم كارها

علينا وتَبْريحٌ من الوجد خانِقُه

وقال آخر:

سَرَينا ونَجْمٌ قد أضاء فمذ بَدا

محَيّاك أخْفى ضوؤُه كلَّ شارق

ومثال التالية فاء الجزاء قول العرب في مثل: إن ذهب عَيْرٌ فعيرٌ في الرباط.

ومثال التالية ظرفا مختصا: عندك مال. وقُيّد بالاختصاص تنبيها على أنه لو جيء به غير مختص لم يفد الإخبار به، نحو: عند رجل مال.

وأشرت بقولي: "أو لا حق به" إلى الجار والمجرور المختص، نحو: لك مال. وإلى الجملة المشتملة على فائدة، نحو: قصدك غلامه رجل، فإنه جائز

ص: 294

جواز: عندك رجل، لأن في تقديم هذه الجملة وشبهها خبرا ما في تقديم الظرف من رفع توهم الوصفية، مع عدم قبول الابتداء.

ومثال الابتداء بنكرة لكونها دعاء قول الشاعر:

لقد أَلَّبَ الواشون أَلبا بجمعهم

فتُربٌ لأفواه الوشاة وجندلُ

ومثال الابتداء بنكرة لكونها جوابا قولك ? لمن قال: ما عندك؟ - درهم، فدرهم مبتدأ، خبره محذوف، والتقدير: درهم عندي، ولا يجوز أن يكون التقدير: عندي درهم، إلا على ضعف، لأن الجواب ينبغي أن يسلك به سبيل السؤال، والمقدم في السؤال هو المبتدأ، فكان هو المقدم في الجواب. ولأن الأصل تأخير الخبر، فترك في مثل: عندي درهم، لأن التأخير يوهم الوصفية، وذلك مأمون فيما هو جواب، فلم يعدل عن الأصل بلا سبب.

ومثال الابتداء بنكرة لأنها واجبة التصدير قولك: مَنْ عندك؟ وكم درهما مالُك؟ فمن وكم نكرتان، وجاز الابتداء بهما لأنهما بمنزلة نكرة مسبوقة باستفهام، لأنهما متضمنان معنى حرفه.

ومثال النكرة المقدر إيجابها بعد نفي قولهم: شَرٌّ أهر ذا ناب، فإنه بمعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر. ومثله قول الشاعر:

قَدَرٌ أحلَّكَ ذا المجاز وقد أرَى

وأبيَّ مالَكَ ذو المجاز بدار

أي ما أحلك ذا المجاز إلا قدر. ومثله:

ص: 295

قضاءٌ رمى الأشقى بسَهْم شقائه

وأغْرى بسبل الخير كلَّ سعيد

والمبتدأ عند سيبويه في نحو: كم مالك؟ "كم" مع أنه نكرة، والخبر "مالك" مع أنه معرفة، وكذا نحو: مررت برجل أفضلُ منه أبوه، أفضل عنده مبتدأ، وأبوه خبر، فجعل النكرة مبتدأ، والمعرفة خبرا، لأن وقوع ما بعد أسماء الاستفهام نكرة وجملة وظرفا أكثر من وقوعه معرفة، وعند وقوعه غير معرفة لا يكون إلا خبرا نحو: من قائم؟ ومن قام؟ ومن عندك؟ فحكم على المعرفة بالخبرية ليجرى الباب على سنن واحد، وليكون الأقل محمولا على الأكثر، والكلام على أفعل التفضيل كالكلام على أسماء الاستفهام.

ص: والأصل تأخير الخبر، ويجوز تقديمه إن لم يوهم ابتدائية الخبر، أو فاعلية المبتدأ، أو يقرن بالفاء، أو بإلا لفظا أو معنى في الاختيار، أو يكنْ لمقرون بلام الابتداء، أو لضمير الشأن أو شبهه، أو لأداة استفهام، أو شرط، أو مضاف إلى إحداهما.

ش: قد تقدم الإعلام بأن المبتدأ عامل في الخبر، وإذا كان عاملا فحقه أن يتقدم كما تتقدم سائر العوامل على معمولاتها، لا سيما عامل لا يتصرف، ومقتضى ذلك التزام تأخير الخبر، لكن أجيز تقديمه لشبهه بالفعل في كونه مسندا، ولشبه المبتدأ بالفاعل في كونه مسندا إليه. إلا أن جواز تقديمه مشروط بالسلامة من اللبس. فلو كان المبتدأ والخبر معرفتين أو نكرتين وجب تقديم المبتدأ، لأنه لا يتميز من الخبر إلا بذلك، فإن كان له قرينة معنوية يحصل بها التمييز لم يجب تقديم المبتدأ، وذلك نحو قول حسان رضي الله عنه:

قبيلةٌ ألأَمُ الأحياء أكرمُها

وأغْدَرُ الناس بالجيران وافيها

ص: 296

ونحو قول الآخر:

وأغناهما أرضاهما بنصيبه

وكلٌّ له رزقٌ من الله واجب

فألأم الأحياء، وأغناهما خبران مقدمان، وأكرمها وأرضاهما مبتدآن مؤخران، مع التساوي في التعريف، لأن المعنى إنما يصح بذلك. ومثل ذلك قول الآخر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناءُ الرجال الأباعد

فبنونا خبر مقدم، وبنو أبنائنا مبتدأ مؤخر، لأن مراد القائل الإعلام بأن بني أبنائهم كبنيهم، فالمؤخر مشبه، والمقدم مشبه به، لا يستقيم المعنى إلا بهذا التأويل، والأصْل تقديم المشبه وتأخير المشبه به، كقولك: زيد زهير شعرا، وعمرو عنترة شجاعة، وأبو يوسف أبو حنيفة فقها، وسهل في البيت العكس وضوح المعنى، والعلم بأن الأعلى لا يشبه بالأدنى عند قصد الحقيقة، فلو تقدم زهير على زيد، وعنترة على عمرو، وأبو حنيفة على أبي يوسف لم يمتنع، لأن المعنى لا يُجْهَل. ومن تقديم الخبر وهو معرفة للعلم بكونه خبرا قول الشاعر:

جانيك مَنْ يجني عليك وقد

تُعْدى الصحاحَ مَباركُ الجُرْبِ

ص: 297

أي جانيك الذي تعود جنايته عليك، يعني العاقلة، فمن يجني مبتدأ، لأن المعنى عليه.

ومن تقديم الخبر لوضوح المعنى مع مساواته المبتدأ في التنكير قوله صلى الله عليه وسلم: "مسكين مسكين رجل لا زوج له".

ولو كان المبتدأ مخبرا عنه بفعل فاعلُه ضمير مستتر نحو: زيد قام، لم يجز تقديم الخبر، لأن تقديمه يوهم كون الجملة مركبة من فعل وفاعل. فلو برز فاعل الفعل جاز التقديم، كقولك في: الزيدون قاموا: قاموا الزيدون، على أن يكون "قاموا" خبرا مقدما، ولا يمنع من ذلك احتمال كونه على لغة: أكلوني البراغيث، لأن تقديم الخبر أكثر في الكلام من تلك اللغة، والحمل على الأكثر راجح.

ومما يمنع تقديم الخبر اقترانه بالفاء نحو: الذي يأتيني فله درهم، لأن سبب اقترانه بالفاء شبهه بجواب الشرط، فلم يجز تقديمه، كما لا يجوز تقديم جواب الشرط.

ومما يمنع تقديم الخبر اقترانه بإلا لفظا أو معنى، كما في قوله تعالى:(وما محمد إلا رسول) وكقوله تعالى (إنما أنت نذير) وأشرت بقولي: في "الاختيار" إلى أن تقديم الخبر المقترن بإلا قد يرد في الشعر، كقول الكميت:

فيا ربِّ هل إلا بك النصرُ يُبْتَغى

عليهم وهل إلا عليك المُعَوَّل

ومما يمنع تقديم الخبر اقتران المبتدأ بلام الابتداء، لأن اقترانها به يؤكد الاهتمام بأوليته، وتقدم خبرها عليها مناف لذلك فمنع، ولأجل استحقاقها للتصدير امتنع تأثر مصحوبها بأفعال القلوب في نحو: علمت لزيدٌ كريم، فإن قوقع ما يوهم تقديم خبر مصحوبها حكم بزيادتها، أو بتقدير مبتدأ بينها وبين مصحوبها الظاهر، كقول الشاعر:

ص: 298

خالي لأنت ومَنْ جريرٌ خاله

يَنَل العَلاء ويكرم الأخوالا

فلك أن تجعل اللام من قوله: لأنت، زائدة كزيادتها في قول الراجز:

أمُّ الحُلَيْس لَعَجوزٌ شَهْرَبَهْ

ترضَى من اللحم بعظم الرَّقبه

ولك أن تجعلها لام ابتداء داخلةعلى مبتدأ خبره أنت، كأنه قال: خالي لهو أنت. وزيادتها أولى، لأن مصحوب لام الابتداء مؤكَّد بها، وحذف المؤكَّد مناف لتوكيده.

