المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وتنسي الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: وتنسي الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود

وتنسي الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من الله باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنة ويحسن بالله ظنه. ولقد أحسن القائل:

قل لمن يأكل الحشيشة جهلا

يا خسيسا قد عشت شر معيشة

دية العقل بدرة فلماذا

يا سفيها قد بعتها بحشيشة

وتنسي الشهادة".

زاد في الزواجر وتجفف الرطوبات، وتورث موت النسيان، وتصدع الرأس، وتجفف المني، وتظلم البصر، وتورث الفجأة، والدق والسل، والاستسقاء وفساد الفكر ونسيان الذكر وإفشاء السرد وذهاب الحياء وعدم الغيرة وإتلاف الكيس ومجالسة إبليس واحتراق الدم.

وتذهب الفطنة وتحدث البطنة "فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة موعود من الله باللعنة"؛ لأنه ظالم لنفسه، وقد قال تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، قال السيوطي في الإكليل: استدل به على جواز لعن المسلم الظالم "إلى أن يقرع من الندم سنة" فيتوب، "ويحسن بالله ظنه" في قبول توبته، "ولقد أحسن القائل":

"قل لمن يأكل الحشيشة جهلا

يا خسيسا قد عشت شر معيشة"

دية العقل بدرة فلماذا

يا سفيها قد بعتها بحشيشة"

البدرة قال في القاموس: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار، والله أعلم.

ص: 243

"‌

‌غزوة خيبر

":

وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.

غزوة خيبر:

بخاء معجمة وتحتانية وموحدة بوزن جعفر ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهلايل، واقتصر عليه الروض والفتح وغيرهما، وقيل: الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضا.

ذكره الحازمي "وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع" ونخل كثير "على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام" هكذا في الفتح فتبعه المصنف هنا.

وفي الإرشاد: والثمانية برد أربعة مراحل.

وقال الشامي: على ثلاثة أيام من المدينة على يسار الحاج الشامي، ولعله بالسير السريع أو

ص: 243

قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.

وقيل: كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.

قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول.

وأغرب ابن سعد وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما.

على التقريب فلا ينافي أنها أربعة بالسير المعتدل، ويؤيده قول التهذيب على نحو أربعة أيام أو هو بحسب الاختلاف في الميل أو الأربعة بالنظر إلى داخل السور، والثلاثة بالنظر إلى خارجه.

"قال ابن إسحاق": أقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم "خرج صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم" إلى خيبر "سنة سبع"، وذكر ابن عقبة عن الزهري أنه أقام بالمدينة عشرين ليلة أو نحوها، وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أقام بعد الرجوع إلى المدينة عشر ليال.

وفي مغازي التيمي أقام خمسة عشر يوما "فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة" موزعة على حصونها "إلى أن فتحها" في صفر هكذا في نقل الفتح عن ابن إسحاق. "وقيل: كانت في آخر سنة ست" حكاه ابن التين عن ابن الحصار "وهو منقول عن مالك" الإمام "وبه جزم ابن حزم".

"قال الحافظ ابن حجر" وهذه الأقوال متقاربة، "والراجح" منها "ما ذكره ابن إسحاق" قال في زاد المعاد: وهو قول الجمهور، "ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول" وهو ابن حزم، ولذا جزم أن خيبر سنة ست لكن الجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم.

قال الحافظ وأما ما ذكره الحاكم، وابن سعد عن الواقدي أنها في جمادى الأولى فالذي رأيته في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول "وأغرب ابن سعد، وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري" قالا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت" لتقارب اللفظين، "وتوجيهه" مع أن حنينا لست خلت من شوال أو لليلتين بقيتا من رمضان "بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما"، فيصح

ص: 244

قال: وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، لعله انتقال من الخندق إلى خيبر.

وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.

وفي البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من

إطلاقه على غزوة حنين بجعلها من غزوة الفتح، لكونها ناشئة عنها والخروج من المدينة لهما واحد.

"قال" الحافظ ابن حجر "وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس وهو وهم ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر"، وأجاب البرهان بأنه أسقط سنة الهجرة، أي وقطع النظر عن سنة الغزوة.

قال الحافظ: وذكر ابن هشام أنه استعمل على المدينة نميلة بنون مصغر ابن عبد الله الليثي، وعند أحمد والحاكم عن أبي هريرة أنه سباع بن عرفطة وهو أصح. انتهى.

ويمكن الجمع بأنه استخلف أحدهما أولا ثم عرض ما يقتضي استخلاف الآخر، كما مر نظيره "وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس".

هذا مخالف لما عند ابن إسحاق أن عدة الذين قسمت عليهم خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم، الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتا فرس لكل فرس سهمان ولفارسه سهم. انتهى.

فإن لم يكن ما في المصنف مصحفا بزيادة الألف في راجل وفارس، فلا ينافي ما مر من الخلاف في عدد أهل الحديبية.

أما لما تقدم من أن من ذكر القليل كألف وثلاثمائة نظر إليهم في ابتداء الخروج، ثم زادوا بعد وأما لأنه خرج لخيبر من لم يخرج في الحديبية، فقد ذكر الواقدي أنه جاء المخلفون في الحديبية ليخرجوا رجاء الغنيمة، فقال عليه السلام:"لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا". فلعله خرج معه جماعة لم يحضورا الحديبية ولم يأخذوا من الغنيمة، فلا ينافي قوله تعالى:{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} الآية، "ومعه أم سلمة زوجته" رضي الله عنها التي كانت معه في الحديبية. "وفي البخاري من حديث سلمة بن" عمرو بن "الأكوع" واسمه سنان فنسب لجده لشهرته به الأسلمي أبو مسلم، وأبو إياس شهد بيعة الرضوان ومات سنة أربع وسبعين، روى له الستة، "قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم"

ص: 245

القوم لعامر: عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء.........

قال الحافظ لم أقف على اسمه صريحا، وعند ابن إسحاق من حديث نصر بن دهر الأسلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع. ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. انتهى.

ويمكن الجمع بأن الرجل لما قال له لم يسرع حتى أمره صلى الله عليه وسلم ولا ينافي ذلك إتيانه بالفاء، لأن الحال أزمنة من الماضي والآتي والحاكم فيها العرف، ولا قوله من هذا السائق، لاحتمال تعدد الحدأة أو بعده فلم يحقق صوته، فجوز أنه غيره "لعامر" ابن الأكوع عم سلمة، كما في حديث نصر، وفي مسلم قال سلمة لما كان خيبر قاتل أخي قتالا شديدا إلى أن قال: فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟. قلت: أخي.

قال البرهان: والصحيح أن "عامرا" عم سلمة، وقد ذكر مسلم بعد هذا من طريق آخر، فجعل عمي عامر يرتجز قال، ويمكن الجمع بأنه أخوه رضاعة عمه نسبا "ألا تسمعنا من هنيهاتك" بهاءين أولاهما مضمومة بعدها نون مفتوحة فتحتية ساكنة جمع هنيهة تصغير هنة كما قالوا: في تصغير سنة سنيهة، للكشميهني: هنياتك بحذف الهاء الثانية وشدة التحتية أي من أراجيزك.

وللبخاري في الدعوات من وجه آخر من هناتك بلا تصغير قاله الحافظ والمصنف، وقال: أي من أخبارك وأمورك وأشعارك فكنى عن ذلك كله، "وكان عامر رجلا شاعرا" وللكشميهني حداء "فنزل يحدو بالقوم يقول:

"اللهم لولا أنت ما اهتدينا" فيه زحاف الخزم بمعجمتين وهو زيادة سبب خفيف في أوله، قاله الحافظ.

وفي رواية ابن إسحاق: والله لولا الله. ولا خزم فيه، "ولا تصدقنا، ولا صلينا" قال في الفتح: أكثر هذا الرجز تقدم في الجهاد عن البراء، وأنه من شعر عبد الله بن رواحة، فيحتمل أن يكون هو وعامر تواردا على ما تواردا عليه بدليل ما وقع لكل منهما مما ليس عند الآخر. واستعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة، "فاغفر فداء" بكسر الفاء والمد، وحكى ابن التين فتح أوله مع القصر، وزعم أنه هنا بالكسر مع القصر لضرورة الوزن فلم يصب فإنه لا يتزن إلا بالمد.

قال الحافظ: وقال القاضي عياض رويناه فداء بالرفع على أنه مبتدأ، أي لك نفسي فداء

ص: 246

.... لك ما اتقينا

وألقين سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إنا إذا صيح بنا أتينا

وبالصياح عولوا علينا

وفي رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة:

إن الذين قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية البخاري:

وبالنصب على المصدر "لك ما اتقينا" بشدة الفوقية بعدها للأكثر، أي ما تركنا من الأوامر وما ظرفية وللأصيلي والنسفي: بهمزة قطع، ثم موحدة ساكنة أي ما خلفنا وراءنا مما اكتسبناه من الآثام أو ما أبقيناه وراءنا من الذنوب فلم نثبت منه.

وللقابسي: كما لقينا بلام وكسر القاف أي ما وجدنا من الماهي، ولمسلم والبخاري في الأدب: ما اقتفينا بقاف ساكنة ففوقية مفتوحة ففاء فتحتية ساكنة أي تبعنا من الخطايا من قفوت الأثر إذا تبعته، وهي أشهر الروايات في هذا الرجز.

"وألقين سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا"

هكذا في البخاري فما يقع في نسخ من تقديم وثبت

إلخ. على ما قبله خلافه، وللنسفي: وألقي بحذف النون وبزيادة ألف ولام في السكنية وليس بموزون كما قاله الحافظ وغيره. ولو أشبعت السكينة بألف بعد الفتحة مع تحريك ياء ألقي بالفتح اتزن. "إنا إذا صيح بنا أتينا" بفوقية، أي إلى القتال أو إلى الحق. وروي بموحدة كذا في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة، فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا، "وبالصياح عولوا علينا" أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي، واستعانوا علينا أي اعتمدوا.

"وفي رواية إياس بن سلمة" بن الأكوع، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدني، ثقة. مات سنة تسع عشرة ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة، "عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا. إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة على الراجح لا بالفوقية، وإن صح معنى أي جئنا وأقدمنا على قتالهم؛ لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم، قاله عياض.

قال الحافظ: وقع في بعض النسخ: وإن أردنا على فتنة أبينا، وهو تغير. "ونحن عن فضلك ما استغنينا" وهذا الشطر الأخير عند مسلم أيضا. "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية

ص: 247

"من هذا السائق"؟ فقالوا: عامر بن الأكوع: قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به. الحديث.

وفي رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها، ويحدو في تلك الحال.

وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن: لا هم. أو: تالله، كما في الحديث الآخر.

وقوله: "فداء لك" قال المازري:

البخاري" التي فصلها بزيادة إياس: "من هذا السائق"؟ للإبل "فقالوا: عامر بن الأكوع". قال: "يرحمه الله".

وفي رواية إياس عند أحمد فقال: "غفر لك ربك"، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهدوا بهذه الزيادة يظهر السرفي قوله: "قال رجل من القوم" هو عمر كما في مسلم ولفظه فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل "وجبت يا نبي الله لولا" أي هلا "أمتعتنا به" بفتح الهمزة أي أبقيته لنا لنتمتع بشجاعته "الحديث".

ذكر في بقيته المحاصرة ثم الفتح والنهي عن لحم الحمر واستشهاد عامر، وزعم أنه أحبط عمله وقول المصطفى كذب من قاله أن له لأجرين بما يأتي بمعناه في كلام المصنف "وفي رواية أحمد" عن إياس بن سلمة عن أبيه. "فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب" بكسر الراء ما يركب من الإبل، "وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال"، ولذا طلبوه منه وأمره به صلى الله عليه وسلم فقال:"انزل يابن الأكوع فخذ لنا من هناتك"، كما في حديث نصر عند ابن إسحاق.

"وقوله: اللهم لولا أنت ما اهتدينا، كذا الرواية" في البخاري "قالوا: وصوابه في الوزن لا هم أو تالله كما في الحديث الآخر" تبرأ منه لأن الذي فيه إنما هو الخزم بمعجمتين وهو الزيادة على أول البيت حرفا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني حرفا أو اثنين على الصحيح.

وهذا أمر لا نزاع فيه بين العروضيين ولم يقل أحد بامتناعه وإن لم يستحسنوه، وما قال أحد أن الخزم يقتضي إلغاء ما هو فيه عن أن يعد شعرا. نعم لا يعتد بالزيادة في الوزن ويكون ابتداؤه ما بعدها، فكذا ما نحن فيه قاله في المصابيح، "وقوله: فداء لك قال" الإمام الفقيه،

ص: 248

هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه: فديتك؛ لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله عليه الصلاة والسلام:"تربت يداك". و "تربت يمينك". وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدي حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أي أبذل نفسي في رضاك.

الأصولي، ذو الفنون في علوم عديدة محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها نسبة إلى مازر بليدة بجزيرة صقلية. مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة وله ثلاث وثمانون سنة.

في المعلم "هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه فديتك" لاستحالته إذ معناه، كما قال السهيلي: فداء لك أنفسنا فحذف المبتدأ لكثرة دوره في الكلام مع العلم به، "لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص" المفدي "فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه"، ولا يتصور ذلك في حق الله، وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء أو حلول مكروه "قال" المازري مجيبا:"ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه"، بل المراد المحبة والتعظيم، فجاز أن يخاطب بها من لا يجوز في حقه الفداء، ولا يجوز عليه الفناء قصدا لإظهار المحبة والتعظيم له قاله في الروض.

قال: ورب كلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له، "كما يقال: قاتله الله" ما أفصحه "ولا يريد" القائل "بذلك حقيقة الدعاء عليه" بل التعجب واستعظام الأمر، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". يخاطب عائشة وغيرها فلم يقصد أصل معناها الذي هو افتقرت حتى لصقت يداك بالتراب بل الإنكار والزجر كقوله عليه الصلاة والسلام: "ويل أمه".

قال بديع الزمان في رسالته: العرب تطلق: تربت يمينه في الأمر إذا أهم، ويقولون: ويل أمه ولا يقصدون الذم، وكقوله عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات:"أفلح وأبيه إن صدق". ومحال أن يقصد القسم بغير الله لا سيما برجل مات كافرا، وإنما هو تعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم والقسم في الأصل لما يعظم فاتسع فيه وقال الشاعر:

فإن تك ليلى استودعتني أمانة

فلا وأبي أعدائها لا أحونها

لم يرد القسم بوالد أعدائها بل التعجب، "وفيه كله ضرب من الاستعارة؛ لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدى" بضم الميم والتشديد، أي الذي جعل المتكلم نفسه فداءه "حين

ص: 249

وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.

قال: وقد يكون المراد بقوله: "فداء لك" رجل يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى.

وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: "اللهم" لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام. والمخاطب بقول الشاعر: "لولا أنت" النبي، لكن يعكر عليه قوله بعد ذلك:

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

فإنه دعاء لله تعالى.

ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت

بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر أي أبذل نفسي في رضاك".

"وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة" كهذه الجهة المذكورة "فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه" ولم يرد فلا يحسن الجواب عنه بذلك، وقد يقال سكوت الشارع عليه وسماعه وترحمه على قائله إذن، وقد قال السهيلي: أنه أقرب الأجوبة إلى الصواب "قال" المازري جواب ثان، "وقد يكون المراد بقوله فداء لك رجل يخاطبه" المصطفى أو غيره، "وفصل بين الكلام بذلك" على سبيل الاعتراض، "ثم عاد إلى تمام الأول فقال: ما اتقينا قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا" خروجا عن سبيل الكلام، "اضطرنا" ألجأنا "إليه تصحيح الكلام انتهى" كلام المازري، "وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى" أي معنى اغفر "لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك"، حكاه في الروض والفتح، قائلا: "وعلى هذا" لا على ما قبله لقوله، ثم عاد إلى تمام الأول

إلخ.

فإنه ظاهر في أنه دعاء، "فقوله: اللهم لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام" أما على الأول أنه خطاب لله تعالى، فهو دعاء لأن المعنى اللهم اغفر لنا، "و" على هذا أيضا "المخاطب بقول الشاعر: لولا أنت النبي" صلى الله عليه وسلم "لكن يعكر عليه قوله بعد، ذلك فأنزلن" الذي قدمه وألقين وهو الذي في البخاري هنا.

