المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومثله قول الآخر: فأصبحوا والنَّوى عالى مُعَرّسِهم … وليس كلَّ النوى - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ١

[ابن مالك]

الفصل: ومثله قول الآخر: فأصبحوا والنَّوى عالى مُعَرّسِهم … وليس كلَّ النوى

ومثله قول الآخر:

فأصبحوا والنَّوى عالى مُعَرّسِهم

وليس كلَّ النوى يلقى المساكينُ

وهذا وما أشبهه عند البصريين محمول على أن يُضْمر قبل المنصوب ضمير الشأن اسما فيندفع الإشكال. ويجوز جعل كان في البيت الأول زائدة، ويجوز جعل ما بمعنى الذي، وفي كان ضمير ما، وهو اسم كان، وعطية مبتدأ خبره عوّد، وهو ذو مفعولين: أحدهما إياهم، والثاني ها عائدة على ما، فحذفت وهي مقدرة.

فلو كان المعمول الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا، جاز بإجماع تقديمه على الاسم متصلا بالخبر نحو: كان عندك مقيما زيدٌ، ومنفصلا نحو: كان عندك زيدٌ مقيما، لأن الظرف والمجرور يتوسع فيهما توسعا لا يكون لغيرهما، ولذلك فصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، كقول الشاعر:

كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوما

يَهُوديٍّ يُقاربُ أو يُزيلُ

وبين الاستفهام والقول الجاري مجرى الظن، نحو: أغدا تقول زيدا منطلقا، ولو قلت: أأنت تقول، لبطل النصب، ولزمت الحكاية في اللغة المشهورة.

وقد أجيز: ما غدًا زيد ذاهبا، بإيلاء الظرف "ما"، وهو معمول خبرهان فإجازة ذلك في كان أولى.

فصل: ص: ألحق الحجازيون بليس "‌

‌ما" النافية

، بشرط تأخير الخبر، وبقاء نفيه، وفَقْدِ إنْ، وعدم تقدم غير ظرف أو شبهه من معمول الخبر. وإنْ المشار

ص: 368

إليها زائدة كافة لا نافية، خلافا للكوفيين. وقد تزاد قبل صلة ما الاسمية والحرفية، وبعد "ألا" الاستفتاحية، وقبل مَدَّة الإنكار. وليس النصب بعد "ما" لسقوط باء الجر، خلافا للكوفيين. ولا يغنى عن اسمها بدلٌ مُوجَب، خلافا للأخفش، وقد تعمل متوسطا خبرُها، وموجبا بإلا، وفاقا لسيبويه في الأول، وليونس في الثاني. والمعطوف على خبرها ببل ولكن موجب فيتعين رفعه.

ش: للعرب في "ما" النافية الداخلة على المبتدأ والخبر مذهبان: أحدهما: مذهب أهل الحجاز، وهو إلحاقها في العمل بليس، وعلى مذهبهم نزل القرآن، قوله تعالى:(ما هذا بشرا) وقوله تعالى: (ما هن أمهاتِهم).

والثاني: مذهب غير أهل الحجاز، وهو إهمالها، وهو مقتضى القياس، لأنها غير مختصة، فلا تستحق عملا، كما لا تستحقه هل وغيرها من الحروف التي ليست بمختصة.

وذكر الفراء أن أهل نجد يَجُرُّون الخبر بعدها بالباء كثيرا، ويدعون الباء فيرفعونه. فجعل بعض النحويين هذا مذهبا ثالثا في "ما". وضعف هذا الرأي بيِّن، لأن دخول الباء على الخبر بعد "ما" في لغة بني تميم معروف، لكنه أقل منه في لغة أهل نجد فمذهبهما واحد.

ولما كان عمل "ما" استحسانيا لا قياسيا اشترط فيه تأخر الخبر، وتأخر معموله، وبقاء النفي، وخلوها من مقارنة إنْ، لأن كل واحد من هذه الأربعة حال أصلي، فالبقاء عليها تقوية، والتخلي عنها أو عن بعضها توهين، وأحق هذه الأربعة بلزوم الوهن عند عدمه الخلو من مقارنة إنْ، لأن مقارنته "لما" يزيل شبهها بليس، لأن ليس لا تليها إنْ، فإذا وليت "ما" تباينا في الاستعمال، وبطل الإعمال دون خلاف. ولا يلزم مثل هذه المباينة بنقض النفي، ولا بتوسط الخبر، كما سيأتي ذلك مبينا إن شاء الله تعالى.

