الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
غزوة الخندق وهي الأحزاب
":
جمع حزب، أي: طائفة
فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره عليه الصلاة والسلام، ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس وكان الذي أشار به سلمان
غزوة الخندق وهي الأحزاب:
هذه الترجمة للبخاري
قال الحافظ: يعني أن لها اسمين وهو كما قال: والأحزاب "جمع حزب، أي: طائفة فأما تسميتها بالخندق" بفتح الخاء المعجمة وسكون النون، "فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة" في شاميها من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية "بأمره عليه الصلاة والسلام".
روى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني: أنه صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر الشيخين تثنية شيخ ضد شاب، وهما أطمان تثنية أطم بضمتين، طرف بني حارثة حتى بلغ المداحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا.
قال شيخنا: لعلها حاصلة من ضرب قدر من الطول في العرض، والحاصل في ذلك في العمق وليس المراد لكل عشرة أربعين طولا لزيادة ذلك على مسافة عرض المدينة بكثير لكثرة الصحابة الذين حفروا فيه، قلت: وفي رواية خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، "ولم يكن" كما أفاده السهيلي "اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس" وحروبها جمع مكيدة، أي: حيلها التي يتوصلون بها إلى مرادهم، "و" لذا "كان الذي أشار به سلمان" الفارسي.
قال ابن جرير: أول من اتخذ الخنادق موشهر بن أيرج، وإلى رأس ستين سنة من ملكه
فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين.
وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حزب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم
بعث موسى عليه السلام، وأول من فعل الكمائن في الحروب بختنصر انتهى من الروض، وتبعه العيون وهو بميم مفتوحة فواو فشين معجمة فهاء ساكنة فراء، وإيرج بهمزة في أوله مكسورة فتحتية فراء فجيم، كما في نسخة صحيحة من الروض والعيون قرئت على مصنفيهما.
"فقال" سلمان، كما ذكره أصحاب المغازي منهم، أبو معشر "يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفرة" حول المدينة "وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين"، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه وجاء المشركون فحاصروهم.
وذكر ابن سعد وغيره أنه لما تهيأت قريش للخروج، أتى ركب خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أربع ليال حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويحاربهم عليها؟، وفي طرقها، فأشار سلمان بالخندق، فأعجبهم وأحبوا الثبات بالمدينة وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالجد ووعدهم النصران إن هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة.
"وأما تسميتها بالأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود"، عد اليهود مشركين وإن كانوا أهل كتاب؛ لأنهم لما ظاهروهم وخالفوا ما يعلمونه من كتابهم المقتضي لمبادرتهم للإسلام، أفلا أقل من كف الأذى وترك القتال، كانوا كأنهم منهم أو ضمهم إليهم بالتبعية؛ لأن الجل مشركون، أو لأن المراد مطلق الكفار، كما هو المراد بهم إذا أفردوا، فإن جمعوا فعباد الأوثان، "ومن تبعهم" كبني سليم.
ذكر موسى بن عقبة في المغازي، قال: خرج حيي بن أخطب بعد بني النضير إلى مكة يحرض المشركين على حربه صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان، ويحرضهم على قتاله على أن لهم نصف تمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش، فنزلوا بمر الظهران فجاءهم من أجابهم من بني سليم مددا لهم، فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله الأحزاب.
وذكر الواقدي أنهم جعلوا لهم تمر خيبر سنة، ولعلهما كان قصدهما خروج حيي لمكة وكنانة لغطفان ابتداء ثم طرأ لهما الذهاب جملة لمكة، ثم لغطفان فلا ينافي رواية ابن إسحاق الآتية لذلك.
وقد أنزل الله تعالى في القصة صدرا من سورة الأحزاب.
واختلف في تاريخها: فقال موسى بن عقبة: كانت سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي.
ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه
"وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدرا" أي: جملة، "من سورة الأحزاب" من قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11]، إلى قوله:{قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] سميت صدرا لارتفاعها على غيرها من بقية السورة من حيث دلالتها على فضل المؤمنين، وثباتهم وخبث المنافقين وعنادهم.
وفي المصباح صدر المجلس مرتفعه.
"واختلف في تاريخها فقال موسى بن عقبة" في مغازيه التي شهد مالك والشافعي بأنها أصح المغازي "كانت سنة أربع".
