الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
ذكر أول من آمن بالله ورسوله
":
وكان أول من آمن بالله وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية. قال لها عليه الصلاة والسلام: $"خشيت على نفسي". فقالت له: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا. ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا.
ذكر أول من آمن بالله ورسوله:
"وكان أول" بالنصب "من آمن بالله وصدق" عطف تفسير، فالإيمان التصديق، "صديقة" بالرفع اسم كان ويجوز عكسه، الأول أولى إذ المجهول الأولية وأضافها لقوله:"النساء" أي: الدائمة الصدق منهن مع اختصاص الصديقة بالنساء دفعًا لتوهم أنها صديقة الأمة فيوهم تميزها على أبي بكر، "خديجة" قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي والأموي وغيرهم، قال النووي: عند جماعة من المحققين، وحكى الثعلبي وابن عبد البر والسهيلي عليه الاتفاق.
وقال ابن الأثير؛ لم يتقدمها رجل ولا امرأة بإجماع المسلمين، "فقامت بأعباء" أي: بالمشاق التي يطلب تحملها وفاء بحقوق "الصديقية" والأعباء في الأصل: الثقل، فشبه الأحوال بها مبالغة ودليل قيامها بتلك الحقوق أنه "قال لها عليه الصلاة واللام" لما رجع يرجف فؤاده بعد مجيء جبريل له:"خشيت على نفسي". فقالت له: أبشر. بهمزة قطع "فوالله لا يخزيك الله أبدًا، ثم استدلت" على ذلك "بما فيه من الصفات" الحميدة كقرى الضيف وحمل الكل، "والأخلاق" الزكية المرضية، أي: الملكات الحاملة على الأفعال الحسنة، "والشيم" بمعنى الأخلاق، فالعطف مساوٍ وعطفهما على الصفات عطف سبب على مسبب، "على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا" وهو من بديع علمها وقوة عارضتها.
قال ابن إسحاق: وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من رد وتكذيب إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، ولهذا السبق وحسن المعروف جزاها الله سبحانه فبعث جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بغار حراء كما في رواية الطبراني، وقال له:"اقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"؛ كما في الصحيح.
وفي الطبراني: فقالت هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام. وفي النسائي: وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته، وهذا من وفور رفقها حيث جعلت مكان رد السلام على الله الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره. قال ابن هشام: والقصب هنا اللؤلؤ المجوف، وأبدى السهيلي لنفي الصخب والنصب لطيفة هي أنه صلى الله عليه وسلم ما عاد إلى الإيمان أجابت طوعًا ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير، فناسب أن تكون منزلتها التي بشرها بها وبها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي الله عنها، واقرأ السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ولم تسؤه صلى الله عليه وسلم قط، ولم تغاضبه وجازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته.
وكان أول ذكر آمن بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فآزره في الله. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلامًا، واستشهد بقول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوى من أخي ثقة
…
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها
…
بعد النبي.............
"وكان أول" بالنصب والرفع على ما مر رجل "ذكر آمن بعدها صديق الأمة" لسبقه بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الطبراني برجال ثقات: أن عليًا كان يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق وحكمه الرفع فلا مدخل فيه للرأي، وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، "وأسبقها" أي: الأمة بعد خديجة "إلى الإسلام أبو بكر" بدل أو عطف بيان لصديق على أنه اسم كان، وعلى أنه خبرها فهو خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان أبي قحافة على المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، قاله الفتح.
وفي جامع الأصول يقال: كان اسمه في الجاهلية عبد رب الكعبة، فغيره صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله، وينافيه ما روى ابن عساكر عن عائشة أن اسمه الذي سماه به أهله عبد الله ولكن غلب عليه اسم عتيق، إلا أن يكون سمي بهما حين الولادة، لكن اشتهر في الجاهلية بذاك وفي الإسلام بعبد الله، فمعنى سماه النبي صلى الله عليه وسلم قصر اسمه على عبد الله.
قال في الفتح: وكان يسمى أيضًا عتيقًا واختلف في أنه اسم أصلي له، أو لأنه ليس في نسبة ما يعاب به أو لقدمه في الخبر ولسبقه إلى الإسلام، أو لحسنه، أو لأن أمه استقبلت به البيت، وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت؛ لأنه كان لا يعيش لها ولد، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار؛ كما في حديث عائشة عند الترمذي، وصححه ابن حبان، انتهى. قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة، انتهى. ولم أقف على من كناه به هل المصطفى أو غيره.
"فآزره" بالهمز، أي: واساه وعاونه، وبالواو شاذ؛ كما في القاموس. "في" نصر دين "الله" بنفسه وماله، "وعن ابن عباس: أنه أول الناس إسلامًا، واستشهد" ابن عباس، وفي لفظ: وتمثل، "يقول حسان بن ثابت" الأنصاري "إذا تذكرت شجوًا" أي: همًا وحزنًا يريد ما كابده أبو بكر، فأطلق عليه شجوًا لاقتضائه ذلك، أو أراد حزنه مما حرى على المصطفى "من أخي ثقة" أي: صديق أو صاحب ائتمان، والمعنى: إذا تذكرت من يقتدي به في تحمل المشاق القلبية والبدنية لأجل صديقه، "فاذكر أخاك أبو بكر بما فعلا" صلة اذكر، وما مصدرية، أي: تذكر بفعله الجميل "خير البرية" بالنصب بدل من "أبا بكر" أو صفة له "أتقاها" صفة بعد صفة والعاطف مقدم، "وأعدلها بعد النبي" تنازعه خير البرية وما عطف عليه وأل للعهد وهو المصطفى، فالمراد بالبرية
...........................
…
......... وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده
…
وأول الناس قدمًا صدق الرسلا
رواه أبو عمر.
أمته، وبالبعدية في رتبة الفضل لا الزمانية، فإن خيريته وما بعدها كان ثابتًا في حياته صلى الله عليه وسلم، هكذا نبهنا عليه شيخنا العلامة البابلي لما قرأ قول البخاري باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أل للاستغراق فالمراد بها من عدا الأنبياء.
"وأوفاها" اسم تفضيل من وفى بالعهد، أي: أحفظها "بما حملا" أي: بالذي حمله عنه عليه السلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بحقوق الله وآدابه، وعطف على خير، قوله:"والثاني" للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار و"التالي" التابع له باذلا نفسه مفارقًا أهله وماله ورئاسته في طاعة الله ورسوله وملازمته ومعاديًا للناس فيه جاعلا نفسه وقاية عنه، وغير ذلك من سيره الحميدة التي لا تحصى، بحيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر"، وقال:"ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر، واساني بنفسه وماله"، رواه الطبراني. وقال:"إن أعظم الناس علينا منًّا أبو بكر زوني ابنته وواساني بنفسه" رواه ابن عساكر.
وقال الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعًا في هذه الآية، أي آية:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ} [التوبة: 40] ، غير أبي بكر، وقد جوزي بصحبة الغار الصحبة على الحوض؛ كما في حديث ابن عمر رفعه:"أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" فيا نعم الجزاء "المحمود مشهده" بفتح الهاء، أي: الممدوح مكان حضوره من الناس؛ لأنه كما قال ابن إسحاق: كان رجلا مؤلفًا لقومه محببًا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان تاجرًا ذا خلق حسن ومعروف، وكان رجال من قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه جماعة عدهم كما يأتي.
"وأول الناس قدمًا" بكسر القاف وسكون الدال تخفيفًا، وأصلها الفتح، أي: قديمًا، أو بضم القاف وسكون الدال، أي: تقدمًا، وهو معمول لقوله:"صدق الرسلا" بالجمع؛ لأن تصديقه تصديق لجميعهم؛ كما في نحو: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، وفي نسخة منهم بذل قدمًا، أي: حال كونه معدودًا منهم لمهماتهم فصرح بأنه أول من بادر لتصديق المرسلين، وهو محل الاستشهاد من الأبيات والألف في آخر كل منها للإطلاق، وهو إشباع حركة الروي فيتولد منها حرف مجانس لها. "رواه أبو عمر" بن عبد البر، وكذا الطبراني في الكبير.
وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلامًا، أسماء بنت أبي بكر، والنخعي وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس.
وروى الترمذي عن أبي سعيد، قال: أبو بكر: ألست أول من أسلم "وممن وافق ابن عباس وحسانًا" بالصرف ومنعه على أنه من الحسن أو الحسن، قال الجوهري، لكن قال ابن مالك: المسموع فيه منع الصرف. "على أن الصديق أول الناس إسلامًا أسماء بنت أبي بكر" ذات النطاقين زوج الزبير المتوفاة بمكة سنة ثلاث وسبعين، وقد بلغت المائة ولم يسقط لها سن، ولم يتغير لها عقل.
"و" إبراهيم بن يزيد بن قيس "النخعي" بفتح النون والخاء المعجمة نسبة إلى النخع قبيلة الكوفي الفقيه الحافظ التابعي الوسط المتوفى وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين، "وابن الماجشون" بفتح الجيم وكسرها وضم الشين، لفظ: فارسي لقب به؛ لأنه تعلق من الفارسية بكلمة: إذ لقي الرجل يقول: شوني شوني، قاله الإمام أحمد، أو لأنه لما نزل المدينة كان يلقى الناس ويقول: جوني جوني، قاله ابن أبي خيثمة أو لحمرة وجنتيه، سمي بالفارسية المايكون فعربه أهل المدينة بذلك، قاله الحربي.
وقال الغساني: هو بالفارسية الماهكون فعرب، ومعناه: المورود، ويقال: الأبيض الأحمر. وقال الدارقطني: لحمرة وجهه، ويقال: أن سكينة بالتصغير بنت الحسين بن علي لقبته بذلك، وقال البخاري في تاريخه الأوسط: الماجشون هو يعقوب بن أبي سلمة أخو عبد الله، فجرى على بنيه وبني أخيه.
"ومحمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي التابعي الصغير كثير الحديث عن أبيه، وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري ومالك وأبو حنيفة وشعبة والسفيانان، قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، مات سنة ثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين ومائة.
"والأخنس" بفتح الهمزة وخاء معجمة ساكنة ونون مفتوحة وسين مهملة، ابن شريق بفتح المعجمة وكسر الراء وتحتية وقاف الثقفي، واسم الأخنس أبي حليف بني زهرة صحابي من مسلمة الفتح، وشهد حنينًا وأعطي مع المؤلفة وتوفي أول خلافة عمر، ذكره الطبري وابن شاهين هذا على ما في النسخ.