ومن زيادتها مع الخبر قول كثير:

أصاب الرّدى مَنْ كان يهوى لكِ الرَّدى

وجُنَّ اللواتي قُلْنَ عَزّةُ جُنَّتِ

فهنّ لأولى بالجنون وبالجفا

وبالسيئات ما حَيِين وحَيَّت

ومن زيادتها قول الشاعر:

وبنفسي لَهُمومٌ

فهي حَرّى آسفة

ومما يمنع تقديم الخبر كون المبتدأ ضمير الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، لأنه لو قدم خبره عليه فقيل: زيد منطلق هو لم يعلم كونه ضمير الشأن، ولتوهم كونه مؤكدا للضمير المستكن في الخبر.

وفي حكم ضمير الشأن قول القائل: كلامي زيد منطلق، فإن تأخير "كلامي" وتقديم: زيد منطلق، ممتنع، لأن سامع قولك: زيد منطلق، قد علم أنه كلامك، فيتنزل قولك "كلامي" بعد ذلك منزلة قولك: كلامي هو كلامي، ولا فائدة في ذلك.

ومما يمنع تقديم الخبر كون المبتدأ بعض أسماء الاستفهام أو الشرط نحو: أيُّهم

ص: 299

أفضل؟ ومَنْ يقمْ أقمْ معه. وكذا الحكم في الابتداء بما أضيف إلى بعض أسماء الاستفهام والشرط.

ص: ويجوز نحو: في داره زيدٌ، إجماعا، وكذا: في داره قيام زيد، وفي دارها عبدُ هند، عند الأخفش.

ش: نحو في داره زيد، جائز بلا خلاف، إذ ليس فيه إلا تقديم خبر مشتمل على ضمير عائد على مبتدأ متأخر، ولا بأس بذلك، لأنه مقدم الرتبة، فأجمع على جوازه، كما أجمع في باب الفاعل على جواز نحو: ضرب غلامَه زيدٌ.

وأجاز الأخفش تقديم خبر مشتمل على ضمير عائد على ما أضيف إليه المبتدأ، وسوَّى في ذلك بين الصالح للحذف، وإقامة المضاف إليه مقامه، نحو: في داره قيام زيد، وبين ما لا يصلح لذلك نحو: في دارها عبد هند، وبقوله أقول: لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد. فإذا كان المضاف مقدر التقديم بوجه ما كان المضاف إليه مقدرا معه، إلا أن تقديم ضمير ما يصلح أن يقام مقام المضاف أسهل، ومنه قول العرب: في أكفانه درج الميت، وقول الشاعر:

بمَسْعاته هلكُ الفتى أو نجاتُه

فنفسَك صُنْ عن غَيِّها تك ناجيا

ص: ويجب تقديم الخبر إن كان أداة استفهام، أو مضافا إليها، أو مصحِّحا تقديمه الابتداء بنكرة، أو دالا بالتقديم على ما لا يُفهم بالتأخير، أو مسندا دون أمّا إلى أنّ وصلتها، أو إلى مقرون بإلا لفظا أو معنى، أو إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر، وتقديم المفسِّر إن أمكن مُصَحِّح، خلافا للكوفيين إلا هشاما، ووافق الكسائي في جواز نحو: زيدا أجَلُه مُحْرِزٌ، لا في نحو: زيدا أجلُه أحرز.

ش: قد تقدم التنبيه على أن الاستفهام له صدر الكلام، وأن المبتدأ يجب تقديمه إن كان بعض أدواته، نحو: مَنْ عندك؟ أو مضافا إلى بعض أدواته نحو، غلامُ مَنْ عندك؟

ص: 300

وكذلك يجب تقديم الخبر إذا كان مضافا إلى بعض أدواته، نحو: صبيحة أي يوم سفرُك؟

وقد تقدم أن من مُصَحِّحات الابتداء بنكرة أن تخبر عنها بظرف مقدم مختص، نحو: عندك رجل، وإنما كان تقديمه مصححا لأن تأخيره يوهم كونه نعتا، وتقديمه يؤمن معه ذلك. وكذلك النكرة المخبر عنها بجار ومجرور مختص نحو: لك مال، أو بجملة متضمنة لما تحصل به الفائدة، نحو: قصَدك غلامُه رجلٌ، فلولا الكاف من "قصدك" لم يفد الإخبار بالجملة، كما أنه لولا اختصاص الظرف والمجرور لم يفد الإخبار بهما.

وإلى الظرف المختص واللاحق به من الجار والمجرور والجملة أشرت بقولي: "أو مصححا تقديمه الابتداء بنكرة" وأما قولي: "أو دالا بالتقديم على ما لا يفهم بالتأخير" فأشرت به إلى نحو: لله درك، من الجمل التعجبية، فإن تعجبها لا يفهم إلا بتقديم الخبر وتأخير المبتدأ، وكذلك نحو:(سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنْذِرهم) من الجمل الاستفهامية المقصود بها التسوية، فإن الخبر فيها لازم التقديم، وذلك أن المعنى: سواء عليهم الإنذار وعدمه، فلو قدم (أأنذرتهم) لتوهم السامع أن المتكلم مستفهم حقيقة، وذلك مأمون بتقديم الخبر، فكان ملتزما.

ومن الأخبار اللازم تقديمها الخبر المسند إلى أنّ المفتوحة وصلتها، كقولك: معلوم أنك فاضل، وكقوله تعالى:(وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم) وسبب التزام ذلك خوف التباس المكسورة بالمفتوحة، أو خوف التباس أنْ المصدرية بالكائنة بمعنى لعل، أو خوف التعرض لدخول إنّ على أنّ مباشرة، وفي ذلك من الاستثقال ما لا يخفى، فلو ابتدئ بأنّ وصلتها بعد أمّا لم يلزم تقديم الخبر، لأن المحذورات الثلاثة مأمونة بعد أمّا، إذ لا يليها إنّ المكسورة، ولا أنّ التي بمعنى لعل، فجائز أن يقال:

ص: 301

أمّا معلوم فأنك فاضل، وأمّا أنّك فاضل فمعلوم، ومنه قول الشاعر:

دَابي اصطبارٌ وأمّا أنّني جَزِع

يوم النَّوَى فلِوَجْدٍ كاد يِبْرِيني

ومن الأخبار اللازمة تقديمها الخبر المسند إلى مقرون بإلا لفظا أو معنى، نحو قولك: ما في الدار إلا زيدٌ، وإنما عندك عمرٌو. وكذلك الخبر المسند إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر، كقول الشاعر:

أهابُك إجلالا وما بك قُدْرةٌ

عليَّ ولكنْ ملءُ عينِ حبيبُها

فحبيبها مبتدأ ملتبس بضمير العين، وملء عين خبر واجب التقديم، لأنه لو أخر وقدم حبيبها لعاد الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة، فالتزم تقديم الخبر وتأخير المبتدأ، ليؤمن بذلك المحذور.

وذكر الالتباس أولى من ذكر الإضافة، لأن الالتباس يعم الإضافة وغيرها، فمثال الالتباس بالإضافة ما في البيت من قول الشاعر:

ولكن ملء عين حبيبها

ومثال الالتباس بغير الإضافة قولك: معرض عن هند المرسل إليها.

وإذا التبس المبتدأ بضمير اسم ملتبس بالخبر وأمكن تقديم صاحب الضمير صحت المسألة عند البصريين وهشام الكوفي، في نحو: زيدا أجَلُه مُحْرزٌ، لأنه لم يَفصِل بين المنصوب ناصبه أجنبي، بخلاف: زيدا أجلُه أحرز، فإن الأجل وإن كان الفعل خبره، فإن الإخبار بالفعل على خلاف الأصل، لأن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقل بهما كلام، فعد المبتدأ قبلهما أجنبيا، بخلاف وقوعه قبل اسم الفاعل، فإن اتصال المبتدأ به على الأصل، لأنه مفرد.

قلت: وقد يفرق بين الصورتين بأن اسم الفاعل لا يجب تأخيره فلا يمتنع

ص: 302

تقديم معموله، بخلاف الفعل فإن تأخيره إذا وقع خبر مبتدأ واجب، فلا يجوز تقديم معموله، لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، وهذه شبهة شهرت عند النحويين، وفيها ? إذا لم تقيد ? ضعف، لأن تقديم معمول العامل العارض منع تقدمه منبه على ما كان له من جواز التقدم قبل عروض العارض، فالحكم بجوازه أولى من الحكم بمنعه، ما لم يكن في ذلك إخلال ملازم، لأن منعه مفوّت للتنبيه على الأصل، ولأجل ذلك جاز أن يقدّم على: لن، ولا واللام الطلبيتين معمولات معمولاتهن نحو: زيدا لن أضرب، وعمْرا لم أكرم، العلمَ لتطلبْ، والجاهل لا تصحبْ.

وقول أبي علي: إن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقل بهما كلام، فعدّ المبتدأ قبلهما أجنبيا، تخيّل جدلي لا ثبوت له عند التحقيق، لأن الجملة لا توقع موقع المفرد إلا لتؤدي معناه، وتقوم مقامه، فلا يعدّ ما هي له خبرا أجنبيا، كما لا يعد أجنبيا ما المفرد له خبر.