قال الحافظ: وتابع على ذلك الإمام مالك أخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه.
"وقال ابن إسحاق:" كانت "في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي".
قال ابن القيم: وهو الأصح والذهبي هو المقطوع به، والحافظ هو المعتمد، انتهى غايته أن ابن سعد وشيخه قالا: كانت في ذي القعدة "ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة" فنقله عنه مقتصرا عليه، "وقواه بقول ابن عمر" الذي أخرجه أول أحاديث الباب عن نافع عنه بلفظ:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد".
قال الحافظ: عرض الجيش اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال للنظر في هيآتهم، وترتيب منازلهم وغير ذلك، "وهو ابن أربع عشرة" سنة.
وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم يأذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه".
وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم أذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه".
قال الحافظ: أي: أمضاه وأذن له في القتال.
وقال الكرماني: أجازه من الإجازة وهي للأنفال، أي: أسهم له، قلت: والأول أولى، ويرد
فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق في سنة أربع.
ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي.
وقال الشيخ ولي الدين بن العراقي: والمشهور أنها في السنة الرابعة.
وكان من حديث هذه الغزوة:
الثاني هنا أنه لم يكن في غزوة الخندق غنيمة يحصل منها نقل.
وفي حديث أبي واقد الليثي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد إلى الذراري، فهذا يوضح أن المراد بالإجازة الإمضاء للقتال؛ لأن ذلك كان في مبدأ الأمر قبل حصول الغنيمة، أن لو حصلت غنيمة ا. هـ.
وعلى هذا "فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث" باتفاق "فيكون الخندق في سنة أربع" كما قال ابن عقبة، "ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس"، كما جزم به أهل المغازي "لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي".
زاد الحافظ ويؤيد قول ابن إسحاق: أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر، فخرج صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إليها، فلم يأت أبو سفيان للجدب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان، أو دونها، ذكره ابن إسحاق وغيره، وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأحد في الثانية، والخندق في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، والخندق في الخامسة، وهو المعتمد، ا. هـ.
"و" لكن "قال الشيخ" الحافظ ابن الحافظ "ولي الدين بن العراقي المشهور: أنها" أي: الخندق، "في السنة الرابعة" حقيقة لمزيد إتقان القائلين بذلك كيف وهم موسى بن عقبة ومالك والبخاري، ولذا صححه النووي في الروضة.
"وكان من حديث" أي: سبب هذه الغزوة، "هذه الغزوة" كما رواه ابن إسحاق بأسانيد
أن نفرا من يهود خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن
كلها مرسلة، "أن نفرا من يهود" منهم سلام بن مشكم وابن أبي الحقيق وحيي وكنانة النضيريون وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان، "خرجوا" من خيبر "حتى قدموا على قريش مكة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله".
قال في رواية ابن إسحاق: فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه، قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى فيهم:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} فسر ذلك قريشا ونشطوا لما دعوهم إليه، "فاجتمعوا لذلك واتعدوا له" أي: تواعدوا على وقت يخرجون فيه، وفي نسخة: واستعدوا له، والأول هو الرواية في ابن إسحاق والمناسب لقوله، "ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان" بعين مهملة.
قال الجوهري: وليس في العرب عيلان غيره، وهو في الأصل اسم فرسه، ويقال هو لقب مضر؛ لأنه يقال قيس بن عيلان، "فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه".
قال الواقدي: وجعلوا لهم خيبر سنة إن هم نصروهم، "وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فخرجت قريش" في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة "وقائدها أبو سفيان بن حرب" المسلم في الفتح، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفا وخمسمائة بعير ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران في سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، قاله ابن سعد، وأسلم طليحة بعد ذلك.
"وخرجت غطفان وقائدها يينة بن حصن" بن حذيفة بن بدر الفزاري، "في فزارة" قبيلته،
في فزارة، والحارث بن عوف المري في مرة.
وكان عدتهم -فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة الآف، والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.
وكانو ألفا.
قال في الروض: سمي عيينه لشتر كان بعينيه واسمه حذيفة، وهو الذي قال في صلى الله عليه وسلم:"الأحمق المطاع" لأنه كان يتبعه عشرة الآف قناة.
وقال فيه أيضا: إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره.