والذي عند البغوي بدله والشعبي، وكذا رواه عنه في المستدرك ووقوع إسلام الصديق عقب خديجة؛ لأنه كان يتوقع ظهور نبوته عليه السلام لما سمعه من ورقة، وكان يومًا عند حكيم بن حزام إذ جاءت مولاة له، فقالت: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي
.............................................
مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
وروى ابن إسحاق بلاغًا: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر ما عكم عنه حين ذكرت له، قال ابن هشام قوله: ما عكم، أي: تلبث. قال في الروض: وكان من أسباب توفيق الله له أنه رأى القمر نزل مكة ثم تفرق على جميع منازلها وبيوتها فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كان جمعه في حجرة فقصها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أطل زمانه يتبعه ويكون أسعد الناس به، فلما دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام لم يتوقف.
وذكر ابن الأثير في أسد الغابة وابن ظفر في البشر عن ابن مسعود: أن أبا بكر خرج إلى اليمن قبل البعثة، قال: فنزلت على شيخ قد قرأ الكتب وعلم من علم الناس كثيرًا، فقال: أحسبك حرميًا؟ قلت: نعم، وأحسبك قرشيًا؟ قلت: نعم، وأحسبك تيميًا؟ قلت: نعم، قال: بقيت لي فيك واحدة، قلت: وما هي؟ قال: تكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل، أو تخبرني لم ذاك، قال: أجد في العلم الصحيح الصادق أن نبيًا يبعث في الحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، أما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك إلا أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي، فكشفت له بطني فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة! وإني متقدم إليك في أمره، قلت: وما هو؟ قال: إياك والميل عن الهدى وتمسك بالطريق الوسطى، وخف الله فيما خولك وأطاك فقضيت باليمن أربي، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال: أحامل أنت مني أبياتًا إلى ذلك النبي؟ قلت: نعم، فذكر أبياتًا، فقدمت مكة، وقد بعث صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش، فقلت: نابكم أو ظهر فيكم أمر؟ قالوا: أعظم الخطب يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به والكفاية فيك، فصرفتهم على أحسن شيء وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرعت عليه الباب فخرج إلي، فقلت: يا محمد! قدحت منازل أهلك وتركت دين آبائك؟ فقال: "إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله"، قلت: وما دليلك؟ قال: "الشيخ الذي لقيته باليمن"، قلت: وكم لقيت من شيخ باليمن، قال:"الذي أفادك الأبيات"، قلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: "الملك المعظم الذي يأتي الأنبياء قبلي" قلت: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فانصرفت وقد سر صلى الله عليه وسلم بإسلامي. وفي سياقه نكارة، فإن كان محفوظًا أمكن الجمع بأن سفره لليمن قبل البعثة؛ كما صرح به ورجوعه عقب إسلام خديجة، واجتمع بحكيم وسمع الخبر عنده ولقيه الصناديد، وقالوا له ما ذكر، فأتاه صلى الله عليه وسلم وآمن به
وقيل: إن علي بن أبي طالب أسلم بعد خديجة، وكان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون علي أول صبي أسلم، لأنه كان صبيًا لم يدرك، ولذا قال:
بعد حصول الأمرين.
وأما الجمع بأنه آمن به أولا ثم سافر إلى اليمن ولم يظهر إسلامه لقومه، فلما رجع وأخبروه بذلك أتى المصطفى وأظهر إسلامه بين يديه ثنيًا، ففاسد لتصريحه بأن سفره قبل البعثة، ولأنه لو كان آمن ما خاشنه في الخطاب، بقوله: يا محمد! قدحت
…
إلخ، على أنه مما لا يليق التفوه به في هذا المقام، كيف وقد صرح غير واحد، منهم ابن إسحاق بأنه لما أسلم أظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله.
"وقيل: إن علي بن أبي طالب" الهاشمي "أسلم بعد خديجة" قبل الصديق، قطع به ابن إسحاق وغيره محتجين بحديث أبي رافع:"صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الاثنين، وصلت خديجة آخره، وصلى علي يوم الثلاثاء"، رواه الطبراني، وبما في المستدرك: نبئ النبي يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء، وروى ابن عبد البر: أن محمد بن كعب القرظي سئل عن أولهما إسلامًا، فقال: سبحان الله علي أولهما إسلامًا، وإنما اشتبه على الناس؛ لأن عليًا أخفى إسلامه عن أبيه وأبو بكر أظهره، "وكان" مما أنعم الله به عليه؛ كما قال ابن إسحاق: أنه كان "في حجر" مثلث الحاء، أي: منع "النبي صلى الله عليه وسلم" وكفالته وحفظه مما لا يليق به، وذلك أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان من أيسر بني هاشم:"يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت رجلا، فنكفهما عنه" قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتياه وأخبراه بما أراد، فقال: إذا تركتماني عقيلا، ويقال: وطالبًا، فاصنعا ما شئتما، فأخذ المصطفى عليًا، فلم يزل معه حتى بعثه الله فاتبعه وآمن به وصدقه، وأخذ العباس جعفرًا فلم يزل عنده حتى أسلم، واستغنى عنه.
"فعلى هذا" المذكور من كونه في حجر النبي لا تنافي بين القولين في أيهما بعد خديجة لإمكان الجمع؛ كما قال السهيلي بأنه "يكون أول من أسلم من الرجال" البالغين "أبو بكر، ويكون عليّ أول صبي أسلم، لأنه كان صبيًا لم يدرك" أي: لم يبلغ، "ولذا قال" علي: ما حكى أن معاوية كتب إليه: يا أبا حسن، إن لي فضائل أنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه، فقال علي: والله ما أكتب إليه إلا شعرًا، فكتب:
محمد النبي أخي وصهري
…
وحمزة سيد الشهداء عمي
سبقتكم إلى الإسلام طرًا
…
صغيرًا ما بلغت أوان حلمي
وكان سن علي إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبري.
وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليًا أول من أسلم من الرجال:
وجعفر الذي يضحى ويمسي
…
يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي
…
مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ابناي منها
…
فمن منكم له سهم كسهمي
"سبقتكم إلى الإسلام طرا
…
صغيرًا ما بلغت أوان حلمي"
فلما قرأ معاوية الكتاب، قال: مزقه يا غلام لا يراه أهل الشام، فيميلوا إلى ابن أبي طالب. قال البيهقي: هذا الشعر مما يجب على كل متوان في علي حفظه ليعلم مفاخره في الإسلام. وطرا بضم الطاء المهملة وفتحها، أي: جميعًا وما بلغت بيان للمراد من صغيرًا؛ لأن الصغر يتفاوت. وحلمي بضم المهملة وسكون اللام على إحدى اللغتين والثانية بضمهما، أي: احتلامي، أي: خروج المني. وزعم المازني، وصوبه الزمخشري: أنه لم يقل غير بيتين هما:
تلكم قريش تمناني لتقتلني
…
فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم
…
بذات ودقين لا يعفو لها أثر
وذات ودقين الداهية كأنها ذات وجهين، ذكره القاموس. وهو مردود بما في مسلم، فقال علي، أي: مجيبًا لمرحب اليهودي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
…
كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
وروى الزبير بن بكار في عمارة المسجد النبوي، عن أم سلمة، وقال علي بن أبي طالب:
لا يستوي من يعمر المساجدا
…
بدأت فيها قائمًا وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
"وكان سن علي إذا ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبري" وهو قول ابن إسحاق: واقتصر المصنف عليه لقول الحافظ أنه أرجح الأقوال، وروى ابن سفيان بإسناد صحيح عن عروة، قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين، وصدر به في العيون، لكن ابن عبد البر بعد أن حكاه عن أبي الأسود يتيم عروة، قال: لا أعلم أحدًا قال كقوله، وقيل: اثنتي عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست، وقيل: خمس، حكاهما العراقي.
"وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليًا أول من أسلم من الرجال" أي: الذكور
سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم.
قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا.
وقيل: أول رجل أسلم ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته عليه السلام لا رسالته......................................
وإن كان صبيًا، "سلمان" الفارسي "وأبو ذر" جندب بن جنادة الغفاري الزاهد أحد السابقين، روى الطبراني عنهما، قالا: أخذ صلى الله عليه وسلم بيد علي، فقال:"إن هذا أول من آمن بي"، "وخباب" بفتح المعجمة وشد الموحدة فألف فموحدة ابن الأرت بشد الفوقية التميمي البدري أحد السباق، روى عنه علقمة وقيس بن أبي حازم، توفي سنة سبع وثلاثين. "وجابر" بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، "وأبو سعيد" سعد بن مالك بن سنان، "الخدري" بدال مهملة، "وزيد بن الأرقم" بن زيد بن قيس الخزرجي أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، مات سنة ست أو ثمان وستين، والروايات عن هؤلاء بكونه أول من أسلم عند الطبراني بأسانيده، ورواه، أعني الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس موقوفًا، وبسند ضعيف عنه مرفوعًا، ورواه الترمذي من طريق آخر عنه موقوفًا. "وهو قول" محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله "ابن شهاب" نسب إلى جد جده لشهرته، "وقتادة" بن دعامة الأكمه "وغيرهم" بالرفع، أي: غير سلمان، ومن عطف عليه كأبي أيوب ويعلى بن مرة وعفيف الكندي وخزيمة بن ثابت وأنس؛ كما أسنده عنهم الطبراني، "قال" الحافظ في التقريب: ورجحه جمع، وجملة: وهو قول معترضة ويصح جر غير بناء على أن الجمع ما فوق الواحد، ونشد المرزبان لخزيمة في علي:
أليس أول من صلى لقبلتكم
…
وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وقال كعب بن زهير من قصيدة يمدحه بها:
إن عليًا لميمون نقيبته
…
بالصالحات من الأفعال مشهور
صهر النبي وخير الناس مفتخرا
…
فكل من رامه بالفخر مفخور
صلى الطهور مع الأمي أولهم
…
قبل المعاد ورب الناس مكفور
"واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا" من جملة كلام ابن عبد البر، ووافقه على حكاية الاتفاق الثعلبي والسهيلي، "وقيل: أول رجل" خرجت خديجة؛ لأنها آمنت قبل ذهابها بالمصطفى إليه، "أسلم ورقة بن نوفل" قال جماعة ومنعه آخرون، "و" لكن "من يمنع" إنه أول من أسلم "يدعى" تأخر الرسالة عن النبوة و"أنه أدرك نبوته عليه السلام لا رسالته" التي لا يحكم
لكن جاء في السير، وهي رواية أبي نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك، فهذا تصريح منه بتصديقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
بالإسلام إلا لمن آمن بعدها "لكن" لا تسلم له هذه الدعوى، فقد "جاء في السير" كما في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن عمرو بن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي ميسرة التابعي الكبير مرسلا "وهي رواية أبي نعيم المتقدمة" قريبًا قبل مراتب الوحي مسندة عن عائشة:"أنه" أي: ورقة، "قال: ابشر فأنا أشهد" أقر وأذعن "أنك" الرسول "الذي بشر به ابن مريم، وإنك على مثل" أي: صفة مماثلة لصفة "ناموس موسى، وإنك نبي مرسل" تأكيد زيادة في تطمينه، "وإنك ستؤمر بالجهاد" علم ذلك من الكتب القديمة لتبحره في علم النصرانية، "وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك" وفي آخر هذا الحديث: فلما توفي، قال صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني". وأخرجه البيهقي في الدلائل أيضًا، وروى ابن عدي عن جابر مرفوعًا:"رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس"، ورواه ابن السكن بلفظ:"رأيت ورقة على نهر من أنهار الجنة".