فالحاصل أن الصحيح ما ذهب إليه البصريون من التسوية في الجواز بين: زيدا أجلُه محرزٌ، وزيدا أجلُه أحرز، بل الأخير أولى بالجواز، لأن العامل فيه فعل، وعامل المثال الأول اسم فاعل، فمن منع الآخر دون الأول فقد رجح فرعا على أصل، ومن منعهما فقد ضيق رحيبا، وبعد قريبا. ومن حجج البصريين قول الشاعر:

خيرا المبتغية حاز وإن لم

يقض فالسعي بالرشاد رشاد

فهذا مثل: زيدا أجله أحرز.

فصل: ص: الخبر مفرد وجملة، والمفرد مشتق وغيره، وكلاهما مغاير للمبتدأ لفظا، متحد به معنى، ومتحد به لفظا دال على الشهرة وعدم التغير، ومغاير له مطلقا دال على التساوي حقيقة أو مجازا، أو قائم مقام مضاف، أو مشعر بلزوم حالٍ تُلْحِق العين بالمعنى، والمعنى بالعين مجازا.

ص: 303

ش: المراد هنا بالمفرد ما لعوامل الأسماء تسلط على لفظه، عاريا كان من إضافة وشبهها، أو ملتبسا بأحدهما، نحو: زيد منطلق، وعمرو صاحبك، وبشر قائم أبوه.

والجملة ما تضمن جزأين ليس لعوامل الأسماء تسلط على لفظهما أو لفظ أحدهما، نحو: زيد أبوه عمرو، وبشر حضر أخوه. فنحو: قائم أبوه من المثال الثالث ليس بجملة عند المحققين، لتسلط العوامل على أول جزأيه.

والمراد هنا بالمشتق ما دل على متصف مصوغا من مصدر مستعمل أو مقدر، فذو المصدر المستعمل نحو: ضارب ومضروب وحسن وأحسن منه، وذو المصدر المقدر نحو: ربْعة وحَزَوّر وحَضاجِر، من الصفات التي لا مصادر لها ولا أفعال، فتقدر لها مصادر كما تقدر للأفعال التي لم تستعمل لها مصادر.

وغير المشتق ما عُرِّي مما رسم به المشتق.

وكل واحد من النوعين إذا أخبر به عن مبتدأ فالأكثر أن يغايره لفظا ويتحد به معنى، نحو: هذا زيد، وزيد فاضل. فالشخص المشار إليه بهذا هو المعبر عنه بزيد، فقد اتحدا معنى وتغايرا لفظا، وكذا زيد فاضل. وقد يقصد بالخبر المفرد بيان الشهرة وعدم التغيير، فيتحد بالمبتدأ به لفظا، ويكون أيضا على نوعين، مشتقا كقول رجل من طيء:

خليلي خليلي دون رَيْبٍ وربّما

ألان امْرُوٌ قولا فظُن خليلا

وغير مشتق كقول أبي النجم:

أنا أبو النجم وشعري شعري

أي خليلي من لا أشك في صحة خُلته، ولا يتغير في حضوره ولا غيبته، وشعري ما ثبت في النفوس من جزالته، والتوصل به من المراد إلى غايته. وقد يفعل مثل

ص: 304

هذا بجواب الشرط، كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف نجاح قاصده. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله".

وقد يكون الخبر المفرد مغايرا للمبتدأ في لفظه ومعناه، والحامل على ذلك الإعلام بالتساوي في الحكم حقيقة، كقوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) أو مجازا كقول الشاعر:

ومُجاشِعٌ قَصَبٌ هَوَتْ أجوافُها

لو يُنفَخُون من الخُئُورة طاروا

وقد يكون المغاير لفظا قائما مقام مضاف كقوله تعالى (هم درجات عند الله) وكقوله تعالى: (ولكنّ البرَّ من آمن بالله) أي: هم ذوو درجات، ولكن البرَّ برُّ من آمن.

ويدخل في هذا الدال على التساوي مجازا، فيقدر "مثل" مضافا إلى الخبر في قولهم: زيد زهير، ومجاشع قصب، ونحو ذلك.

وقد يكون المغاير لفظا ومعنى مشعرا بحال تلحق العين بالمعنى، والمعنى بالعين، فالأول كقولك: زيد صوم، تريد بذلك المبالغة، كأنك جعلته نفس الصوم، ولا يراد بذلك: ذو صوم، لأن ذلك الصوم يصدق على القليل والكثير، وهو صوم لا يصدق إلا على المدمن للصوم، وكذلك ما أشبهه. والثاني قولهم: نهار فلان صائم، وليله قائم، ومنه:(والنهار مبصرا) وقول الشاعر أنشده سيبويه:

ص: 305

أمّا النهارُ ففي قَيْد وسِلْسِلة

والليلُ في جوف مَنْحُوتٍ من السّاج

ومن هذا القبيل قولهم: شِعرٌ شاعر، ومَوتٌ مائت.

ص: ولا يتحمل غير المشتق ضميرا ما لم يؤول بمشتق، خلافا للكسائي، ويتحمله المشتق خبرا أو نعتا أو حالا ما لم يرفع ظاهرا، لفظا أو محلا، ويستكنّ الضمير إن جرى متحملُه على صاحب معناه، وإلا برز، وقد يستكن إن أمن اللبْس وفاقا للكوفيين.

ش: مثال الخبر الذي لا يتحمل ضميرا لكونه غير مشتق ولا مؤول بمشتق قولك مشيرا إلى الأسد المعروف: هذا أسد، فأسد لا ضمير فيه لأنه خال من معنى الفعل. فلو وقع موقع المشتق لجرى مجراه في تحمل الضمير، كقولك مشيرا إلى رجل شجاع: هذا أسد، ففي أسد حينئذ ضمير مرفوع به لأنه مؤول بما فيه من معنى الفعل، فلو أسند إلى ظاهر لرفعه كقولك: رأيت رجلا أسدا أبوه، ومنه قول الشاعر:

وليلٍ يقول الناسُ من ظُلُماته

سواءٌ صحيحاتُ العُيُونِ وعُورها

كأنّ لنا منه بيوتا حصينة

مُسُوحا أعاليها وساجا كُسُورها

فرفع الأعالي والكسور بمسوح وساج، لإقامتها مقام سود، وإذا جاز ارتفاع الظاهر بالجامد لتأوله بمشتق، كان ارتفاع المضمر به أولى، لأنه قد يرفع المضمر ما لا يرفع الظاهر، كأفعل التفضيل في أكثر الكلام. وإذا رفع الجامد القائم مقام مشتق ضميرا أو ظاهرا، جاز أن ينصب بعد ذلك تمييزا وحالا، كقول الشاعر:

تُخَبِّرنا بأنك أحْوَذِيٌّ

وأنت البَلْسَكاءُ بنا لُصوقا

ص: 306

وإذا ثبت تحمل الجامد ضميرا، ورفعه ظاهرا لتأوله بمشتق، لم يرتب في أن المشتق أحق بذلك، وقد حكم الكسائي وحده بذلك للجامد المحض، كقولك: هذا زيد، وزيد أنت. وهذا القول وإن كان مشهورا انتسابه إلى الكسائي دون تقييد، فعندي استبعاد في إطلاقه، إذ هو مجرد عن دليل، ومقتحم بقائله أوعر سبيل. والأشبه أن يكون الكسائي قد حكم بذلك في جامد عرف لمسماه معنى لازم لا انفكاك عنه، ولا مندوحة منه، كالإقدام والقوة للأسد، والحرارة والحمرة للنار، فإن ثبت هذا المذكور فقد هان المحذور، وأمكن أن يقال معذور. وإلا فضعف رأيه في ذلك بين، واجتنابه متعين.

وأما الخبر المشتق إذا لم يرتفع به ظاهر لا لفظا نحو: زيد قائم غلامُه، ولا محلا نحو: عمرو مرغوب فيه، فلا بد من رفعه ضميرا، فإن جرى رافعه على صاحب معناه استكن الضمير دون خلاف، فإن برز فالبارز مؤكد للمستكن. وإن جرى رافعه على غير صاحب معناه لزم إبرازه عند البصريين، والكوفيين عند خوف اللبس، كقولك: زيد عمرو ضاربه هو، والزيدان العمران ضاربهما هما، "فهو" فاعل مسند إليه ضاربه وهو عائد على زيد، والهاء عائدة على عمرو، و"هما" فاعل مسند إلى ضاربهما، وهو عائد على الزيدان، والمضاف إليه عائد على العمران، وأفرد "ضارب" المسند إليه المثنى، لأنه واقع موقع فعل مجرد مسند إلى فاعل بارز، فالإبراز في مثل هذا مجمع عليه، لكون المعنى ملتبسا بدونه، فلو كان المراد صدور الضرب من المبتدأ الثاني ووقوعه على الأول لاستكن الضمير بإجماع، لعدم الحاجة إلى إبرازه. ومثال الإبراز المجمع عليه قول الشاعر:

لكلِّ إلفَيْن بَيْنٌ بعد وصلهما

والفرقدان حِجاه مقتفيه هما

والتزم البصريون الإبراز مع أمن اللبس عند جريان رافع الضمير على غير صاحب معناه، ليجرى الباب على سنن واحد. وخالفهم الكوفيون فلم يلتزموا الإبراز عند

ص: 307

أمن اللبس، وبقولهم أقول لورود ذلك في كلام العرب، كقول الشاعر:

قومي ذُرا المجد بانُوها وقد علمت

بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقحطان

فقومي مبتدأ، وذرا المجد مبتدأ ثان، وبانوها خبر جار على ذرا المجد في اللفظ، وهو في المعنى لقومي، وقد استغنى باستكنان ضميره عن إبرازه لعدم اللبس، ومثله قول الشاعر أيضا:

إن الذي لهواكِ آسَفَ رهطَه

لجديرةٌ أن تصطفيه خليلا

ومثله أيضا قول الآخر:

ترى أرْباقَهم مُتَقَلِّدِيها

إذا حَمِيَ الحديدُ على الكُماة

وتكلف بعض المتعصبين فقال: تقدير البيت الأول: قومي بانو ذرا المجد بانوها، وتقدير البيت الثاني: لأنت جديرة أن تصطفيه، وتقدير البيت الثالث: ترى أصحابَ أرباقهم متقلديها. والصحيح حمل الأبيات على ظاهرها، دون تكلف ما يتم المعنى بعدمه.