وفي رواية: إني أداريه لأني أخشى أن يفسد علي خلقا كثيرا، وفيه بيان معنى الشر الذي أتقي منه، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فقال له:"أين الإذن"، قال:"ما استأذنت على مضري قبلك"، وقال:"ما هذه الحميراء معك"؟ قال: "عائشة بنت أبي بكر"، فقال:"طلقها"، وأنزل لك عن أم البنين في أمور كثيرة من جفائه أسلم، ثم ارتد وآمن بطليحة حتى تنبأ، وأخذ أسيرا، فأتي به للصديق، فمن عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات.
قال الشاعر:
وإني على ما كان من عنجهيتي
…
ولوثة أعرابيتي لأديب
ا. هـ.
"والحارث بن عوف المري" بضم الميم وشد الراء، أسلم بعد تبوك في وفد قومه بني مرة، وكانوا ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث أحد الفرسان المشهورين "في" بني "مرة" وكانوا أربعمائة.
زاد ابن سعد: وخرجت أشجع، وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء، وأسلم بعد وخرج معهم غيرهم.
قال: وقد روى الزهري: أن الحارث بن عوف رجع ببني مرة، فلم يشهد الخندق منهم أحد، وكذلك روت بنو مرة والأول أثبت ا. هـ.
"وكان عدتهم فيما ذكره ابن إسحاق" بأسانيده، وابن سعد "عشرة الآف".
قال ابن سعد: وكانوا ثلاثة عساكر، وعاج الأمر إلى أبي سفيان، قالا أيضا:"والمسلمون ثلاثة آلاف".
قال الشامي: وهو الصحيح المشهور "وقيل غير ذلك".
قال في الفتح: وقيل: كان المشركون أربعة آلاف، والمسلمون نحو الألف.
ونقل ابن القيم في الهدى عن ابن إسحاق أن المسلمين كانوا سبعمائة. قال: وهذا غلط
وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب، ما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه عليه الصلاة والسلام ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا.
وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل
من خروجه يوم أحد.
قال الشامي: ولا دليل في قول جابر في قصة الطعام، وكانوا ألفا؛ لأنه أراد الآكلين فقط لا عدة من حضر الخندق ا. هـ. وقيل: كان المشركون خمسة عشر ألفا، كذا حكاه في النهر.
قال ابنا سعد وهشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
"وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين سنة وثلاثون فرسا، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب وما أجمعوا عليه من الأمر" الذي زعموه، وهو استئصال المسلمين "ضرب على المسلمين الخندق"، أي: جعل على كل عشرة أربعين ذراعا كما مر، وكان الخندق بسطة أو نحوها، "فعمل فيه عليه الصلاة والسلام" بنفسه "ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فدأب ودأبوا" جدوا وتعبوا، حتى كان سلمان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه قيس بن صعصعة، أي: أصابه بالعين فلبط، بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة، أي: صرع فجأة من عين، أو علة وهو ملتو، فقال صلى الله عليه وسلم:"مروه فليتوضأ وليغتسل به سلمان وليكفئ الإناء خلفه" ففعل، فكأنما حل من عقال.
وعند الطبراني: وت نافس المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا. فقال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" بنصب أهل على الاختصاص، أو على إضمار، أعني وأما الخفض على البدل فلم يجزه سيبويه من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب؛ لأنه في غاية البيان، وأجازه الأخفش، قاله السهيلي.
"وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك" أي: تأخر عن العمل معهم، "ناس من المنافقين" وهذا كالاستثناء من دأب ودأبوا، كأنه قال: إلا المنافقين وإنما أخرجوا؛ لأنهم مسلمون ظاهرا، "وجعلوا يورون بالضعف عن العمل" أي: يخفون مقصودهم من خذلان المسلمين بإظهار الضعف.
ففي القاموس وراه تورية أخفاه كواراه أو يتعللون به سماه تورية، لإظهارهم خلاف
وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار".
والأكتاد: بالمثناة الفوقية- جمع كتد -بفتح أله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بالموحدة، وهي موجه على أن المراد به مما يلي الكبد من الجنب.
قصدهم من عدم إعانة المسلمين وخذلانهم، وأبرزوه في صورة الضعف، لكن حيث صح المعنى اللغوي بالحقيقة، فلا معدل عنه للمجاز.
"وفي البخاري" ثاني حديث في هذا الباب. "عن سهل بن سعد" الساعدي "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون" بكسر الفاء "ونحن ننقل التراب على أكتادنا" بالتاء والباء.
