المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ اسم الإشارة - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ١

[ابن مالك]

الفصل: ‌ اسم الإشارة

ومثله قول مسكين الدارمي:

وبينا الفتى يرجو أمورا كثيرة

أتى قدر من دون ذاك مُتاح

ص: ويشار إلى المكان "بهُنا" لازمَ الظرفية أو شِبْهها، معطى ما "لذا" من مُصاحبة وتجَرُّد، وكهنالك "ثَمَّ" و"هنّا" بفتح الهاء وكسرها، وقد يقال "هَنَّتْ" موضع "هنّا" وقد تصحبها الكاف.

وقد يراد بهنالك وهناك وهَنّا الزمان.

وبُني‌

‌ اسمُ الإشارة

لتَضمّنِ معناها، أو لشَبَه الحرف وضعا وافتقارا.

ش: من قال في الإشارة إلى الشخص القريب "ذا" قال في الإشارة إلى المكان القريب "هُنا" دون تنبيه ولا خطاب، ومن رأى مصاحبة التنبيه فقال: هذا، قال:"ههنا". ومن قال: ذاك، قال: هناك. ومن قال: ذلك، قال: هنالك. ومن سَوَّى: ذاك وذلك، مُلْغيا للتوسط، سَوَّى: هناك وهنالك ومن لم يُسَوِّهما معترفا بالتوسط، لزمه مثل ذلك في: هناك وهنالك: ومن قال: هذاك، جامعا بين التنبيه والخطاب، قال: ههناك. ولا يقال: ههنالك، كما لا يقال: هذا لك.

ويشار أيضًا إلى المكان البعيد بثَمَّ، وهَنّا، وهِنّا، كما يشار إليه بهنالك، وقد يقال: هَنّاك وهِنّاك. وقد يقال: هَنَّتْ، موضع هنّا. ومن شواهد هنّا قول الشاعر:

كأنّ وَرْسا خالطَ اليَرَنّا

خالطه مِن هَهُنا وهِنّا

ومن شواهد هَنَّتْ قول الآخر:

وذكرها هَنّت ولات هنّتِ

أراد: هنا، ولات هنا.

ص: 250

وكل هذه الأسماء المشار بها إلى المكان لا تفارق الظرفية إلا بدخول مِنْ أو إلى عليها، وإلى ذلك أشرت بقولي (لازم الظرفية أو شبهها) لأن حرف الجر والمجرور بمنزلة الظرف.

وقد يشار بهناك وهنالك وهنا إلى الزمان، فمن الإشارة إليه بهناك قول الأفوه الأودى:

وإذا الأمورُ تعاظمت وتَشابهت

فهناك يعترفون أينَ المَفْزع

ومن الإشارة بهنالك قوله تعالى (هناك ابتُلِي المؤمنون وزُلزلوا زلزالا شديدا) ومنه قول الشاعر:

إذا هِيَ قامتْ حاسِرًا مُشْمَعِلَّةً

نَخِيبَ الفُؤادِ رأسُها ما يُقَنَّع

وقمتُ إليه باللِّجام مُيسِّرًا

هنالِك يجزيني الذي كنتُ أصنع

ومن الإشارة إلى الزمان بهَنّا قول الشاعر:

حَنَّت نَوارِ ولات هَنّا حَنَّت

وبدا الذي كانت نَوارِ أجَنَّت

فهنّا إشارة إلى وقت، وهو منصوب على الظرفية، وحَنت في موضع رفع بالابتداء، والخبر الظرف، وهذا أحد المواضع المخبر فيها عن الفعل مؤولا بالمصدر.

وزعم بعض المتأخرين أن "هنا" اسم لات، والتقدير: ليس ذلك الوقت وقت حنت، أي وقت حنان. وليس ما زعم صحيحا لأن هذا الاستعمال مخالف لاستعمال "لات" الملحقة بليس، ولاستعمال "هنا"، فإن "لات" إنما يكون

ص: 251

اسمها لحين محذوفا كقوله تعالى (ولاتَ حين مناص) أي: وليس الحين حين مناص، وهنا بخلاف ذلك، فلا يكون اسم لات. وأيضا فإن "هَنا" لا تفارق الظرفية إلا بدخول "من" أو "إلى" عليها، وارتفاعه على أن يكون اسم لات مناف لذلك، فلا يصح.