والكلام على المشتق الواقع نعتا وحالا كالكلام عليه إذا وقع خبرا، فمَنْ التزم إبراز الضمير عموما مع الخبر الجاري على غير صاحب معناه، التزمه مع النعت والحال الجاريين على غير ما هما له، أمن اللبس أو لم يؤمن، ومن لم يلتزم الإبراز في الخبر إلا عند خوف اللبس، لم يلتزمه في النعت والحال إلا عند خوف اللبس ومن النعت الجاري على غير ما هو له دون إبراز ضمير قراءة ابن أبي عبلة:(يُؤْذَنَ لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) بخفض "غير".

ص: 308

وإن كان الجاري على غير ما هو له من خبر ونعت وحال فعلا، وأمن اللبس، اغتفر ستر الضمير، كقولك: زيد الخبز يأكله. فلو خيف اللبس وجب الإبراز كقولك: غلام زيد يضربه هو، إذا كان المراد أن زيدا يضرب الغلام.

ص: والجملة اسمية وفعلية، ولا يمتنع كونها طلبية خلافا لابن الأنباري وبعض الكوفيين، ولا قسمية خلافا لثعلب.

ش: الجملة الواقعة خبرا إن كانت اسمية فمثالها: الله فضله عظيم، وإن كانت فعلية فمثالها:(الله يجتبي إليه من يشاء) ويدخل في الاسمية المصدرة بحرف عامل في المبتدأ، والشرطية المصدرة باسم غير معمول للشرط، ويدخل في الفعلية الشرطية المصدرة بحرف، أو باسم معمول للشرط، فمثال الإخبار بجملة مصدرة بحرف عامل في المبتدأ:(الله لا إله إلا هو) و (والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نُضيع أجر المصلحين) ومثال الإخبار بشرطية مصدرة باسم غير معمول للشرط: الله مَنْ يطعه ينج. ومثال الإخبار بشرطية مصدرة بحرف: الله إن تسأله يعطك. ومثال الإخبار بجملة شرطية مصدرة باسم معمول للشرط: الله مَنْ يَهد فلا مضل له.

ومنع أبو بكر بن الأنباري ومن وافقه الإخبار بجملة طلبية، نظرا إلى أن الخبر حقه أن يكون محتملا للصدق والكذب، والجملة الطلبية ليست كذلك. وهذا

ص: 309

نظر واه، لأن خبر المبتدأ لا خلاف في أن أصله أن يكون مفردا، والمفرد من حيث هو مفرد لا يحتمل الصدق والكذب، فالجملة الواقعة موقعه حقيقة بأن لا يشترط احتمالها للصدق والكذب، لأنها نائبة عما لا يحتملهما.

وأيضا فإن وقوع الخبر مفردا طلبيا نحو: كيف أنت؟ ثابت باتفاق، فلا يمتنع ثبوته جملة طلبية بالقياس لو كان غير مسموع، ومع ذلك فهو مسموع شائع في كلام العرب، كقول رجل من طيء:

قلتُ مَنْ عِيلَ صبرُه كيف يَسْلو

صاليا نارَ لَوْعة وغرام

وروى عن ثعلب منع الإخبار بجملة قسمية، وهو أيضا منع ضعيف إذ لا دليل عليه، مع ورود الاستعمال بخلافه، كقول الله تعالى:(والذين هاجروا في الله مِنْ بعد ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئنَّهم في الدنيا حسنة) وكقول الشاعر:

جَشَأتْ فقلت اللّذْ خشيت ليأتِيَنْ

وإذا أتاكِ فلاتَ حينَ مَناص

ص: وإن اتحدت بالمبتدأ معنى هي أو بعضُها استغنت عن عائد، وإلا فلا، وقد يحذف إن علم ونصب بفعل أو صفة، لفظا أو محلا، ويجوز حذفه بإجماع إن كان مفعولا:[والمبتدأ كل أو شبهه في العموم والافتقار، ويضعف إن كان المبتدأ غير ذلك، ولا يخص جوازه بالشعر خلافا للكوفيين].

ش: فالجملة المتحدة بالمبتدأ معنى كحديث وكلام، ومنه ضمير الشأن والقصة كقوله تعالى:(قل هو الله أحد) وكقوله: (فإذا هي شاخصة أبصار

ص: 310

الذين كفروا) ومن الإخبار عن مفرد بجملة اتحدت به معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله".

والجملة المتحد بعضها بالمبتدأ معنى كل جملة تتضمن ما يدل على ما يدل عليه المبتدأ بإشارة أو غيرها، كقوله تعالى:(ولباس التقوى ذلك خير) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة، وكقوله تعالى:(والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، فيتحصل به ما كان يتحصل بضميره، مع تأكد الاعتناء، ومزيد الثناء.

ويكثر الاتحاد لفظا ومعنى تعظيما لأمر المحدَّث به، كقوله تعالى:(وأصحابُ اليمين ما أصحاب اليمين).

فإن لم يتحد بالمبتدأ معنى الجملة ولا بعضها لم تستغن عن ضمير، وإلى هذا أشرت بقولي: وإلا فلا، ونبهت بكون الجائز الحذف منصوب اللفظ والمحل بفعل أو صفة، على أن غير ذلك لا يحذف كالمرفوع مطلقا، وكالمنصوب بحرف، وكالمجرور بإضافة غير صفة. ثم بينت جواز حذف الضمير إذا علم، ونصب بفعل أو صفة لفظا أو محلا. فمثال المنصوب بفعل لفظا قول الشاعر:

ثلاثٌ كلُّهن قتلتُ عمدا

فأخزى الله رابعة تعود

ص: 311

ومثال المنصوب بفعل محلا قول الآخر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا

ويومٌ نساءُ ويوم نُسَرّ

أراد الأول: ثلاث كلهن قتلتهن عمدا، وأراد الآخر: ويوم نساء فيه، ويوم نسر فيه.

ومثال المنصوب بصفة لفظا قول الراجز:

غَناءُ نفس العفافُ المغنى

والخائفُ الإملاقِ لا يستغنى

مثال المنصوب بصفة محلا قول الشاعر:

سُبْلُ المعالي بنو الأعلين سالكة

والإرثُ أجدرُ مَنْ يَحْظَى به الولدُ

ومثال الجائز حذفه بإجماع لكونه مفعولا به والمبتدأ كل، قراءة ابن عامر:(وكلٌّ وعد الله الحسنى)، ومثال ذلك قول الراجز:

قد أصبحتْ أمُّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلُّه لم أصنع

فلو كان المبتدأ غير كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفا، ومنه قراءة السلمي:(أفحكمُ الجاهلية يَبْغون) بالرفع. ومثل هذه القراءة

ص: 312

قول الشاعر:

وخالدٌ يَحمدُ أصحابُه

بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطل

هكذا رواه أبو بكر بن الأنباري برفع خالد وأصحابه.

ص: ويغني عن الخبر باطراد ظرف، أو جرف جر تامٌ معمول في الأجود لاسم فاعل كَوْنٍ مطلقا، وفاقا للأخفش تصريحا ولسيبويه إيماء، لا لفعله، ولا للمبتدأ، ولا للمخالفة، خلافا لزاعمي ذلك. وما يعزى للظرف من خبرية وعمل فالأصح كونه لعامله، وربما اجتمعا لفظا.

ش: ذهب الكوفيون إلى أن الظرف من نحو: زيد خلفك، منصوب بمخالفته المبتدأ، حكاه ابن كيسان والسيرافي. وهذا القول فاسد من أربعة أوجه: أحدها: أن تخالف المتباينين في معنًى نسبته إلى كل واحد منهما كنسبته إلى الآخر، فإعماله في أحدهما ترجيح من غير مرجح.

الثاني: أن المخالفة بين الجزأين محققة في مواضع كثيرة، ولم تعمل فيها بإجماع، نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، وزيد زهير، ونهارك صائم. وأنت فطر، وهم درجات، فلو صلحت المخالفة للعمل في الظرف المذكور لعملت في هذه الأخبار ونحوها لتحقق المخالفة فيها.

الثالث: أن المخالفة معنى لا تختص بالأسماء دون الأفعال، فلا يصح أن تكون عاملة، لأن العامل عملا مجمعا عليه لا يكون غير مختص، هذا إذا كان العامل لفظا، مع أنه أقوى من المعنى، فالمعنى إذا عدم الاختصاص أحق بعدم العمل لضعفه.