ص: 369

ومثال إبطال العمل لنقض النفي قوله تعالى: (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل).

ومثال إبطال لتوسط الخبر قول الشاعر:

وما خُذَّل قومي فأخضع للعدا

ولكنْ إذا أدعوهُمُ فهمُ همُ

ومثال إبطاله لتوسط معمول الخبر قول الشاعر:

وقالوا تَعَرَّفْها المنازلَ من منى

وما كلَّ من وافى مِنًى أنا عارفُ

على رواية من روى: كلَّ، بالنصب، وأما على رواية الرفع فكل اسم "ما"، وأنا عارف خبرها، وكان ينبغي أن يقول: أنا عارفه، لكنه حذف الضمير ونواه، كما فعل من قال: كلُهْ لم أصنع.

فلو كان معمول الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا لم يبطل عمل "ما" كقولك: ما عندك زيد مقيما، وكقول الشاعر:

بأُهْبة حرب كُن وإن كنت آمنا

فما كلَّ حين مَنْ تُوالي مواليا

ومثال إبطال العمل لاقتران "ما" بإنْ قول الشاعر:

بني غُدانةَ ما إنْ أنتم ذهبٌ

ولا صريفٌ ولكن أنتم الخزف

ومثله قول الآخر:

ص: 370

فما إن طِبُّنا جُبْن ولكنْ

.منايانا ودولة آخرينا

وإن هذه زائدة كافة لما، كما هي "ما" كافة لإنّ وأخواتها في نحو:(إنما اللهُ إلهٌ واحد).

وزعم الكوفيون أنَّ إنْ المقترنة بما هي النافية جيء بها بعد ما توكيدا، والذي زعموه مردود بوجهين: أحدهما: أنها لو كانت نافية مؤكدة لم تغير العمل، كما لا يتغير لتكرير ما، إذا قيل: ما من زيد قائما، كما قال الراجز:

لا يُنْسِك الأسى تأسِّيًا فما

ما مِنْ حِمامٍ أحدٌ معتصما

فكرر ما النافية توكيدا وأبقى عملها.

الثاني: أن العرب قد استعملت إنْ زائدة بعد ما التي بمعنى الذي، وبعد ما المصدرية التوقيتية، لشبههما في اللفظ بما النافية، فلو لم تكن زائدة المقترنة بما النافية، لم يكن لزيادتها بعد الموصولتين مسوغ. ومثال زيادتها بعد الموصولتين قول الشاعر:

يُرَجِّي المرْءُ ما إنْ لا يراه

وتعرِض دون أدناه الخطوبُ

أراد: يرجى المرء الذي لا يراه. ومثله قول الآخر:

ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيته

على السِّنِّ خيرا لا يزال يزيد

فما في هذا البيت مصدرية توقيتية، فزادوا إن بعدها لشبهها في اللفظ بما النافية، فتعين الحكم بالزيادة على التي بعد النافية، وزيدت أيضا إن بعد ألا الاستفتاحية،

ص: 371

كقول الشاعر:

ألا إنْ سَرَى لَيْلي فبِتُّ كئيبا

أُحاذر أن تَنْأى النَّوَى بِغَضُوبا

وزيدت أيضا قبل مدة الإنكار، كقول رجل من العرب لِمن قال له: أتخرج إن أخْصَبت البادية؟ - أأنا إنيه.

وزعم الكوفيون أن "ما" لا عمل لها، وأن نصب ما ينتصب بعدها بسقوط الباء. وما قالوه لا يصح، لأن الباء قد تدخل بعد هل، وبعد ما المكفوفة بإنْ، وإذا سقطت الباء تعين الرفع، بإجماع، فلو كان سقوط الباء ناصبا لنصبه في هذين الموضعين.

ومثل تعين الرفع في هذين الموضعين عند سقوط الباء تعينه عند سقوطها في نحو: كفى بزيد رجلا، وبحسب عمرو درهم. وتعينه عند سقوط مِنْ في نحو: ما فيه من رجل.