والضمير من قولي "لتضمنِ معناها" عائد على الإشارة، فإن معناها حقيق بأن يوضع له حرف يدل عليه، كما وضع للتنبيه والاستفتاح وغيرهما من المعاني الزائدة على مدلولات الأسماء والأفعال، فاستغنوا عن وضع حرف إشارة بتضمُن أسماء لمعناها، فلذا يحد اسم الإشارة بأنه: الدال بالوضع على مسمى والإشارة إليه.

واستحق البناء لتضمنه معنى من المعاني الحرفية، وإذا كان الاسم يستحق البناء لتضمن معنى حرف لم يستغن به عن وضعه كاسم الاستفهام، فبناء ما تضمن معنى حرف استغنى عنه به كاسم الإشارة أحق وأولى.

وهذا السبب يقتضي بناء كل اسم إشارة. ولكن عارضه في ذين وتين شبههما بمثنيات الأسماء المتمكنة، فأعربا، وقد تقدم التنبيه على ذلك وشبهه.

وأما الشبه في الافتقار فالمراد به هنا حاجة اسم الإشارة في إبانة مسماه إلى مواجهة أو ما يقوم مقامها مما يتنزل منه منزلة الصلة من الموصول، وهذا أيضا سبب عام.

وأما الشبه في الوضع فالمراد به كون "ذا" و"ذي" وأخواتها موضوعة على حرفين. وذلك من وضع الحروف، فاستحقت البناء بذلك، وحملت البواقي عليها لأنها فروع أو كالفروع.

وإنما قلت "أو كالفروع" لأن منها "هنا" وأخواتها، وليست فروعا "لذا" و"ذي" ولكنها كالفروع، ولإمكان الاستغناء عنها "بذا" أو "ذي" والمستغنى به أصل للمستغنى عنه.

ص: 252

باب المُعَرَّف بالأداة

ص: وهي "أل" لا اللام وحدها، وفاقا للخليل وسيبويه، وقد تخلفها "أم" وليست الهمزة زائدة، خلافا لسيبويه.

ش: قد اشتهر عند المتأخرين أن أداة التعريف هي اللام وحدها، وأن المعبِّر عنها "بالألف واللام" تارك لما هو أولى، وكذا المعبر عنها "بأل" حتى قال ابن جني "ذكر عن الخليل أنه كان يسميها "أل" ولم يكن يسميها "الألف واللام" كما لا يقال في قد: القاف والدال.

قلت: قد عبر سيبويه عن أداة التعريف "بأل" كما فعل الخليل، فإنه قال في باب: عدة ما يكون عليه الكلم: "وقد جاء على حرفين ما ليس باسم ولا فعل" فذكر: أم وهل ولم ومن وما ولا وأن وكي وبل وقد وأو ويا، ومن ثم قال:"وأل تعرف الاسم كقولك: القوم والرجل" معبرا عنهما بأل، وجعلها من الحروف الجائية على حرفين كأم وأخواتها.

وقال في موضع آخر: "وإنما هي حرف بمنزلة قولك قد" ثم قال: "ألا ترى أن الرجل يقول إذا نسي فتذكر، ولم يرد أن يقطع كلامه: ألى، كما يقول "قدى" ثم يقول: "كأل وكأل" وهذا نصه، وهو موافق لما روى عن الخليل، فلولا أنه نسبها إلى الزيادة في موضع آخر لحكمت بموافقته الخليل مطلقا، إلا أن الخليل يحكم بأصالة الهمزة، وأنها مقطوعة في الأصل كهمزة "أم" و"أن" و"أو".

ص: 253

وسيبويه مع حكمه بزيادتها يعتد بها كاعتداده بهمزة "اسمع" ونحوه بحيث لا يعده رباعيا فيعطى مضارعه من ضم الأول ما يعطى مضارعه الرباعي للاعتداد بهمزته وإن كانت همزة وصل زائدة، فكذا لا يعد لام التعريف وحدها مع القول بأن همزتها همزة وصل زائدة.