الرابع: أن المخالفة لو كانت صالحة للعمل لزم على مذهب الكوفيين ألا تعمل في الظرف عند تأخره، لأن فيه عندهم عائدا هو رافع المبتدأ مع بعده بالتقدم،

ص: 313

فإعمال ذلك العائد في الظرف لقربه منه أحق. فبان بهذه الأوجه فساد ما ذهب إليه الكوفيون.

وذهب ابن خروف إلى أن عامل النصب في الظرف المذكور المبتدأ نفسه، وقال: هو مذهب سيبويه، وحمله على ذلك أن سيبويه قال في باب ما ينتصب من الأماكن والوقت: قد تنتصب لأنها موقوع فيها، ومكون فيها، وعمل فيها ما قبلها، كما أن العِلْم إذا قلت: أنت الرجل علما، عمل فيه ما قبله، وكما عمل في الدرهم عشرون إذا قلت: عشرون درهما ثم قال سيبويه: "فالمكان هو خلفك" ثم أردفه بنظائر وقال: "فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره، وصار بمنزلة المنون الذي عمل فيما بعده نحو العشرين، ونحو: خير منك عملا، فصار: زيد خلفك، بمنزلة ذلك، والعامل في خلف الذي هو في موضعه، والذي هو في موضع خبره، كما أنك إذا قلت: عبد الله أخوك، فالآخر رفعه الأول، وعمل فيه، وبه استغنى الكلام، وهو منفصل منه" هذا نصه، وهو يحتمل أربعة أوجه: أحدها: كون الظرف منصوبا بعامل معنوي، وهو حصول المبتدأ فيه، بقوله: فانتصبت لأنها موقوع فيها، ومكون فيها. ويحتمل قوله: عمل فيها ما قبلها على عمل المبتدأ في المحل. فيكون للظرف على هذا التقدير عامل نصب في لفظه وهو المعنى المذكور، وعامل رفع في محله وهو المبتدأ، وهذا الوجه باطل إذ لا قائل به، ولأن الحصول لو عمل في الظرف العرفي وهو الخلف وشبهه لعمل في الظرف اللغوي كالكِيس والكُوز، فكان يقال: المالُ الكيسَ، والماءُ الكوزَ، بالنصب، بل الحصول المنسوب إلى الكيس والكوز ونحوهما أولى بالعمل، لأنه حصول إحاطة وإحراز، وإذا لم يصلح للعمل وهو أقوى، فغيره بعدم العمل أولى.

والوجه الثاني: "كون الظرف منصوبا بالمخالفة كقول الكوفيين، فإنه يوهمه سيبيوه بقوله في الباب المذكور: فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره"

ص: 314

فظاهر هذا القول شبيه بما حكاه ابن كيسان من قول الكوفيين: إن الظرف منصوب بالمخالفة، لأنك إذا قلت: زيد أخوك، فالأخ هو زيد. وإذا قلت: زيد خلفك، فالخلف ليس بزيد، فمخالفته له عملت فيه النصب، وقد تقدم إبطال هذا القول.

فسيبويه بريء ممن عوّل عليه، وجنح إليه، لأنه قال حين مثل بظروف بعد مبتدآت:"وعمل فيها ما قبلها" وهذه عبارة لا تصلح أن يراد بها إلا شيء متقدم على الظرف، والمخالفة بخلاف ذلك. فتيقن أن مراده غير مراد الكوفيين.

الوجه الثالث: ما ذهب إليه ابن خروف من أن عامل النصب في الظرف المذكور المبتدأ نفسه، واحتماله أظهر من الوجهين المتقدمين، وهو أيضا مخالف لمراد سيبويه. وسأبين ذلك إن شاء الله تعالى، ولو قصد ذلك سيبيوه نصا لم يُعَوَّل عليهن لأنه يبطل من سبعة أوجه: أحدها أنه قول مخالف لما اشتهر عن البصريين والكوفيين، مع عدم دليل، فوجب اطراحه.

الثاني: أن قائله يوافقنا على أن المبتدأ عامل رفع، ويخالفنا بادعاء كونه عامل نصب، وما اتفق عليه إذا أمكن أولى مما اختلف فيه، ولا ريب في إمكان تقدير خبر مرفوع ناصب للظرف، فلا عدول عنه.

الثالث من مبطلات قول ابن خروف: أنه يستلزم تركيب كلام تام من لفظين: ناصب ومنصوب، لا ثالث لهما، ولا نظير له، فوجب اطراحه.

الرابع: أنه قول يستلزم ارتباط متباينين دون رابط، ولا نظير لذلك، ومن ثمّ لم يكن كلاما نحو: زيد قام عمرو، حتى يقال: إليه، أو نحوه.

الخامس: أن نسبة الخبر من المبتدأ كنسبة الفاعل من الفعل، والواقع موقع الفاعل من المنصوبات لا يغني عن تقدير الفاعل، فكذا الواقع موقع الخبر من المنصوبات لا يغني عن تقدير الخبر.

السادس: أن الظرف الواقع موقع الخبر من نحو: زيد خلفك، نظير المصدر من نحو: ما أنت إلا سيرا، في أنه منصوب مغن عن مرفوع، والمصدر منصوب بغير المبتدأ، فوجب أن يكون الظرف كذلك، إلحاقا للنظير بالنظير.

السابع: أن عامل النصب في غير الظرف المذكور بإجماع من ابن خروف ومنا لا يكون إلا فعلا أو شبيهه، أو شبيه شبيهه، والمبتدأ لا يشترط فيه ذلك، فلا يصح

ص: 315

انتصاب الظرف المذكور به.

الوجه الرابع من محتملات كلام سيبويه: أن ينتصب الظرف المذكور بمستقر أواستقر أو شبههما، وكلام سيبويه قابل لاستنباط ذلك منه، لأنه قال قاصدا للظروف الواقعة بعد المبتدأ: وعمل فيها ما قبلها، كما أن العِلْمَ إذا قلت: أنت الرجل علما، عمل فيه ما قبله. فما قبلها يحتمل أن يريد به الذي قبلها في اللفظ وهو المبتدأ، ويحتمل أن يريد به الذي قبلها في التقدير وهو مستقر أو استقر أو شبههما، إلا أن الاحتمال الأول يفضي إلى المحذورات المتقدم ذكرها، والاحتمال الثاني لا يفضي إليها، فكان أولى بمراده، ويؤيد أولويته في إرادته أنه شبه ناصب الظرف بما نصب التمييز في قوله: خير عملا، وناصب التمييز خبر لا مبتدأ، فينبغي أن يكون ناصب الظرف خبرا لا مبتدأ، فإن ذلك أليق بالنظير، وأوفق في التقدير. وكذا قوله:"فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره" يحتمل أن يريد بما هو فيه المبتدأ، ويحتمل أن يريد به ما حذف من مستقر ونحوه وهو الأولى، لما ذكرت من أن تقديره لا يفضي إلى المحذورات السالفة، ويؤيد ذلك أيضا قوله:"وهو غيره" أي ما هو في الظرف غير المبتدأ، واحتاج إلى هذه العبارة لينبه على أن بين الظرف والمبتدأ مقدرا، وهو خبر للمبتدأ، وعامل في الظرف، وأنه غير للمبتدأ، ولا يصح أن يعاد هو إلى المبتدأ، والهاء من غيره إلى الظرف، لأن الإعلام بذلك إعلام بما لا يجهل، بخلاف الإعلام بأن ثم مقدرا هو غير المبتدأ وعامل في الظرف، فإن الحاجة داعية إليه. ويتأيد ذلك أيضا بقوله:"وصار بمنزلة المنون الذي عمل فيما بعده، نحو العشرين، ونحو خير منك عملا" فإن في "صار" ضميرا عائدا على ما هو فيه وهو غيره، وقد ثبت أنه ما يقدر من مستقر ونحوه، وجعل نسبة هذا المقدر من الظرف كنسبة خير من عملا، وفيه أيضا إشعار بأنه لا يريد بما المبتدأ بل الخبر المقدر، لأن خيرا من قوله:"خير عملا" خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت أو هو خير عملا، وجعل ما هو خبر نظيرا لخبر، أولى من جعله نظيرا لمبتدأ. ثم قال:"فصار زيد خلفك بمنزلة ذلك" أي صار زيد قبل خلفك بمنزلة مستقر، لأنه يدل عليه، ويجعله في الذهن مشارا إليه، ثم قال: والعامل في خلف الذي هو في موضعه"

ص: 316

أي الذي خلف في موضعه، والذي خلف في موضعه هو مستقر أو نحوه من أسماء الفاعلين، فإنه الخبر في الحقيقة، فالظرف في موضعه لأنه عمدة، والظرف فضلة، ثم قال: والذي هو في موضع خبره" يعني استقر ونحوه من الأفعال الدالة على كون مطلق، فإن الظرف إذا علق بفعل فذلك الفعل في موضع الخبر الأصلي، وهو اسم الفاعل، فأشار سيبويه بهذا إلى جواز تعليق الظرف باسم فاعل وبفعل، ونبه على أن تقدير اسم الفاعل أولى، بأن أضاف الموضع إلى ضميره، ولو قال: أو الذي هو في موضع خبره، لكان أبين، لكن من كلام العرب وقوع الواو موقع أو حيث لا تصلح الجمعية، كقوله تعالى:(مَثْنى وثُلاث ورُباع) ووقوع أو موقع الواو حيث تتعين الجمعية، كقول الشاعر:

مِن بين مُلْجِم مُهْرِه أو سافِع

ويدل على أن تقدير اسم الفاعل أولى أربعة أوجه: أحدها: أن اجتماع اسم الفاعل والظرف قد ورد، كقول الشاعر:

لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاك عَزَّ وإن يَهُن

فأنت لدى بُحْبُوحَةَ الهُونِ كائن

ولم يرد اجتماع الفعل والظرف في كلام يستشهد به، وإلى هذا البيت ونحوه أشرت بقولي:"وربما اجتمعا لفظًا".