"فهذا تصريح منه بتصديقه، برسالة محمد صلى الله عليه وسلم" لكن يجوز أنه قاله قبل الرسالة؛ لعلمه بالقرائن الدالة على ذلك، فيكون كبحيرا سيما وقد مر أن ذهاب خديجة لورقة كان عقب نزول {اْرَأْ} [العلق: 1] ، ولم تتأخر وفاته وإلى هذا أشار الحافظ، فقال: حديث الصحيح ظاهر في أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو الناس إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا، وفي إثبات الصحبة له نظر. وتعقبه تلميذه البرهان البقاعي، فقال: هذا من العجائب، كيف يماثل من آمن بأنه قد بعث بعدما جاءه الوحي فانطبق عليه تعريف الصحابي الذي ذكره في نخبته بمن آمن أنه سيبعث، ومات قبل أن يوحى إليه.
قال العلامة البرماوي: ليس ورقة من هذا النوع؛ لأنه اجتمع به بعد الرسالة لما صح في الأحاديث أنه جاء له بعد مجيء جبريل وإنزال اقرأ، وبعد قوله: أبشر يا محمد، أنا جبريل أرسلت إليك وإنك رسول هذه الأمة، وقول ورقة: أبشر
…
وذكر ما ساقه المصنف، وقال بعده: ورؤيته عليه السلام لورقة في الجنة وعليه ثياب خضر، وجاء أنه قال:"لا تسبوه، فإني رأيت له جنة أو جنتين". رواه الحاكم في المستدرك. وأما قول الذهبي في التجريد، قال ابن منده: اختلف في إسلامه والأظهر أنه مات بعد النبوة، وقيل: الرسالة، فبعيد لما ذكرناه فهو صحابي قطعًا بل أول الصحابة كما كان شيخنا شيخ الإسلام يعني البلقيني يقرره، انتهى.
قال البلقيني: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح. وذكره ابن منده في الصحابة.
وحكى العراقي: كون علي أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.
وادعى الثعلبي..........................................
ونقل كلام البلقيني، بقوله:"قال" شيخ الإسلام علامة الدنيا سراج الدين، أبو حفص عمر بن رسلان بن نصر "البلقيني" الحافظ الفقيه البارع المجتهد المفنن المصنف، المتوفى سنة خمس وثمانمائة بضم الموحدة وسكون اللام والياء وكسر القاف، نسبة إلى قرية بمصر قرب المحلة؛ كما في اللب والمراصد والنسخ المعتمدة من القاموس، خلاف ما في بعضها من أن بلقين كغرنيق، "بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال" وذكره وإن استفيد مما قدمه؛ لأنه على أنه بعد الرسالة ولم يتقدم تصريح به "وبه قال العراقي" الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم "في نكته على" كتاب "ابن الصلاح" في علوم الحديث وبه جزم في نظم السيرة، حيث قال: فهو الذي آمن بعد ثانيًا، وكان برًا صادقًا مواتيًا، "وذكره ابن منده في الصحابة" حاكيًا الخلاف؛ كما مر، وذكره فيهم أيضًا الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم كما في الإصابة، وحسبك بهم حجة، ومر أن الصحيح أن النبوة والرسالة متقارنان.
وروى الزبير بن بكار عن عروة: أن ورقة مر ببلال وهو يعذب برمضاء مكة ليشرك، فيقول: أحد أحد، فقال ورقة: أحد أحد يا بلال، والله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، قال في الإصابة: وهذا مرسل جيد، يدل على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، والجمع بينه وبين قوله عائشة: فلم ينشب ورقة أن توفي، أي: قبل أن يشتهر الإسلام ويؤمر المصطفى بالجهاد، قال: وما روي في مغازي ابن عائد، عن ابن عباس: أنه مات على نصرانيته، فضعيف، انتهى باختصار. وقد أرخ الخميس وفاة ورقة في السنة الثالثة من النبوة، قال: وفي المنتقى في السنة الرابعة، قلت: وما وقع في الخميس من قوله، وفي الصحيحين عن عائشة: أن الوحي تتابع في حياة ورقة، فغلط إذ الذي فيهما عنها: فلم ينشب ورقة أن توفي.
"وحكى العراقي كون علي أول من أسلم عن أكثر العلماء" وقال الحاكم: لا أعلم فيه خلافًا بين أصحاب التواريخ، قال: والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر أول من أسلم الرجال البالغين؛ لحديث عمرو بن عبسة، يعني: حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يعني أبا بكر وبلالا، رواه مسلم ولم يذكر عليًا لصغره. "وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه" فقال: اتفقوا على أن خديجة أول من آمن ثم علي بعدها، "وادعى الثعلبي" أحمد بن
اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها.
قال ابن الصلاح: والأورع أن يقال:
أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر.
ومن الصبيان أو الأحداث علي.
ومن النساء خديجة.
ومن الموالي زيد بن حارثة.
محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق النيسابوري صاحب التفسير والعرائس في قصص الأنبياء.
قال الذهبي: وكان حافظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة والزهادة، مات سنة سبع وعشرين أو سبع وثلاثين وأربعمائة، ويقال له: الثعلبي والثعالبي، "اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها" هل الصديق أو علي أو ورقة؛ لأنها آمنت قبل مجيئها بالمصطفى له لما أخبرها عن صفة ما رأى في الغار لما ثبت عندها قبل ذلك عن بحيرا وغيره أنه النبي المنتظر، وقيل: زيد بن حارثة ذكره معمر عن الزهري، وقدمه ابن إسحاق على الصديق، فقال: أول من آمن خديجة، ثم علي، ثم زيد، ثم أبو بكر، انتهى. وقيل: بلال وذكر عمر بن شيبة أن خالد بن سعيد بن العاصي أسلم قبل علي، وذكر ابن حبان أنه أسلم قبل الصديق.
"قال" شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمر وعثمان "بن الصلاح" بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهروري الإمام الحافظ المتبحر في الأصول والفروع والتفسير والحديث، الزاهد وافر الجلالة المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
"والأورع" أي: الأدخل في الورع والأسلم من القول، بما لا يطابق الواقع "أن" لا يطابق القول في تعيين أول المسلمين على الحقيقة؛ لكونه هجومًا على عظيم وتعارض الأدلة فيه وعدم وجود قاطع يستند عليه بل يذكر قول يشمل جمع الأقوال، بأن "يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث" تنويع في العبارة، "علي، ومن النساء خديجة" وسبق ابن الصلاح لهذا الجمع إلى هنا الخبر، فأخرج ابن عساكر عن ابن عباس، قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، فتبعه العسكري وابن الصلاح، وزاد العبيد والموالي، فقال:"ومن الموالي زيد بن حارثة" حب المصطفى ووالد حبه أسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها فوهبته
ومن العبيد بلال. والله أعلم، انتهى.
وقال الطبري: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال:
أول من أسلم مطلقًا خديجة.
وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب، وهو صبي لم يبلغ، وكان مستخفيًا بإسلامه.
وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة.
وأول من أسلم من الموالي زيد.
قال: هو متفق عليه لا اختلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روي عن الحسن أن علي بن أبي طالب قال: إن أبا بكر سفيان إلى أربع لم أؤتهن: سبقني إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة،
له، وجاء أبوه وعمه كعب مكة وطلبا أن يفدياه، فخيره عليه السلام بين أن يدفعه إليهما أو يثبت عنده، فاختار أن يبقى عنده، فلاماه فما رجع، وقال: لا اختيار عليه أحد، فقام صلى الله عليه وسلم إلى الحجر، وقال:"اشهدوا أن زيدًا ابني، يرثني وأرثه"، فطابت نفسهما وانصرفها، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فصدقه وأسلم في قصة مطولة، ذكرها ابن الكلبي وابن إسحاق هذا حاصلها.
"ومن العبيد بلال" المؤذن "والله أعلم" بحقيقة الأولية المطلقة، "انتهى. وقال" نحوه الحافظ المحب "الطبري" بفتح الطاء والموحدة وراء نسبة إلى طبرستان على غير قياس، "الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها، فيقال: أول من أسلم مطلقًا خديجة" لكنه خالف فيها ابن الصلاح لقوة الأدلة، كيف وقد قال ابن الأثير: لم يتقدمها رجل ولا امرأة بإجماع المسلمين.
"وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب وهو صبي لم يبلغ الحلم، وكان مستخفيًا بإسلامه" من أبيه "وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان، "وأول من أسلم من الموالي زيد" بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي، "قال: وهو متفق عليه لا اختلاف فيه" إطناب للتأكيد، "وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار" لا مطلقًا "ويؤيد هذا ما روي عن الحسن: أن علي بن أبي طالب، قال" لما جاءه رجل، فقا: يا أمير المؤمنين، كيف سبق المهاجرون والأنصار إلى بيعة أبي بكر، وأنت أسبق سابقة، وأورى منه منقبة، فقال علي: ويلك "إن أبا بكر سبقني إلى أربع لم أؤتهن" ولم أعتض منهن بشيء؛ كما في الرواية "سبقني إلى إفشاء الإسلام" هذا محل التأييد، وقد يمنع بأن السبق على إفشائه لا يلزم منه السبق على الإسلام نفسه، "وقدم الهجرة" لأنه هاجر
ومصاحبته في الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه
…
الحديث، خرجه صاحب فضائل أبي بكر وخيثمة بمعناه.
وأما ما روي: من صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع في قلب أبي بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر في قلبه.............................
مع المصطفى وتأخر علي بعده، حتى أدى عنه الودائع التي كانت عنده صلى الله عليه وسلم ثم لحقه بقباء "ومصاحبته في الغار، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب" بالكسر شعب بني هاشم بمكة، "يظهر إسلامه وأخفيه
…
الحديث" تتمته: يستحقرني قريش وتستوفيه، والله لو أن أبا بكر زال عن مزيته ما بلغ الدين العبرين -يعني الجانبين- ولكان الناس كرعة ككرعة طاولت، ويلك إن الله ذم الناس ومدح أبا بكر، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] ، الآية كلها. "خرجه صاحب فضائل أبي بكر وخيثمة" ابن سليمان بن حيدرة الإمام الحافظ أبو الحسن القرشي الطبرابلسي أحد الثقات الرحالة جمع فضائل الصحابة، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، قال ابن منده: كتبت عنه بطرابلس، ألف جزء "بمعناه" ورواه الدارقطني في الغرائب وضعفه.
قال في الرياض النضرة، بعد سوق الحديث تامًا: وأورى من ورى الزند خرجت ناره وظهرت، أي: أظهر منقبة وأنور. وتستوفيه، أي: توفيه حقه من الإعظام والإكرام. والمزية: الفضيلة، أي: زال عن فضيلته بالتقديم على الناس إمامًا. وكرعة جمع كارع كركبة وراكب من كرع بالفتح يكرع إذا شرب الماء من فيه دون إناء، ولعله أراد: لولا أبو بكر لخالف الناس الدين كما خالفه كرعة طالوت بالشرب من النهر الذي نهوا عنه، انتهى.
"وأما ما روي" عند ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس "من صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة وحديث بحيرا" أي: سؤاله لأبي بكر: من الذي تحت الشجرة؟ وقوله: هو محمد بن عبد الله، فقال: هذا نبي "وأنه وقع في قلب أبي بكر اليقين" من ذلك "وقول ميمون بن مهران" بكسر فسكون الكوفي أبي أيوب الجزري نزيل الرقة الثقة الفقيه التابعي الوسط كثير الحديث والي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز المتوفى سنة سبع عشرة ومائة، وله سبع وسبعون سنة.
"والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا، فالمراد بهذا الإيمان" اللغوي، وهو "اليقين صدقه، وهو ما وقر" ثبت "في قلبه" فلا ينافي أنه أول المسلمين أو ثانيهم أو ثالثهم بعد النبوة.
وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث.
ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله......................
"وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر" مع غلامها ميسرة "إلى الشام قبل المبعث" بعد تلك السفرة التي كان فيها أبو بكر وكان ذلك سبب التزوج بها وسنه صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون سنة؛ كما مر فالواو عطفت سابقًا على لاحق على أنه لا يصح إيراد قصة صحبته له في تلك السفرة؛ لأن في بقية خبرها؛ كما مر. ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي اتبعه.
"ثم أسلم بعد زيد بن حارثة وعثمان بن عفان" أمير المؤمنين ذو النورين؛ لأنه كما قال المهلب: لم يعلم أحد تزوج ابنتي نبي غيره، أو لأنه كان يختم القرآن في الوتر؛ فالقرآن نور وقيام الليل نور، أو لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين، أخرج أبو سعد في الشرف عنه: كنت بفناء الكعبة، فقيل: أنكح محمد عتبة ابنته رقية، فدخلتني حسرة أن لا أكون سبقت إليها، فانصرفت إلى منزلي فوجدت خالتي سعدى بنت كريز، أي: الصحابية العبشمية فأخبرتني أن الله أرسل محمدًا وذكر حثها له على اتباعه مطولا، قال: وكان لي مجلس من الصديق، فأصبته فيه وحده فسألني عن تفكري، فأخبرته بما سمعت من خالتي فذكر حثه له على الإسلام، قال: فما كان بأسرع من أن مر صلى الله عليه وسلم ومعه علي يحمل له ثوابًا، فقام أبو بكر فساره فقعد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليّ، فقال:"أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه" فوالله ما تمالكت حين سمعته أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية.
"والزبير بن العوام" بن خويلد القرشي الأسدي الحواري وهو ابن اثنتي عشرة سنة عند الأكثر، وقيل: خمس عشرة، وقول عروة وهو ابن ثمان سنين أنكره ابن عبد البر، وكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول: ارجع، فيقول: لا أكفر أبدًا. "وعبد الرحمن بن عوف" القرشي الزهري أحد العشرة والثمانية والستة، "وسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأحد الستة والثمانية أسلم بعد ستة هو سابعهم، وهو ابن تسع عشرة سنة؛ كما قاله ابن عبد البر وغيره.
وأما قوله: لقد رأيتني وأنا ثالث الإسلام، أخرجه البخاري فحمل على ما اطلع هو عليه. "وطلحة بن عبيد الله" التيمي أحد العشرة والثمانية السابقين إلى الإسلام والستة أصحاب الشورى، ويقال: إن سبب إسلامه ما أخرجه ابن سعد عنه، قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم أنا، فقال: هل ظهر أحمد؟ قلت: من أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه
بدعاء أبي بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي.................
وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخيل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، فوقع في قلبي فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى أتيت أبا بكر فخرج بي إليه، فأسلمت فأخبرته بخبر الراهب، "بدعاء أبي بكر الصديق" لأنه كان محببًا في قومه فجعل يدعو من وثق به فأسلموا بدعائه، "فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا له" أي: أجابوا دعاءه إياهم، "فأسلموا وصلوا" أي أظهروا إسلامهم عند المصطفى على ما أفادته الفاء في قوله فجاء بهم من أنه كان عقب إسلامهم والأظهر أن المراد انقاد والدعائة فأسلموا حين جاء بهم لقصة عثمان وطلحة، "ثم أسلم" أمين هذه الأمة، "أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح" القرشي الفهري اشتهر بجده، "وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد" القرشي المخزومي البدري توفي في حياته صلى الله عليه وسلم فخلفه على زوجه أم سلمة وأولاده منها، وهم أربعة حال كون إسلامهما جميعًا، "بعد تسعة أنفس" فيكون أبو سلمة الحادي عشر؛ كما قال ابن إسحاق وهم خديجة وعلي وزيد والصديق والخمسة المسلمون على يده، وأبو عبيدة وأبو سلمة.
"والأرقم بن أبي الأرقم" عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي "المخزومي" البدري وشهد أحدًا والمشاهد كلها، وأقطعه صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينة، قيل: أسلم بعد عشرة. وفي المستدرك: أسلم سابع سبعة وتوفي سنة خمس أو ثلاث وخمسين وهو ابن خمس وثمانين سنة، وأوصى أن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص، فصلى عليه، "وعثمان بن مظعون" بظاء معجمة وغفل من أهملها؛ كما في النورين حبيب بن وهب بن حذافة بن جمع القرشي، "الجمحي" بضم الجيم وفتح الميم وحاء مهملة نسبة إلى جده المذكور، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر إلى الحبشة.
روى ابن شاهين والبيهقي عنه، قلت: يا رسول الله! إني رجل يشق علي العزبة في المغازي، فتأذن لي في الخصي؟ فقال: $"لا، ولكن عليك يابن مظعون بالصوم"، وشهد بدرًا، وتوفي بعدها في السنة الثانية، وأول مهاجري مات بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع منهم. روى الترمذي عن عائشة: قبل صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان، فلما توفي
وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة ابنة الخطاب.
وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأنه لم تكن عائشة ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاي وغيره.
ابنه إبراهيم، قال:"الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون".
"وأخواه قدامة" يكنى أبا عمر من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا وكانت تحبه صفية بنت الخطاب أخت عمر، واستعمله على البحرين فشرب فأحضره عمر، فلما أراد حده، قال: لو شربت كما قالوا، أي: الذين شهدوا عليه ما كان لكم أن تحدوني، قال الله:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم ثم حده، فلما حجا وقفلا من الحج، قال عمر: عجلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آت من منامي، فقال لي: سالم قدامة، فإنه أخوك، فأبى قدامة أن يأتي عمر إن أبى فجروه، فأتى إليه فكلمه واستغفر له، رواه عبد الرزاق وغيره مطولا مات سنة ست وثلاثين أو ست وخمسين، وهو ابن ثمان وستين سنة.
"وعبد الله" يكنى أبا محمد هاجر إلى الحبشة وشهد بدرًا، "وعبيدة" بضم العين وفتح الموحدة، "ابن الحارث بن المطلب" أخي هاشم، "ابن عبد مناف" بن قصي المستشهد يوم بدر، "وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل" بضم النون القرشي العدوي أحد العشرة، "وامرأته فاطمة ابنة الخطاب" بن نفيل المذكور فهي ثانية النساء إسلامًا.
"وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل" لبابة الكبرى بضم اللام وخفة الموحدتين بنت الحارث الهلالية، "زوج العباس" وأم بنيه الستة النجباء ورده في الفتح: بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها لا تذكر في السابقين فقد سبقتها سمية والدة عمار وأم أيمن. "وأسماء بنت أبي بكر" ذات النطاقين "وعائشة أختها" وهي صغيرة "كذا قاله ابن إسحاق وغيره" ممن تبعه، فلا يخالف قول العراقي:
كذا ابن إسحاق بذاك انفردا
"وهو وهم" غلط "لأنه لم تكن عائشة ولدت بعد" أي: في ذلك الزمن، وهو أول البعثة. "فكيف أسلمت، وكان مولدها سنة أربع" وبه جزم في العيون والإصابة، وقال ابن إسحاق: سنة خمس "من النبوة، قاله مغلطاي وغيره" وقد قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين؛ كما في
ودخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاءه، أي يواجه المشركين به.
وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة.
وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود:..............................
الصحيح ولم يذكر بناته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا شك في تمسكهن قبل البعثة بهديه وسيرته، وقد روى ابن إسحاق عن عائشة: لما أكرم الله نبيه بالنبوة أسلمت خديجة وبناته، وكان أبو العاص زوج زينب عظيمًا في قريش فكلمته قريش في فراقها على أن يتزوج من أحب من نسائهم، فأبى. وفي الشامية أسلمت رقية حين أسلمت أمها خديجة وبايعت حين بايع النساء، وأم كلثوم حين أسلمت أخواتها وبايعت معهن. ا. هـ. فاطمة لا يسأل منها لولادتها بعد النبوة أو قبلها بخمس سنين.
والحاصل أنه لا يحتاج للنص على سبقهن للإسلام؛ لأنه معلوم هذا، ولا يشكل تزويج زينب بأبي العاصي ورقية وأم كلثوم بولدي أبي لهب مع صيانة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل البعثة عن الجاهلية؛ لأن تحريم المسلمة على الكافر لم يكن ممنوعًا حتى نزل قوله تعالى:{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، وقوله تعالى:{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} بعد صلح الحديبية؛ كما صرح به العلماء، وقد كفاه الله ولدي أبي لهب فطلقاهما قبل الدخول، واستمرت زينب حتى أسر أبو العاصي ببدر فأرسلت في فدائه، فلما عاد بعثها إليه صلى الله عليه وسلم فلم تزل حتى أسلم وهاجر، فردها إليه صلى الله عليه وسلم.
ووقع في حديث عائشة عند ابن إسحاق: أن الإسلام فرق بينهما لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على نزعها منه حينئذ، "ودخل الناس في الإسلام" أي: تلبسوا به فالظرفية مجازية حال كونهم "أرسالا" جماعات متتابعين، "من الرجال والنساء" وقد عد العراقي وغيره من كل جملة صالحة، "ثم" بعد ذلك فشوة ذكره بمكة، وتحدث الناس به؛ كما عند ابن إسحاق، "أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاءه" منه "أي: يواجه" يخاطب "المشركين" على وجه العموم فلا يخص بعضًا دون بعض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمر به لمن ظن إجابته دون مبالغة في التعميم فآمن به من مر مع كثيرين، ثم أمر بالمبالغة في إظهار الدعوة، بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، "وقال مجاهد: هو" أي: الصدع المفهوم من {فَاصْدَعْ} ، "الجهر بالقرآن في الصلاة" ومن لازمه المواجهة بما جاءه، وخص الصلاة؛ لأنها كانت أعظم ما يخفيه لكنه على طريق الدلالة والأول شفاها؛ كما صرح به قول ابن إسحاق: ينادي الناس بأمره ويدعوهم إليه، "وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود" الكوفي الثقة مشهور بكنيته، قال الحافظ: والأشهر أنه الاسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه،
ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فجهر هو وأصحابه.
وقال البيضاوي: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا أو أفرق به بين الحق والباطل، وأصله: الإبانة والتمييز. و "ما" مصدرية أو موصولة، "والعائد" محذوف، أي بما تؤمر به من الشرائع انتهى.
قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهي المدة التي أخفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره.
فبادئ قومه بالإسلام وصدع به............................
مات بعد سنة ثمانين.
"ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا" هو والمسلمون في دار الأرقم، "حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، فجهر هو وأصحابه" ثم بعد بيان المراد من الآية ذكر مأخذها بقوله:"وقال البيضاوي" في تفسير قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية، فاجهر به "من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا" وعطف على فاجهر الذي حذفه المصنف من كلامه، قوله:"أو" يعني: وقيل معناه "افرق به بين الحق والباطل" لأن الصدع الفرق بين الشيئين، فالصدع بالحجة يفرق كلمة من ظهرت عليه وقهر بها وكأنه صدع على جهة البيان والتشبيه لظلمة الجهل والشرك بظلمة الليل، ولنور القرآن بنور الفجر؛ لأن الفرج يسمى صديعًا، قال الشاعر:
ترى السرحان مفترشًا يديه
…
كأن بياض غرته صديع
"و" هو مجاز من صدع الشيء شقه إذ "أصله" لغة "الإبانة والتمييز" وفي القاموس: صدعه كمنعه شقه أو شقه نصفين أو شقه، ولم يفترق ولا منافاة لجواز أن يراد بالإبانة الشق مع الفصل وهو مستفاد من شقه، أي: مطلقًا وبالتميز الشق بلا فاصل، وهو مستفاد من الأول والثالث. "وما مصدرية" أي: بأمرنا لك، "أو موصولة والعائد" على أنها موصولة "محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع، انتهى" ولا يشكل بأن شرط حذف عائد الموصول أن يجر بمثل ما جر به الموصول لفظًا ومتعلقًا، نحو: ويشرب مما تشربون، أي: منه؛ لأن الصداع بمعنى الأمر المؤثر ولا تشترط المناسبة اللفظية.
"قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة" تبرأ منه لجزم الحافظ في سيرته بأن تزول الآية كان في السنة الثالثة، "وهي المدة التي أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره، فبادى" قال البرهان: الظاهر أنه بموحدة، أي: جاهر، "قومه بالإسلام و" لم يقتصر على مجرد المجاهرة بالدعوة بل كرر ذلك وأكده وبالغ في إظهار الحجة حتى كأنه "صدع به"
كما أمره الله تعالى.
ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع، كما قال العتقي. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.
فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب وببني هاشم -ما عدا أبا لهب-................
قلوبهم بما أورده عليهم من الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها "كما أمره الله تعالى و" مع ذلك "لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه" بل كانوا؛ كما قال الزهري: غير منكرين لما يقول وكان إذا مر عليهم في مجالسهم يقولون: هذا ابن عبد المطلب يكلم من السماء واستمروا على ذلك، "حتى ذكر آلهتهم وعابها" لما دخل المسجد يومًا فوجدهم يسجدون للأصنام فنهاهم، وقال:"أبطلتم دين أبيكم إبراهيم"، فقالوا: إنما نسجد لها لتقربنا إلى الله، فلم يرض بذلك منهم وعاب صنعهم، "وكان ذلك في سنة أربع" من النبوة؛ "كما قاله العتقي" بضم المهملة وفتح الفوقية وقاف، وقيل: سنة خمس، وجمع بأن ابتداء الإظهار والمعاداة في الرابعة، وكماله واشتداده في الخامسة.
"فأجمعوا على خلافه" أي: عزموا على مخالفته وصمموا عليه "و" على "عداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام" وهم قليل مستخفون؛ كما في العيون، ولا ينافيه قول الزهري: استجاب له من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به "وحدب" بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين فموحدة، أي: عطف "عليه عمه أبو طالب ومنعه" وأصل الحدب انحناء في الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره ورق له؛ كما في الشامية. "وقام دونه" كناية عن منعهم من الوصول له، يقال: هذا دون ذلك، أي: أقرب منه، أي: قام في مكان قريب منه حاجزًا بينه وبينهم، "فاشتد الأمر وتضارب القوم" ضرب بعضهم بعضًا بالفعل؛ كما جاء أن سعد بن أبي وقاص كان في نفر من قريش يصلون في بعض شعاب مكة فظهر عليهم نفر من المشركين فعابوا صنعهم حتى قاتلوهم فضرب سعد رجلا منهم بلحى بعير فشجه، فهو أول دم أهريق في الإسلام، أو المعنى: أرادوا التضارب وعزموا عليه إشارة إلى ما كان بين أبي طالب وقومه.
"وأظهر بعضهم لبعض العداوة وتذامرت قريش" بذال معجمة: حض بعضهم بعضًا؛ كما في النور وغيره. وفي نسخة: توامرت بالواو، أي: تشاورت والأولى أنسب، بقوله: "على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب، وببني هاشم
وببني المطلب.
وقال مقاتل: كان صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم. وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
…
وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
…
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينًا لا محالة إنه
…
من خير أديان البرية دينا
ما عدا أبا لهب وببني المطلب" أخي هاشم بن عبد مناف بطلب أبي طالب لذلك منهم لما رأى ما صنعوا بالمسلمين، فاجتمعوا إليه وأقاموا معه. وفي بعض نسخ العيون: وببني عبد المطلب، قال النور: والصواب الأول.
"وقال مقاتل: كان صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا" هو أنهم أتوه بعمارة بن الوليد ليتخذه ولدًا ويعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، "فقال أبو طالب" والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا، وقال:"حين تروح الإبل" ترجع من مراعيها "فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم" تعليق على محال على طريق إلزامهم إنها لا تحن إلى غيره مع كونها عجماء، فكيف أنا مع كوني من ذوي اللب والمعرفة؟ "وقال" شعرًا في النبي تطمينًا له:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
"فاصدع بأمرك" جهرًا بالشيء الذي أمرت بتبليغه، أو الأمر مصدر بمعنى الطلب، أي: اصدع بسبب أمر الله لك، "ما عليك غضاضة" بفتح الغين وضادين معجمات: ذلة ومنقصة، "وابشر" بحذف الهمزة للضرورة، وأصله بقطع الهمزة؛ كقوله تعالى:{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] ، "وقر بذاك منك عيونا" بفتح القاف من قرت عينه سكنت أو بردت، لكنه حول الإسناد من العين إلى ذاته الكريمة وجيء بـ"عيونًا" تمييزًا للنسبة، ولغة نجد كسر القاف وبهما قرئ:"وَقِرِّي عَينًا"، "ودعوتني" طلبت مني الدخول في دينك "وزعمت" ذكرت لي "أنك ناصحي" فلم يستعمل الزعم في معناه المشهور أنه القول الذي لا دليل عليه، بدليل قوله:"ولقد صدقت وكنت ثم" فيما دعوتني إليه "أمينًا" لم تزد فيما أمرت بتبليغه ولم تنقص، "وعرضت" أظهرت لنا "دينًا لا محالة" بفتح الميم: لا حيلة في دفع "إنه من خير أديان البرية دينًا" إذ هو حق ثابت
لولا الملامة أو حذاري سبة
…
لوجدتني سمحًا بذاك مبينا
وقد كفى الله تعالى نبيه المستهزئين. كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تلتفت إلى ما يقولون: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] يعني بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل للتحقيق لأن قول الجمهور: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش.