نعم رواه في الخندق لكن من حديث البراء بلفظ فأنزلن "سكينة علينا وثبت الإقدام إن لاقينا" العدو "فإنه دعاء لله تعالى، ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت"،

ص: 250

والله أعلم.

وقوله: "إذا صيح بنا أتينا" أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة، أي أبينا الفرار. وقوله:"وبالصياح عولوا عليها" أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشيء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.

وقوله: "من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت" أي: ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا

فلا عكر، "والله أعلم" بالمراد للشاعر وللمصطفى حين تمثل به في حفر الخندق، "وقوله إذا صيح بنا أتينا" بكسر الصاد المهملة وسكون التحتية، "أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره،" أي ما تكرهه النفوس "أتينا" بالفوقية.

وفي الفتح أي جئنا إذا دعينا إلى القتال أو إلى الحق. "وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة" الفوقية "أي أبينا الفرار".

وقال الحافظ: كذا رأيت في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا كذا في الفتح هنا وقال فيه في الخندق روي بالوجهين.

قال عياض: كلاهما صحيح المعنى أما الباء فمعناه إذا صيح بنا لفزع، أو حادث أبينا الفرار وثبتنا، وأما المثناة فمعناه جئنا وأقدمنا على عدونا. قال: ورواية المثناة أوجه لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم، والراجح أن قوله إذا صيح بنا أتينا بالمثناة، وقوله إذا أرادوا فتنة أبينا بالموحدة. انتهى.

"وقوله وبالصياح عولوا علينا، أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال" وفي الفتح، أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي واستعانوا علينا. تقول: عولت على فلان وعولت بفلان بمعنى استعنت به. "قيل: هو من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه" وهو المتبادر من عولوا بالتثقيل "وقيل: من العويل، وهو الصوت".

والمعنى أجابوا علينا بالصوت. قاله الخطابي وتعقبه ابن التين بأنه لو كان من العويل لكان أعولوا وأقره الحافظ نعم حكى المصنف أن في نسخة أعولوا فلعل كلامه عليها "وقوله من هذا السائق قالوا: عامر قال: يرحمه الله قال رجل من القوم: وجبت أي ثبتت له الشهادة" تفسير لوجبت "وستقع قريبا"، وكأنه لم يكتف بأن يقول وقوله وجبت أي ثبتت

إلخ. بل أعاده من أوله وإن قدمه قريبا لأنه جعله توطئة لقوله، "لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا

ص: 251

الدعاء في هذا الموطن استشهد، وقوله: لولا أمتعتنا به؟ أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.

وفي البخاري من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا -وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم

الدعاء في هذا الموطن" يعني الحرب "استشهد" كما أشار إليه رواية سلمة، بل كلامه أعم من الحرب لقوله: ما استغفر لإنسان يخصه إلا استشهد كما مر قريبا، "وقوله: لولا أمتعتنا به" ليس المراد بلولا التحضيض لأنه إن كان على ماض أفادت اللوم ومعاذ الله أن يقصده أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم، بل المراد العرض والتمني "أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته"، وشجاعته "مدة". قال الحافظ والتمتع الترفه إلى مدة ومنه أمتعني الله ببقائك.

"وفي البخاري من حديث أنس" من ثلاثة طرق عنه؛ الطريق الأولى: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن حميد الطويل عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا" أي قرب منها، فلا يخالف رواية ابن سيرين عن أنس في الطريق الثانية عند البخاري: صبحنا خيبر بكرة، لأنه يحمل على أنهم قدموها وناموا دونها، ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال.

وذكر ابن إسحاق أنه نزل بواد يقال له: الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانوا حلفاءهم، فبلغني أن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر فسمعوا حسا خلفهم، فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر. "وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم" بضم التحتية وكسر الغين المعجم أي لم يسرع في الهجوم عليهم "حتى يصبح".

قال الحافظ: كذا للأكثر من الإغارة ولأبي ذر عن المستملي لم يقربهم بفتح أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة، وفي الجهاد بلفظ لا يغير عليهم وهو مؤيد رواية الجمهور، وفي الأذان من وجه آخر: كان إذا غزا لم يغربنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار، فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب. انتهى.

وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه: "قفوا". ثم قال: "اللهم رب السموات وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها أقدموا بسم الله". وكان يقولها لكل قرية دخلها "فلما أصبح خرجت اليهود".

زاد أحمد: إلى زروعهم "بمساحيهم" بمهملتين جمع مسحاة من آلات الحرث. قال البرهان: والميم زائدة لأنه من السحو وهو الكشف والإزالة "ومكاتلهم" بفتح الميم وكسر الفوقية جمع

ص: 252

فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

وفي رواية: فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر".

مكتل بكسرها وفتح الفوقية هو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره.

قال في الروض سميت بذلك لتكتيل الشيء فيها وهو تلاصق بعضه ببعض والكتلة من التمر ونحوه فصيحة وإن أبدلتها العامة انتهى.

وحكى الواقدي إن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كل يوم عشرة آلاف مقاتل مسلحين مستعدين صفوفا، ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات فلا يرون أحدا، حتى إذا كان الليلة التي قدم فيها المسلمون، ناموا ولم تتحرك لهم دابة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فخرجوا بالمساحي طالبين مزارعهم فوجدوا المسلمين "فلما رأوه قالوا": جاء أو هذا "محمد والله محمد والخميس" ضبطه القاضي عياض بالرفع عطف والنصب مفعول معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -زاد البخاري في الجهاد من هذا الطريق نفسه-:"الله أكبر خربت خيبر". أي: صارت خرابا "إنا إذا نزلنا بساحة" أي: فناء "قوم" وأصلهما الفضاء بين المنازل "فساء صباح المنذرين".

وهذا الحديث أصل في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس نص عليه ابن عبد البر وابن رشيق كلاهما في شرح الموطأ وهما مالكيان، والنووي في شرح مسلم كلهم في شرح هذا الحديث وكذا صرح بجوازه القاضي عياض والباقلاني من المالكية.

وحكى الشيخ داود الشاذلي اتفاق المالكية والشافعية على جوازه غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة.

وروى الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد عن مالك أنه كان يستعمله. قال السيوطي: وهذه أكبر حجة على من زعم أن مذهب مالك تحريمه، وأما مذهبنا فأجمع أئمته على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فشر وأبان أنه أجهل الجاهلين. انتهى.

وهذا منه قاض بغلطه فيما أورده في عقود الجمان، "وفي رواية" للبخاري في الجهاد، فرفع يديه وقال:"الله أكبر خربت خيبر". قال الحافظ: وزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس وعن حميد. انتهى.

وفيه استحباب التكبير عند الحرب وتثليثه، ففي رواية للبخاري في الصلاة، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. قالها ثلاثا، وفي

ص: 253

والخميس: الجيش: سمي به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب.

ومحمد: خبر مبتدأ، أي هذا محمد.

قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى.

ويحتمل -كما قاله في فتح الباري- أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيده قوله بعد ذلك:"إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

التنزيل إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا والثلاثة مبدأ الكثرة "والخميس" بلفظ اليوم "الجيش" كما فسره عبد العزيز بن صهيب، أو من دونه عند البخاري في صلاة الخوف، بدليل روايته في أوائل كتاب الصلاة بلفظ يعني الجيش "سمي به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام، المقدمة" وسماها في حديث الحراسة، "والساقة" مؤخر الجيش، "والميمنة والميسرة" ويقال لهما: الجناحان "والقلب" وقيل من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهري بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسا فبان أن القول الأول أولى "ومحمد خبر مبتدأ أي هذا محمد" كما عليه معظم الشراح، وأعربه المصنف أيضا فاعلا بفعل فقدر جاء محمد.

"قال السهيلي" في الروض: "يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم" وهي المساحي والمكاتل مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت "تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى".

ويحتمل كما قاله في فتح الباري أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي ويؤيده قوله بعد ذلك: "إن إذا نزلنا بساحة قوم فساء" بئس "صباح المنذرين" صباحهم فهو إخبار بالغيب أو على جهة الدعاء عليهم، ويجوز أن يكون أخذه من اسمها كما قال البرهان.

"وفي رواية" للبخاري في هذه الغزوة من طريق ثابت وقبلها في صلاة الخوف من طريق عبد العزيز وثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس" في أول وقتها، "ثم قال" لما أشرف على خيبر:"الله أكبر" في رواية الطبراني ثلاثا "خربت خيبر" أخبار بالغيب عن الوحي، أو تفاؤلا باسمها أو بآلات الهدم، أو دعاء "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".

ص: 254

وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.

قال الدمياطي: وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها.

وفي البخاري: وكان علي بن أبي طالب تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحق فلما بتنا الليلة التي فتحت قال: "لأعطين الراية غدا -أو: ليأخذن

المخصوص بالذم محذوف أي صباحهم واللام للجنس والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثرت فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحا، وإن وقعت في وقت آخر قاله البيضاوي.

"وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات" فدفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، وراية لسعد بن عبادة، ولواءه وهو أبيض إلى علي، "ولم تكن الرايات إلا بخيبر وإنما كانت الألوية" كما ذكره ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة وقد صرح جماعة من اللغويين بترادف الراية واللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب.

لكن روى أحمد، والترمذي عن ابن عباس، والطبراني عن بريدة، وابن عدي عن أبي هريرة، قالوا: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض زاد أبو هريرة مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية قاله الحافظ وفي المصباح لواء الجيش علمه وهو دون الراية.

"قال الدمياطي: وكانت" مستأنف في جواب سؤال نشأ من ذكر الرايات هو مم كانت رايته؟ فقال: كانت "راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها" والأولى سوداء بالتنكير، كما قاله الصحابة الثلاثة لأنه لم يتقدم ذكرها وكانت تسمى العقاب، "وفي البخاري" عن سلمة "وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" في خيبر، "وكان رمدا" بكسر الميم ولابن أبي شيبة عن علي أرمد والطبراني عن جابر أرمد شديد الرمد وأبي نعيم عن ابن عمر أرمد لا يبصر، "فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ: كأنه أنكر على نفسه تأخره عنه فقل ذلك، "فلحق"، زاد الكشميهني به يحتمل قبل وصوله إلى خيبر ويحتمل بعد وصوله إليها. انتهى.

"فلما بتنا الليلة التي فتحت" خيبر في صبحتها "قال: لأعطين الراية غدا أو" قال:

ص: 255

الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه".

"ليأخذن الراية غدا رجل" قال الحافظ شك من الراوي، وفي حديث سهل بعده:"لأعطين الراية غدا". بغير شك "يحبه الله ورسوله" زاد في حديث سهل بعده: "ويحب الله ورسوله". وفي رواية ابن إسحاق: "ليس بفرار". وفي حديث بريدة: "لا يرجع حتى يفتح الله له".

وروى أبو نعيم والبيهقي عن بريدة كان صلى الله عليه وسلم تأخذه الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأرسل أبا بكر فأخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم أرسل عمر فأخذ الراية فقاتل أشد من الأول، ثم رجع ولم يكن فتح.

وقال الحافظ: وقع في رواية البخاري اختصار وهو عند أحمد والنسائي وابن حبان، والحاكم عن بريدة. قال: لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء فرجع ولم يفتح له فلما كان من الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له وقتل محمود بن مسلمة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لأدفعن لوائي غدا"

الحديث. وعند ابن إسحاق نحوه من وجه آخر أي عن سلمة وزاد.

قال سلمة: فخرج علي والله يهرول وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: علوتم وما أنزل على موسى، وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة سردهم الحاكم في الإكليل وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل. انتهى.

وفي هذا رد على زعم ابن كثير ضعف حديث ذهاب الشيخين ولم يفتح لهما وبقية حديث سلمة هذا عند البخاري يفتح عليه فنحن نرجوها فقيل: هذا علي فأعطاه ففتح، "وفي رواية" للبخاري في مواضع عن سهل بن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله" خيبر "على يديه" بالتثنية زاد البخاري في المغازي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.

قال الحافظ: في المناقب أراد وجود حقيقة المحبة وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فكأنه أشار إلى أن عليا تام الاتباع له صلى الله عليه وسلم حتى وصفه بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، ففي مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وله شاهد من حديث أم سلمة عند أحمد قال: أي سهل فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. يدوكون بضم الدال المهملة أي باتوا في اختلاط واختلاف.

ص: 256

فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال:"أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال:"فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.

والدوكة بالكاف الاختلاط "فلما أصبح الناس غدوا" بمعجمة أتوا صباحا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون" بالنون رواية أبي ذر ولغيره يحذفها. قال المصنف: حذف النون بغير ناصب ولا جازم لغة. انتهى.

"أن يعطاها" أي الراية وفي مسلم عن أبي هريرة أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وفي حديث بريدة فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنالها، "فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا:"رواية أبي ذر ولغيره، فقيل: "يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه" قال المصنف: بكسر السين أمر من الإرسال وفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا أي الصحابة إلى علي وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده "فأتي به" ولمسلم عن سلمة فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أردم قال الحافظ: فظهر منه أنه الذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم فحضر من المكان الذي نزل به أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره "فبصق صلى الله عليه وسلم في عينيه" وعند الحاكم عن علي نفسه فوضع رأسي في حجره ثم بزق في ألية راحته فدلك بها عيني، والألية اللحمة التي تحت الإبهام أو باطن الكف، "ودعا له" فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والقر".

رواه الطبراني بالقاف أي البرد "فبرأ" قال الحافظ بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم. انتى.

فالراية بالفتح فتسمح المصنف في قوله بفتح الراء وكسرها "حتى كأن لم يكن به وجع" زاد بريدة فما وجعهما علي حتى مضى لسبيله أي مات.

رواه البيهقي وللطبراني عن علي: فما رمدت ولا صدعت مذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر، وله من وجه آخر فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والبرد". فما اشتكيتهما حتى يومي هذا.

وفي رواية يونس عن ابن إسحاق وكان علي يلبس القباء المحشو الثخين في شدة الحر فلا يبالي الحر ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي البرد فسئل، فأجاب بأن ذلك بدعائه عليه الصلاة والسلام يوم خيبر "فأعطاه الراية". وفي حديث أبي سعيد عند أحمد فانطلق

ص: 257

فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم". الحديث.

حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها، "فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم" بحذف همزة الاستفهام "حتى يكونوا مثلنا" مسلمين، فقال: "انفذ" بضم الفاء بعدها معجمة أي: امض "على رسلك" بكسر الراء هينتك "حتى تنزل بساحتهم" بفنائهم "ثم ادعهم" بهمزة الوصل "إلى الإسلام".

وفي حديث أبي هريرة: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، واستدل بقوله: ادعهم إن الدعوة شرط في جواز القتال والخلاف فيه شهير فقيل: شرط مطلقا وهو عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أم لا قال: إلا أن يعجلوا المسلمين وقيل: لا مطلقا، وعن الشافعي مثله وعنه لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وقصة علي بعد ذلك.

وعن الحنفية تجوز الإغارة مطلقا وتستحب الدعوة، "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه" أي في الإسلام فإن لم يطيعوا لك بذلك فقاتلهم، "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر" بضم المهملة وسكون الميم "النعم" بفتح النون، والعين المهملة وهو من ألوان الإبل المحمودة، قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل: تقتنيها وتملكها، وكانت مما يتفاخر العرب بها، قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا للتقريب إلى الإفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها بأسرها ومثلها معها، وزاد مسلم من حديث إياس ابن سلمة عن أبيه، وخرج مرحب فقال:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فبرز له علي وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أكيلهم بالسيف كيل السندره

وضرب مرحبا، ففلق رأسه وقتله وكان الفتح.

قال الحافظ: وخالف في ذلك أهل السير حزم ابن إسحاق وابن عقبة والواقدي بأن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة وكذا.