وفي حديث أنس: على متونهم كما عند البخاري.
ق ال الحافظ: ووهم ابن التين فعزا هذه اللفظة لحديث سهل.
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله لا عيش" دائم "إلا عيش الآخرة".
قال الداودي: إنما قال ابن رواحة: لا هم إن العيش بلا ألف ولام، فأورده بعض الرواة على المعنى.
قال الحافظ: وحمله على ذلك ظنه أنه يصير بالألف واللام غير موزون، وليس كذلك بل يكون دخله الجزم، ومن صوره زيادة شيء من حروف المعاني في أول الجزء "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وفي حديث أنس بعده، " فاغفر للأنصار والمهاجرة".
قال الحافظ: وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك، ولعل أصله فاغفر للأنصار وللمهاجرة بتسهيل همزة الأنصار، وباللام في المهاجرة، وفي الرواية الأخرى فبارك بدل فاغفر، "والأكتاد بالمثناة الفوقية، جمع كتد، بفتح أوله وكسر المثناة".
زاد المصباح وفتحها "ما بين الكاهل" كصاحب الحارك، أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الأعلى، وفيه ست فقرات، أو ما بين الكتفين، أو موصل العنق في الصلب، كما في القاموس "إلى الظهر".
وقال ابن السكيت: الكتد مجتمع الكتفين، وحاصل المعنى أنهم كانوا يحملون على أكتافهم أعالي ظهورهم، "وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بموحدة، وهو موجه على أن المرد به ما يلي الكبد من الجنب" لاستحالة الحقيقة.
وفي البخاري أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
"اللهم إن العيش عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الجهاد ما بقينا أبدا
قال ابن بطال: وقوله: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، هو من قول ابن رواحة تمثل به عليه الصلاة والسلام
"وفي البخاري أيضا" ثالث حديث في الباب عن حميد، "عن أنس": خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، "فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم".
قال الحافظ: أي: إنهم عملوا فيه بأنفسهم لاحتياجهم إلى ذلك لا مجرد الرغبة في الأجر، "فلما رأى ما بهم من النصب" بفتح النون والصاد التعب "والجوع".
"قال:" وفي رواية أبي الوقت فقال: والأولى أولى؛ لأن جواب لما لا يقترن بالفاء "صلى الله عليه وسلم" وفي هذا كما قال الفتح بيان سبب قوله: "اللهم إن العيش" المعتبر الدائم "عيش الآخرة " لا عيش الدنيا لكدورته، وكونه مع المنغصات التي لا تتناهى، ثم بعد هو فإن وإن طال قل متاع الدنيا قليل، هكذا رواية أنس في الصحيح كما سقته. ومت رواية سهل لا عيش إلا عيش الآخرة، وما يقع في نسخ من جعله كذلك في خبر أنس مخالف للبخاري. "فاغفر للأنصار والمهاجرة" بكسر الجيم وسكون الهاء، "فقالوا": أي الطائفتان حال كونهم، "مجيبين له نحن الذين بايعوا" صفة الذين لا صفة نحن، قاله الفتح "محمدا على الجهاد".
وفي رواية عبد العزيز، عن أنس عند البخاري على الإسلام بدل الجهاد، والأول أثبت، قاله الحافظ. "ما بقينا أبدا. قال ابن بطال وقوله: اللهم لا عيش إلى عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة" عبد الله الصحابي الشهير "تمثل به عليه الصلاة والسلام" قال: ولو لم يكن من لفظه لم يكن بذلك شاعرا، قال: وإنما يسمى شاعرا من قصده، وعلم السبب والوتد، وجميع معايبه من الزحاف ونحو ذلك، قال الحافظ كذا، قال: وعلم الوتد إلخ، إنما تلقوه من العروض التي اخترع ترتيبها الخليل بن أحمد وقد كان من شعراء الجاهلية والمخضرمين والطبقة الأولى والثانية من شعراء الإسلام قبل أن يضعه الخليل، كما قال أبو العتاهية، أن أقدم من العروض، يعني أنه نظم
وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زيادة في آخر الرجز:
والعن عضلا والقارة
…
هم كلفونا ننقل الحجارة
وفي البخاري من حديث البراء قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه،
الشعر قبل وضعه:
وقال أبو عبد الله بن الحجاج الكاتب:
قد كان شعر الورى قديما
…
من قبل أن يخلق الخليل
ا. هـ.