الوليد بن المغيرة.
والعاصي بن وائل.
والحارث بن قيس.
بالحجج القاطعة، "لولا الملامة" العذل "أو حذاري" بكسر الحاء مصدر حاذر، أي: خوفي، "سبة" بضم السين عارًا وفتح الحاء تعسف؛ لأنه يكون اسم فعل أمر ولا يصح هنا إلا بتقدير أن خوفي من أن يقال لي حذار، أي: احذر العار مع جعل الياء للإشباع، "لوجدتني سمحًا بذاك" الذي دعوتني إليه، "مبينًا" ولما تكلم على المراد من آية الصدع جره ذلك إلى ذكر الآية الثانية، وإن كان اليعمري إنما ذكره بعد ذلك قبل انشقاق القمر، فقال على ما في بعض النسخ.
"وقد كفى الله تعالى نبيه المستهزئين؛ كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، أي: لا تلتفت إلى ما يقولون" وهذا كان قبل الأمر بالجهاد، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بك ومن استهزاء الحارث قوله عن محمد نفسه وصحبه إذ وعدهم أن يحيوا بعد الموت: والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والحوادث، رواه ابن جرير عن قتادة. "يعني بقمعهم" مصدر قمع كمنع، أي: بقهرهم وإذلالهم "وإهلاكهم" حكم على المجوع، فلا ينافي أن من أسلم لم يهلك "وقد قيل للتحقيق؛ لأن قول الجمهور" ومنهم ابن عباس في أكثر الروايات عنه "إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة" بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قال البغوي: وكان رأسهم، "والعاصي بن وائل" السهمي "والحارث بن قيس" بن عدي السهمي ابن عم العاصي كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي كانوا يسمونها، قال ابن عبد البر: أسلم وهاجر إلى الحبشة مع بنيه الحارث وبشر ومعمر، وتعقبه ابن الأثير بأن الزبير بن بكار وابن الكلبي ذكر أنه كان من المستهزئين.
وزاد الذهبي في التجريد: لم يذكر أحد أنه أسلم إلا أبو عمر ورده في الإصابة بأنه ذكره في الصحابة أيضًا أبو عبيد ومصعب والطبري وغيرهم، ولا مانع أن يكون تاب وصحب وهاجر، والآية ليست صريحة في عدم توبة بعضهم، انتهى. وأمه كنانية واسمها العيطلة، وينسب إليها.
والأسود بن عبد يغوث.
والأسود بن المطلب.
وكانوا يبالغون في إيذائه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيمًا لأخذه، فأصاب عرقًا في عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالوحي فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحًا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات...........
روى ابن جرير عن أبي بكر الهذلي، قال: قيل للزهري: إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: الحارث بن عيطلة، وقال عكرمة: الحارث بن قيس، فقال: صدقا جميعًا، كانت أمه عيطلة وكان أبوه قيسًا، وما ذكر من أنه الحارث هو ما وقفت عليه. وفي نسخ صحيحة، وفي بعضها: وعدي بن قيس، وهو وإن قيل: بأنه منهم لكن يعين الأول قوله الآتي: فأشار إلى أنف الحارث.
"والأسود بن عبد يغوث" بن وهب بن زهرة الزهري ابن خاله صلى الله عليه وسلم، من استهزائه: أنه كان يقول: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد؟ "والأسود بن المطلب" بن أسد بن عبد العزى "وكانوا يبالغون في إيذائه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به" فكان جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فمروا بهما واحدًا بعد واحد فشكاهم إلى جبريل، "فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال" يريش نبله ويصلحها "فتعلق بثوبه سهم" وفي البغوي: فمرض، "فمات" كافرًا "وأومأ" جبريل "إلى أخمص" بفتح أوله وإسكان الخاء المعجمة فميم فصاد مهملة، "العاصي" فخرج يتنزه فنزل شعبًا، "فدخلت فيه شوكة" من رطب الضريع "فانتفخت رجله حتى صارت كالوحي" وفي البغوي: كعنق البعير، "فمات" مقامه.
"وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحًا، فمات" وقيل: أكل حوتًا مملوحًا فما زال يشرب عليه حتى انقد بطنه، وقيل: أخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه، فمات. وعلى القول بإسلامه فمعنى: كفيناك بإسلامه وهو لذي يظهر من الإصابة ترجيح، فإنه أورده في القسم الأول ورد على من جزم بخلافه، "و" أشار جبريل "إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات" على
وإلى عيني الأسود بن عبد المطلب فعمي.
وكان صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا"، وأبو لهب...........................
كفره، وقيل: أشار جبريل إلى بطنه بإصبعه فاستسقى بطنه فمات، رواه الطبراني بسند ضعيف. وقيل: خرج في رأسه قروح فمات، ويمكن أنها سبب نطحه الشجرة.
وروى الطبراني والبيهقي والضياء بإسناد صحيح: أن جبريل أومأ إلى رأسه فضربته الأكلة فامتخض رأسه قيحًا بخاء وضاد معجمتين، أي: تحرك شديدًا، وعند ابن أبي حاتم والبلاذري بسند صحيح عن عكرمة: أنه حنى ظهره حتى احقوقف صدره، فقال صلى الله عليه وسلم:"خالي خالي"، فقال جبريل: دعه عنك، فقد كفيته. احقوقف: انحنى، وقيل: خرج من عند أهله فأصابته السموم حتى صار حبشيًا، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب فرجع وصار يطوف بشعاب مكة حتى مات عطشًا، ويقال: إنه عطش فشرب الماء حتى انشق بطنه وجمع باحتمال أن جميع ذلك وضع له.
"و" أشار جبريل "إلى عيني الأسود بن المطلب" قال ابن عباس: رماه بورقة خضراء، "فعمي" بصره كما عميت بصيرته فلم يميز بين الحسن والقبيح، ورجعت عينه فضرب برأسه الجدار حتى هلك، وهو يقول: قتلني رب محمد، وقال ابن عباس في رواية: كانوا ثمانية، وصححه في الغرر وجزم به ابن عبد البر والعراقي فزادوا أبا لهب هلك بالعدسة، وهي ميتة شنيعة بعد بدر بأيام كما يأتي، وعقبة ابن أبي معيط قتل صبرًا بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من بدر، والحكم بن العاصي بن أمية أسلم يوم الفتح، وتوفي في آخر خلافة عثمان. قال العراقي:
ثامنهم أسلم وهو الحكم
…
فقد كفاه شره إذ يسلم
وأسقط الشامي ابن أبي معيط وأبدله بمالك بن الطلاطلة وهو خلاف ما في العيون ونظم السيرة على أن اليعمري سماه قبل ذكر المستهزئين بقليل في المجاهرين بالظلم الحارث بن الطلاطلة الخزاعي بطاءين مهملتين، الأولى مضمومة، والثانية مكسورة بينهما لام خفيفة، ثم لام مفتوحة، ثم تاء تأنيث، وهي لغة الداء العضال الذي لا دواء له. وعند ابن إسحاق: أن الحارث هذا مر به صلى الله عليه وسلم فأشار إلى رأسه فامتخض قيحًا فقتله كافرًا.
"وكان صلى الله عليه وسلم" كما رواه عبد الله في زوائد المسند والحاكم، وقال على شرطهما عن ربيعة بن عباد بكسر العين مخففًا الديلي الكناني الصحابي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوف على الناس" في أول أمره "في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا"، وأبو لهب عمه على المحفوظ ويروى أبو جهل قال ابن كثير: وقد يكون وهمًا ويحتمل أنهما تناوبا
وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم.
ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه عن ذلك.
على إيذائه صلى الله عليه وسلم، قال الشامي: وهو الظاهر.
"وراءه" يتبعه إذا مشى "يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم" وذلك عار عليكم، فانظر هذا الابتلاء في الله فلو كان من غير قريب كان أسهل؛ لأن العرب كانت تقول: قوم الرجل أعلم به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"ما أوذي أحد ما أوذيت"، "ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر" مع اعترافه بأنه باطل، لكنه لعنه الله لما ضاقت عليه المذاهب، قال إنه أقرب القول فيه تنفيرًا للناس عنه.
"وتبعه قومه عن ذلك" بعد التشاور فيما يرمونه به، فعند ابن إسحاق والحاكم والبيهقي بإسناد جيد أنه اجتمع إلى الوليد نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، فقال لهم: يا معشر قريش، قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فاجمعوا فيه رأيًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، قالوا: فأنت فأقم لنا رأيًا نقوله فيه قال: بل أنتم فقولوا: أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بخابخه ولا وسوسته، قالوا: شاعر، قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، قالوا: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما تقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناه وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا لا أعرف إنه باطل وأن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره فصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
وفي سيرة الحافظ: فانتشر بذلك ذكره في الآفاق، وانقلب مكرهم عليهم حتى كان من أمر الهجرة ما كان وقدم عليه عشرون من نجران، فأسلموا فبلغ أبا جهل فسبهم وأقذع في القول، فقالوا له: سلام عليكم وفيهم نزل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا} [القصص: 55] الآيات، انتهى.
قال السهيلي: رواه ابن إسحاق لعذق بفتح المهملة وسكون المعجمة استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهي العذق أفصح من رواية ابن هشام لغذق بفتح المعجمة وكسر المهملة من
وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون.
ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه.
ووطئ عقبة بن أبي معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقًا شديدًا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم.............................
الغذق وهو الماء الكثير، ومنه يقال: غيذق الرجل إذا كثر بصاقه؛ لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله، وإن فزعه لجناه استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جني، انتهى. وفي حواشي أبي ذر: لجناه، أي: فيه ثمر يجنى، انتهى.
فانظر هذا اللعين، كيف تيقنت نفسه الحق وحمله البطر والكبر على خلافه وقد ذمه الله ذمًا بليغًا، في قوله:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]، حتى قوله: على الخرطوم، وقوله:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} [المدثر: 11]، حتى قوله:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] .
"وآذته قريش" أشد الأذية "ورمته بالشعر والكهانة والجنون" وبرأه الله من جميع ذلك في الكتاب العزيز، "ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه" روي أن فرعون هذه الأمة أبا جهل رآه صلى الله عليه وسلم عند الحجون فصب التراب على رأسه، ووطئ برجله على عاتقه، "ويجعل الدم على بابه" كما قال صلى الله عليه وسلم:"كنت بين شر جارين، بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي، حتى إنهم ليأتون ببعض ما يطرحونه من الأذى فيطرحوه على بأبي"، رواه ابن سعد عن عائشة.