ص: 258

ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمت منه. فلما قفلوا، قال سلمة:

روى أحمد بإسناد حسن عن جابر وقيل: أن ابن مسلمة كان بارزه فقطع رجليه فأجهز علي عليه، وقيل: إن الذي قتله هو الحارث أخو مرحب فاشتبه على بعض الرواة، فإن يكن كذلك وإلا فما في الصحيح مقدم على ما سواه ولا سيما قد جاء عن بريدة أيضا عند أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم. انتهى.

وقد قال ابن عبد البر: إنه الصحيح، وابن الأثير الصحيح الذي عليه أهل السير و"الحديث" أن عليا قاتله، وقال الشامي: ما في مسلم مقدم عليه من وجهين: أحدهما: أنه أصح إسنادا، الثاني: أن جابرا لم يشهد خيبر، كما ذكر ابن إسحاق، والواقدي، وغيرهما، وقد شهدها سلمة وبريدة وأبو رافع فهم أعلم ممن لم يشهدها، وما قيل: إن ابن مسلمة قطع ساقي مرحب ولم يجهز عليه ومر به علي فأجهز عليه يأباه حديث سلمة وأبي رافع. انتهى.

وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن اسمه في الكتب القديمة أسد وهو حيدرة، وقيل: سمته أمه أسد باسم أبيها فلما قدم أبوه سماه عليا وقيل: لقب به في صغره، لأن الحيدرة الممتلئ لحما مع عظم بطن وكان كذلك. انتهى.

ويقال: إن عليا كاشفه بذلك لأن مرحبا رأى تلك الليلة مناما أن أسدا افترسه، فأشار بقوله حيدرة إلى أنه الأسد الذي يفترسه، فلما سمع ذلك ارتعد وضعفت نفسه.

"و" في حديث سلمة بن الأكوع السابق أوله "لما تصاف" بتشديد الفاء " القوم" للقتال "كان سيف عامر" بن الأكوع "قصيرا، فتناول" أي قصد ساق يهودية ليضربه" به، ولأحمد عن إياس بن سلمة عن أبيه، فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فبرز إليه عامر فقال:

قد علمت خيبر أني عامر

شاكي السلاح بطل مقامر

فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له بفتح التحتية وسكون المهملة وضم الفاء أي يضربه من أسفل، فرجع ذباب" بضم المعجمة، وبالموحدة "سيفه".

قال الحافظ: أي طرفه الأعلى، وقيل: حده "فأصاب عين ركبة عامر" أي طرف ركبته الأعلى، وفي رواية يحيى القطان فأصيب عامر بسيف نفسه ولمسلم فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، ولابن إسحاق فكلمه كلما شديدا "فمات منه فلما قفلوا" رجعوا من خيبر "قال سلمة"

ص: 259

قلت يا رسول الله، فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كذب من قال، وإن له أجرين -وجمع بين إصبعيه- إنه لجاهد مجاهد". رواه البخاري أيضا.

وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت: ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.

رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، وللبخاري في الأدب رآني شاحبا بمعجمة ثم مهملة وموحدة أي: متغير اللون. وفي رواية إياس فأتيته وأنا أبكي.

قال: "ما لك"؟ "قلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا أحبط عمله".

وفي رواية إياس: بطل عمل عامر قتل نفسه وسمي في الأدب من القاتلين أسيد من حضير وعند ابن إسحاق ونحوه لمسلم فكان المسلمين شكوا فيه، وقالوا: إنما قتله سلاحه "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب" أي أخطأ "من قاله وأن له أجرين"، وفي رواية لأجرين باللام للتأكيد أجر الجهاد في الطاعة وأجر الجهاد في سبيل الله، وجمع بين إصبعيه: "إنه لجاهد مجاهد" قال الحافظ: كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما وكسر الهاء والتنوين والأول مرفوع والثاني اتباع للتأكيد، كما قالوا: جاد مجد ولأبي ذر عن الحموي، والمستملي لجاهد بفتح الهاء والدال وكذا ضبطه الباجي، قال ابن دريد: رجل جاهد أي: جاهد في أموره، وقال ابن التين: الجاهد من يرتكب المشقة ومجاهد أي لأعداء الله تعالى. انتهى.

وقال الزركشي: وتبعه الدماميني بفتح الهاء في الأول ماض وكسر الهاء في الثاني اسما منصوبا بذلك الفعل جمعا المجهد "رواه البخاري أيضا" وبقية الحديث فيه قل عربي مشى بها مثله بالميم والقصر من المشي والضمير للأرض أو المدينة أو الحرب أو الخصلة، "وعن يزيد" من الزيادة "ابن أبي عبيد" بضم العين الأسلمي مولى سلمة، ثقة.

روى له الجميع مات سنة بضع وأربعين ومائة. "قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة" بن الأكوع. "فقلت": يا أبا مسلم "ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها" أي ساقه. وفي رواية أصابتنا وأخرى أصابتني "يوم خيبر" نصب على الظرفية، فقال الناس: أصيب سلمة "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه"، قال الحافظ وغيره: أي موضع الضربة "ثلاث نفثات" بمثلثة بعد الفاء المفتوحة فيهم جمع نفثة وهي فوق النفخ ودون التفل، وقد تكون بغير ريق بخلاف التفل وقد تكون بريق خفيف بخلاف النفخ "فما اشتكيتها حتى الساعة" قال المصنف: بالجر على أن حتى جارة. انتهى.

ص: 260

أخرجه البخاري.

وعند أيضا عن أبي هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار"، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب،

فهو الرواية وإن جاز النصب وفيه معجزة باهرة "أخرجه البخاري" ثلاثيا، فقال: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد. قال: رأيت. فذكره، "وعنده أيضا عن أبي هريرة" قال:"شهدنا خيبر" مجاز عن جنسه من المسلمين، فالثابت أنه إنما جاء بعد فتحها وعند الواقدي أنه قدم بعد فتح معظمها فحضر فتح آخرها لكن البخاري في الجهاد عن أبي هريرة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها أو هو مجاز عن شهود الغنيمة؛ لأنه شهد قسم النبي صلى الله عليه وسلم لغنائم خيبر بها اتفاقا، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل" -اللام بمعنى عن، كقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} أو بمعنى أي في شأنه وسببه، ومنه:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} - ممن معه يدعي الإسلام" نفاقا.

قال الحافظ: وقع لجماعة ممن تكلم على البخاري أنه قزمان بضم القاف وسكون الزاي، الظفري بفتح المعجمة والفاء نسبة إلى بني ظفر بطن من الأنصار المكنى أبا الغيداق بمعجمة مفتوحة وتحتية ساكنة آخره قاف، ويعكر عليه ما جزم به ابن الجوزي تبعا للواقدي أن قزمان قتل بأحد وكان يتخلف عن المسلمين عيره النساء فخرج حتى صار في الصف الأول فكان أول من رمى بسهم ثم فعل العجائب، فلما انكسر المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول الموت أحسن من الفرار، فمر به قتادة بن النعمان فقال: هنيئا لك الشهادة. قال: إني والله ما قاتلت على حسب قومي، ثم أقلقته الجراحة فقتل نفسه.

لكن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف نعم عند أبي يعلى تعيين يوم أحد، لكن لم يسمل قاتل نفسه وفيه راو مختلف فيه "هذا من أهل النار" لنفاقه، أو أنه سيرتد ويستحل قتل نفسه، "فلما حضر القتال" بالرفع على الفاعلية، ويجوز النصب أي فلما حضر الرجل القتال "قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراح فكاد بعض الناس يرتاب".

وفي رواية بزيادة أن في خبر كاد وهو جائز على قلة أي شك في قوله صلى الله عليه وسلم هذا من أهل النار، وفيه إشعار بأنهم ما ارتابوا، وإنما هو استفهام خوف على أنفسهم، ففي حديث سهل عند البخاري. فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ وفي حديث أكثم بن أبي الجون الخزاعي عند الطبراني، قلنا: يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال: ذاك أخبأت النفاق فكنا نتحفظ عليه في القتال، وفي حديث سهل في

ص: 261

فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال:"قم يا فلان فأذن: إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".

البخاري، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أي: أصحبه وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار، فإن فعله في الظاهر جميل وقد أخبر الصادق المصدوق أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب، قال فخرج معه كلما وقف وقف معه "فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها سهما" بالإفراد للكشميهني ولغيره أسهما بفتح أوله وضم الهاء بلفظ الجمع، "فنحر نفسه فاشتد" أي أسرع في المشي "رجل" بالإفراد "من المسلمين" قال الحافظ: هو أكثم الخزاعي، ففي حديثه عند الطبراني، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أشهد أنك رسول الله. انتهى.

ويقع في نسخ رجال بالجمع وهو من تحريف النساخ، فالذي في البخاري بالأفراد وفسره شارحه بما ترى "فقال" بالإفراد، كما هو في البخاري، ونسخة، فقالوا: خطأ "يا رسول الله صدق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه".

قال المهلب هذا الرجل ممن أعلمنا صلى الله عليه وسلم أنه نفذ عليه الوعيد، من النفاق ولا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، وقال ابن التين: يحتمل أن قوله من أهل النار أي إن لم يغفر الله له، ويحتمل أنه حين أصابته الجراحة ارتاب وشك في الإيمان أو استحل قتل نفسه فمات كافرا ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وبذلك جزم ابن المنير "فقال" عليه السلام:"قم يا فلان" هو بلال، كما عند البخاري في كتاب القدر بلفظ:"يا بلال قم". ولمسلم: "قم يابن الخطاب". وللبيهقي أن المنادي عبد الرحمن بن عوف ويجمع بأنهم نادوا جميعا في جهات مختلفة قاله في الفتح وقال في مقدمته: روى الطبراني والبيهقي عن العرباض أن عبد الرحمن أذن أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وكان هذا في قصة أخرى أو المؤذن أكثر من واحد. انتهى.

"فأذن" بشد المعجمة المكسورة أي أعلم الناس "إنه" ولأبي ذر: أن "لا يدخل الجنة إلا مؤمن" فيه إشعار بسلب الإيمان عن هذا الرجل. "إن الله يؤيد" وللكشميهني: ليؤيد التأكيد. قال النووي: يجوز في أن فتح الهمزة وكسرها "هذا الدين بالرجل الفاجر" الذي قتل نفسه، أو أل للجنس لا للعهد فيعم كل فاجر أيد الدين وساعده بوجه من الوجوه. انتهى.

وليس فيه على أنها عهدية ما يقضي بكفره لأن عصيانه كاف في فجوره، وقال الحافظ:

ص: 262

وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". الحديث.

الذي يظهر أن المراد بالفاجر أعم من أن يكون كافرا أو فاسقا ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعين بمشرك لأنه محمول على من كان يظهر الكفر أو هو منسوخ.

وفي الحديث أخبار صلى الله عليه وسلم بالمغيبات وذلك من معجزاته الظاهرة وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها، "و" عنده أي البخاري أيضا " في رواية" هنا وفي مواضع من طرق عن سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فمال إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحابه رجل لا يدع لهم شاذة ولا فادة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزى منا أحد اليوم كما أجزى فلان، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما إنه من أهل النار"، فقال رجل من القوم أنا صاحبه فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال:"وما ذاك"؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل المو فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة" من الطاعات "فيما يبدو" يظهر "للناس وهو من أهل النار" فيدخلها "وأن الرجل ليعمل بعمل" الباء فيهما زائدة للتأكيد أو ضمن يعمل معنى يتلبس بعمل "أهل النار" من المعاصي "فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة".

زاد الطبراني في حديث أكثم تدركه الشقاوة والسعادة عند خروج نفسه فيختم له بها، وذكر في ذا الحديث أهل الخير والشر صرفا إلى الموت لا الذين خلطوا وماتوا مسلمين، فلم يقصد تعميم أحوال المكلفين، بل أورده لبيان أن الاعتبار بالخاتمة، ختم الله أعمالنا بالصالحات بمنه وكرمه أنه على ذلك قدير.

قال النووي: فيه التحذير من الاغترار بالأعمال وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحل للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله "الحديث" تتمته:"وإنما الأعمال بالخواتيم".

هكذا رواه البخاري في كتاب القدر من صحيحه وبوب عليه العمل بالخواتيم.

ورواه في الجهاد والمغازي بطرق بإسقاط تتمته هذه، وقد صرح في حديث أبي هريرة

ص: 263

وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون.

وفتحها الله عليه حصنا حصنا، وهي: النطاة، وحصن أصعب وحصن ناعم،

السابق بما أبهمه في حديث سهل هذا من أن هذه القصة كانت بخيبر وهو ظاهر سياق المصنف كظاهر سياق البخاري فإنه أورد في المغازي حديث سهل ثم عقبه بحديث أبي هريرة، ثم أورد بعده حديث سهل بطريق آخر، وكذا في القدر فإنه روى حديث أبي هريرة، ثم حديث سهل لكن بين السياقين اختلاف فسياق أبي هريرة أن الرجل استخرج أسهما من كنانته فنحر بها نفسه وأنه عليه السلام قال: لما أخبروه بقصته قم

إلخ.

وسياق سهل أنه اتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره وأن المصطفى قال: حين أخبرته أن الرجل

إلخ، ولذا جنح ابن التين إلى التعدد وأنهما قصتان متغايرتان في موطنين لرجلين.

قال الحافظ: ويمكن الجمع وأنها قصة واحدة بأنه عليه السلام قال: إن الرجل

إلخ، وأمر بالنداء بذلك وأنه نحر نفسه بأسهمه فلم تزهق روحه وأشرف على الموت فاتكأ على سيفه استعجالا له. والله أعلم.

"وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر" نسب إليه القتال لأمره به وصدوره عن رأيه وتصرفه، "قاتلوه أشد القتال واستشهد من المسلمين خمسة عشر" رجلا من ابن سعد، وزاد عليه غيره، وسردهم الشامي أربعا وثلاثين. فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: أخبرني عبد الله بن نجيح أنه ذكر له: إن الشهيد إذا أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه تنقصان التراب عن وجهه وتقولان ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك، "وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون" بفوقية قبل السين لعنهم الله "وفتحها الله عليه حصنا" نصب على الحال "حصنا" نصب تأكيدا عند الزجاج، وصفة للأول عند ابن جني وبالأول عند الفارسي؛ لأنه لما وقع موقع الحال جاز عليه.

قال المرادي والمختار أنهما منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال ونظيره في الخبر، هذا حلو حامض، "وهي النطاة" بنون فطاء مهملة بوزن حصاة "وحصن أصعب" بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين وبالموحدة ابن معاذ.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عمن حدثه عن بعض أسلم، والواقدي عن معتب بشد الفوقية المكسورة الأسلمي أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء فلم نجد عنده شيئا، فقال: "اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها غنى وأكثرها

ص: 264

وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن البريء، والقموص، والوطيح، والسلالم.

طعاما وودكا"، فعدل الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه "وحصن ناعم" بنون فألف فمهملة فميم.

قال ابن إسحاق وهو أول حصونهم افتتح وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه. ثم ذكر بعد قليل أنه عليه السلام دفع كنانة بن ربيع بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود، ففيه أن كنانة قتل محمودا وذكر أبو عمر أن مرحبا ألقى على محمود رحى، فأصابت رأسه فهشمت البيضة رأسه وسقطت جلدة جبينه على وجهه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد الجلدة، فعادت كما كانت وعصبها بثوبه فمكن ثلاثة أيام ومات، فلعل كنانة ومرحبا دلياها عليه فنسب إلى هذا مرة وإلى الآخر أخرى، "وحصن قلعة الزبير" بن العوام الذي صار في سهمه بعد، وكان اسمه حصن قلة لكونه على رأس جبل، ثم مفاد عطف المصنف ما ذكر عن النطاة تبعا لمغلطاي أن النطاة اسم لحصن مغاير لما بعده، والشامي جعل النطاة اسمها لحصن ناعم، والصعب والزبير فإن وفقت بينهما فقدر بعد وهي النطاة وحصونها ثلاثة، "والشق" بفتح الشين المعجمة وكسرها.

قال البكري: والفتح أعرف عند أهل اللغة وبالقاف المشددة، ووقع بخط مغلطاي بزيادة نون قبل القاف وفيه نظر وما أخاله إلا تصحيفا.

قاله البرهان في موضعين "و" يشتمل أيضا على حصون كثيرة منها "حصن أبي".