على أن الصحيح عندي، قول الخليل لسلامته من وجوه كثيرة مخالفة للأصل، وموجبة لعدم النظائر:

أحدها: تصدير الزيادة فيما لا أهلية فيه للزيادة وهو الحرف.

الثاني: وضع كلمة مستحقة للتصدير على حرف واحد ساكن، ولا نظير لذلك.

الثالث: افتتاح حرف بهمزة وصل ولا نظير لذلك أيضا.

الرابع: لزوم فتح همزة وصل بلا سبب، ولا نظير لذلك أيضًا.

واحترزت باللزوم ونفي السبب من همزة "أيمن" في القسم فإنها تفتح وتكسر، وكسرها هو الأصل، ففتحت لئلا ينتقل من كسر إلى ضم دون حاجز حصين، ولم تضم لئلا تتوالي الأمثال المستثقلة.

فإن جعِلَ فتحُ همزة حرف التعريف طلب التخفيف لأجل الاستعمال لزم محذور آخر وهو أن التخفيف مصلحة تتعلق باللفظ فلا يترتب الحكم عليها إلا بشرط السلامة من مفسدة تتعلق بالمعنى كخوف اللبس، وهو هنا لازم، لأن همزة الوصل إذا فتحت التبست بهمزة الاستفهام، فيحتاج الناطق بها إلى معاملتها بما يليق بها من إبدال وتسهيل ليمتاز الاستفهام عن الخبر، وذلك يستلزم وقوع البدل حيث لا يقع المبدل منه، لأن همزة الوصل لا تثبت إذا ابتدئ بغيرهان فإذا أبدلت أو سهلت بعد همزة الاستفهام وقع بدلها حيث لا تقع هي، وذلك ترجيح فرع على اصل أفضى إليه القول بأن همزة "أل" همزة وصل زائدة فوجب اطراحه.

الخامس: أن المعهود الاستغناء عن همزة الوصل بالحركة المنقولة إلى الساكن نحو: رَزيدا، والأصل: ارْءَ، فنقلت حركة الهمزة إلى الرَّاء، واستغنى عن همزة الوصل، ولم يفعل ذلك بلام التعريف المنقول إليه حركة إلا على شذوذ، بل يبتدأ بالهمزة

ص: 254

على المشهور من قراءة ورش في مثل: الإخوة، وذلك في مثل: رَزيدا، لا يجوز أصلا، فلو كانت همزة أداة التعريف همزة وصل زائدة له لم يبدأ بها مع النقل، كما لا يبدأ بها الفعل المذكور.

السادس: أنه لو كانت همزة أداة التعريف همزة وصل لم تقطع في: يا ألله، ولا في قولهم: فألله لأفعلنّ، بالقطع تعويضا من حرف الجر، لأن همزة الوصل لا تقطع إلا في اضطرار، وهذا الذي ذكرته قطع في الاختيار، روجع به أصل متروك، ولو لم يكن مراجعة أصل لكان قولهم: فألله لأفعلن، أقرب إلى الإجحاف منه إلى التعويض، إذ في ذلك جمع بين ما أصله أن يثبت، وإثبات ما أصله أن يحذف، فصح أن الهمزة المذكورة كهمزة: أم، وأن، وأو، لكن التزم حذفها تخفيفا إذا لم يبدأ بها ولم تَل همزة استفهام، كما التزم أكثر العرب حذف عين المضارع والأمر من رأي، وحذف فاء الأمر من أخذ وأكل، وهمزة أمّ في: ويْلمّه.

واحتج بعض النحويين لسيبويه بأن قال: قد قيل: مررت بالرجل، فتخطى العامل حرف التعريف، فلو كان الأصل "أل" لكان في تقدير الانفصالن وكان يجب أن يقع قبل الجار، كما أن الحروف التي لا تمتزج بالكلمة كذلك، ألا ترى أنك تقول: هل بزيد مررت؟ ولا تقول: بهل زيدٍ مررت؟ فلولا أن حرف التعريف بمنزلة الزاي من زيد ما تخطاه العامل.