"ووطئ عقبة بن أبي معيط على رقبته الشريفة، وهو ساجد عند الكعبة، حتى كادت عيناه تبرزان" وروى البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وأبو يعلى وابن حبان، عن عمرو بن العاصي: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عنه فلما قضى صلاته مر بهم، فقال:"والذي نفسي بيده، ما أرسلت إليكم إلا بالذبح"، فقام له أبو جهل: يا محمد، ما كنت جهولا، فقال:"أنت منهم".
"وخنقوه خنقًا" بفتح الخاء وكسر النون وتسكن للتخفيف؛ كما في المصباح "شديدًا" قويًا ونسبه إليهم مع أن الفعل من عقبة فقط، كما في رواية البخاري الآتية على الأثر لإقرارهم عليه ومعاونتهم له إن لم نقل بتعدد القصة. "فقام أبو بكر دونه فجذبوا رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم" وسقطت
حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله.
وقال ابن عمرو -كما في البخاري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر فأخذه بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية ثم قال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] .
وقد ذكر العلماء............................
الصلاة في نسخة "حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه، وهو" يبكي و"يقول: أتقتلون رجلا" لأجل "أن يقول ربي الله! " فقال صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا أبا بكر، فوالذي نفسي بيده، إني بعثت إليهم بالذبح"، ففرجوا عنه عليه السلام.
"وقال" عبد الله "بن عمرو" بفتح العين ابن العاصي الصحابي ابن الصحابي "كما في البخاري" في مناقب أبي بكر، وفي باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين بمكة عن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاصي، قلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا" بلا ميم، وفي رواية بالميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة" لفظ البخاري في الباب المذكور: يصلي في حجر الكعبة، "إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب النبي صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه" أي: ثوب النبي صلى الله عليه وسلم "في عنقه" الشريف "فخنقه" بفتح النون "خنقًا" بكسرها وتسكن "شديدًا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه" أي: بمنكب عقبة بفتح الميم وكسر الكاف "ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: وهو يبكي، ثم جزم عبد الله بأن هذا أشد ما صنعه المشركون بالمصطفى يخالف ما في البخاري عن عائشة، قلت: هل أتى عليك يوم أشد من أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك"، فذكر قصته بالطائف مع ثقيف لما ذهب إليهم بعد موت أبي طالب ويأتي الحديث في محله. قال الحافظ: والجمع بينهما أن عبد الله استند إلى ما رآه ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف.
"وفي رواية" للبخاري أيضًا "ثم قال" الصديق {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} [غافر: 28] كراهية لـ {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} بقية الرواية في الباب الآتي، وفي المناقب:{وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] استفهام إنكاري وفي الكلام ما يدل على حسن هذا الإنكار؛ لأنه ما زاد على أن قال: ربي الله وجاء بالبينات، وذلك لا يوجب القتل البتة.
"وقد ذكر العلماء" وفي شرحه للبخاري بعضهم فكان أصله لبعضهم وسكت الباقون
أنا أبا بكر أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر رضي الله عنه فأتبع اللسان يدًا، ونصر بالقول والفعل محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية البخاري أيضًا: "كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي،
عليه، فنسب للعلماء "أن أبا بكر أفضل من مؤمن آل فرعون" رجل من أقاربه، وقيل: غريب بينهم يظهر دينهم خوفًا منهم وهو مؤمن باطنًا، قال الحافظ: اختلف في اسمه، فقيل: هو يوشع بن نون وهو بعيد؛ لأنه من ذرية يوسف لا من آل فرعون، وقد قيل: إن قوله من آل فرعون متعلق بيكتم إيمانه والصحيح أنه من آل فرعون، قال الطبري: لأنه لو كان من بني إسرائيل لم يصغ إليه فرعون ولم يسمعه، وقيل: اسمه شمعان بالشين المعجمة، وصححه السهيلي، وقيل: حيزر، وقيل: خرييل، وقيل: جالوت، وقيل: حبيب ابن عم فرعون، وقيل: حبيب النجار وهو غلط، وقيل: خونكة بن سود بن أسلم بن قضاعة. ا. هـ. باختصار. "لأن ذاك اقتصر حين انتصر" لموسى حين أراد فرعون قتله، "على لسان" فقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} [غافر: 28] الآية.
"وأما أبو بكر رضي الله عنه، فاتبع اللسان يدًا ونصر بالقول والفعل محمدًا صلى الله عليه وسلم" والمراد أن هذا من جملة ما فضل به أبو بكر، لا أن فضله إنما جاء من هذه الحيثية ضرورة أن الحكم يدور مع العلة كذا أفاده بعض شيوخنا، وأصل هذا المنسوب للعلماء جاء عن علي كرم الله وجهه بمعناه، فقد روى البزار وأبو نعيم من رواية محمد بن علي عن أبيه: أنه خطب، فقال: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكنه أبو بكر لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلببه، ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم بكى علي ثم قال: أنشدكم بالله أمؤمن من آل فرعون أفضل أم أبو بكر، فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا أعلن إيمانه.
"وفي رواية البخاري أيضًا" في الطهارة والصلاة والجزية والجهاد والمغازي، والمذكور هنا لفظه في الصلاة عن عبد الله يعني ابن مسعود، "كان عليه الصلاة والسلام" نقل بالمعنى، فلفظه: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم "يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم" هو أبو جهل؛ كما في مسلم.
وفي رواية: قالوا: ولا منافاة لجواز أنه قاله ابتداء وتبعوه عليه، "ألا تنظرون إلى هذا المرئي"
أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم....................
يتعبد في الملأ دون الخلوة "أيكم يقوم إلى جزور" بفتح الجيم وضم الزاي يقع على الذكر والأنثى، وفي الفائق الجزور بفتح الجيم قيل: النحر فإذا نحر، قيل: جزور بالضم "آل فلان" زاد مسلم: وقد نحرت جزور بالأمس، "فيعمد" بكسر الميم وتفتح مرفوع عطفًا على يقوم، وفي رواية بالنصب جوابًا للاستفهام، "إلى فرثها" بفتح الفاء وسكون الراء ومثلثة: ما في كرشها، "ودمها وسلاها" بفتح المهملة والقصر: وعاء جنين البهيمة كالمشيمة للآدميات، وبه يعلم أن الجزور كانت أنثى، قال في المحكم: ويقال: الآدميات أيضًا سلى، "فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم" وفي رواية الطهارة: أشقى القوم به، وبه يفسر هذا الضمير وهو عقبة بن أبي معيط؛ كما في الصحيحين، أي: بعثته نفسه الخبيثة من دونهم فأسرع السير، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا وإيذاء للمصطفى منه لاشتراكهم في الكفر والرضا، وانفراد عقبة بالمباشرة ولذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبرًا، وحكى ابن التين عن الداودي أنه أبو جهل، فإن صح احتال أن عقبة لما انبعث حمل أبا جهل شدة كفره فانبعث على أثره، والذي جاء به عقبة.
وفي رواية: فانبعث أشقى قوم بالتنكير وفيه مبالغة ليست في المعرفة؛ لأن معناه أشقى كل قوم من أقوام الدنيا، قال الحافظ: لكن المقام يقتضي التعريف؛ لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك القوم فقط. "فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا" لا يرفع رأسه، كما في رواية "وضحكوا حتى مال بعضهم على" وفي رواية: إلى "بعض من الضحك" استهزاء لعنهم الله "فانطلق منطلق" قال الحافظ: يحتمل أن يكون هو ابن مسعود، انتهى، أي: وأبهم نفسه لغرض صحيح ولا ينافيه رواية فهبنا أن نلقيه عنه لما لا يخفى.
"إلى فاطمة" بنته سيدة نساء هذه الأمة ذات المناقب الجمة، "وهي" يومئذ "جويرية صغيرة" السن؛ لأنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم على الصحيح، "فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته" أي: الذي وضعوه، "عنه وأقبلت عليهم تسبهم" وفي رواية للشيخين: ودعت على من صنع ذلك زاد البزار فلم يردوا عليها شيئًا، قال: في الفتح وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها لشرفها في قومها ونفسها لكونها صرحت بشتمهم وهم رءوس
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش"، ثم سمى فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط،..........................
قريش، فلم يردوا عليها "فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، هكذا كرره البخاري في الصلاة لفظًا، وذكره في غيره بلفظ: "اللهم عليك بقريش"، ثلاث مرات. وفي رواية مسلم: وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، والمراد بإهلاك كفارهم على حذف المضاف أو الصفة بقريش الكفار أو من سيأتي منهم بعد فهو عام أريد به الخصوص.
وفي البخاري: فشق عليهم إذ دعا عليهم، وفي مسلم: فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، وصريح الحديث: أن الدعاء بعد الفراغ من الصلاة، وفي رواية: فسمعته يقول وهو قائم يصلي: "اللهم اشدد وطأتك على مضر سنين كسني يوسف"، فيمكن أنه دعا به في الصلاة وبعدها، وهذا خير من تجويز أن معنى قضى صلاته قارب الفراغ منها، وقوله: وهو قائم ثابت في صلاته وإن لم يكن في خصوص القيام؛ لأن فيه مع تعسفه إخراج المتبادر من لفظ كل من الحديثين مع إمكان الجمع بدون ذلك.
"ثم سمى" أي: عين في دعائه وفصل من أجمل فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام" المخزومي الأحوال المأبو فرعون هذه الأمة كنته العرب بأبي الحكم وكناه الشارع بأبي جهل، ذكره غير واحد، وللبخاري أيضًا:"اللهم عليك بأبي جهل"، قال الحافظ: فلعله سماه وكناه. "وعتبة بن ربيعة و" أخيه "شيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة" بن ربيعة ثاني المذكورين، قال الحافظ: لم تختلف الروايات في أنه بعين مهملة بعدها مثناة ساكنة، ثم موحدة لكن عند مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل المثناة وهو وهم قديم نبه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم. ا. هـ.