وأجاز الأخفش في نحو: ما أحد قائما إلا زيد، أن يقال: ما قائما إلا زيد، بحذف اسم ما، والاستغناء عنه ببدله الموجب بإلا. ومثل هذا لو سمع من العرب لكان جديرا بالرد، لأن المراد فيه مجهول، لاحتمال أن يكون أصله: ما أحد قائما إلا زيد، وأن يكون أصله: ما كان قائما إلا زيد، وما كان هكذا فالحكم بمنعه أولى من الحكم بجوازه، لأن شرط جواز الحذف أن يكون المحذوف متعين لا محتملا. ولذلك لا يجوز لمن قال: تمرون الديار، أن يقول: رغبت زيدا، لأن المراد مجهول، لاحتمال أن يكون أراد: رغبت في زيد، وأن يكون أراد: رغبت عن زيد.

ومن العرب من ينصب خبر ما متوسطا بينها وبين اسمها، أشار إلى ذلك سيبويه،

ص: 372

وسوى بينه وبين قول من قال: ملحفة جديدة، بالتاء، وبين من قال: ولات حينُ مناص، بالرفع. فإن المشهور: ملحفة جديد، بلا تاء، ولات حينَ مناص، بالنصب. وأنشد سيبويه على نصب الخبر متوسطا قول الفرزدق:

فأصبحوا قد أعاد اللهُ نعمتَهم

إذ هم قريش وإذا ما مثلَهم بشرُ

واستشهد أبو علي في التذكرة على نصب خبر ما مقدما على اسمها بقول الشاعر:

أما واللهِ عالم كلِّ غَيْب

ورب الحجر والبيت العتيقِ

لو انّك يا حُسَيْن خُلِقْت حرا

وما بالحُرِّ أنت ولا الخليقِ

بناء على أن الباء لا تدخل على الخبر إلا وهو مستحق للنصب، وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

ورد على سيبويه الاستدلال ببيت الفرزدق، لأنه سمع من لغتهم منع نصب الخبر مطلقا. لكنه رفع بشرا بالابتداء، وحذف الخبر، ونصب مثلهم على الحال. أو يكون تكلم الفرزدق بهذا معتقدا جوازه عند الحجازيين فلم يصب.

والجواب عن الأول أن الحال فضلة، فحق الكلام أن يتم بدونها، ومعلوم أن الكلام هنا لا يتم بدون مثلهم، فلا يكون حالا، وإذا انتفت الحالية تعينت الخبرية.

والجواب عن الثاني أن الفرزدق كان له أضداد من الحجازيين والتميميين، ومن مناهم أن يظفروا بزلة منه يشنعون بها عليه، مبادرين إلى تخطئته، ولو جرى شيء من ذلك لنقل، لتوفر الدواعي على التحدث بمثل ذلك لو اتفق، ففي عدم ذلك دليل على إجماع أضداده الحجازيين والتميميين على تصويب قوله، فثبت بهذا صحة استشهاد سيبويه بما أنشده، والله أعلم.

وروى عن يونس من غير طريق سيبويه إعمال "ما" في الخبر الموجب بإلا،

ص: 373

واستشهد على ذلك بعض النحويين بقول الشاعر:

وما الدهرُ إلا مَنْجَنُونا بأهله

وما صاحبُ الحاجات إلا معذبا

وتكلف في توجيه هذا البيت بأن قال: منجنونا منصوب نصب المصدر الذي يستغنى به عن خبر المبتدأ المقصود حصر خبره، فكأنه قال: وما الدهر إلا يدور بأهله دوران منجنون، أي: دولاب، ثم حذف الفعل على حد تسير إذا قيل: ما أنت إلا سير البريد، ثم حذف المضاف وهو دوران، وأقيم المضاف إليه مقامه وهو منجنون. وأما إلا معذبا فمثل: إلا تعذيبا، لأن مُفَعّلا من فَعّل بمنزلة تفعيل، ومنه قوله تعالى:(ومَزّقناهم كل مُمَزَّق).

وهذا عندي تكلف لا حاجة إليه، فالأولى أن يجعل منجنونا ومعذبا خبرين لما منصوبين بها، إلحاقا لها بليس في نقض النفي، كما ألحقت بها في عدم النقض. وأقوى من الاستشهاد بهذا البيت الاستشهاد بقول مغلس:

وما حقُّ الذي يعثُو نهارا

ويسرقُ ليله إلا نَكالا

وإذا عطف على خبر ما المنصوب ببل ولكنْ لم يجز في المعطوف إلا الرفع، كقولك: ما زيدٌ قائما بل قاعدٌ، وما خالد مقيما بل ظاعن، وإنما لم يجز ههنا في المعطوف إلا الرفع لأنه بمنزلة الموجب بإلا. وقياس مذهب يونس ألا يمتنع نصب المعطوف ببل ولكن.