قال الواقدي: وهو أول ما بدأ به من حصون الشق فتقاتلوا قتالا شديدا، ثم تحامل المسلمون على الحصن فدخلوه يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما هرب من فيه من المقاتلة إلى حصن النزال بالشق فغلقوه وامتنعوا به أشد الامتناع، وزحف صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلهم فكانوا أشد أهل الشق رميا بالنبل والحجارة، فأخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصى فحصب به حصنهم فرف بهم، ثم ساخ في الأرض حتى جاء المسلمون فأخذوا أهله باليد. "وحصن البريء" بفتح الموحدة وكسر الراء المخففة وبالمد. "والقموص" بفتح القاف وضم الميم وسكون الواو، فصاد مهملة، وقيل: بغين فضاد معجمتين وهو الذي فتحه علي، وهو أعظم حصون الكتيبة بكاف مفتوحة ففوقية وقيل: مثلثة مكسورة فتحتية ساكنة فموحدة، ويقال: بضم الكاف ومنه سبيت صفية. "والوطيح" بفتح وكسر الطاء فتحتية ساكنة فحاء مهملتين، كما ضبطه ابن الأثير وغيره.

قال البرهان وسمعت من قرأه بإعجام الخاء وهو تصحيف قال البكري سمي بالوطيح بن

ص: 265

وهو حصن بني أبي الحقيق.

وأخذ كنز آل أبي الحقيق الذي كان في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة، فدل الله رسوله عليه فاستخرجه.

وقلع

مازن رجل من ثمود.

قال السهيلي: مأخوذ من الوطح وهو ما بالإظلال ومخالب الطير، من الطين "والسلالم" بضم السين المهملة وقيل: بفتحها وكسر اللام قبل الميم، ويقال: فيه السلاليم على ما تقدم أي من ضم السين وفتحها قاله ابن الأثير: قال ابن إسحاق وكانا آخر حصونها افتتاحا، "وهو حصن بني أبي الحقيق" بحاء مهملة وقافين مصغر، "وأخذ كنز آل أبي الحقيق" المشتمل على حلي وآنية وغيرهما، أي مالهم الذي غيبوه أضيف لهم لكونه في أيدي أكابرهم، وكانوا يعيرونه العرب وإلا فهو مال بني النضير الذي حمله حيي بن أخطب لما أجلي عن المدينة "الذي كان في مسك" بفتح الميم، وسكون السين المهملة جلد "الحمار" أولا، فلما كثر جعلوه في مسك ثور، ثم في مسك جمل كما قال الواقدي، ويحتمل أنهم ردوه إلى مسك الحمار لنفاد بعضه وغيبوه به قيل وخص جلد الحمار لأن الأرض لا تأكله، "وكانوا قد غيبوه في خربة فدل الله رسوله عليه" فأخبره بموضعه كما عند البيهقي عن عروة. وروى ابن سعد، والبيهقي عن ابن عمر أن أهل خيبر شرطوا له صلى الله عليه وسلم أن لا يكتموه شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم فأتى بكنانة والربيع، فقال:"ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير". قالا: أذهبته الحروب والنفقات، فقال:"العهد قريب والمال أكثر من ذلك". وروى البيهقي، وابن سعد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دعا بكنانة وأخيه الربيع، وابن عمهما، فقال:"أين آنيتكما التي كنتم تعيرونها أهل مكة". قالا: هربنا، فلم نزل تضعنا أرض وترفعنا أخرى فذهب فأنفقنا كل شيء، فقال:"إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت به دماءكما وذراريكما". فقالا: نعم فدعا رجلا من الأنصار فقال: "اذهب إلى نخل كذا وكذا، فانظر نخلة مرفوعة فائتني بما فيها". فجاءه بالآنية والأموال فقومت بعشرة آلاف دينار فضرب عنقهما وسبى أهليهما بالنكث الذي نكثاه "فاستخرجه".

وعند ابن إسحاق أن كنانة جحد أن يكون يعلم مكانه وعند البلاذري فدفع صلى الله عليه وسلم شعبة بن عمرو إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: رأيت حييا يطوف في خربة ففتشوها فوجدوا المسك فقتل ابني أبي الحقيق، وعند ابن إسحاق أنه أخرج من الخربة بعض كنزهم وسأل كنانة عما بقي فأبى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، فقال له: عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه المصطفى إلى محمد بن مسيلمة فقتله بأخيه "وقلع

ص: 266

علي باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد.

وفي رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقي في الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقي من جهة ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا، وليث ضعيف.

علي باب خيبر" الذي كان منصوبا كما هو المتبادر منه.

ويوافقه الرواية الآتية اجتذب أحد أبواب الحصن وفي رواية ابن إسحاق فتناول علي بابا عند الحصن فتترس به فهذا يشعر أنه لم يكن منصوبا فيحتمل أنه لما وصل قلع الباب وألقاه بالأرض فخرجوا إليه فتقاتلوا، فتناول ذلك الباب الذي اقتلعه وجعله ترسا وقاتل والعلم عند الله "ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد" ففيه فرط قوته وكمال شجاعته رضي الله عنه.

"وفي رواية ابن إسحاق" حدثني عبد الله بن حسن عن بعض أهله عن أبي رافع قال: خرجنا مع علي حين بعثه صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ فلقد رأيتني في "سبعة" معي أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فلم نقلبه.

"وأخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل" للنبوة إشارة إلى أن هذه القوة والشجاعة إنما هي علامة لنبوة من أرسله صلى الله عليه وسلم.

"ورواه" الحديث من وجه آخر "الحاكم" محمد بن عبد الله المشهور "وعنه" أخرجه "البيهقي" فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ويقع في بعض النسخ الحاكم عن البيهقي من تحريف الجهال جعلوا الشيخ تلميذا مع أنه خلاف الواقع " من جهة" أي طريق "ليث بن أبي سليم" أيمن، وقيل: أنس وقيل: غير ذلك ابن زنيم بزاي ونون مصغر صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه. مات سنة ثمان وأربعين ومائة "عن أبي جعفر" الباقر "محمد بن علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الهاشمي، الثقة الفاضل، المتوفى سنة بضع عشرة ومائة، "عن جابر، أن عليا حمل الباب يوم خيبر" حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها. هذا أسقطه المصنف من الرواية المذكورة قبل قوله: "وأنه جرب" بضم الجيم وشد الراء وفتح الموحدة، أي أريد اختباره ليستدل به على كمال شجاعته. "بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا"، قال الحافظ: والجمع بينهما أن السبعة عالجوا قلبه والأربعين عالجوا حمله والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو لم يكن إلا باختلاف حال الأبطال. "وليث ضعيف" والراوي عنه شيعي، وكذا من دونه لكن لمن دونه متابع ذكره البيهقي.

ص: 267

وفي رواية البيهقي: أن عليا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه.

قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى.

وفي البخاري: وتزوج عليه الصلاة والسلام بصفية بنت حيي بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكانت عروسا،

"وفي رواية البيهقي" أيضا من جهة حرام بن عثمان عن أبي عتيق وأبي الزبير عن جابر "أن عليا لما انتهى إلى الحصن" المسمى القموص، وكان من أعظم حصونهم كما في الفتح وهو المعبر عنه بخيبر في الحديث، الذي فوقه لكونه من أعظمهما "اجتذب أحد أبوابه، فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا" لا يعارض رواية أربعين؛ لأنهم عالجوا حمله فما قدروا فتكاملوا سبعين، "فكان جهدهم" بالنصب خبر كان أي غاية وسعهم وطاقتهم واسمها "أن أعادوا الباب" أي إعادة الباب "مكانه".

"قال شيخنا": زاد في نسخة السخاوي أي في المقاصد الحسنة "وكلها" أي الأحاديث الثلاثة المذكورة "واهية" أي شديدة الضعف، "ولذا أنكره بعض العلماء" كالحافظ الذهبي فإنه بعد أن ذكر رواية الأربعين. قال: هذا منكر "انتهى".

والمنكر من قسم الضعيف، "وفي البخاري" عن أنس "وتزوج عليه الصلاة والسلام بصفية بنت حيي بن أخطب" بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة، وفتح الطاء المهملة، آخره موحدة ابن سعية بفتح المهملة وسكون العين المهملة فتحتية مفتوحة ابن عامر بن عبيد بن كعب من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون أخي موسى عليهما السلام، وأمها ضرة بفتح الضاد المعجمة بنت سموال بني قريظة وكانت تحت سلام بن شكم القرظي، ثم فارقها فتزوجها كنانة النضيري فقتل عنها يوم خيبر.

ذكره ابن سعد وأسند بعضه من وجه مرسل، "وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق" من بني النضير، وكان سبب قتله ما أخرجه البيهقي برجال ثقات.

عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من نزل من أهل خيبر على أن لا يكتموه شيئا من أموالهم فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، قال: فغيبوا مسكا فيه مال حلى لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر فسئلوا عنه، فقالوا: أذهبته النفقات، فقال:"العهد قريب والمال أكثر من ذلك". قال: فوجد بعد ذلك في خربة فقتل صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية "وكانت عروسا".

ص: 268

فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له، يعني طهرت من الحيض، فبنى بها عليه الصلاة والسلام فصنع حيسا في نطع

قال الخليل رجل عروس في جرال عرس وامرأة عروس في نساء عرائس، قال: والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في تعريسهما أياما.

قال العيني: وما اشتهر على ألسنة العوام أن الذكر عريس والأنثى عروسة لا أصل له لغة "فذكر له جمالها" وفي رواية للبخاري أيضا، فجاء رجل فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير؟ لا تصلح إلا لك.

قال الحافظ: لم أقف على اسم الرجل "فاصطفاها" اختارها "لنفسه".

روى أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم عن عائشة، قالت: كانت صفية من الصفي وهو بفتح المهملة وكسر الفاء وشد التحتية فسره ابن سيرين عند أبي داود بسند صحيح عنه، قال: كان يضرب للنبي صلى الله عليه وسلم بسهم مع المسلمين والصفي يؤخذ له رأس من الخمس، قبل كل شيء، وعنده عن الشعبي كان له صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره من الخمس، وعنده عن قتادة كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاء وكانت صفية من ذلك السهم، وقيل: كان اسمها قبل السبي زينب فلما صارت من الصفي سميت صفية، "فخرج بها حتى بلغت". رواية أبي ذر: أي وصلت صفية، ولغيره: حتى بلغ "سد" بفتح المهملة وضمها "الصهباء" بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء وبالموحدة والمد موضع أسفل خيبر، وفي رواية سد الروحاء. قال الحافظ: والأول أصوب والروحاء بالمهملة مكان قرب المينة بينهما نيف وثلاثون ميلا من جهة مكة وقيل: بقرب المدينة مكان آخر يقال له: الروحاء وعلى التقديرين فليست قرب خيبر، فالصواب ما اتفق عليه الجماعة أنها الصهباء وهي على بريد من خيبر. قاله ابن سعد وغيره.

"حلت له" قال المصنف: "يعني طهرت من الحيض" فصارت بذلك حلاله وعند ابن سعد وأصله في مسلم قال أنس: ودفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصنعها وتعتد عندها. قال الحافظ: وإطلاق العدة عليها مجاز عن الاستبراء "فبنى بها" دخل عليها "عليه الصلاة والسلام فصنع" وفي رواية: ثم صنع "حيسا" بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فسين مهملة، أي تمرا مخلوطا بسمن وأقط قال الشاعر:

التمر والسمن جميعا والأقط

الحيس إلا أنه لم يختلط

"في نطع" بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وعليها اقتصر ثعلب في فصيحه، وكذا في الفرع وغيره من الأصول، ويجوز فتح النون وسكون الطاء وفتحهما وكسر النون وسكون الطاء، وقال الزركشي: فيه سبع لغات وجمعه أنطاع ونطوع قاله المصنف في الصلاة ولكون الرواية

ص: 269

صغير، ثم قال لأنس:"آذن من حولك". فكانت تلك وليمته على صفية. قال أنس: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.

وفي رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهي إحدى أمهات.

بالأول اقتصر عليه المصنف هنا "صغير، ثم قال: لأنس آذن" بمد الهمزة وكسر المعجمة أعلم "من حولك".

وفي رواية للبخاري فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع، فبسطت فألقى عليها التمر والأقط، والسمن. وفي رواية له أيضا فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا. فقال:"من كان عنده شيء فليجئ به". وبسط نطعا، فجعل الرجل يجيء بالتمر والرجل يجيء بالسمن والرجل بالسويق، فحاسوا حيسا "فكانت تلك" الحيسة، وقال الكرماني: فكانت أي الثلاثة المصنوعة أو أنث باعتبار الخبر، كما ذكر في قوله تعالى، قال:{هَذَا رَبِّي} ، "وليمته" وفي روية وليمة "على صفية" ورواية الأنطاع بالجمع لا تعارض رواية الأفراد لأنه بسط أولا فلما كثر الطعام من الجائين به بسطت الأنطاع وفيه مشروعية الوليمة، وأنها بعد البناء وحصولها بغير لحم ومساعدة الأصحاب بطعام من عندهم.

وروى ابن سعد عنها أنها قالت ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال أنس: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي" ضم أوله وفتح المهملة وشد الواو المكسورة: أي: يجعل "لها" حوية وهي كساء محشوة تدار حول الراكب "وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب".

وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلته أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه، وركبت وفيه مزيد تواضعه وحسن خلقه ومزيد عقلها وكمال فضلها، وروي أنها قالت ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيته ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلا فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخر الرحل فيمسني بيده، ويقول:"يا هذه مهلا". حتى إذا جاء الصهباء، قال:"أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك أنهم قالوا لي: كذا، وكذا". ذكره في الروض.

"وفي رواية له" أي للبخاري أيضا: عن أنس "فقال المسلمون" هل هي "إحدى أمهات المؤمنين" الحرائر، "أو ما ملكت يمينه" فليست إحدى أمهاتهم، ففيه أن سراريه لا يتصفن بذلك وهو ظاهر قوله تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، "قالوا". ولأبي ذر: فقالوا. "إن حجبها فهي إحدى أمهات

ص: 270

المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب.

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.

المؤمنين وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه"؛ لأن ضرب الحجاب إنما هو على الحرائر لا على ملك اليمين، "فلما ارتحل" أي أراد الرحيل بعدما أقام ثلاثة أيام حتى أعرس بها، كما قاله أنس في البخاري.

قال الحافظ المرد أنه أقام في المنزل الذي أعرس بها فيه ثلاثة أيام لا أنه سار ثلاثة أيام ثم أعرس؛ لأن بين الصهباء الذي بنى بها فيه وبين خيبر ستة أميال، ثم لا معارضة بين قوله ثلاثة أيام، وقوله في الرواية التي بعدها أقام ثلاثة ليال يبني عليه بصفية؛ لأنه بين أنها ثلاثة أيام بلياليها "وطأ" أي أصلح "لها" ما تحتها للركوب "ومد الحجاب"، فعلموا أنها من أمهات المؤمنين.

"وفي رواية" للبخاري أيضا عن أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة" بكسر التاء أي الرجال "وسبى الذرية وكان في السبي صفية" الأكثر أنه اسمها الأصلي، وقيل: زينب وسميت بعد السبي والاصطفاء صفية "فصارت إلى دحية الكلبي،" وللبخاري أيضا عن أنس فجاء دحية، فقال: أعطني يا رسول الله جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية فجاء رجل، فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها". فجاء بها فلما نظر إليها صلى الله عليه وسلم، قال:"خذ جارية من السبي غيرها"، "ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فتزوجها "فجعل عتقها صداقها" أي جعل نفس العتق صداقا، ففي الصحيح أن ثابتا قال لأنس ما أمهرها قال: أمهرها نفسها.

وروى أبو الشيخ والطبراني عن صفية أعتقني صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي، أو أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر، لا حالا ولا مآلا، فحل العتق محل الصداق وإن لم يكن صداقا. كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له، وصححه ابن الصلاح، وتبعه النووي في الروضة أو أعتقها بشرط أن ينكحها بلا مهر، فلزمها الوفاء أو أعتقها بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق.