"وعند الحارث" بن محمد "بن أبي أسامة" داهر الحافظ المشهور، "من مرسل طاوس" بن كيسان اليماني الفارسي تابعي ثقة، فقيه، كثير الحديث. يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب. مات سنة ست ومائة، وقيل بعدها "زيادة في آخر" هذا "الرجز" هي:
والعن عضلا والقاره
…
هم كلفونا ننقل الحجاره
قال الحافظ: والأول غير موزون أيضا، ولعله والعن الهي عضلا والقارة.
وفي رواية عبد العزيز عن أنس عند البخاري: وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الإسلام ما بقينا أبدا
يقول صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجره".
قال الحافظ: ولا أثر للتقديم والتأخير فيه؛ لأنه يحمل على أنه كان يقول إذا قالوا ويقولون إذا قال، يعني يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى، قال: وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب، وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز.
"وفي البخاري" من طريقين ذكر المصنف الثانية "من حديث البراء" بن عازب، "قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى" أخفى، "عني الغبار" لتراكمه، "جلدة بطنه".
وفي الطريق الأولى حتى أغمر أو اغبر بطنه بالشك، وغين معجمة فيهما، فإما بالموحدة فواضح، وإما بالميم.
فقال الخطابي: إن كانت محفوظة فمعناها وارى التراب جلدة بطنه، أي: فبطنه بالنصب، ومنه غمار الناس وهو جمعهم إذا تكاثف، ودخل بعضهم في بعض.
قال: وروي اعفر بمهملة وفاء، والعفر بالتحريك التراب.
وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد رغبوا علينا
قال عياض: وقع للأكثر بمهملة وفاء وبمعجمة وموحدة، فمنهم من ضبطه بنصب بطنه، ومنهم من ضبطه برفعها.
وعند النسفي حتى غبر بطنه، أو أغبر بمعجمة فيهما وموحدة.
ولأبي ذر وأبي زيد: حتى أغمر. قال: ولا وجه لها إلا أن تكون بمعنى ستر، كما في الرواية الأخرى حتى وارى عني التراب جلدة بطنه.
قال: وأوجه هذه الروايات اغبر بمعجمة وموحدة، ورفع بطنه.
"وكان كثير الشعر" بفتحتين، أي: شعر بطنه، وفي حديث أم سلمة عند أحمد بسند صحيح كان صلى الله عليه وسلم يعاطيهم اللبن يوم الخندق، وقد أغبر شعر صدره، وظاهره أنه كان كثير شعر الصدر، وليس كذلك فإن في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق المسربة، أي: الشعر، الذي في الصدر إلى البط، فيمكن أن يجمع بأنه كان مع دقته كثيرا، أي: لم يكن منتشرا بل كان مستطيلا، والله أعلم انتهى كله من الفتح. "فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب ويقول: اللهم" وفي الطريق الأولى والله، "لولا أنت ما اهتدينا" وعلى الطريق الأولى وهو موزون، وأما الثانية فقال الزركشي: صوابه في الوزن لا هم، أو تالله لولا أنت، قال الدماميني: هذا عجيب، فإنه صلى الله عليه وسلم هو المتمثل بهذا الكلام والوزن لا يجري على لسانه الشريف غالبا. قلت: إنما قال صوابه في الوزن، ولا عجب في ذلك أصلا. "ولا تصدقنا" ولفظ أبي يعلى: اللهم لولا أنت، وقال بدل تصدقنا صمنا كذا في الشامية، ومراده أنه ذكره بإحدى روايتي الصحيح في أوله، وأبدل تصدقنا بصمنا كما هو ظاهر جدا، إلا أنه انفرد عن البخاري بلفظ: اللهم لولا أنت، كما توهم فإنه فاسد لثبوتها في البخاري "ولا صلينا فأنزلن" بنون التوكيد الخفيفة "سكينة" بالتنكير، أي: وقارا، "علينا" هكذا رواية البخاري في المغازي من الطريقين، وله في الجهاد: فأنزل السكينة علينا، وللحموي والمستملي: فأنزل سكينة، وللكشميهني كما هنا، "وثبت" قوّ "الأقدام إن لاقينا" العدو "إن الأولى" هو من الألفاظ الموصولات، لا من أسماء الإشارة جمعا للمذكر، "قد رغبوا" بغين معجمة، العدو "علينا" أي: على قتالنا.