ص: وتُلحق بها "إنْ" النافية قليلا، و"لا" كثيرا، ورفعها معرفة نادر، وتُكْسَعُ بالتاء فتختص بالحين أو مرادفه، مُقْتَصرا على منصوبها بكثرة، وعلى مرفوعها بقلة، وقد يضاف إليها "حين" لفظا أو تقديرا، وربما استغنى مع التقدير عن "لا" بالتاء. وتهمل "لات" على الأصح إن وليها هَنّا.

ص: 374

ش: مقتضى النظر أن يكون إلحاق "إنْ" النافية بليس راجحا على إلحاق "لا" لمشابهتها لها في الدخول على المعرفة، وعلى الظرف والجار والمجرور، وعلى المخبر عنه بمحصور، فيقال: إنْ زيد فيها، وإن زيد إلا فيها، و:(إنْ عندكم من سلطان) كما يقال بما. ولو استعملت "لا" هذا الاستعمال لم يجز.

ومقتضى النظر أيضا أن يكون إلحاق لات بليس راجحا على إلحاق "ما" و"إن" و"لا"، لأن اتصال التاء بها جعلها مختصة بالاسم، وشبيهة بليس في اللفظ، إذ صارت بها على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كليس، إلا أن الاستعمال اقتضى تقليل الإلحاق في "إنْ" وكثرته في "لا" مجردة، وقصره في "لا" مكسوعة بالتاء على الحين أو مرادفه.

وذكر السيرافي أن المرفوع بعد لات في مذهب الأخفش مرفوع بالابتداء، وأن المنصوب بعدها منصوب بإضمار فعل. وكلام الأخفش في كتابه المترجم "بمعاني القرآن" موافق كلام سيبويه في أنّ لات تعمل عمل ليس على الوجه المذكور.

وأكثر النحويين يزعمون أن مذهب سيبويه في إنْ النافية الإهمال، وكلامه مشعر بأن مذهبه فيها الإعمال، وذلك أنه قال في باب عدة ما يكون عليه الكلم:

"وأما إنْ مع ما في لغة أهل الحجاز، فهي بمنزلة ما مع إنّ الثقيلة تجعلها من حروف الابتداء، وتمنعها أن تكون من حروف ليس" فعلم بهذه العبارة أن في الكلام حروفا مناسبة لليس من جملتها ما، ولا شيء من الحروف يصلح لمشاركة ما في هذه المناسبة إلا إنْ ولا فتعين كونهما مقصودين.

وصرح أبو العباس المبرد بإعمال إنْ عمل ليس، وتابعه أبو علي وأبو الفتح بن جني، ومن شواهد ذلك ما أنشد الكسائي من قول الشاعر:

إنْ هو مستوليا على أحد

إلا على أضعف المجانين

ص: 375

وقال آخر:

إن المرءُ ميتا بانقضاء حياته

ولكن بأن يُبْغى عليه فيُخْذلا

وذكر أبو الفتح في المحتسب أن سعيد بن جبير رضي الله عنه قرأ: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) على أنَّ إنْ نافية، والذين اسمها، وعبادا خبرها، وأمثالكم صفة، وقال: معناه: ما الذين تدعون من دون الله أمثالكم في الإنسانية، وإنما هي حجارة ونحوها مما لا حياة له ولا عقل، فضلا لكم بعبادتهم أشد من ضلالكم لو عبدتم أمثالكم.

ومن عمل "لا" مجردة من التاء عمل ليس قول الشاعر:

تعزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقيا

ولا وَزَرٌ مما قضى الله واقيا

ومثله قوله:

نصرتُك إذ لا صاحبٌ غيرَ خاذل

فبُؤِّئت حصنا بالكُماة حصينا

ومثله قول سواد بن قارب رضي الله عنه:

وكن لي شفيعا يومَ لا ذو شفاعةٍ

بمُغْنٍ فتيلا عن سواد بن قارب

ومثله قول الآخر:

من صدَّ عن نيرانها

فأنا ابن قيسٍ لا بَراح

ص: 376

فحذف الخبر، ومثله قول الراجز:

والله لولا أن يَحُشَّ الطُّبَّخُ

بيَ الجحيمَ حين لا مُسْتَصْرَخُ

فهذا وأمثاله مشهور، أعني إعمال لا في نكرة عمل ليس.