والجواب: أن تقدير الانفصال لا يترتب على كثرة الحروف، بل على إفادة معنى زائد على المعنى المصحوب ولو كان المشعر به حرفا واحدا كهمزة الاستفهام، فإنها وإن كانت حرفا واحدا في تقدير الانفصال، لكون ما تفيده من المعنى زائدا على مصحوبها، غير ممازج له. وعدم تقدير الانفصال يترتب على إفادة معنى ممازج لمعنى المصحوب كسوف، فإنها وإن كانت على ثلاثة أحرف غير مقدرة الانفصال، لكون ما تفيد من المعنى ممازجا لمعنى الفعل الذي تدخل عليه. فإنها تعينه للاستقبال، وذلك تكميل لدلالته. وهكذا حرف التعريف غير مقدر الانفصال، وإن كان على حرفين، لأن ما أفاده من المعنى تكميل ليعين الاسم مسماه، فتنزل منزلة الجزء من مصحوبه

ص: 255

لفظا كما تنزل منزلة الجزء معنى، إلا أن امتزاج حرف التعريف بالاسم أشد من امتزاج سوف بالفعل لوجهين:

أحدهما: أن معنى حرف التعريف لا يختص به بعض مدلول الاسم بخلاف معنى سوف فإنه مختص بأحد جزأي مدلول الفعل.

والثاني: أن حرف التعريف يجعل الاسم المقرون به، شبيها بمفرد قصد به التعيين وضعا كالمضمر واسم الإشارة والعلم المرتجل، فلا يقدح في الامتزاج المعنوي كون المتمازجين بحرفين أو أكثر. وسوف وإن مازج معناها معنى مصحوبها لكن لا تجعله شبيها بمفرد قصد به وضعا ما قصد بها وبمصحوبها، لأن ذلك غير موجود.

وقد ترتب على هذا امتناع الفصل بين حرف التعريف والمعرف به، ووقوعُه بين سوف والفعل المصاحب لها كقول الشاعر:

وما أدري وسوف إخالُ أدري

أقومٌ آل حِصْنٍ أم نساءُ

وفعل ذلك أيضا بقد كقول الشاعر:

لقد أرسلُوني في الكواعبِ راعيا

فقد وأبي راعي الكواعب أفْرِسُ

أراد: فقد أفرس راعي الكواعب وحق أبي، فسكن الياء وفصل.

واحتج قوم على الخليل بأن قالوا: لما كان التنكير مدلولا عليه بحرف واحد وهو التنوين، كان التعريف مدلولا عليه بحرف واحد كذلك وهو اللام، لأن الشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره.

وهذا ضعيف جدا لأن الضدين قد يتفقان في العبارة مطلقا كصَعُب صُعُوبة فهو صَعْب، وسَهُل سُهُولة فهو سَهْل.

وقد يختلفان مطلقا كشَبع شِبَعا فهو شَبْعان، وجاع جُوعا فهو جائِع.

وقد يتفقان من وجه ويختلفان من وجه كرَضِيَ رِضًا فهو رَاض، وسخط سُخْطا فهو ساخِط، والاختلاف أولى بهما ليكون سبيلهما في المعنى واللفظ واحد.

ص: 256

وإن سُلِّم حمل الشيء على ضده فيشترط تعذر حمله على نِدِّه، وقد أمكن الحمل عليه، فتعين الجنوح إليه.

ونقول: التعريف نظير التأنيث في الفرعية، فاشتركا في استحقاق علامة، والتنكير نظير التذكير في الأصالة، فينبغي أن يشتركا في الخلو من علامة. فإن وضع للتنكير علامة فحقها أن تنقص عن علامة التعريف، تنبيها على أنه أحق بالعلامة لفرعيته وأصالة التنكير، وذلك موجب لكون علامة التعريف حرفين وهو المطلوب.

وأيضا فإن التعريف طارئ على التنكير كطُرُوّ التثنية على الإفراد فيُسَوَّى بينهما بجعل علامة لكل واحد منهما حرفين، أحدهما يحذف في حال دون حال.