قيل: وسبب الوهم أن الوليد بن عقبة بالقاف لم يكن حينئذ موجودًا، أو كان صغيرًا جدًا، قال في النور: ويوضح فساده أن الزبير وغيره من علماء السير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما عن الهجرة بعد الحديبية ولا خلاف أن قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] نزلت فيه، فالظاهر أنه كان كبيرا؛ كما قال بعضهم، انتهى. يعني: فهو وهم بلا سبب.
"وأمية بن خلف" وفي بعض روايات البخاري: أبي بن خلف، قال في الفتح: وهو وهم والصواب: وهو ما أطبق عليه أصحاب المغازي أمية؛ لأنه المقتول ببدر. وأما أخوه أبي فإنما قتل بأحد، "وعقبة بن أبي معيط" أشقى القوم واسم والده أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن
وعمارة بن الوليد".
قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأتبع أصحاب القليب لعنة".
عبد شمس، "وعمارة" بضم العين وخفة الميم "ابن الوليد" هكذا رواه البخاري في الصلاة جزمًا من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله، ورواه في الوضوء من رواية إسحاق وشعبة عن أبي إسحاق عن عمرو عن ابن مسعود، بلفظ: وعد السابع فلم يحفظه.
ولمسلم من رواية الثوري، قال أبو إسحاق: ونسيت السابع، قال الحافظ: ففيه أن فاعل عد عمرو بن ميمون، ولم يحفظه أبو إسحاق خلاف ترديد الكرماني في فاعل عد بين النبي وابن مسعود، وفاعل فلم يحفظه بين ابن مسعود وعمرو بن ميمون على أن أبا إسحاق تذكره مرة؛ كما عند البخاري في الصلاة وسماع إسرائيل منه في غاية الإتقان للزومه إياه؛ لأنه جده وكان خصيصًا به. قال ابن مهدي: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا اتكالا على إسرائيل؛ لأنه يأتي به أتم. وقال إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق، كما أحفظ سورة الحمد، انتهى ملخصًا.
"قال عبد الله" بن مسعود "فوالله لقد رأيتهم" وفي رواية: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم "صرعى" موتى مطروحين على الأرض، "يوم بدر ثم سحبوا" أي: جروا، "إلى القليب" بفتح القاف وكسر اللام البئر قبل أن تطوى، أي: تبنى بالحجارة ونحوها أو العادية القديمة التي لا يعرف صاحبها، "قليب بدر" الرواية بالجر على البدل ويجوز الرفع بتقدير هو والنصب بأعني، كما أفاده المصنف وغيره. قال العلماء: وإنما أمر بإلقائهم فيه لئلا يتأذى الناس بريحهم، وإلا فالحربي لا يجب دفنه، والظاهر أن البئر لم يكن فيها ماء معين، قال الحافظ.
قال المصنف وتحقيرًا لشأنهم، "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأتبع أصحاب القليب لعنة" بضم الهمزة ورفع أصحاب إخبار منه صلى الله عليه وسلم بعد إلقائهم في القليب بأن الله أتبعهم، أي: كما أنهم مقتولون في الدنيا فهم مطرودون في الآخرة عن رحمة الله، ورواه أبو ذر بفتح الهمزة وكسر الموحدة ونصب أصحاب عطفًا على عليك بقريش؛ كأنه قال: أهلكهم في حياتهم وأتبعهم اللعنة في مماتهم، وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم والنسائي والبزار وغيرهم.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه جواز الدعاء على الظالم، لكن قال بعضهم: محله إذا كان كافرًا، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر ما بعد؛ لاحتمال إطلاعه صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعى لكل أحد بالهداية، وفيه حلمه صلى الله عليه وسلم عمن آذاه.
واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقًا.
واستدل به أيضًا: على طهارة فرث، ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف.
وأجاب النووي: بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده، استصحابًا لأصل الطهارة.
ففي رواية الطيالسي عن ابن مسعود: لم أره دعا عليهم إلا يومئذ وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما قدموا عليه من الاستخفاف به حال عبادة ربه، وفيه استحباب الدعاء ثلاثًا، وغير ذلك.
"واستدل بهذا الحديث على أن من عرض له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء" لأن من شروطها طهارة الخبث عند الأكثرين، "لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال" أو لم تستقر عليه "ولا أثر لها، صحت صلاته اتفاقًا" وقال الخطابي: لم يكن إذ ذاك حكم بنجاسة ما ألقي عليه كالخمر، فإنهم كانوا يلاقون بثيابهم وأبدانهم الخمر قبل نزول التحريم، ورده ابن بطال بأنه لا شك أنها كانت بعد نزول قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ؛ لأنها أول ما نزل قبل كل صلاة، اللهم إلا أن يقال المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام.
"واستدل به أيضًا على طهارة فرث ما يؤكل لحمه" وتعقب: بأن الفرث لم يفرد بل كان مع الدم؛ كما في رواية إسرائيل والدم نجس اتفاقًا، وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السلى، وجلدة السلى الظاهرة ظاهرة فكان كحمل القارورة المرصصة ورد بأنها ذبيحة عبدة أوثان، فجميع أجزائها نجسة؛ لأنها ميتة، وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال.
"و" استدل به أيضًا "على أن إزالة النجاسة ليست بفرض" بل سنة، "وهو" أي: الاستدلال "ضعيف" لأنها قضية عين مع احتمال كون النجاسة داخل الجلدة، "وأجاب النووي" قائلا: إنه الجواب المرضي، "بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابًا لأصل الطهارة" ولا يرد عليه أنه كان صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما ينظر أمامه؛ لجواز أن هذه الخصوصية إنما كانت بعد هذه الواقعة، ولكن تعقب بأنه يدل على علمه بما وضع عليه أن
وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة، في مثل هذه الصورة.
وأجيب عنه، بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت متسع فلعله أعاد.
وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة.
وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين، لأنه لم يقتل ببدر، بل ذكر أصحاب المغازي: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم............
فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقب هو في صلاته بالدعاء عليهم.
"وتعقب" أيضًا "بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة" على الصحيح، "وأجيب عنه بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة" فلعل صلاته كانت نافلة، "فإن ثبت أنها فريضة فالوقت متسع، فلعله أعاد" صلاته "وتعقب بأنه لو أعاد لنقل ولم ينقل وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة" وقد خلع نعليه وهو في الصلاة لما أخبره جبريل أن فيهما قذرًا، ويمكن الانفصال عنه هنا بأنه أقره لمصلحة إغاظة الكفار بإظهار ثباته وعدم التفاته إلى فعلهم؛ كما أقر على السلام من ركعتين لتشريع عدم بطلانها بالسلام سهوًا.
"وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين؛ لأنه لم يقتل ببدر بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل" مجرى بول "عمارة من سحره عقوبة له فتوحش وصار مع البهائم" وذلك كما ذكره أبو الفرج الأموي الأصبهاني وغيره أن المسلمين لما هاجروا الهجرة الثانية إلى الحبشة بعثت قريش عمرًا وعمارة إلى النجاشي بهدية، فألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما؛ لأن عمرا كان دميمًا ومعه امرأته وعمارة جميل، فهوى امرأة عمرو وهويته فعزما على دفع عمرو في البحر فدفعاه فسبح ونادى أصحاب السفينة فأخذوه فرفعوه إليها فأضمرها في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبلي ابن عمك عمارة لتطيب نفسه، فلما أتيا الحبشة وردهما الله خائبين مكر عمرو بعمارة، فقال له: أنت جميل والنساء يحببن الجمال، فتعرض لامرأة النجاشي فلعلها أن تشفع لنا عنده في قضاء حاجتنا ففعل وتكرر تردده إليها وأخذ من عطرها فأتى عمرو للنجاشي، فأخبره فأدركته عزة الملك، وقال: لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل، فأمر الساحرات فنفحن في إحليله نفحة طار منها هائمًا على وجهه حتى
إلى أن مات في خلافة عمر.
وأجيب: بأن كلام ابن مسعود -أنه رآهم صرعى في القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبي معيط لم يصرع في القليب، وإنما قتل صبرًا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح في القليب، كما هو بل مقطعًا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة". يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقوا في القلبيب
لحق بالوحوش في الجبال، وكان إذا رأى آدميًا ينفر منه.
"إلى أن مات في خلافة عمر" لما جاءه ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة الصحابي بعد أن استأذن عمر بن الخطاب في السير إليه لعله يجده، فأذن له فسار إلى الحبشة فأكثر الفحص عنه حتى أخبر أنه في جبل يرد مع الوحوش ويصدر معها فسار إليه حتى كمن له في طريقه إلى الماء، فإذا هو قد غطاه شعره وطالت أظفاره وتمزقت عليه ثيابه حتى كأنه شيطان، فقبض عليه وجعل يذكره بالرحم ويستعطفه وهو ينتفض منه ويقول: أرسلني أرسلني حتى مات بين يديه، ذكره أيضًا أبو الفرج في كتاب الأغاني، وكان عمرو قال يخاطب عمارة:
إذ المرء لم يترك طعامًا يحبه
…
ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمما
قضى وطرا منها وغادر سبة
…
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
"وأجيب بأن كلام ابن مسعود نه رآهم صرعى في القليب محمول على الأثر، ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يصرع في القليب"؛ لأنه لم يقتل ببدر بل أسر، "وإنما قتل" أي: قتله عاصم بن ثابت، أو علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم "صبرًا" أي: بعد حبسه.
ففي المصباح كل ذي روح يوثق حتى يقتل، فقد قتل صبرًا، "بعد أن" أسروا "رحلوا عن بدر مرحلة" بمحل يقال له: عرق الظبية، "وأمية بن خلف لم يطرح في القليب كما هو بل مقطعًا" فإنه كان رجلا بادنًا قبل أن يبلغ به إليه؛ "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في غزوة بدر، وفي ذكره تبعًا للفتح أمية شيء؛ لأن كلام ابن مسعود يصدق على أنه رآه ولو مقطعًا إذ لم يقل رأيتهم فيه بلا تقطيع، "وقوله: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة". يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون عطفًا على قوله:"عليك بقريش"، "فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة" هو أنه أطلع على أنهم سيلقون في القليب، وأخبر بذلك في ضمن دعائه، وجاء كما قال: وهذا على رواية أبي ذر أتبع بفتح الهمزة وكسر الموحدة ونصب أصحاب.