وشذ إعمالها في معرفة في قول النابغة الجعدي رضي الله عنه:

بَدَت فعلَ ذي وُدٍّ فلما تبعتُها

تولّت وخلَّت حاجتي في فؤاديا

وحلّت سوادَ القلب لا أنا باغيا

سواها ولا في حبها متراخيا

وقد حذا المتنبي حذو النابغة فقال:

إذا الجودُ لم يُرْزَق خلاصا من الأذى

فلا المجدُ مكسوبا ولا المال باقيا

والقياس على هذا شائع عندي.

ولم تستعمل لات إلا في الحين أو مرادفه مقتصرا بها على الحين كله، كقوله تعالى:(ولات حين مناص) وكقول الشاعر:

غافلا تعرضُ المنيةُ للمر

.ء فيُدْعَى ولات حين إباء

ومثال إعمالها في مرادف الحين قول رجل من طيء:

ندم البغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

وأنشد أبو الحسن الأخفش، وأبو زكريا الفراء:

ص: 377

طلبوا صُلْحَنا ولات أوانِ

فأجبنا أن ليس حين بقاء

أراد: ولات أوان صلح، فقطع أوانا عن الإضافة ونواها، وبنى أوانا على الكسر تشبيها بفعالِ.

وإضافة حين إلى لات لفظا كقول الشاعر:

لعل حلومَكم تأوي إليكم

إذا شمَّرْتُ واضطرت شذاتي

وذلك حين لات أوانِ حلم

ولكن قبلها اجتنبوا أذاتي

وإضافة حين إليها تقديرا كقول الآخر:

تذكر حُبَّ ليلى لات حينا

وأمسى الشيب قد قطع القرينا

وأشرت بقولي: وربما استغنى مع التقدير عن لا "بالتاء" إلى قول الشاعر:

العاطفونَ تحين لا من عاطف

والمنعمون يدا إذا ما أنْعَموا

أراد: هم العاطفون حين لات حين ما من عاطف، فحذف حين مع لا، وهذا أولى من قول من قال: إنه أراد "العاطفونَهْ" بهاء السكت، ثم أثبتها وأبدلها تاء. وقد تجيء لات وبعدها هَنّا، كقول الشاعر:

حنّتْ نوارِ ولات هَنّا حنت

وبدا الذي كانت نوار أجَنّت

ولا عمل للات في هذا وأشباهه، ولكنها مهملة، وهنّا في موضع نصب على الظرفية، والفعل بعده صلة لأنْ محذوفة، وأن وصلتها في موضع رفع بالابتداء، والخبر هنّا، كأنه قال: ولا هنالك حنين، هكذا قال أبو علي.

ص: 378

وزعم ابن عصفور أن "هنّا" اسم لات، وما قاله غير صحيح، لأن هنا ظرف غير متصرف فلا يخلو من معنى "في".

ص: ورفع ما بعد "إلا" في نحو: ليس الطيبُ إلا المسكُ، لغة تميم، ولا ضمير في ليس خلافا لأبي علي.

ش: روى أبو عمرو بن العلاء في نحو: ليس الطيب إلا المسك، وليس البِرّ إلا العمل الصالح، النصب عن الحجازيين، والرفع عن بني تميم. فأما النصب فعلى ما تستحقه ليس من رفع الاسم ونصب الخبر، وأما الرفع فعلى إهمال ليس وجعلها حرفا.

وقد أشار سيبويه إلى جواز ذلك في بعض الكلام، وأجاز في قول من قال: ليس خلق الله أشعر منه، كون ليس فعلا متحملا ضمير الشأن اسما، وكونها حرفا مهملا.