وأيضا لما كانت "مِنْ" ذاتَ حرفين، ومدلولها العموم في نحو: ما فيها مِنْ رجلٍ، وكان حرف التعريف نظيرها في العموم سُوِّي بينهما، فكان حرف التعريف حرفين، تسوية بين النظيرين.

ولما كانت اللام تدغم في أربعة عشر حرفا فيصير المعرف بها كأنه من المضاعف العين الذي فاؤه همزة، جعل أهل اليمن ومن داناهم بدلها ميما، لأن الميم لا تدغم إلا في ميم، وقد تقدم الاستشهاد على ذلك.

ص: فإنْ عُهدَ مَدْلول مصحوبها بحضور حِسِّيٍّ أو علمِيٍّ فهي عَهْدية، وإلَاّ فجِنْسيَّة.

ش: أشرت بالحُضُور الحسي إلى حضور ما ذُكِرَ كقوله تعالى (كما أرسلنا إلى فِرْعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) وإلى حضور ما أُبْصِرَ كقولك لمن سدّد سهما: القرطاسَ والله.

وبالحضور العلمي إلى نحو قوله تعالى (اليومَ أكملتُ لكم دينكم) و

ص: 257

(إذ هما في الغار) و (إذ ناداه ربُّه بالوادِ المقدسِ) و (إذْ يبايعونك تحت الشجرة).

ثم قلت "وإلا فجنسية" أي إن لا يكن المدلول عليه بمصحوب الأداة معهودا بأحد الحضورين المبينين بالأداة فهي جنسية.

ص: فإنْ خَلَفها كلٌّ دون تجَوُّز فهي للشُّمول مطلقا، ويُسْتَثْنى من مصحوبها. وإن أفرد فباعتبار لفظه فيما له من نعت وغيره أوْلى.

فإن خلفها تجَوُّزا فهي لشمول خصائص الجنس على سبيل المبالغة.

ش: مثال التي يخلفها كلٌّ دون تجوز قوله تعالى (وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا) والمراد بكون الشمول مطلقا عموم الأفراد والخصائص، بخلاف التي يخلفها كل على سبيل التجوز كقولك: زيد الرجل، بمعنى الكامل في الرجولية، الجامع لخصائصها، فإن هذا تجوز لأجل المبالغة.

ويستعملون كلًّا بهذا المعنى تابعا وغير تابع فيقولون: زيد كل الرجل، وزيد الرجل كل الرجل، وحكى الفراء عن العرب: أطعمنا شاة كل شاة.

والشمول الحقيقي هو الأصل، ولذلك اسْتَغْنى عن قرينة، ولم يسْتَغنِ الثاني عنها.

ومثال الاستثناء من مصحوبها قوله تعالى (والعصر* إن الإنسانَ لفي خسْر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فلولا أن أداة التعريف اقتضت شمول الحقيقة والإحاطة بأفرادها، لم يستثن الذين آمنوا من المعرف بها وهو الإنسان.

والأكثر في نعت مصحوب الإحاطية وخبره موافقةُ اللفظ كقوله تعالى

ص: 258

(والجار ذي القُرْبى والجار الجُنُب) وكقوله تعالى (لا يَصْلاها إلا الأشقى* الذي كذب وتوى* وسيُجَنَّبُها الأتقى* الذي يُؤْتي ماله يَتَزكى).

وموافقة المعنى دون اللفظ كقوله تعالى (أو الطفلِ الذين لم يظهروا على عورات النساء) وحكى الأخفش: أهْلَكَ الناسَ الدينارُ الحُمْر والدرهمُ البيضُ. ومن موافقة المعنى دون اللفظ ما هو من الأحد، أي من الناس، أنشد اللحياني:

وليس يظلمُني في وَصْل غانية

إلا كعمرٍو وما عمرٌو من الأحدِ

قال اللحياني: ولو قلت: ما هو من الإنسان تريد من الناس أصبت.

ص: وقد تعرِضُ زيادتُها في عَلمٍ، وحالٍ، وتمييزٍ، ومضافٍ إليه تمييزٌ. وربما زيدت فلزمت.

والبدلية في نحو: ما يحسُنُ بالرجل خيرٍ منك، أولى من النعت والزيادة. وقد تقوم في غير الصلة مقام الضمير.