الثاني: أن الفعل لا يغني تقديره عن تقدير اسم الفاعل ليستدل على أنه في موضع رفع، واسم الفاعل مغن عن تقديره، وتقدير ما يغني أولى من تقدير ما لا يغني.

الثالث: أن كل موضع وقع فيه الظرف المذكور صالح لوقوع اسم الفاعل، وبعض مواضعه غير صالح للفعل، نحو: أمّا عندك فزيد، وجئت فإذا عندك

ص: 317

زيد، لأن "أمّا" وإذا المفاجأة لا يليهما فعل.

الرابع: أن الفعل المقدر جملة بإجماع، واسم الفاعل عند المحققين ليس بجملة، والمفرد أصل، وقد أمكن، فلا عدول عنه. فلهذه المرجحات وافقت الأخفش بقولي في الأصل:"معمول في الأجود لاسم فاعل كون مطلق، وفاقا للأخفش تصريحا، ولسيبويه إيماء" وخالفت ما ذهب إليه أبو علي والزمخشري من جعل الظرف جملة. ورجح بعضهم تقدير الفعل بأنه متعين في صلة الموصول، وهذا ليس بشيء، لأن الظرف الموصول به واقع موقعا لا يغني فيه المفرد، بل إذا وقع فيه مفرد تأول بالجملة، والظرف المخبر به واقع موقعا هو للمفرد بالأصالة، وإذا وقعت الجملة فيه تأولت بمفرد، فلا يصلح أن يعامل أحدهما معاملة الآخر.

ونبهت بقولي: "لاسم فاعل كون مطلق" على أن اسم فاعل كون مقيد، كمعتكف، وقارئ لا يغني عنه مجرد ذكر الظرف إذا قصد البيان.

والذي اخترته من تعرية الظرف من الخبرية والعمل هو مذهب أبي الحسن بن كيسان، وهو الظاهر من قول السيرافي، وتسميته خبرا على الحقيقة غير صحيح، وكذا إضافة العمل إليه لا تصح إلا على سبيل المجاز. وللكلام في هذا مواضع يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى معتضدا بعضها ببعض.

والكلام على حرف الجر المستغنى به كالكلام على الظرف، وقيدته بالتمام تنبيها على أن الناقص لا يغني، وهو ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به، نحو: زيد عنك، وعمرو بك، فلا بد لنحو هذين من ذكر المتعلق به نحو: زيد عنك معرض، وعمرو بك واثق، فإن فهم المراد بدليل جاز الحذف نحو قولك: "أما زيد فبعمرو مأخوذ، وأما بشر فبخالد، أي فبخالد مأخوذ، فحذف مأخوذ لدلالة الأول عليه. وحرف الجر التام ما يفهم ما تعلق به بمجرد ذكره نحو:(الحمد لله) و (والأمر إليك) و (مَثَلُ نوره كمِشْكاة).

ص: 318

ص: ولا يغني ظرف زمان غالبا عن خبر اسم عين، ما لم يشبه اسم المعنى بالحدوث وقتا دون وقت، أو تُعْنَ إضافة معنى إليه، أو يَعُمّ واسم الزمان خاص أو مسئول به عن خاص. ويغني عن خبر اسم معنى مطلقا، فإن وقع في جميعه أو أكثره وكان نكرة رفع غالبا، ولم يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافا للكوفيين. وربما رفع خبرا الزمانُ الموقوعُ في بعضه.

ش: لا يفيد الاستغناء بظرف زمان عن خبر اسم عين غالبا إلا إذا كان العين مثال المعنى في حدوثه وقتا دون وقت، كالرطب والكمأة، فإن الاستغناء عن خبر هذا النوع بظرف الزمان يفيد، كقولك: الرطب في شهر كذا، والكمأة في فصل الربيع.

وكذلك إذا كان دليل على إضافة معنى إلى العين كقولك: "أكل يوم كذا ثوب تلبَسُه، وأكل ليلة ضيف يؤمك"، ومنه قول الراجز:

أكُلَّ عام نَعَم تَحْوُونه

يُلْقِحُه قوم وتُنْتِجُونه

أي: أكل يوم تَجَدُّدُ ثوب تلبسه، وأكلَّ ليلة إتيانُ ضيف يؤمك، وأكل عام إحراز نعم.

ص: 319

وكذا إن عم المبتدأ وكان اسم الزمان خاصا، أو مسئولا به عن خاص، كقولك: نحن في شهر كذا، وفي أي الفصول نحن؟

وأشرت بقولي: "غالبا" إلى أنه قد يُخبَر عن اسم عين بظرف زمان في غير ذلك إذا ثبت دليل، كقول امرئ القيس: اليوم خمر، وغدا أمر، وكذا قول الشاعر:

جارتي للخَبِيض والهِرُّ للفأ

ر وشاتي إذا أردت مجيعا

وأما اسم المعنى فيغني عن خبره ظرف الزمان الموقوع في بعضه، والموقوع في جميعه، لكن الموقوع في جميعه إن كان نكرة فرفعه أكثر من نصبه، كقوله تعالى:(وحمله وفِصاله ثلاثون شهرا) وكقوله تعالى: (غُدُوُّها شهر ورواحها شهر) وكذا الموقوع في أكثره كقوله تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلومات) ولو جُرّ هذا النوع بفي، أو نصب على مقتضى الظرفية لم يمتنع عند البصريين، وامتنع عند الكوفيين، وحجتهم في المنع من ذلك صون اللفظ عما يوهم التبعيض فيما يقصد به الاستغراق، وهذا مبني على قول بعضهم إن "في" للتبعيض، حكاه السيرافي. وليس ذلك بصحيح، وإنما "في" حرف مفهومه الظرفية بحسب الواقع في مصحوبها، فإن كان

ص: 320

الواقع يستلزم استغراقا كالصّوم بالنسبة إلى النهار، فلا يمنع منه معنى "في" ولا لفظها، وإن كان صالحا للاستغراق وغيره فصلاحيته لذلك موجودة قارنته "في" أو لم تقارنه، ولذلك صح في الاستعمال أن يقال: في الكيس درهم، وأن يقال: في الكيس ملؤه من الدراهم. فعلم بهذا أن القول ما قاله البصريون، والله أعلم.

ومثال رفع الزمان الموقوع في بعضه قولك: الزيارة يوم الجمعة. ولا فرق في هذا بين المعرفة والنكرة، وروى قول النابغة:

زعم البَوارحُ أن رحلتنا غدا

وبذاك خبرنا الغُرابُ الأسود

بنصب "غد" ورفعه، ذكر ذلك السيرافي، والوجهان في هذا النوع جائزان بإجماع، إلا أن النصب أجود، لأن الحذف معه أقيس، واستعماله أكثر، وإلى هذا أشرت بقولي: وربما رُفع الزمان الموقوع في بعضه.

ص: ويُفْعَل ذلك بالمكان المتصرف بعد اسم عين، راجحا إن كان المكاني نكرة، ومرجوحا إن كان معرفة، ولا يخص رفع المعرفة بالشعر، أو بكونه بعد اسم مكان خلافا للكوفيين.

ويكثر رفع الوقت المتصرف من الظرفين بعد اسم عين مقدّرا إضافة بُعْدٍ

ص: 321

إليه، ويتعين النصب في نحو: أنت مني فرسخين، بمعنى: أنت من أشياعي ما سرنا فرسخين.

ش: "ذلك" من قولي: ويفعل ذلك "إشارة إلى الرفع المفهوم من قولي: وربما رفع خبرا الزمان الموقوع في بعضه" وراجحا ومرجوحا حالان من "ذلك" المشار به إلى الرفع. ومثال ما قصد مما يكون الرفع فيه راجحا لتنكير الظرف المكاني مع كونه مؤقتا متصرفا مخبرا به عن اسم عين قولهم: المسلمون جانب، والمشركون جانب، ونحن قدام، وأنتم خلف، والنصب جائز عند البصريين وعند الكوفيين، ومن زعم أن مذهب الكوفيين في مثل هذا التزام الرفع فقد وهم.