قال الحافظ: كذا للسرخسي، والكشميهني، وأبي الوقت، والأصيلي، وابن عساكر وللباقين قد بغوا كالأولى، لكن الأصيلي ضبطها بالعين المهملة الثقيلة والموحدة، وضبطها في
إذا أرادوا فتنة أبينا
قال: ويمد بها صوته
…
وفي روية له أيضا:
إن الأولى بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أنه صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق قال:
بسم الإله وبه بدينا
…
ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا و..............
المطالع بالغين المعجمة، وكذا ضبطت في رواية أبي الوقت لكن بزاي أوله، والمشهور ما في المطالع ا. هـ، وعلى خلاف المشهور، وهو الإهمال فتشديد رعبوا للمبالغة، أي: رعبوا المسلمين بتحزبهم علينا، فلا حاجة إلى أنه ضمنه معنى جمعوا، فعداه بعلي مع أنه يتعدى بنفسه وبالهمزة، "إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة، الفرار، كما رجحه عياض وبالفوقية، أي: جئنا وأقدمنا على عدونا، وتتمة حديث البراء من هذا الطريق لفظها "قال:" ثم يمد صوته بآخرها.
قال المصنف كالحافظ، أي: بقوله: أبينا، ولفظه في الطريق الأولى ورفع صوته أبينا أبينا، وكان المصنف ذكر حاصل معنى الروايتين بقوله:"ويمد بها صوته" أي: باللفظة الأخيرة لا بالجميع.
"وفي رواية له" للبخاري "أيضا" في الطريق الأولى: "إن الأولى بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
قال الحافظ: ليس بموزون وتحريره إن الذين قد بغوا علينا، فذكر الراوي الأولى بعنى الذين وحذف قد وزعم ابن التين أن المحذوف هم وقد والأصل أن الأولى هم قد بغوا علينا وهو يتزن بما قال لكن لم يتعين، وذكر بعض الرواة في مسلم أبوا بدل بغوا، ومعناه صحيح، أي: أبوا أن يدخلوا في ديننا.
"وفي حديث" الحارث بن أبي أسامة من طريق "سليمان" بن طرخان "التيمي" أبي المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم الثقة العابد، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو ابن سبع وتسعين سنة. روى له الجميع "عن أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل، بميم مثلثة ولام ثقيلة "النهدي" بفتح النون وسكون الهاء، ثقة عابد مخضرم، مات سنة خمس وتسعين، وقيل بعدها وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر.
روى له الستة وهو مرسل، وقد أخرجه البيهقي موصولا عن سلمان "أنه صلى الله عليه وسلم حين ضرب في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا" لا بحولنا وقوتنا، "ولو عبدنا غيره شقينا، حبذا ربا" هو
.............حبذا دينا
قال في النهاية: يقال بديت بالشيء -بكسر الدال- أي: بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء. ا. هـ.
وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام. منها ما في الصحاح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة -وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة-.........
"وحبذا دينا" ديننا، وهذا غير موزون، ويتزن بإسكان باء حبذا، الثانية لكن الذي في الفتح عن رواية النهدي هذه حبذا ربا حبذ دينا بإسقاط ذا الثانية وهذا موزون.
"قال في النهاية يقال: بديت بالشيء بكسر الدال، أي: بدأت به، فلما خفف الهمز كسر الدال فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء" أي: ليس فيه أصلية، "انتهى".
قال شيخنا: يرد عليه أن الدال مكسورة قبل التخفيف، إذ الظاهر من قوله بديت أن كسره أصلي غايته أن مكسور الدال بمعنى مفتوحها، اللهم إلا أن يقال المراد إن مكسور الدال أصله الفتح فقلبت الهمزة ياء، ثم كسرت الدال لمناسبة الياء، "وقد وقع في حفر الخندق آيات" علامات "من أعلام" جمع علم، وهو العلامة وجمعها علامات فكأنه قال وقع علامات هي بعض علامات "نبوته عليه الصلاة والسلام" وتفنن فعبر أولا بالآيات، وثانيا بإعلام "منها ما في الصحاح" البخاري وغيره.
"عن جابر قال: إنا" بتشديد النون "يوم الخندق" ظرف لقوله: "نحفر" أي: كنا في وقت حفرنا مشغولين به.