وعزاه النووي في شرح مسلم للمحققين وصححه والكل من خصائصه عند الجمهور، وذهب أحمد في طائفة إلى جوازه حتى لو طلقها قبل البناء رجع عليها بنصف قيمتها، ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا في الخصائص.

ص: 271

وفي رواية: فأعتقها وتزوجها.

وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: خذ جارية من السبي غيرها.

وفي رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس.

وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس في قوله سبعة أرؤس ما ينافي قوله في رواية البخاري: خذ جارية من السبي غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة والله أعلم.

وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم

"وفي الرواية" للبخاري أيضا "فأعتقها وتزوجها، وفي رواية" له أيضا: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: "خذ جارية من السبي غيرها". وعند ابن إسحاق أنها سبيت وسبي معها بنت عم لها وعند غيره بنت عم زوجها، فلما استرجع صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها.

قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها منه قبل القسم والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل والهبة، غير أن بعض رواة الحديث في الصحيح، يقولون أنه اشتراها منه وكلهم يزيد في ذلك بعد القسم. انتهى.

"و" تعقبه الحافظ بأن "في رواية لمسلم" عن أنس أن صفية وقعت في سهم دحية، و"أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس" وعند ابن سعد وأصله في مسلم صارت صفية لدحية، فجعلوا يمدحونها فبعث صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي، قال: فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه نصيبه الذي اختاره لنفسه لما أذنه في أخذ جارية، "وإطلاق الشراء على ذلك" العوض "على سبيل المجاز" لأنه لم يملكها إذ أذنه في أخذ مطلق جارية لم يرد به مثل هذه، "وليس في قوله سبعة أرؤس ما ينافي قوله في رواية البخاري خذ جارية من السبي غيرها إذ ليس هنا دلالة على نفس الزيادة".

قال الحافظ ولعله لما عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها لم تطلب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك، وذكر الشافعي في الأم عن سير الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم طيب خاطره لما استرجع منه صفية فأعطاه أخت زوجها وفي الروض أعطاه ابنتي عمها "والله أعلم" بالواقع، "وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية، لأنها بنت ملك من ملوكهم" فقد كان أبوها سيد بني النضير والملك يطلق على ذي السيادة والعظمة، كما في قوله وجعلكم ملوكا أي أصحاب حشم وخدم.

قال الحافظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك، ثم صيرها الله لنبيه. انتهى، يعني أن في أصولها ذلك. والظاهر أنه من جهة الآباء والأمهات، كما قيل به في قول ابن الكلبي كتبت

ص: 272

وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى.

قال مغلطاي وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها، فتؤول بذلك.

للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا، "وليس ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها" نسبا وجمالا، فقد قالت أم سنان الأسلمية: كانت صفية من أضوأ ما يكون من النساء. رواه ابن سعد، "فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع" رضي الله عنهم، "وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء" بناء على أنه قبل القسم فلم يوجد فيها ملك حتى تنبني عليه الهبة. "انتهى".

هذا المبحث وأخذه من الفتح بتقديم وتأخير، وقال مغلطاي وغيره وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها فتؤول بذلك". قال ابن إسحاق في رواية يونس: حدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بلال بصفية وابنة عمها، فمر بهما على قتلى يهود فصكت المرأة التي مع صفية وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم:"أغربوا هذه الشيطانة عني". وجعل صفية خلفه، وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه، وقال لبلال:"أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما"؟. وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها صلى الله عليه وسلم فسألها عنه، فأخبرته.

وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت في صدرها فقصت ذلك على زوجها، فقال: ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا.

وأخرج أبو حاتم، وابن حبان، والطبراني عن ابن عمر رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال:"ما هذه"؟. فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق، وأنا نائمة فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب. ولا يتوهم تعارض بين هذه الأخبار فالأثر الذي وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى.

قال مغلطاي وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها، فتؤول بذلك.

_________

للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا، "وليس ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها" نسبا وجمالا، فقد قالت أم سنان الأسلمية: كانت صفية من أضوأ ما يكون من النساء. رواه ابن سعد، "فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع" رضي الله عنهم، "وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء" بناء على أنه قبل القسم فلم يوجد فيها ملك حتى تنبني عليه الهبة. "انتهى".

هذا المبحث وأخذه من الفتح بتقديم وتأخير، وقال مغلطاي وغيره وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها فتؤول بذلك". قال ابن إسحاق في رواية يونس: حدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بلال بصفية وابنة عمها، فمر بهما على قتلى يهود فصكت المرأة التي مع صفية وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم: $"أغروا هذه الشيطانة عني". وجعل صفية خلفه، وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه، وقال لبلال: $"أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟ ". وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها صلى الله عليه وسلم فسألها عنه، فأخبرته.

وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت في صدرها فقصت ذلك على زوجها، فقال: ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا.

وأخرج أبو حاتم، وابن حبان، والطبراني عن ابن عمر رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: $"ما هذه؟ ". فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق، وأنا نائمة فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب. ولا يتوهم تعارض بين هذه الأخبار فالأثر الذي

ص: 273

قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية.

وفي هذ الغزوة حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، كما في البخاري ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم -يعني خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هذه النيران، على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال: "على أي لحم"؟. قالوا: لحم.

في وجهها من أبيها غير الخضرة التي بعينها من لطم ابن أبي الحقيق، ورأت الشمس وقعت في صدرها والقمر في حجرها فقصتهما معا عليه قال أبو عمر: كانت صفية عاقلة جليلة فاضلة روينا أن جارية لها قالت لعمر: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث فسألها فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلهم، ثم قالت للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة.

وروى الترمذي عنها أنه بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية نحن أزواجه وبنات عمه فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:"ألا قلت: وكيف تكونان خيرا مني وزجي محمد وأبي هارون وعمي موسى". وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمز بها أزواجه فأبصرهن، فقال:"مضمضن". فقلن: من أي شيء؟ فقال: "من تغامزكن بها، والله إنها الصادقة". ويأتي مزيد لذلك في الزوجات إن شاء الله تعالى.

"قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية" بنت الحارث أم المؤمنين المصطلقية، أنها قالت: رأيت قبل قدومه صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر أحدًا من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا، كما تقدم في تلك الغزوة، "وفي هذه الغزوة حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر" بضمتين جمع حمار "الأهلية" أي أظهر تحريمها ونسب إليه لظهوره على يديه، وإلا فالمحرم حقيقة هو الله "كما في البخاري، ولفظه" في حديث سلمة بن الأكوع الذي قدم المصنف أوله عقب قوله: لولا أمتعتنا، فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم "فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم" قال المصنف "يعني خيبر" أي غالبها، لأن ذلك قبل فتح الوطيح والسلالم، أوقدوا نيرانا كثيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال: "على أي لحم"؟ أي: على أي أنواع اللحم توقدونها، "قالوا: لحم" بالجر في الفرع ولأبي ذر بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هو ويجوز النصب بنزع الخافض، أي: على قاله المصنف ففاده أن

ص: 274

الحمر الإنسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أهريقوها واكسروها". فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال:"أو ذاك".

والمشهور في الإنسية: كسر الهمزة منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم. وحكي: ضم الهمزة ضد الوحشة، ويجوز فتحها والنون أيضا، مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة.

وفي رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية.

وفي رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية.

الرواية بالجر والرفع والثالث مجرد تجويز فتسمع من قال جوز المصنف الأوجه الثلاثة "الحمر الإنسية" صفة حمر وكانت الحمر التي ذبحوها عشرين أو ثلاثين، كذا رواه الواقدي بالشك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أهريقوها". بهمزة مفتوحة وسكون الهاء ولأبي ذر وابن عساكر: هريقوها والهاء زائدة "واكسروها" أي القدور، "فقال رجل": قال الحافظ في المقدمة لم يسم، ويحتمل أن يكون هو عمر "يا رسول الله أو" بسكون الواو "نهريقها" بضم النون، كما ضبطه المصنف وزعم أن القياس فتحه رده شيخنا، "ونغسلها قال: أو" بسكون الواو "ذاك" أي الإراقة والغسل وبقية حديث سلمة، فلما تصاف القوم إلى آخر ما قدمه المصنف "والمشهور في الإنسية كسر الهمزة منسوبة إلى الإنس وهم بنو آدم، وحكى ضم الهمزة ضد الوحشية" لتأنسها ببني آدم "ويجوز فتحها و" فتح "النون أيضا".

وفي المقدمة قاله ابن أبي أويس بفتحتين ولأنس بالفتح الناس "مصدر أنست به" مثلث النون كما في القاموس.

واقتصر الجوهري على كسرها "آنس أنسا" بفتحتين من باب طرب، كما في المختار وقول المصباح من باب علم مراده الفعل لا المصدر "وأنسة" بفتحتين.

"وفي رواية" للبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى يوم خيبر عن أكل الثوم" نهي تنزيه لنتن ريحه وتحريمه من الخصائص النبوية، "وعن لحوم الحمر" ولأبي ذر حمر " الأهلية" نهي تحريم، وفيه استعمال اللفظ في حقيقته، ومجازه لأن أكل الثوم مكروه والحمر حرام، وقد جمع بينهما بلفظ النهي فاستعمله في حقيقته وهو التحريم ومجازه وهو الكراهة.

"وفي رواية" للبخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر:"نهى" صلى الله عليه وسلم "يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية". وفي البخاري عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم جاءه فقال: أكلت الحمر. فسكت، ثم أتاه الثانية، فقال: أكلت الحمر. فسكت، ثم أتاه الثالثة، فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديا فنادى في الناس أن

ص: 275

ورخص في الخيل.

قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة.

قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها. والصواب.

الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فأكفئت القدور وإنها لتفور.

قال الحافظ: والجائي لم أعرف اسمه والمنادي أبو طلحة "ورخص في" أكل لحوم "الخيل"، وروى البخاري أيضا عن ابن أبي أوفى أصابتنا مجاعة يوم خيبر فإن القدور لتغلي وبعضها نضجت فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها. "قال ابن أبي أوفى" عبد الله راوي الحديث، "فتحدثنا" معشر الصحابة "أنه" عليه السلام "إنما نهى عنها لأنها لا تخمس" أي لم يؤخذ منها الخمس، واستبعده شيخنا بالأمر بغسل القدور فإن عدم التخميس إنما يقتضي المنع لحق الغير لا لنجاستها، "وقال بعضهم" أي الصحابة كما صرح به في رواية أخرى "نهى عنها البتة" أي تحريما لا لذلك السبب بل قصد تحريمها خمست أم لا كسائر الأعيان النجسة.

قال الحافظ: معناه القطع وألفها ألف وصل، وجزم الكرماني بأنها ألف قطع على غير قياس، ولم أر ما قاله في كلام أحد من أهل اللغة قال الجوهري: الانبتات الانقطاع ورجل منبت منقطع به ولا أفعله بتة ولا أفعله البتة لكل أمر لا رجعة فيه ونصبه على المصدر ورأيته في النسخ المعتمدة بألف وصل. انتهى، "لأنها كانت تأكل العذرة" قال المصنف الذال معجمة أي النجاسة، لأن التبسط قبل القسمة في المأكولات بقدر الكفاية حلال، وأكل العذرة موجب للكراهة لا للتحريم.

قال الحافظ: والحاصل أن الصحابة اختلفوا في علة النهي عن لحم الحمر هل هو لذاتها أو لعارض، وقد "قال العلماء" أي جمهورهم "وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها" أي كثرة احتياج الناس إليها مع قلتها بالنسبة للإبل ونحوها، "وقيل: لأخذها قبل القسمة" وكان هذا حكاية قول بعض أصحاب المذاهب فلا يتكرر مع قوله أولا عن الصحابة، لأنها لم تخمس "وهذان التأويان للقائلين بإباحة لحومها" وهم قليل جدا، حتى قيل: إنما رأيت الرخصة فيه عن ابن عباس، وحكى ابن عبد البر الإجماع الآن على تحريمها "والصواب

ص: 276

ما قدمناه.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها" فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال: "أو ذاك".

فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحي إليه بغسلها.

وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء في إباحتها:

فذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف: إلى أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر، وفي صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا.

ما قدمناه" من قوله؛ لأنها نجسة محرمة.

قال المصنف: ولا امتناع في تعدد العلل الشرعية على المرجع عند الأصوليين نعم التعليل بكونها لم تخمس فيه نظر؛ لأن أكل الطعام والعلف من الغنيمة قبل القسمة جائز لا سيما في المجاعة. انتهى.

"وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها". فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك". فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها، ثم تغير اجتهاده" فظهر له من حيث الدليل، أنه لا يتعين الكسر بل يمنع، لأنه إضاعة مال، "أو أوحى إليه بغسلها" تقريرا لاجتهاده الثاني، فلم يتعين كون الواو بمعنى أو وليست في قوله:"أو ذاك". للتخيير حتى يشكل على المقرر في الفروع من حرمة الكسر للإضاعة بل للإضراب، كقوله أو يزيدون "وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء في إباحتها" وحرمتها وكراهتها، "فذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف إلى أنه مباح لا كراهة فيه" صفة لازمة إن أريد بالمباح المستوي الطرفين.

ذكرت تصريحا بخلاف قائل الحرمة والكراهة ومخصصة إن أريد به مقابل الحرام، "وبه قال عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر" ذكرهم تقوية للقول بالإباحة وإن شملهم قوله من السلف والخلف، "وفي صحيح مسلم" لا وجه للقصر عليه، فقد رواه البخاري أيضا "عنها" أي أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، "قالت: نحرنا" ضمير الفاعل عائد على مباشر النحر منهم وإنما أتى بضمير الجمع لكونه عن رضاهم، وللبخاري في رواية ذبحنا "فرسا" والاختلاف على هشام فلعله كان يرويه تارة نحرنا وتارة ذبحنا، وهو يشعر باستواء اللفظين في المعنى وإطلاق كل منهما على الآخر مجازا، وبعضهم حمله على التعدد لتغاير النحر والذبح

ص: 277

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة، وفي رواية الدارقطني: فأكلناه نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

قال في فتح الباري: ويستفاد من قولها: "ونحن بالمدينة" أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد.

ومن قولها: "وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم" الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى اله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه لشده اختلاطهم به صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤال عليه السلام عن الأحكام.

ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر.

"على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي في زمنه المعهود "فأكلناه" أي الفرس يذكر ويؤنث "ونحن بالمدينة".

"وفي رواية الدارقطني فأكلناه نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: في فتح الباري" في كتاب الذبائح، "ويستفاد من قولها ونحن بالمدينة أن ذلك وقع بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع" تحريم "أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد".

"ومن قولها: نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الرد على من زعم أنه ليس فيه" أي الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد" بفتح فكسر مبني للفاعل من الورود "لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له،" وليت شعري ما المانع أنهم قدموا على ذلك هم وآل بيت باجتهاد على الراجح من جواز الاجتهاد في العصر النبوي، فليس بصريح في رد من قال: إنه لم يطلع عليه المصطفى "هذا" المذكور من أنهم لا يفعلون إلا ما علموا جوازه "مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عليه السلام عن الأحكام، ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده عليه الصلاة والسلام كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر".

لكن ذلك كله لا يمنع كونه باجتهادهم خصوصا وليس فيه تصريح باطلاع المصطفى على ذلك إنما هو ظاهره فقط ولو سلم فهي قضية عين محتملة.

ص: 278

وقال الطحاوي: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى.

وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم.

وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين.

وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي.

"وقال الطحاوي ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه" محمد بن الحسن وأبو يوسف يعقوب "وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى" قول الطحاوي.