فإن كان اسم المكان معرفة متصرفا اختير النصب، وجاز الرفع عند البصريين، ولم يجز عند الكوفيين إلا في الشعر إذا كان المخبر عنه اسم مكان كقولك: داري خلفك، ومنزلي أمامك. ويكثر رفع الظرف متصرفا مؤقتا إذا وقع بعد اسم عين مقدرٍ إضافة بُعْدٍ إليه، كقولك: زيد مني يومان أو فرسخان، أي: بعد زيد مني يومان أو فرسخان. وقريب منه: دارك من خلف داري فرسخان ونصب فرسخين وشبههما في مثل هذا الوجه أجود منه في نحو: زيد مني فرسخان، ونصب فرسخين في نحو: دراك خلف داري فرسخين، على التمييز، أجود من نصبه ظرفا. فإن قلت: أنت مني فرسخين، على تأويل: أنت من أشياعي ما سرنا فرسخين، تعين النصب، وكان "أنت" مبتدأ، ومني خبره، وفرسخين ظرفا، ومعنى"مني" من

ص: 322

أشياعي وأصحابي وأهلي، كقول الله تعالى ? حاكيا عن إبراهيم عليه السلام:(فمن تَبِعني فإنه مني).

ص: ونصب اليوم إن ذكر مع الجمعة ونحوها ممّا يتضمن عملا جائز، إلا أن ذكر مع الأحد ونحوه مما لا يتضمن عملا، خلافا للفراء وهشام. وفي الخلْف مخبرا به عن الظَّهر رفعٌ ونصب، وما أشبههما كذلك، فإن لم يتصرف كالفوق والتحت لزم نصبه.

ش: إذا قلت: اليومُ الجمعةُ، واليوم السبت، جاز نصب اليوم، لأن الجمعة بمعنى الاجتماع، والسبت بمعنى الراحة. وكذا اليوم العيد، واليوم الفطر، واليوم النّوروز، كل هذه يجوز معها نصب اليوم بلا خلاف، لأن ذكرها منبه على عمل يوقَع في اليوم، بخلاف قولك: اليومُ الأحدُ، واليوم الاثنان، واليوم الثلاثاء، واليوم الأربعاء، واليوم الخميس، فإنها بمنزلة اليوم الأول، واليوم الثاني، واليوم الثاث، واليوم الرابع، واليوم الخامس، فلذلك لايجوز في اليوم معها إلا الرفع، هذا مذهب النحويين إلا الفراء وهشاما، فإنهما أجازا النصب على معنى: الآن الأحد، والآن الاثنان، ومعنى هذا أن الآن أعم من الأحد والاثنين، فيجعل الأحد والاثنين واقعا في الآن، كما تقول: هذا الوقت، هذا اليوم، وقد قال سيبويه ما يقوي هذا، لأنه أجاز: اليومَ يومك، بنصب اليوم بمعنى الآن، وقال:"لأن الرجل قد يقول: أنا اليوم أفعل ذلك، ولا يريد يوما بعينه" فهذا مما يقوي قول الفراء. وللمحتج لسيبويه أن يقول: إن قول القائل: اليوم يومك، بمعنى: اليوم أمرك الذي تذكرته، فأجريا مجرى واقع وموقوع فيه، بخلاف: اليوم الأحد.

ص: 323

وتقول: ظهرك خلفَك، بنصب الخلف على الظرفية، ويجوز رفعه لأنه الظهر في المعنى، مع أنه متصرف. ومثله في جواز الوجهين: رجلاك أو نعلاك، أسفلَك وأسفلُك، وقرئ:(والركب أسفلُ منكم) وأسفل.

فلو كان الظرف غير متصرف تعين نصبه، وإن كان هو الأول في المعنى، ولذلك قال أبو الحسن الأخفش: اعلم أن العرب تقول: فوقَك رأسك، فينصبون الفوق، لأنهم لم يستعملوه إلا ظرفا، والقياس أن يرفع لأنه هو الرأس، وهو جائز، غير أن العرب لم تقله، قال: وتقول: تحتَك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت.

ص: ويغني عن خبر اسم عين باطراد مصدرٌ يؤكده مكرّرا أو محصورا، وقد يرفع خبرا وقد يغني عن الخبر غيرُ ما ذكر من مفعول به وحال.

ش: الاستغناء عن خبر اسم عين بمصدر مكرر نحو قولهم: زيدٌ سيرا سيرا، وبمصدر محصور كقولهم: إنما أنت سيرا. والأصل: زيد يسير سيرا، فحذف الفعل واستغنى عنه بمصدره، وجعل تكرره بدلا من اللفظ بالفعل، فامتنع إظهاره، لئلا يجتمع عوض ومعوض منه. وكذلك الأصل: إنما أنت تسير سيرا، فحذف الفعل، واستغنى عنه بمصدره، وقام الحصر مقام التكرار في سببية التزام الإضمار. وقد يجعل هذا النوع من المصادر خبرا قصدا للمبالغة، فيرفع، نحو:

فإنّما هي إقبالٌ وإدْبار

وأشرت بقولي: "وقد يغني عن الخبر غيرُ ما ذكر من مفعول به وحال" إلى قول بعض العرب: إنما العامريُّ عمامتَه، ويروى: إنما العامرِي عمّتَه، فمن روى:

ص: 324

عمامته، جعله مفعولا به، كأنه قال: إنما العامري يتعهد عمامته، ومن روى: عمته، نصبه على المصدرية، كأنه قال: إنما العامري يتعمم عمَّته، فيكون نظير: إنما أنت سيرا، ولا يكون من القليل، بل من الكثير المطرد.

ومن الاستغناء عن خبر المبتدأ بالمفعول به ما رواه الكوفيون من قول العرب: حسبت العقرب أشدَّ لسعة من الزُّنبور فإذا هو إياها. أي: فإذا هو يساويها.

ومن الاستغناء عن خبر المبتدأ بالمفعول به أن يكون الخبر فعل قول، فيحذف ويستغنى بالمقول، كقوله تعالى:(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى* إن الله يحكم بينهم) أي يقولون: ما نعبدهم: فيقولون خبر، وما نعبدهم في موضع نصب به، فأغنى عنه، وحذف. ومثله:(فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) أي: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم.

ومن الاستغناء عن خبر المبتدأ بحال مغايرة لما تقدم ذكره ما روى الأخفش من قول بعض العرب: زيد قائما، والأصل: ثبت قائما، أو عرف قائما. وأسهل منه ما حكاه الأزهري من قول بعض العرب:"حكمك مُسَمَّطا" أي حكمك لك مُثَبِّنا، فحكمك مبتدأ، خبره لك، ومسمطا حال استغنى بها، وهي عارية من الشروط المعتبرة في نحو: ضربي زيدا قائما. وعلى مثل هذا يحمل في الأجود قول النابغة الجعدي رحمه الله تعالى:

بَدَتْ فعلَ ذي وُدٍّ فلما تبعتها

تَوَلَّتْ وأبقت حاجتي في فؤاديا

وحَلّت سوادَ القلب لا أنا باغيا

سِواها ولا في حبِّها متراخيا

أي: لا أُرى باغيا، فحذف الفعل، وجعل "باغيا" دليلا عليه، وهو أولى

ص: 325

من جعل "لا" رافعة "لأنا" اسما، ناصبة باغيا خبرا، فإن إعمال "لا" في معرفة غير جائز بإجماع.

ص: وقد يكون للمبتدأ خبران فصاعدا، بعطف وغير عطف، وليس من ذلك ما تعدد لفظا دون معنى، ولا ما تعدد صاحبه حقيقة أو حكما.

ش: تعدد الخبر على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتعدد لفظا ومعنى لا لتعدد المخبر عنه كقوله تعالى: (وهو الغفورُ الودودُ ذو العرش المجيدُ فعّالٌ لما يريد) وكقول الراجز:

مَنْ كان ذابَتٍّ فهذا بَتِّي

مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي

ومثله قول الشاعر:

ينامُ بإحدى مُقْلتَيْه ويَتَّقي

بأخرى المنايا فهو يَقْظانُ نائم

وعلامة هذا النوع صحة الاقتصار على واحد من الخبرين أو الأخبار.

والثاني: أن يتعدد لفظا ومعنى لتعدد المخبر عنه حقيقة كقولك: بنو زيد فقيه ونحوي وكاتب. ومنه قول الشاعر:

يداك يدٌ خيرُها يُرْتَجى

وأُخرى لأعدائها غائظة

أو لتعدد المخبر عنه حكما، كقوله تعالى:(اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد) وكقول الشاعر:

والمرءُ ساعٍ لأمرٍ ليس يدركُه

والعيشُ شُحٌّ وإشفاقٌ وتأميل

ص: 326

والثالث: أن يتعدد لفظا دون معنى، لقيامه مقام خبر واحد في اللفظ، كقولك: هذا حامض حلو، بمعنى مُزٌّ، وكقولك: هو أعسر يسر، بمعنى: أضبط، أي: عامل بكلتا يديه.

فما كان من النوع الأول صح أن يقال: فيه خبران وثلاثة بحسب عدده. وما كان من النوع الثاني والثالث فلا يعبر عنه بغير الوحدة إلا مجازا، لأن الإفادة لا تحصل فيه عند الاقتصار على بعض المجموع.

ويجوز استعمال الأول بعطف ودون عطف، بخلاف الثاني فلا يستعمل دون عطف، وأما الثالث فلا يستعمل فيه العطف، لأن مجموعه بمنزلة مفرد، فلو استعمل فيه العطف لكان كعطف بعض كلمة على بعض. وقد أجاز العطف أبو علي، فعنده أن قول القائل: هذا حلو وحامض جائز، وليس كذلك، لما ذكرته.