ش: عروض زيادتها في علم كقول الشاعر:

وقد جَنَيْتُك أكْمُؤًا وعَساقِلا

ولقد نهيتك عن بناتِ الأوْبَرِ

أراد بنات أوبر، وهو علم لضرب من الكمأة. وقال آخر:

أما ودماءٍ مائراتٍ تخالها

على قُنْةِ العُزَّى والنَّسْر عندَما

ص: 259

أراد نَسْرًا وهم صنم.

وعروض زيادتها في الحال كقراءة بعض القراء (ليَخْرُجَنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ) أي ليخرجن العزيز منها ذليلا. وكقول بعض العرب: ادخلوا الأول فالأول، أي: أولا فأولا. ومنه قول الشاعر:

دُمْتَ الحميدَ فما تَنْفَكُ مُنْتَصِرا

على العِدا في سبيل المجدِ والكرم

وعروض زيادتها في التمييز كقول الشاعر:

رأيتُك لَمّا أن عرفتَ وجوهنا

صدَدْت وطبتَ النفسَ يا قيسُ عن عمرو

ومنه الحديث: أن امرأة كانت تهراق الدماء، والأصل: تهراق دماؤها، فأسند الفعل إلى ضمير المرأة مبالغة، وصار المسند إليه منصوبا على التمييز، ثم أدخل عليه حرف التعريف زائدًا.

وعروض زيادتها على ما أضيف إليه تمييز كقول الشاعر:

إلى رُدُحٍ من الشِّيزَى مِلاءٍ

لبابَ البُرِّ يُلْبَك بالشِّهادِ

أراد: لبابَ بُرٍّ وأنشد أبو علي:

تُولي الضَّجِيعَ إذا تَنَبَّه مَوْهِنا

كالأقحُوانِ من الرَشاش المُسْتقى

ص: 260

وزعم أن قائله أراد: من رشاش المستقى، فزاد الألف واللام، ولم يعتد بهما فلذلك أضاف إلى ما هما فيه.

وهذا الذي ذهب إليه بعيد، ولكن يوجه البيت على أن قائله أراد: كالأقحوان المستقى من الرشاش المستقى، فحذف من الأول، وأبقى الثاني دليلا عليه، كما فعل من قال:

تقولُ ودَقَّتْ صدرها بيمينها

أبَعْلِيَ هذا بالرَّحى المُتقاعِسُ

أراد: بعلي هذا المتقاعس بالرحى المتقاعس، ثم حذف، وهذا التوجيه نظائره كثيرة، ولا نظير لما وجه به أبو علي، فلذلك لم أقل بقوله.

وأشرت بقولي "وبما زيدت فلزمت" إلى نحو: اليسع، والآن، والذي. وأشرت بقولي "والبدلية في نحو: ما يحسنُ بالرجل خيرٍ منك، أولى من النعت" إلى قول سيبويه في باب:"مجرى نعت المعرفة عليها" ومن النعت: ما يحسن بالرجل مثلك أو خير منك أن يفعل ذاك. وزعم الخليل أنه إنما جر هذا على نية الألف واللام. ولكنه موضع لا تدخله الألف واللام، كما أن الجَمّاء الغفيرَ على نية إلغاء الألف واللام نحو:"طرا وقاطبة" فحكم الخليل في المقرون بالألف واللام المتبع بمثلك وخير منك بتعريف المنعوت والنعت.

وذهب أبو الحسن إلى أنهما نكرتان، وأن الألف واللام زائدتان في نية الاطراح.

وعندي أن أسهل مما ذهب إليه الحكم بالبدلية، وتقرير المتبوع والتابع على ظاهرهما.

وأشرت بقولي: وقد تقوم في غير الصلة مقام ضمير إلى نحو: مررت برجل حسنٍ الوجهُ، بتنوين حسن ورفع الوجه، على معنى: حسنٍ وجهُه، فالألف واللام

ص: 261

عوض من الضمير، وبهذا التعويض قال الكوفيون وبعض البصريين، وإن كان بعض المتأخرين قد عد هذه المسألة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين. وأنكر ذلك أبو الحسن علي بن محمد بن علي المعروف بابن خروف وقال: لا ينبغي أن يجعل بينهما خلافٌ، لأن سيبويه قد جعل الألف واللام عوضًا من الضمير في قوله في باب البدل:"ضُرِبَ زيدٌ الظَهرُ والبطنُ" وهو يريد: ظهره وبطنه، ولم يقل الظهر منه ولا البطن منه.