وقد حاد للحمية عن سواء السبيل في دعوى التواتر فلم يرد حديث بذلك ينقله جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، ولا يصح الاعتذار عنه بأنه أراد التواتر المعنوي لكثرة طرقه، فإن مدار حديث أسماء من جميع طرقه على هشام عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن أسماء فلم يخرج عن كونه خبر آحاده وإن كان صحيحا، "وقد نقل بعض التابعين الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد" منهم، "فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء بن يسار، قال: لم يزل سلفك يأكلونه قال ابن جريج" رواية عن عطاء، "قلت له": تريد "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم" وعطاء من الطبقة الوسطى من التابعين فلم يدرك جميعهم، فإنما أخبر عمن أدركه منهم ولا حجة فيه فالمسألة ذات خلاف، "وأما ما نقل عن ابن عباس من كراهتها، فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين"، فلا يرد على نقل عطاء عن الصحابة مطلقا الضعف المسندين إليه، فهذا جواب سؤال نشأ من هذا كما هو ظاهر، فلا يعترض بأن لم يتقدم له ذكر، ويعتذر بأنه لعل المراد في الخارج.

"وقال أبو حنيفة في" كتاب "الجامع الصغير لمحمد بن الحسن تلميذه "أكره لحوم الخيل" ذكره وإن علم مما قدمه عن الطحاوي لبيان الكتاب الذي صرح فيه بالكراهة وتوطئة لقوله "فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه" فخلاف ما هو عادة الإمام من أنه إذا أطلق الكراهة انصرفت للتحريم، "وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلي،

ص: 279

وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم.

وقال القرطبي في شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهاني: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.

وقال أبن أبي جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى:{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكابه محظور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى.

وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلال لجازت الأضحية بها. فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية.

"و" لكن "صحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه" أي أبي حنيفة.

"التحريم وهو قول أكثرهم" أي الحنفية، "وقال القرطبي" أبو العباس شيخ صاحب التفسير والتذكرة "في شرع مسلم مذهب مالك الكراهة" هذا ضعيف إلا أن تحمل على التحريم، "وقال الفاكهاني المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم" وهو المعتمد المشهور "وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء من المالكية "الدليل على الجواز مطلقا" اضطر إلى أكلها أم لا، "واضح" الصحة حديث أسماء وحديث رخص في الخيل، "لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله،" أي لحم الخيل "ولو كثر لأفضى إلى فنائها فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الكفار، "فعل هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته"، كالإبل "لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكابه محظور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى" كلام ابن أبي جمرة وهو اختيار له ضعيف في المذهب، "وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لحازت الأضحية بها، فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول اللحم، ولم تشرع الأضحية به"

ص: 280

به، وأما حديث خالد بن الوليد عند أبي داود والنسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فضعيف، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد بن الوليد أحمد والبخاري والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون.

وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله "رخص" لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق.

وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفي رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس: نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل.

فالملازمة ممنوعة، "وأما حديث خالد بن الوليد" المروي "عند أبي داود والنسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل، والبغال، والحمير"، وتقديري المروي خير من تقدير الثابت لمنافاته لقوله: "فضعيف ولو سلم ثبوته لا ينهض معارضا لحديث جابر" السابق عند الشيخين وغيرهما: نهى صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر ورخص في الخيل، "الدال على الجواز" لأنه ظاهر فيه بخلاف نهى فمحتمل للتحريم والكراهة، "وقد وافقه حديث أسماء" المروي عند الشيخين، "وقد ضعف حديث خالد بن الوليد" المذكور "أحمد، والبخاري، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون، وزعم بعضهم أن حديث جابر دال على التحريم لقوله: رخص" في الخيل، "لأن الرخصة استباحة المحظور" الممنوع لعذر "مع قيام المانع" للحكم الأصلي.

"فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة،" بمعجمة ثم مهملة المجاعة الشديدة "التي أصابتهم بخيبر فلا يدل ذلك على الحل المطلق" الذي هو محل النزاع. "وأجيب أن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن كما رواه مسلم".

"وفي رواية له أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي"، ولم يذكر الخيل فدل على إباحتها، وفيه ن عدم الذكر ليس دليلا، "وعند الدارقطني من حديث ابن عباس نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل".

"فدل على أن المراد بقوله رخص أذن" وهذا لا يصلح جوابا، بل في تقوية للاحتجاج على

ص: 281

فدل على أن المراد بقوله: "رخص" أذن. ونوقض أيضا بالإذن في أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة.

وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وقرروا ذلك بأوجه:

أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.

ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليه إلى دليل.

التحريم؛ لأن لفظ أذن دون أباح وأحل دال على ذلك، وأما قوله: وأمر بلحوم الخيل فلا يصلح دليلا للجواز المطلق، لجواز أنه في هذا الوقت للمخمصة.

"ونوقض أيضا" الاحتجاج بحديث جابر على التحريم "بالإذن في أكل الخيل ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك" الإذن في أكلها "لكثرتها وعزة" قلة "الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة".

وهذا مدفوع والملازمة ممنوعة، فإن سبب المناداة بتحريم الحمر قول الصحابي أفنيت الحمر كما مر عن الصحيح، فكأنه رخص لهم حين نهاهم عنها في الخيل لضرورة المخمصة لعلمه بعزتها عندهم، فلا يعودون إليها بعدها، فلا يدل قوله أمر على الإباحة العامة؛ لأنه يحمل على أنه أمر به زمن المخمصة، بدليل رواية رخص والأحاديث يفسر بعضها بعضا.

"وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم، أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: "و" خلق {الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} مفعول له، "وقرروا ذلك بأوجه أحدها أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية" الذي هو أولى في الحجية من خبر الآحاد.

ولو صح "ثانيها عطف البغال والحمير" عليها، "فدل على اشتراكها" أي: الخيل "معهما في حك التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليه إلى دليل"، وحديث أسماء بعد

ص: 282

ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.

رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب للزينة.

وأجيب: بأن آية النحل مكية اتفاقا، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل.

وأيضا: فإن آية النحل ليست نصا في منع الأكل والحديث صريح في جوازه.

وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة،

تسليم اطلاع المصطفى عليه، وأنه ليس باجتهادهم قضية عين، وحديث جابر رخص أن سلم أنه لا يدل على التحريم، فلا يدل على التحليل لتقابل الاحتمالين.

"ثالثها أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به" بالأكل "أعظم والحكيم لا يمتن بأدنى" أقل "النعم" وهو هنا الركوب والزينة، "ويترك أعلاها ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها" في قوله في الأنعام ومنها تأكلون.

"رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع الامتنان به من الركوب و" كونها "للزينة".

"وأجيب بأن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين"، لأنه سنة خيبر وهي في السابعة. "فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل" وفيه أن محمل الإذن فيه للمخمصة، كما قال تعالى:{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} في الممنوع منه نصا فإذنه في الأكل لا ينافي فهمه منها المنع، "وأيضا فإن آية النحل ليست نصا في منع الأكل" لكنه المتبادر منها، ويكفي ذلك في الاستدلال على ما علم في الأصول.

"والحديث" عن أسماء "صريح في جوازه" فيقدم الصريح على المحتمل وجوابه أنه ليس صريحا في اطلاع المصطفى بل فيه احتمال أنه عن اجتهادهم والمجتهد لا يقلد مجتهدا، ولا يرد أن من أصول مالك قول الصحابي لأن محله عند عدم التعارض.

"وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه

ص: 283

فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكورة في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث، فإنه مع كونه أصرح في الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا.

وقال البيضاوي: واستدل بها -أي بآية النحل- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا. انتهى.

وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منه حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به.

ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا" كالحمل للأمتعة والاستقاء والطحن "وإنما ذكر الركوب، والزينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيل،" وجوابه أن معنى الحصر فيهما دون الأكل الممتن به في غير الخيل فهو إضافي فلا ينافي جواز الانتفاع بها فيما ذكر، "ونظيره حديث البقرة بالإضافة لأدنى ملابسة، كقولهم حديث الشفاعة وحديث هرقل وإلا فالحديث إنما يضاف للصحابي ونحوه أو لمن أخرجه في كتاب. "المذكورة في الصحيحين حين خاطبت راكبها، فقالت: لم أخلق لهذا" أي الركوب "وإنما خلقت للحرث".

روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذ ركبها فضربها فالتفتت إليه فكلمته فقالت: لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث". فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أؤمن بذلك وأبو بكر، وعمر". "فإنه مع كونه أصرح في الحصر ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا" فالحصر فيه غير مراد لقيام الإجماع على خلافه وأصله النص القرءاني، ثم المصنف لم يقصد بها الاستدلال، كما توهم بل التنظير بأن الحصر قد يقصد به أغلب الأحوال.

"وقال البيضاوي: واستدل بها أي آية النحل على حرمة لحومها ولا دليل فيها إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالا أن لا يقصده منه غيره أصلا. انتهى".

ذكره مجرد تأكيد وإلا فقدم معناه ومر جوابه ولو سلمنا ذلك لم نسلم أن الأكل منه الذي هو محل النزاع، "وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منه حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به" هذا على فهمه أن الحصر حقيقي وإلا فهو إضافي، والدليل عليه الإجماع فلا يلزم ما قاله، وهذا تقدم قريبا بمعناه في قوله سلمنا أن اللام

إلخ.

ص: 284

وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة.

وأما أنها سيقت مساق الامتنان، فالامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كن لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضر.

وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها

إلخ.

فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى، للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به.

وإنما أطلت في ذلك.

وإعادة تكثير للسواد فحاصله أنه أجاب عن الوجه الأول من تقرير دليل المنع من الآية بأوجه ثلاثة، وعن الثاني بقوله "وأما عطف البغال والحمير فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة" عند الأصوليين.

وجوابه: إنا لم نستدل بها فقط بل مع الأخبار بأنه خلقها للركوب والزينة وامتنانه بالأكل من الأنعام دونها، "وأما" الوجه الثالث "إنها سيقت مساق الامتنان" فلو كان بالأكل لكان أعظم

إلخ.

"فالامتنان إنما يقصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم" سواء كان خيلا أو أنعاما، "فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضر"، إذ الحصر في الركوب والزينة، فيه نوع مشقة وهذا ممنوع، وسنده أنه لا دليل على كون المقصود بالامتنان غالب ما ينتفع به ولا مشقة في الحصر في الركوب والزينة، فإنهما من أجل النعم الممتن بها، "وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها

إلخ، فأجيب عنه بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها" من الإبل، والغنم "مما أبيح أكلها ووقع الامتنان به"، وجوابه أن الفرق موجود؛ لأن ما وقع التصريح بالامتنان بأكله لا يقاس عليه ما وقع فيه الامتنان بأنه للركوب والزينة فاللازم ممنوع.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل، ويقرأ: {وَالْأَنْعَامَ

ص: 285

لأمر اقتضاه، والله أعلم.

وفي هذه الغزوة أيضا نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ.

خَلَقَهَا لَكُمْ} الآية، ويقول: هذا للأكل، والخيل والبغال والحمير يقول: هذه للركوب، "وإنما أطلت في ذلك لأمر اقتضاه، والله أعلم" بحكمه فيها فإن هذه الأمور إنما هي تشحيذ للأذهان واطلاع على مدارك الأئمة رحمهم الله، وإلا فبعد تقرر المذاهب لا يبطلها شيء من ذلك.

"وفي هذه الغزوة أيضا" كما رواه إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيع عن مكحول "نهى صلى الله عليه وسلم" يومئذ أي يوم خيبر عن أربع: عن أكل الحمار الأهلي، و"عن أكل كل ذي ناب من السباع" يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا والنهي للتحريم عند قوم والكراهة عند آخرين، وهذا الحديث وإن أرسله ابن إسحاق فهو صحيح فقد أخرجه مالك في الموطأ والبخاري عن عبد الله بن يوسف عنه عن الزهري عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.

زاد مسلم من حديث ابن عباس وكل ذي مخلب من الطير، لكن لم يبين فيه وقت النهي المبين في مرسل مكحول، وقول شيخنا: لم يبين المصنف وقت النهي كان مراده خصوص اليوم الذي وقع فيه النهي، فلا ينافي أنه بينه بقوله: وفي هذه الغزوة. والمخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام آخره موحدة للطبراني كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ وأحد فهو كالناب للسبع.

"و" نهى يومئذ أيضا كما في مرسل مكحول "عن بيع المغانم" جمع مغنم وهو الغنيمة بمعنى، كما في المختار "حتى تقسم"، وأطلق البيع وأراد لازمه وهو التصرف فيها بغير المحتاج إليه كما روى الشيخان وغيرهما واللفظ لمجموعهم عن عبد الله بن مغفل أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت: لا أعطي أحدا منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى نقسمه بين المسلمين، قلت: لا والله لا أعطيكه، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا صلى الله عليه وسلم فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم:"لا أبا لك خل بينه وبينه". فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.

قال الحافظ: في الفتح وصاحب المغانم الذي نازعه هو كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري، كما أخرجه ابن وهب بسند معضل. انتهى.

"وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ" وهذا مجمل فصله ما رواه ابن إسحاق عن رويفع بن ثابت: قام فينا صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع

ص: 286

وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، كما في البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجمعوا لي من كان ههنا من اليهود". فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

غيره -يعني إتيان الحبالى من السبايا- ولا أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا أن يركب دابة حتى إذا أعجفها ردها، ولا أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده". فكرر ذلك يوم أوطاس للتأكيد حيث قال:"ألا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض". دفعا لتوهم اختصاص النهي بيوم خيبر لقرب المحل والغيبة بخلاف يوم أوطاس، فطالت غيبتهم وبعدوا عن ديارهم، قيل: وفي غزوة خيبر أيضا نهى عن متعة النساء تمسكا بما رواه البخاري، ومسلم عن علي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحم الحمر الأنسية، وأجيب بأن فيه تقديما وتأخيرا وأصله نهى يوم خيبر عن لحوم حمر الأنسية وعن متعة النساء، وليس يوم خيبر ظرفا لمتعة النساء، فالمعنى ونه عن المتعة بعد ذلك أو في غير هذا اليوم، وإنما جمع علي بينهما لأن ابن عباس كان يبيحهما فروى له تحريمهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قال الإمام السهيلي هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، وقال أبو عمر: إنه غلط فلم يقع في غزوة خيبر تمتع النساء، "وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم" أطلق المسبب وأراد السبب إذ لم توصل السم لشيء من جسده، لكنها لما جعلته في الشاة فكان وسيلة إلى أكله منها نسب إليها تجوزا "زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم" كما سماها ابن إسحاق، وموسى بن عقبة. "كما في البخاري" خبر السم لا بقيد تسمية السامة لأنه ليس فيه كما ترى، فالاستدلال على أغلب مشمول الترجمة "من حديث أبي هريرة ولفظه" في الجزية والطب من طريق الليث عن سعيد عن أبي هريرة أنه قال:"لما" بشد الميم "فتحت خيبر" واطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتحها، كما عند ابن إسحاق "أهديت" بضم الهمزة مبني للمفعول "للنبي صلى الله عليه وسلم شاة" بالرفع نائب الفاعل "فيها سم" مثلث السين، ولا ترد رواية أنها أهدتها لصفية على هذا لأن إهداءها لها بعد بنائه بها، كما أفاده قول ابن إسحاق اطمأن بعد فتح خيبر؛ لأنه أقام بعد بنائها ثلاثة أيام كما مر، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد أن لاك منها مضغة ثم لفظها حين أخبره العظم أنها مسمومة وازدراد بشر لقمته، وقوله لأصحابه:"ارفعوا أيديكم". كما عند ابن إسحاق وغيره: "اجمعوا لي" بلام رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما: "إليَّ".

قال الحافظ: لم أقف على تعيين المأمورين بذلك "من كان ههنا من اليهود" بالتعريف في الطب وفي الجزية من يهود بالتنكير، "فجمعوا له" بضم الجيم "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم":

ص: 287

"إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه"؟. فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟. قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم، بل أبوكم فلان".

لما اجتمعوا عنده "أني سائلكم" أي مريد سؤالكم "عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه"؟ بضم القاف وسكون الواو فكسر نون الوقاية، هكذا في رواية أبي ذر والوقت والأصيلي، وابن عساكر في المواضع الثلاثة، قال ابن التين: وفي نسخ: "صادقي" بشد الياء وهو الصواب عربية؛ لأن أصله: صادقون، فحذفت النون للإضافة، فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ومثله:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} . وحديث بدء الوحي: "أومخرجيَّ هم". قال الحافظ: وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد فقد وجهها غيره، قال ابن مالك: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيهم خفاء الإعراب، فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر:

وليس الموافيني ليرتد خائبا

فإن له أضعاف ماكان أملا

ومنه: "فهل أنتم صادقوني". والحديث الآخر: "غير الدجال أخوفني عليكم". والأصل فيه أخوف مخوفاتي عليكم، فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل التعجب.