واضطرب قول أبي علي في ليس، فرجح في بعض تصانيفها حرفيتها مع ظهور عملها، والتزم في موضع آخر فعليتها وإبقاء عملها في نحو: ليس الطيب إلا المسك، وذهب إلى أنها متحملة ضمير الشأن اسما، وما بعد ذلك خبرها. وما ذهب إليه غير صحيح، لأن الجملة المخبر بها عن ضمير الشأن في حكم مفرد هو المخبر عنه في المعنى، ولذلك استغنى عن عود ضمير منها إلى صاحب الخبر.

فإذا قصد إيجابها بإلا لزم تقدمها على جزأيها وامتنع توسطها، كما امتنع توسطها بين جزأي خبر مفرد قصد إيجابه، فلو كان اسم ليس في: ليس الطيب إلا المسك، ضمير الشأن، لزم أن يقال: ليس إلا الطيب المسك، كما يلزم أن يقال في: كلامي زيد قائم، عند حصر الخبر: ليس كلامي إلا زيد قائم، ولو وسط إلا فقيل: ليس كلامي زيد إلا قائم، لم يجز، فكذا لا يجوز: ليس الطيب إلا المسك، على تقدير: ليس الشأن الطيب إلا المسك، بل الواجب إذا قصد الحصر في خبر ضمير الشأن

ص: 379

أن يجاء بإلا مقدمة على جزأي الجملة، كما قال الشاعر:

ألا ليس إلا ما قضى اللهُ كائن

وما يستطيع المرء نفعا ولا ضرا

ويمكن في: ليس الطيب إلا المسك، إبقاء العمل على وجه لا محذور فيه، وهو أن يجعل "الطيب" اسم ليس، والمسك بدل منه، والخبر محذوف، والتقدير: ليس الطيب في الوجود إلا المسك، ويكون الاستغناء هنا بالبدل عن الخبر، كالاستغناء به في نحو: لا فتى إلا على، ولا سيف إلا ذو الفقار.

ص: ولا تلزم حاليةُ المنفي "بليس" و"ما" على الأصح.

ش: وزعم قوم من النحويين أن "ليس وما" مخصوصان بنفي ما في الحال، والصحيح أنهما ينفيان ما في الحال، وما في الماضي، وما في الاستقبال. وقد تنبه أبو موسى الجزولي إلى ذلك، فقال في كتابه المسمى بالقانون: وليس لانتفاء الصفة عن الموصوف مطلقا. قال أبو علي الشلوبين: قال أبو موسى ذلك، وإن كان الأضهر عند النحويين أن ليس إنما هي لانتفاء الصفة عن الموصوف في الحال، لأن سيبويه حكى: ليس خلق الله مثله، وأجاز: ما زيد ضربته، على أن تكون "ما" حجازية.

ثم بين الشلوبين أن مراد القائلين: إن ليس لانتفاء الصفة في الحال، أن الخبر إذا لم يكن مخصوصا بزمان دون زمان، ونفى بليس، فإنه يحمل نفيها على الحال، كما يحمل الإيجاب عليه أيضا. فإن اقترن الخبر بالزمان أو ما يدل عليه فهو بحسب المقترن به، موجبا كان أو منفيا بليس.

قلت: قد ورد استقبال المنفي بليس في القرآن العزيز وأشعار العرب كثيرا، وكذا ورد استقبال المنفي بما. فمن استقبال المنفي بليس قوله تعالى:(ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفا عنهم) وقوله تعالى: (ولستم بآخذيه إلا أن تُغْمِضُوا فيه)

ص: 380

وقوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) ومثله قول حسان:

وما مثلُه فيهم ولا كان قبله

وليس يكون الدهرَ ما دام يَذْبُل

ومثله قول زهير:

بدا لي أني لستُ مُدركَ ما مضى

ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا

ومثله:

إني على العهد لست أنْقُضُه

ما اخضر في رأس نخلة سَعَف

ومثله:

ولست بمُسْتَبقٍ أخا لا تَلُمُّه

على شَعَث أيُّ الرجالِ المهذبُ

ومثله:

هَوِّنْ عليك فإن الأمور

بكف الإله مقاديرها

فليس بآتيك مَنْهِيُّها

ولا قاصرٍ عنك مأمورها

ومثله:

ولستَ لما لم يقضِه الله واجدا

ولا عادما ما الله حَمّ وقدّرا

ومن استقبال المنفي بما قول الله تعالى: (وما هو بمُزَحْزحه من العذاب أن يُعَمّر) و (وما هم بخارجين من النار)(وما هم بخارجين منها)

ص: 381