قلت: لما كان حرف التعريف بإجماع مغنيا عن الضمير في نحو: مررت برجل فأكرمت الرجل، جاز أن يغني عنه في غير ذلك لاستوائهما في تعيين الأول، ولذلك لم يختلف في جواز مررت برجل حسنٍ وجهُ أبيه، واختلف في جواز نحو: مررت برجل حسنٍ وجهُ أب، إذ ليس فيه ضمير ولا حرف تعريف، والمنع به أولى، وهو مذهب سيبويه.

ومن ورود الألف واللام عوضا من الضمير قوله تعالى (فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيمَ هي المأوى* وأما من خاف مقام ربِّه ونَهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى) ذكر ذلك الأستاذ أبو الحسن بن خروف، وعزاه إلى جماعة من أئمة النحو، وعلى ذلك يحمل قوله تعالى (جنات عدن مُفَتّحةً لهم الأبواب) وزعم أبو علي والزمخشري أن الأبواب بدل من ضمير مستكن بمفتحة، وهذا تكلف يوجب أن يكون الأبواب مرتفعًا بمفتحة المذكور، على القول بأن العامل في البدل والمبدل منه واحد، أو بمثله مقدرا، على القول بأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه. وعلى كل حال قد صح أن "مفتحة" صالح للعمل في الأبواب، فلا حاجة إلى تكلف إبدال.

وأيضا فالحاجة إلى الضمير في بدل البعض كالحاجة في السبى المرفوع بما جرى على ما هو من سببه، فقد قامت الألف واللام مقام الضمير على كل تقدير.

ص: 262

قال ابن خروف: "وحمل أبو علي وغيره من المتأخرين هذا المرفوع على البدل من ضمير في الصفة، ولا يطرد لهم ذلك في مثل: مررت برجل كريمٍ الأبُ، وحسن وجهُ الأخ، لا سبيل إلى البدل في هذا وأمثاله، فإذا امتنع البدل، فالباب كله على ما ذهب إليه الأئمة".

فقد تضمن كلام ابن خروف رحمه الله أن الحكم على المرفوع المشار إليه بغير البدلية هو مذهب الأئمة، وكفى بنقله شاهدًا.

وقد منع التعويضَ بعضُ المتأخرين وقال: لو كان حرف التعريف عوضًا من الضمير لم يجتمعا، إذ اجتماع العوض والمعوض منه ممتنع، وقد اجتمعا في قول طرفة:

رَحيبُ قِطابُ الجيبِ منها رفيقةٌ

بِجَسِّ النَّدامى بَضَّة المُتَجَرَّدِ

والجواب من وجهين: أحدهما: أن نقول: لا نسلم أن حرف التعريف الذي في البيت عوض، بل جيء به لمجرد التعريف، فجمع بينه وبين الضمير إذ لا محذور في ذلك.

ونظير هذا أن التاء في جهة، عوض من الواو التي هي فاء، وقد قالوا: وجهة، ولم يُجْعَلْ ذلك جمعا بين العوض والمعوض منه، بل حمل ذلك على أن التاء في وجهة لمجرد التأنيث بخلاف تاء جهة.

الثاني: أن نقول: سلمنا كون حرف التعريف الذي في البيت عوضًا، إلا أنه جمع بينه وبين ما عوض منه اضطرارًا، كما جمع الراجز بين ياء النداء والمعوض منها في قوله:

ص: 263

إنِّي إذا ما حَدَثٌ ألَمَّا

أقولُ يا اللهُمَّ يا اللهُمَّا

ومما يقوي كون حرف التعريف عوضا قول الشاعر في صفة صقر:

يأوِي إلى قُنَّة خَلقاء راسية

حُجْنِ المخالِبِ لا يَغْتالُه الشِّبع

أراد: حجن مخالبه، ولولا ذلك لقال: أحجن المخالب، كما يقال: رجل أحمر الثياب، وأنشد الكوفيون:

أيا ليلةً خُرسَ الدجاجِ سَهِرْتُها

ببغدادَ ما كادت عن الصُّبح تنجلي

أراد: خرسا دجاجُها، ولولا ذلك لقال: خرساء الدجاج، كما يقال: امرأة حمراء الثياب.