ص: وإن توالت مبتدآتٌ أُخْبِر عن آخرها مجعولا هو وخبره خبرَ متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه، إلى أن تخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، ويضاف غيره إلى ضمير متلوه، أو يجاء بعد خبر الآخر بروابط المبتدآت أول لآخر، وتال لمتلو.

ش: توالي المبتدآت على ضربين: أحدهما بتجرد، والآخر بإضافة.

فمع التجرد يخبر عن آخرها، ويجعل هو وخبره خبر متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه، إلى أن يخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، ويؤتى بعد خبر الآخر بروابط مجعولا أولها للأقرب، وتاليه لمتلو الأقرب، إلى أن يكون آخرها لأول المبتدآت، نحو: بنوك الزيدان هند عمرو الدراهم أحطته بها عندهما في دارهم. ومع الإضافة يخبر عن الآخر، ويجعل هو وخبره خبر متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه، إلى أن يخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، نحو: زيد عمه خاله أخوه أبوه قائم، فقائم خبر الأب، والأب وخبره خبر الأخ، والأخ وخبره خبر الخال، والخال وخبره

ص: 327

خبر العم، والعم وخبره خبر زيد، والمعنى: أبو أخي خال عم زيد قائم.

فصل: ص: تدخل الفاء على خبر المبتدأ وجوبا بعد أمّا، إلا في ضرورة أو مقارنة قولٍ أغنى عنه المقول، وجوازا بعد مبتدأ واقع موقع "مَنْ" الشرطية، أو "ما" أختها. وهو "ال" الموصولة بمستقبل عام، أو غيرها موصولا بظرف أو شبهه، أو بفعل صالح للشرطية. أو نكرةٌ عامة موصوفة بأحد الثلاثة، أو مضاف إليها مشعر بمجازاة، أو موصوف بالموصول المذكور، أو مضاف إليه. وقد تدخل على خبر كُلٍّ مضاف إلى غير موصوف، أو على موصوف بغير ما ذكر. ولا تدخل على خبر غير ذلك خلافا للأخفش، وتزيلها نواسخ الابتداء إلا إنّ وأنّ ولكن على الأصح.

ش: نسبة خبر المبتدأ من المبتدأ كنسبة الفاعل من الفعل، لأنه معمول أول الجزأين وثانيهما، فحق الخبر ألا تدخل عليه الفاء، كما لا تدخل على الفاعل، فإذا دخلت فلا بد لدخولها من سبب، والسبب على ضربين، موجب ومجوز:

فالموجب تقدم أمّا، كقوله تعالى (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقٌّ من ربهم) ولا تحذف بعد "أمّا" إلا في ضرورة كقول الشاعر:

فأمّا القتالُ لا قتالَ لديكم

ولكن سيرٌ في عِراض المواكب

أو مع قول مخبر به مستغنى عنه بمقوله، كقوله تعالى:(فأما الذين اسودت وجوهُهم أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي: فيقال لهم: أكفرتم.

ص: 328

والمجوز لدخول الفاء على الخبر كون المبتدأ واقعا موقع مَنْ الشرطية أو "ما" أختها، فيتناول ذلك "أل" الموصولة بما يقصد به الاستقبال والعموم، كقوله تعالى:(والسارقُ والسارقة فاقطعوا أيديهما) فلو قصد به مضى أو عهد فارق "أل" شبه من وما، فلم يؤت بالفاء.

ومثال غير "أل" موصولا بظرف قول الشاعر:

ما لدى الحازم اللبيب معارا

فمصونٌ وما لَهُ قد يَضيع

ومثال الموصول بشبه الظرف قول الله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله).

ومثال الموصول بفعل صالح للشرطية قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وقرأ نافع وابن عامر: "بما كسبت" بحذف الفاء، فدل ذلك على أمرين: أحدهما: أن ما هذه موصولة لا شرطية، إذ لو كانت شرطية للزمت الفاء، لأن بما كسبت لا يصلح أن يكون شرطا، فإن الفاء لا تفارقه إلا في ضرورة.

والثاني: أن اقتران الفاء بخبر المبتدأ الذي نحن بصدده جائز لا لازم، لأنها لم تلحقه إلا لشبهه بالجواب، فلم تساوه في لزوم لحاقها، ليكون للأصل على الفرع مزية. وقد خلا الخبر المشار إليه من الفاء بإجماع القراء في قوله تعالى:(والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون).

وقيدت الصلة التي تقع بعدها الفاء بكونها فعلا صالحا للشرطية، ليعلم أنها لو كانت فعلا خالص المضي لم تدخل الفاء، وكذلك لو قرن بما لا تدخل عليه "مَنْ" الشرطية، ولا "ما" أختها، نحو: الذي إنْ حدّث صَدقَ مكرمٌ، والذي ما يكذب

ص: 329

أو لن يكذب مفلحٌ.

ومثال النكرة العامة الموصوفة بأحد الثلاثة: رجل عنده حزمٌ فسعيد، وعبدٌ لكريم فما يضيع، ونفس تسعى في نجاتها فلن تخيب.

ومثال المضاف إلى النكرة المقيدة مشعرا بالمجازاة: كل رجل عنده حزم فسعيد، وكل عبد لكريم فما يضيع، وكل نفس تسعى لنجاتها فلن تخيب.

ومثال دخول الفاء على خبر موصوفٍ بالموصول المذكور قول الشاعر:

صِلُوا الحزم فالخطبُ الذي تحسبونه

يسيرا فقد تَلْقَوْنَه متعسرا

وقد دخلت على خبر الموصوف بعد دخول إنّ في قوله تعالى: (قُلْ إن الموتَ الذي تَفرُّون منه فإنه مُلاقيكم) فدخولها عليه مع عدم "إنّ" أحق.

ومثال دخولها على خبر كلٍّ مضاف إلى غير موصوف ما جاء في بعض الأذكار المأثورة عن بعض السلف، وهو: بسم الله، ما شاء الله، كل نعمة فمن الله، ما شاء الله، الخير كله بيد الله، ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.

ومثال دُخُولها على خبر كلٍّ مضاف إلى الموصوف بغير ما ذكر، قول الشاعر:

كلُّ أمرٍ مباعدٍ أو مُدانِ فمَنُوطٌ بحكمة المتعالي

وأجاز الأخفش دخول الفاء على خبر المبتدأ الذي لا يشبه أداة الشرط نحو: زيد فمنطلق. ورأيه في ذلك ضعيف، لأنه لم يرد به سماع، ولا حجة له في قول الشاعر:

ص: 330

وقائلةٍ خَوْلانُ فانكح فتاتهم

وأُكْرُومةُ الحَيَّيْن خِلْوٌ كما هيا

ولا في قول الآخر:

أرَواحٌ مودِّع أم بكور

أنت فانظر لأيّ ذاك تصير

لأن معنى الأول: هذه خولان، فخولان خبر مبتدأ محذوف. ومعنى الثاني: انظر أنت، فأنت فاعل فعل محذوف. على أن زيادة الفاء في مثل هذا قد سهلها كون الخبر أمرا، كما سهلها كون العامل مفرّغا في نحو: زيدا فاضرب، و:(إلى ربك فارغب) لأن الأمر يطرق إلى ما يعلق به معنى المجازاة، فالقائل: زيدا فاضرب، كأنه قال: ما يكون من شيء فزيدا اضرب، وما يكن من شيء فزيد اضربه، فلا يلزم من جواز هذا، جواز: زيد فمنطلق، إذ ليس الخبر أمرا، فيطرق إلى ما تعلق به معنى المجازاة.

وإذا دخل بعض نواسخ الابتداء على مبتدأ دخلت الفاء على خبره أزال شبهه بأداة الشرط، فامتنع دخول الفاء على الخبر، ما لم يكن الناسخ إنّ وأنّ أو لكنّ، فإنها ضعيفة العمل، إذ لم يتغير بدخولها المعنى الذي كان مع الابتداء، ولذلك جاز العطف معها على معنى الابتداء، ولم يعمل في الحال. بخلاف كأنّ وليت ولعل، فإنها قوية العمل، مغيرة بدخولها المعنى الذي كان مع الابتداء، مانعة بدخولها من العطف على معنى الابتداء، صالحة للعمل في الحال، فقوى شبهها بالأفعال، فساوتها في المنع من الفاء المذكورة.

ومن بقاء الفاء مع دخول إن قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقْبَل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهبا) و: (إن الذين كفروا وصدُّوا

ص: 331

عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) وقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون).

ومن شواهد بقائها مع أن المفتوحة قوله تعالى: (واعلموا أنّما غَنِمْتُم من شيء فأنّ لله خُمسَه) ومنه قول الشاعر:

علمت يقينا أن ما حُمَّ كونُه

فسَعْيُ امرِئ في صَرْفه غير نافع

ومن شواهد بقائها بعد دخول لكن قول الشاعر:

بكل داهية ألقى العُداة وقد

يُظَن أنِّيَ في مكْرِي بهم فزِعُ

كلّا ولكنّ ما أُبْديه من فَرَق

فكَيْ يُغَرُّوا فيُغْريهم بي الطمعُ

ومثله قول الآخر: ولكنّ ما يُقْضَى فسوف يكون

ص: 332