وحاصل كلامه: أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت، كما تدل عليه الرواية الأخرى بلفظ صادقي، قال: ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النحاة أجاز في جمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو ويحتمل أن الياء في محل نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محل نصب وتكون النون على هذا أيضا نون الجمع. انتهى.

"فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟ قالوا: أبونا فلان" قال الحافظ لم أعرفه، انتهى.

فما في بعض الطرر إسماعيل، وقلدها الشارح إنما هو حدس وتخمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذبتم بل أبوكم فلان". أي: إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، كما جزم به المصنف كالحافظ ولا ينافيه قوله فيمن أبهمه اليهود لم أعرفه كما لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأما اليهود فكاذبون نعم وقع في المقدمة في الجزية:"من أبوكم"؟. قالوا: فلان، قال:"كذبتم بل أبوكم فلان". ما أدري من عنى بذلك، انتهى.

ص: 288

قالوا: صدقت وبررت، فقال:"هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أهل النار"؟. فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤا فيها، والله لن نخلفكم فيها أبدا". ثم قال لهم: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟. فقالوا: نعم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما"؟.

فظاهره أنه حتى فيمن عناه المصطفى وكان مراده عين السبط من أولاد يعقوب الذين هم من ذريته فلا ينافي أنه جزم في الطب من المقدمة والفتح، بأنه يعقوب، والله أعلم.

"قالوا: صدقت وبررت" بكسر الراء الأولى وحكى فتحها قاله المصنف فالرواية بالكسر، واقتصر عليه الكرماني، فقال:"هل أنتم صادقوني". كذا للأربعة أيضا ولغيرهم: صادقي بكسر الدل والقاف وشد التحتية على الأصل "عن شيء إن سألتكم عنه". قالوا: نعم يا أبا القسم وإن كذبناك" بخفة الذال المعجمة "عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا" حين أخبرنا عنه بخلاف الواقع، "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار". قالوا: نكون فيها" زمانا "يسيرا، ثم تخلفوننا فيها" بسكون الخاء وضم اللام مخففة وفي الجزية لغير أبي ذر تخلفونا بإسقاط النون لغير ناصب ولا جازم وهو لغة، قاله المصنف، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤا فيها". أي: اسكنوا سكون ذلة وهوان وانزجروا انزجار الكلاب عن هذا القول "والله لن نخلفكم فيها أبدا". لا تخرجون منها ولا نقيم فيها بعدكم؛ لأن من دخلها من عصاة المسلمين يخرج منها فلا خلافه قط، وعند الطبري عن عكرمة، قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أياما معدودة ويستخلف إليها قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد". فأنزل الله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية.

وأخرج عن ابن عباس أنهم قالوا: لن ندخل النار إلا تحلة القسم الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة فإذا انقضت انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.

وروى الطبراني في الكبير وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قدم صلى الله عليه وسلم المدينة ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما يعذب الناس بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب فنزلت الآية. ثم قال لهم:"هل" ولغير أبي ذر: فهل "أنتم صادقوني" كذا للأربعة أيضا ولغيرهم: صادقي "عن شيء إن سألتكم عنه". فقالوا -وفي رواية: قالوا. بحذف الفاء-: نعم، فقال:"هل جعلتم في هذه الشاة سما". نسب لهم الجعل لأنهم لما علموا به حين شاورتهم وأجمعوا لها على سم معين كأنهم جعلوه،

ص: 289

فقالوا: نعم، فقال:"ما حملكم على ذلك"؟. قالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.

وفي حديث جابر عند أبي داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم:"ارفعوا أيديكم". وأرسل إلى اليهودية فقال: "سممت هذه الشاة"؟. فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي". للذراع. قالت: نعم.

ولذا أجابوا "فقالوا": وفي رواية بحذف الفاء "نعم، فقال: "ما حملكم على ذلك"؟. قالوا: أردنا إن كنت كذابا" بشد المعجمة، وفي رواية: كاذبا بألف بعد الكاف "أن تستريح"، ولأبي ذر وابن عساكر بحذف أن. "منك وإن كنت نبيا لم يضرك".

وهذا الحديث أخرجه البخاري بطوله في الجزية في باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ وفي الطب بطوله أيضا في باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم واختصره في غزوة خيبر في باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيه سم "وفي حديث جابر عند أبي داود" من طريق الزهري عنه.

قال الحافظ: وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من جابر، لكن له شاهد عند أبي داود مرسلا ووصله البيهقي عن أبي هريرة "أن يهودية من أهل خيبر" هي زينب، وفي أبي داود أنها أخت مرحب وبه جزم السهيلي.

وعند البيهقي في الدلائل بنت أخي مرحب "سمت شاة مصلية" بفتح الميم، وسكون المهملة، أي: مشوية "ثم أهدتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم".

وعند الدمياطي لما صلى رسول الله صلى عليه وسلم المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله فسأل عنها، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك. وفي رواية: أنها أهدتها لصفية كما مر، فإن صح فكأنها أهدتها لصفية وجلست عند رحله حتى أخبرته أنها هدية ليأكل منها، فقدمتها له صفية "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها"، أي: مضغ منها مضغة، ثم لفظها على ما عند ابن إسحاق أو ازدردها على ما عند الدمياطي، ويأتي الجمع وأيا ما كان فلا يؤول أكل بأراد، إذ لم يقل أحد: إنه لم يتناول، إنما الخلف في الازدراد، "وأكل رهط من أصحابه معه"، وكانوا ثلاثة على ما في الإمتاع للمقريزي، وسمى ابن إسحاق منهم بشر بن البراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارفعوا أيديكم".

وفي رواية البيهقي: "أمسكوا فإنها مسمومة". وأرسل إلى اليهودية، فقال:"سممت هذه الشاة". فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي". مشيرا "للذراع، قالت: نعم" زاد في رواية

ص: 290

قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه. فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة.

وفي رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أي الشاة أحب إلى محمد، فيقولون: الذراع. فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يطنئ -يعني لا يلبث أن يقتل من ساعته-.

البيهقي: قال لها: "ما حملك على ذلك"؟ قالت: "قلت: إن كان نبيا فلا يضره وإن لم يكن نبيا استرحنا منه".

وفي رواية البيهقي: أردت إن كنت نبيا فيطلعك الله، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك.

ذكره التيمي في مغازيه وقد استبان لي أنك صادق، وأنا أشهدك، ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وعند ابن سعد عن الواقدي بأسانيد متعددة، أنها قالت: قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي -وسمى عمها يسار وكان من أجبن الناس، وهو الذي أنزل من الرف، وأخوها زبير- ونلت من قومي، فقلت: إن كان نبيا فسيخبر الذراع وإن كان ملكا استرحنا منه، "فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها" عطف مسبب على سبب، "وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة،" أي جنس أصحابه إذ لم يمت منهم غير بشر، ويروى أنهم وضعوا أيديهم، وما ازدردوا شيئا وأنه أمرهم بالاحتجام، وكأنه لمخالطة ريقهم، وقد ابتلعوا، "واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله" أي بين كتفيه، حجمه أبو هند أو أبو طيبة بالقرن والشفرة، ويحتمل أنهما معا حجماه، فقد قيل: إنه احتجم بين كتفيه في ثلاثة مواضع "من أجل" الجزء "الذي أكل" بحذف العائد، أي: أكله "من الشاة" العنز المسمومة.

وذكر الواقدي أنه عليه السلام أمر بلحم الشاة، فأحرق ووقع عند البراز أنه عليه السلام بعد سؤاله لها واعترافها بسط يده إلى الشاة وقال لأصحابه:"كلوا بسم الله". فأكلنا وذكرنا اسم الل فلم يضر أحدا منا.

قال ابن كثير وفيه نكارة وغرابة شديدة. "وفي رواية غيره" أي غير أبي داود "جعلت زينب بنت الحارث" بن سلام "امرأة ابن مشكم تسأل: أي" أجزاء "الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون": أحبها "الذراع فعمدت إلى عنز لها".

ففي هذه الرواية تعيين أن الشاة عنز وتسمية المبهمة في الروايتين قبلها "فذبحتها وصلتها" شوتها، "ثم عمدت إلى سم لا يطنئ" بضم المثناة التحتية وسكون الطاء المهملة ونون بعدها همزة "يعني لا يلبث" بفتح الموحدة "أن يقتل من ساعته" أي سريعا، وهو المعروف عند العامة بسم

ص: 291

وقد شاورت يهود في سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظما آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما في يده وأكل القوم، فقال صلى الله عليه وسلم:"ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة". وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه: أنه دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطي.

وقد اختلف: هل عاقبها صلى الله عليه وسلم؟

ساعة، "وقد شاورت يهود في" اختيار سم من جملة "سموم" عينتها بأن سألت: أيها أسرع قتلا؟ "فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة، وأكثرت في الذراعين، والكتف".

وعند ابن إسحاق: وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها "فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه وفيهم بشر بن البراء" بن معرور -بمهملات- الأنصاري الخزرجي، الصحابي ابن الصحابي البدري، وشهد ما بعدها حتى مات. "وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس" بسين مهملة، أي أخذ بمقدم أسنانه "منها وتناول بشر بن البراء عظما آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته" أي: ابتلع ما انفصل منها بريقه دون اللحمة، فلا ينافي رواية ابن إسحاق: أنه عليه السلام لم يسغها ولفظها. "ازدرد بشر بن البراء ما في يده وأكل القوم". في الإمتاع: أنهم كانوا ثلاثة وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا، وأنه عليه السلام أمرهم بالحجامة، وكان معناه إن صح أنهم لم يبتلعوا لكنهم وضعوه في أفواههم فأثر قليلا، فأمرهم بالحجامة لإزالة ذلك الأثر، فقال صلى الله عليه وسلم:"ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع" يذكر ويؤنث، فلذا أنث ضميره "تخبرني أنها مسمومة". وهل بكلام يخلق فيها أصوات وأصوات يحدثها الله فيها وفي الحجر والشجر بلا حياة أو الحياة أولا ثم الكلام بعدها؟ قولان في الشفاء ومر له مزيد.

وعند الواقدي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان بعد أكلة خيبر يأكل من شيء حتى يأكل منه صاحبه الذي يحضره، "وفيه أن بشر بن البراء مات" من أكلته بعد حول كما جزم به السهيلي، وقيل: من ساعته "وفيه أنه دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها".

"رواه الدمياطي" الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف له ألف وثلاثمائة شيخ، فهذا معارض لما فوقه من حديث جابر أنه عفا عنها ولم يعاقبها. لكن عند ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة أنه دفعها إلى ولاة بشر فقتلوها.

قال الواقدي: وهو الثبت "وقد اختلف: هل عاقبها" أي: أمر بعقابها بقتل أو غيره "صلى الله عليه وسلم"، أم

ص: 292

فعند البيهقي من حديث أبي هريرة: فأعرض لها، ومن حديث أبي نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهري: أسلمت فتركها.

قال البيهقي: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها، وبذلك أجاب السهيلي وزاد: أنه تركها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر بن البراء قصاصا.

ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر؛ لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.

لا بسبب اختلاف الأخبار، "فعند البيهقي من حديث أبي هريرة فأعرض لها" بفتح الراء مخففة أي ما تعرض لها بسوء. ونحوه عن جابر عند أبي داود كما مر، "و" عند البيهقي أيضا "من حديث أبي نضرة" بنون ومعجمة ساكنة مشهورة بكنيته واسمه المنذر بن مالك البصري الثقة.

روى له مسلم والأربعة مات سنة ثمان أو تسع ومائة "عن جابر نحوه" نحو قول أبي هريرة فما عرض لها حيث "قال" جابر آخر الحديث، "فلم يعاقبها" وليس فاعل قال البيهقي: أخذا مما رواه عن أبي هريرة وجابر كما زعما لأنه خلاف المروي عند البيهقي "وقال الزهري" فيما رواه عبد الرزاق عن معمر عنه "أسلمت فتركها" قال معمر: والناس يقولون: قتلها. انتهى.

قال الحافظ: ولم ينفرد الزهري بدعواه: إنها أسلمت. فقد جزم بذلك سليمان التميمي، في مغازيه وساق عبارته الآتية في المصنف.

"قال البيهقي: يحتمل" في طريق الجمع "أن يكون تركها أولا، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة" بضم الهمزة، أي اللقمة "قتلها، وبذلك أجاب"، أي: جمع "السهيلي" في الروض، "وزاد" حيث قال: وجه الجمع بين الحديثين "أنه" صلى الله عليه وسلم "تركها" أولا؛ "لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر بن البراء قصاصا"، وفيه حجة لمذهب مالك في وجوب القصاص بالسم بتقديم الطعام المسموم، وقال الحنفية والشافعية: فيه الدية لا القصاص؛ لأنه مختار باشر ما هلك به بغير الجاء، والدية للتغرير وتسفوا الجواب عن حديث قتلها بأنه لنقض العهد لا القصاص، وفيه: إن هذا إنما هو على أنها لم تسلم أما على إسلامها وهو الحق؛ لأن ناقله مثبت مع مزيد إتقانه وكونه لم ينفرد به فلا يصح الجواب؛ لأن ناقض العهد إذا أسلم عصم نفسه، "ويحتمل" كما قال الحافظ: بعد ذكر هذا الخلاف في قتلها والجمع "أن يكون تركها لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه".

قال شيخنا: فيه نظر لأن قصتها إن صحت على هذا الوجه كان فعلها قبل الإسلام وبعد

ص: 293

وفي مغازي سليمان التيمي: أنها قالت: إن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهري على إسلامها، فالله أعلم.

وفي هذه الغزوة أيضا: نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا كما في حديث أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر.

الإسلام لا تؤاخذ بما صدر منها، "وفي مغازي سليمان" بن طرخان البصري أبي المعتمر، "التيمي" نزل في التيم فنسب إليهم، ثقة، عابد، عاش سبعا وتسعين سنة، ومات سنة ثلاث وأربعين ومائة.

روى له الستة "أنها قالت" لما قال لها: $"ما حملك على ذلك؟ ". قلت: إن كنت نبيا لم يضرك و"إن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن" لما ظهرت معجزتك بنطق الذراع لك وعدم ضر السم لك "إنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت وفيه" أي حديث التيمي، هذا "موافقة الزهري على إسلامها" وكفى بهما حجة، ومن ثم جزم في الإصابة بأنها صحابية، "والله أعلم".

"وفي هذه الغزوة" أطلق الغزوة مريدا السفر الذي هي فيه مجازا لانقضائها قبل النوم، أي وفي هذه السفرة وقعت غريبة "أيضا" فشاركت ما قبلها في الغرابة فلا يردان أيضا إنما تستعمل بين متشاركين ولا مشاركة بين سم الشاة والنوم.

"نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر" أي الصبح اقتصر عليه؛ لأنه المقصود دون ناقلته وإن شاركته في الفوات "لما وكل" بالتشديد على الأكثر لتعديه بالباء في قوله "به" أي الفجر أو الرسول، والأول أقرب لأنه المأمور بمراقبته وبالتخفيف.

قال الحافظ: يقال: وكله بكذا، إذا استكفاه إياه وصرف أمره إليه. "بلالا كما في حديث أبي هريرة عند مسلم" وأبي داود، وابن ماجه، من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عنه وأخرجه مالك في الموطأ، وابن إسحاق في السيرة عن ابن شهاب عن سعيد فأرسلاه.

لكن رواية الإرسال لا تضر في رواية من وصله لأن يونس من الحفاظ الثقات، حتى قال أحمد بن صالح لا تقدم عليه في الزهري أحدا واحتج به الجماعة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل" أي رجع والقفول الرجوع من السفر ولا يقال لمن سافر مبتدئا: قفل إلا القافلة تفاؤلا "من غزوة خيبر" بالخاء المعجمة آخره راء قال الباجي، وابن عبد البر وغيرهما: هذا هو الصواب وقال

ص: 294

سار ليلة حتى أدركه الكرا عرس، وقال لبلال:"اكلأ لنا الليل". فصلى بلال ما قدر له، ونام صلى الله عليه وسلم، فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته.