وإذا صح التعويض فلا يقاس عليه إلا ما سمع له نظير، ولا يقدح في صحته عدم استعماله في صلة وغيرها على سبيل الاطراد، كما لا يقدح في كون تنوين حينئدٍ عوضا من الإضافة امتناعُ ذلك في إذا وغيرها من الملازمات للإضافة.

لكن شرط التعويض المشار إليه أن يكون فيما يُسْتقْبح خلوه من الضمير والألف واللام معا، فلا يجعل من ذلك نحو: البُرُّ الكُرُّ بستين، لأنك لو قلت: كُرٌّ بستين، فأخليته من الضمير والألف واللام معا لم يُسْتَقْبَح، بخلاف ما تقدم.

فصل: ص: مدلولُ إعراب الاسم ما هو به عمدةٌ، أو به فَضْلةٌ، أو بينهما. فالرفع للعمدة، وهي مبتدأ، أو خبر، أو فاعل، أو نائبه، أو شبيه به لفظا.

ص: 264

وأصلها المبتدأ، أو الفاعل، أو كلاهما أصل.

والنصب للفضلة وهي: مفعول مطلق، أو مقيد، أو مستثنى، أو حال، أو تمييز، أو مشبه بالمفعول به.

والجر لما بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه.

وأُلْحِقَ من العمدة بالفضلات المنصوبُ في باب: كان، وإنَّ، ولا.

ش: العمدة عبارة عما لا يجوز حذفه من أجزاء الكلام إلا بدليل يقوم مقام اللفظ به.

والفضلة عبارة عما يسوغ حذفه مطلقا إلا لعارض، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

ولما كان المضاف إليه في موضع يكمل العمدة نحو: جاء عبد الله، وفي موضع يكمل الفضلة نحو: أكرمت عبد الله، وفي موضع يقع فضلة نحو: زيد ضارب عمرٍو، حكم عليه بأنه بين العمدة والفضلة.

ولما كان الاهتمام بالعمدة أشدَّ من الاهتمام بغيرها جعل إعرابه الرفع، لأن علامته الأصلية ضمة، وهي أظهر الحركات. وإنما قلنا: هي أظهر الحركات لوجهين:

أحدهما: أنها من الواو، ومخرجها من الشفتين، وهو مخرج ظاهر، بخلاف الفتحة والكسرة فإنهما من الألف والياء، ومخرجاهما من باطن الفم.

والثاني: أن الضمة يمكن الإشارة إليها بالإشمام عند سكون ما هي فيه وقفا وإدغاما بخلاف غيرها.

ولما كانت الكسرة تشبه الضمة جعلت علما للمضاف إليه، لأنه قد يكمل العمدة، ولأن الكسرة متوسطة بين الثقل والخفة، فجعلت للمتوسط بين العمدة والفضلة.

ولما جعلت الضمة للعمدة، والكسرة للمتوسط بين العمدة والفضلة، تعينت الفتحة للفضلة، وتبع كلَّ واحد من الحركات ما هو بالنيابة عنها، وقد تقدم بيان

ص: 265

ذلك في باب الإعراب.

والمراد بالمفعول المطلق: المصدرُ الموكِّد، والمبيِّن للنوع، أو لعدد المرات.

والمراد بالمُقَيَّد: المفعول به، والمفعول فيه، والمفعول له، والمفعول معه.

ولما تقدَّم أن النصب إعراب الفضلات، وكان ما نصب في باب "كان" وباب "إن" وباب "لا" عمدة، لكونه أحد ركني الإسناد، نبهت على ذلك بقولي "وألحق من العُمَد بالفضلات" إلى آخره.

ص: 266