الأصيلي إنما هو من حنين بمهملة ونون قال النووي: وهذا غريب ضعيف والمراد من خيبر وما اتصل بها من فتح وادي القرى، لأن النوم حين قرب من المدينة وعند الشيخين عن عمران كنا في سفر.

وكذا أخرجاه عن أبي قتادة بالإبهام ولمسلم، وأبي داود، والنسائي عن أبي مسعود أقبل من الحديبية ليلا وفي الموطأ من مرسل زيد بن مسلم بطريق مكة ولعبد الرزاق من مرسل عطاء بن يسار، والبيهقي عن عقبة بن عامر بطريق تبوك.

قال الحافظ: فاختلاف المواطن يدل على تعدد القصة وقد اختلف: هل كان نومهم عن الصبح أو أكثر فجزم الأصيلي أن القصة واحدة، ورده عياض بمغايرة قصة أبي قتادة قصة عمران، وهو كما قال: وحاول ابن عبد البر الجمع بأن زمان رجوعهم من خيبر قريب من زمان رجوعهم من الحديبية وطريق مكة يصدق بهما ولا يخفى تكلفه، ورواية غزوة تبوك ترد عليه. انتهى.

قال النووي اختلف: هل كان النوم مرة أو مرتين؟ ورجحه القاضي عياض "سار ليلة" ليست الأولى، وفي الموطأ: أسرى، وفي رواية أبي مصعب عنه: أسرع، ولأحمد من حديث ذي مخبر، وكان يفعل ذلك لقلة الزاد، فقال له قائل: يا نبي الله انقطع الناس وراءك فحبس وحبس الناس معه حتى تكاملوا إليه، فقال:"هل لكم أن نهجع هجعة"؟. فنزل ونزلوا "حتى أدركه الكرا" كعصا أي: النعاس، وقيل: هو أن يكون الإنسان بين النوم واليقظة، وفي الموطأ: حتى إذا كان آخر من الليل.

وي حديث ابن عمر وعند الطبراني حتى إذا كان مع السحر "عرس" بتشديد الراء، قال الخليل والجمهور: التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة ولا يسمى نزول أول الليل تعريسا، ويقال: لا يختص بزمن بل مطلق نزول المسافر للراحة ثم يرتحل ليلا كان أو نهارا.

وفي حديث عمران: حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا قعة أحلى عند المسافر منها. وفي حديث أبي قتادة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة". فقال بلال: أنا أوقظكم. وقال لبلال: "اكلأ" بالهمز. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ} أي: يحفظكم. أي: احفظ وارقب "لنا الليل" بحيث إذا طلع الفجر توقظنا، "فصلى بلال ما قدر" بالبناء للمفعول، أي: ما يسره الله "له، ونام صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما قارب" أي قرب "الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر" أي مستقبل الجهة التي يطلع منها، "فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته،

ص: 295

فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، فقال:"أي بلال"!. فقال بلال: إنه أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله-.

فلم يستيقظ رسول الله ولا بلال ولا أحد من أصحابه" عليه السلام "حتى ضربتهم الشمس" قال عياض: أي أصابهم شعاعها وحرها "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا" أسقط من رواية مسلم، وهو في الموطأ: ففزع، قال النووي: أي أنتبه وقام.

وقال الأصيلي: ففزع لأجل عدوهم خوفا أن يكون اتبعهم فيجدهم بتلك الحال من النوم، وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون تأسفا على ما فاتهم من وقت الصلاة. قال: وفيه دليل على أن ذلك لم يكن من عادته منذ بعث. قال: ولا معنى لقول الأصيلي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدو في انصرافه من خيبر ولا من حنين ولا ذكر ذلك أحد من أهل المغازي بل انصرف من كلا الغزوتين ظافرا غانما. انتهى.

ففي حديث أبي هريرة هذا: أن المصطفى أول من استيقظ وأن الذي كلأ الفجر بلال، ومثله في حديث أبي قتادة عند الشيخين ولهما من حديث عمران بن حصين: أن أول من استيقظ أبو بكر ثم فلان، ثم فلان، ثم عمر بن الخطاب الرابع فكبر حتى استيقظ صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي قتادة أن العمرين لم يكونا معه صلى الله عليه وسلم لما نام وفي قصة عمران أنهما معه.

وروى الطبراني شبيها بقصة عمران وفيه أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحدة، وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أنه كلأ لهم الفجر.

قال الحافظ: فهذا كله يدل على تعدد القصة، ومع ذلك فالجمع ممكن ولا سيما مع ما وقع عند مسلم وغيره: أن عبد الله بن رباح راوي الحديث عن أبي قتادة ذكر أن عمران سمعه وهو يحدث الحديث بطوله، فقال: انظر كيف تحدث فإني كنت شاهدا القصة، فما أنكر عليه من الحديث شيئا، فهذا يدل على اتحادهما. لكن لمدعي التعدد أن يقول: يحتمل أن عمران حضر القصتين، فحدث بإحداهما وصدق ابن رباح لما حدث عن أبي قتادة بالأخرى، والله أعلم. انتهى.

فيتأمل الجمع بماذا مع هذا التغاير في الذي كلأ وأول من استيقظ، وأن العمرين معه في خبر عمران ولم يكونا في خبر أبي قتادة، وسبق اختلاف أيضا في محل اليوم فالمتجه ما رجحه عياض أن النوم وقع مرتين عن صلاة الصبح وإليه أومأ الحافظ قبلُ كما مر، "فقال: أي: بلال" مناديا، وفي رواية ابن إسحاق: فقال: "ماذا صنعت بنا يا بلال". "فقال بلال: إنه أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله-". هكذا ثبت في رواية مسلم وغيره، كما ترى وسقط في

ص: 296

بنفسك. قال: "اقتادوا".

رواية ابن إسحاق، الواقدي لكنها زيادة ثقة، فتقبل، وعجيب قول القائل: لعله ثبت في رواية غيره، أفلا تنبه لكون المتن عزاه لمسلم "بنفسك" صلة أخذ وما بينهما اعتراض.

قال ابن رشيق: أي أن الله استولى بقدرته عليَّ، كما استولى عليك مع منزلتك قال: ويحتمل أن المراد غلبني النوم كما غلبك، وقال ابن عبد البر: معناه قبض نفسي الذي قبض نفسك، فالباء زائدة أي توفاها متوفي نفسك، قال: وهذا قول من جعل النفس والروح شيئا واحدا؛ لأنه قال في الحديث الآخر: "إن الله قبض أرواحنا". فنص على أن المقبوض هو الروح وفي القرءان: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} الآية. ومن قال: النفس غير الروح تأول: أخذ بنفسي من النوم الذي أخذ بنفسك منه.

زاد في رواية ابن إسحاق قال: "صدقت". وفي الموطأ من وجه آخر: ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال:"إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه، فلم يزل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام". ثم دعا بلالا فأخبر بلال رسول الله مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله.

قال ابن عبد البر: أهل الحديث يروون: يهديه بترك الهمز وأصلها عند أهل اللغة الهمز، وقال في المطالع هو بالهمز أي يسكنه وينومه من هدأت الصبي، إذا وضعت يدك عليه لينام، وفي رواية بغير همز على التسهيل، ويقال فيه أيضا: يهدنه بالنون، وروي يتهدهده، هدهدت الأم ولدها لينام أي حركته. انتهى.

وفي هذا اعتذار عن بلال وأنه ليس باختياره وفيه تأنيس له، كما آنسهم لما عرض لهم من الأسف على خروج الصلاة عن وقتها بأنه لا حرج عليهم إذ لم يتعمدوا ذلك، ففي حديث عمران شكوا إليه الذي أصابهم قال:"لا ضير". أو: "لا يضيره". في مستخرج أبي نعيم: "لا يسوء ولا يضير". ولأحمد عن ابن مسعود مرفوعا: "وإن الله أراد أن لا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام أو نسي". وفي الموطأ وأبي داود: "إن الله قبض أرواحنا، ثم ردها إلينا فصلينا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا".

قال: "اقتادوا" بالقاف، أي ارتحلوا كما قال في حديث عمران زاد مسلم في رواية أبي حازم عن أبي هريرة:"فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". قال ابن رشيق: قد علله صلى الله عليه وسلم بهذا ولا يعلمه إلا هو.

وقال القاضي عياض: هذا أظهر الأقوال في تعليله. قال الحافظ: وقيل لاشتغالهم بأحوال الصلاة، أو تحرزا من العدو، أو ليستيقظ النائم وينشط الكسلان، أو لأن الوقت وقت كراهة، يرده

ص: 297

فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال:"من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".

قول الحديث: حتى ضربتهم الشمس، وفي حديث عمران: حتى وجدوا حر الشمس، وذلك لا يكون حتى يذهب وقت الكراهة.

وقال القرطبي: أخذ بهذا بعض العلماء فقال: من انتبه من نوم عن فائتة في حضر فليتحول عن موضعه، وإن كان واديا فليخرج عنه. وقيل: إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه. وقيل: هو خاص به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم ذلك من حال ذلك الوادي ولا غيره إلا هو.

وقال غيره: يؤخذ منه إن من حصلت له غفلة في مكان عن عبادة استحب له التحول منه ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكان إلى مكان آخر، "فاقتادوا رواحلهم شيئا" يسيرا.

وفي حديث عمران: فسار غير بعيد، ثم نزل وهذا يدل على أن هذا الارتحال وقع على خلاف سيرهم المعتاد، "ثم توضأ صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: وتوضأ الناس "وأمر بلالا فأقام الصلاة".

قال عياض: أكثر رواة الموطأ في هذا الحديث على: فأقام، وبعضهم قال: فأذن أو أقام على الشك. ولأحمد من حديث ذي مخبر: فأمر بلالا فأذن، ثم قام صلى الله عليه وسلم فصلى الركعتين قبل لصبح وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة "فصلى بهم الصبح" زاد الطبراني من حديث عمران: فقلنا يا رسول الله أنعيدها من الغد لوقتها؟ قال: "نهانا الله عن الربا ويقبله منا"؟. وعند ابن عبد البر: "لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم". فلما قضى الصلاة، قال:"من نسي الصلاة". زاد القعنبي في روايته في الموطأ: "أو نام عنها". "فليصلها إذا ذكرها". وعند أبي يعلى والطبراني، وابن عبد البر من حديث أبي جحيفة: ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم فمن نام عن الصلاة فليصلها إذا استيقظ، ومن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". فعلم أن في الحديث اختصارا من بعض الرواة فزعم أنه أراد بالنسيان مطلق الغفلة عن الصلاة لنوم أو غيره، وأنه لم يذكر النوم أصلا لأنه أظهر في العموم الذي أراده فاسد نشأ من عدم الوقوف على الروايات، "فإن الله تعالى قال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " [طه: 14] .

قال القاضي عياض: قال بعضهم فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم وأخذه من الآية التي تضمنت الأمر لموسى عليه السلام وأنه مما يلزمنا اتباعه، وقال غيره: استشكال وجه أخذ الحكم من الآية فإن معنى: {لِذِكْرِي} ، إما لذكري فيها وإما لأذكرك عليها على اختلاف القولين في تأويلها وعلى كل فلا يعطى ذلك.

ص: 298

وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.

قال ابن جرير: ولو كان المراد حين تذكرها لكان التنزيل لذكرها، وأصح ما أجيب به أن الحديث فيه تغيير من الراوي، وإنما هو للذكرى بلام التعريف وألف القصر كما في سنن أبي داود وفيه وفي مسلم زيادة. وكان ابن شهاب يقرأها:"للذكرى" فبان بهذا أن استدلاله صلى الله عليه وسلم إنما كان بهذه القراءة فإن معناها للتذكر أي لوقت التذكر. قال عياض: وذلك هو المناسب لسياق الحديث. قال الجوهري: الذكرى نقيض النسيان. انتهى.

وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". بأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان. قال النووي: هذا هو الصحيح المعتمد. قال الحافظ: ولا يقال القلب وإن لم يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء الفجر إلى أن حميت الشمس مدة لا تخفى على من لم يستغرق، لأنا نقول يحتمل أن قلبه كان مستغرقا بالوحي ولا يلزم وصفه بالنوم، كما كان يستغرق حالة إلقاء الوحي يقظة.

والحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس كما في سهوه في الصلاة، وقريب من هذا جواب ابن المنير بأن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة لمصلحة التشريع، ففي النوم أولى أو على السواء وقيل: غير ذلك.

"وفيها قدم جعفر" بن أبي طالب الهاشمي الأمير المستشهد بمؤتة.

روى البيهقي عن جابر أن جعفرا لما قدم عليه صلى الله عليه وسلم تلقاه فقبل بهته.

ثم قال: "ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟. وعنده أيضا بسند فيه من لا يعرف حاله عن جابر لما قدم جعفر تلقاه صلى الله عليه وسلم فلما نظر جعفر إليه حجل.

قال أحد رواته: يعني مشى على رجل واحدة إعظاما منه له فقبل صلى الله عليه وسلم بين عينيه "ومن معه" وهم ستة عشر رجلا، جعفر ومعه امرأته أسماء بنت عميس وابنه عبد الله ولدته بالحبشة، وخالد بن سعيد الأموي، مع امرأته أمينة بنت خلف وولداه سعيد وأمية ولدتهما بالحبشة وأخوه عمرو بن سعيد، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وأبو موسى الأشعري، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، وجهم بن قيس معه ابنه عمرو وبنته خزيمة، وعامر بن أبي وقاص، وأبو حاطب ابن عمرو، ومالك بن ربيعة معه امرأته، والحارث بن عبد قيس، هكذا سماهم ابن إسحاق "من الحبشة" قال ابن إسحاق: بعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فجعلهم في سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر ومعهم نساء من مات هناك من المسلمين.

وفي البخاري، ومسلم عن أبي موسى: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا

ص: 299

واختلف في فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟

وفي حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال: فتحت صلحا. قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.

مهاجرين أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال: في بضع وإما قال: في ثلاثة أو اثنتين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي فوافقنا جعفر بن أبي طالب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهدها معه إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه فإنه قسم لهم معنا.

وعند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلم المسلمين فأشركوهم. الحديث في الصحيح مطولا وفيه: أن عمر قال لأسماء بنت عميس: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت وذكرته له صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس بأحق بي منكم له ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان". وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل". "واختلف في فتح خيبر: هل كان عنوة؟ " كما قال أنس في الصحيح وابن شهاب عند ابن إسحاق وغيره "أو صلحا؟ " أو بعضها صلحا والباقي عنوة؟ كما رواه مالك عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عند أبي داود، "وفي حديث عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة وفتح الهاء مصغرا، البناني بموحدة ونونين البصري، الثقة. المتوفى سنة ثلاثين ومائة. روى له الجميع "عن أنس" عند البخاري، وأبي داود، والنسائي "التصريح بأنه كان عنوة" ولفظه فأصبناها عنوة، "وبه جزم ابن عبد البر ورد على من قال: فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما" وهما الوطيح والسلالم "لتحقن دماؤهما وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى".

قال الحافظ: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمران: النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها وله الصفراء والبيضاء، والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا

الحديث وفي آخره: فسبى ذراريهم ونساءهم وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها

الحديث.

أخرجه أبو داود، والبيهقي وغيرهما ما فعل هذا كان قد وقع الصلح ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم من عليهم بترك القتل وأبقاهم عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، لذلك أجلاهم عمر، فلو كانوا صولحوا على أرضهم لم يجلوا منها، وقد احتج الطحاوي على أن بعضها صلحا بما أخرجه هو وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وقسم نصفها بين المسلمين، وهو حديث اختلف في وصله وإرساله وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا. انتهى.

لكن قال أبو عمر: هذا لو صح لكان معناه أن النصف له من سائر من وقع في ذلك النصف معه لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما، فوقع سهمه عليه السلام وطائفة معه في ثمانية عشر وسائر الناس في باقيها، وانتقده اليعمري بأن هذا تأويل ممكن لو احتمل الحديث هذ التفسير، والله أعلم.

ص: 300