وفي رواية الإسماعيلي: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر "فعرضت" أي: ظهرت، "كدية شديدة، وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة" من الأرض لا يعمل فيها المعول، وبهذه الرواية صدر المصنف في شرح البخاري، وعزاها الحافظ لرواية الإسماعيلي وأحمد وصدر بقوله كيدة كذا لأبي ذر بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض.
وقال عياض: كأن المراد أنها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللأصيلي عن الجرجاني كندة بالنون. وعند ابن السكن: كتدة بفوقية.
قال عياض: لا أعرف لهما معنى ا. هـ.
وحكى الأنصاري كبدة بفتح الكاف، وسكون الموحدة انتهى فهي خمسة.
فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم.
كذا بالشك من الراوي، وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك،
وفي شرح المصنف عن الفتح: أن رواية الجرجاني بفتح الكاف والموحدة، أي: قطعة صلبة من الأرض لكن الذي في الفتح كما رأيت بالنون، "فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق".
وفي رواية الإسماعيلي فقال: رشوها بالماء، فرشوها "فقام وبطنه معصوب بحجر" زاد في رواية من الجوع، ولأحمد أصابهم جهد شديد حتى ربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع.
قال الحافظ: وفائدة ربطه على البطن أنها تضمر من الجوع، فيخشى على انحناء الصلب بواسطة ذلك، فإذا وضع فوقها الحجر وشد عليها العصابة استقام الظهر.
وقال الكرماني: لعله لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء، لئلا يتحلل شيء مما في البطن، فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل، "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا" بفتح الذال المعجمة، أي: شيئا.
قال الحافظ وهي جملة معترضة أوردها لبيان السبب في ربطه صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه..
وزاد الإسماعيلي: ولا نطعم شيئا، ولا نقدر عليه ا. هـ.
قال شيخنا: أو لبيان اجتهاد الصحابة ومبالغتهم في امتثال أمره، وإن كانوا على غاية من الجهد وتوطئة لصنع جابر للطعام.
"فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو بعدها لام، أي: المسحاة.
وفي رواية أحمد: فأخذ المعول، أو المسحاة بالشك أي: في اللفظ الذي قاله وإن اتحدا معنى "فضرب" في رواية الإسماعيلي، ثم سمي ثلاثا، ثم ضرب "فعاد" المضروب "كثيبا" بمثلثة، أي: رملا "أهيل" بفتح الهمزة والتحتية بينهما هاء ساكنة آخره لام.
وعند ابن إسحاق بلاغا عن جابر أنه دعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق لاهالت حتى عادت مثل الكثيب، لا ترد فاسا ولا مسحاة "أو أهيم" بالميم بدل اللام، "كذا بالشك من الراوي" ولم يعينه الحافظ ولا غيره.
"وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك" كما في الفتح. قال: وكذا عند يونس.
والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك.
وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] المراد: الرمال التي لا يرويها الماء.
وقد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول
وفي رواية أحمد كثيبا يهال، "والمعنى أنه صار رملا يسيل، ولا يتماسك" قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} الآية، أي: رملا سائلا، "و" أما "أهيم" بالميم، فقال عياض: ضبطها بعضهم بالمثلثة، وبعضهم بالمثناة، وهي "بمعنى أهيل" باللام، ووقع للمصنف في شرح البخاري أن رواية الإسماعيلي بالميم، فكأنه سبق قلم، فما بعد هذا البيان من الحافظ بيان، "وقد قيل في قوله تعالى:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} المراد الرمال التي لا يرويها الماء" أي: لا يظهر أثره فيها لكثرتها شبه ظهور الماء، بزوال العطش الذي هو الري، واستعير له اسمه، ثم اشتق منه الفعل على أنه جمع هيام بالفتح كسحاب، فخفف بنقل حركة الياء إلى الهاء بعد سلب حركتها، أو حذفت ضمتها بلا نقل، ثم قلبت كسرة لتسلم الياء، فصار هيم كما أشار إليه البيضاوي، وصدر بأن المراد الإبل التي بها الهيام، أي: بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء جمع أهيم وهيماء.
قال ذو الرمة:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد
…
صداها ولا يقضي عليها هيامها
ا. هـ.
وما أفاده من اختلاف مفرده بالمعنيين قد ينافي ما يشعر المصنف من ن أهيم يجمع على هيم، فلا يختص بالإبل اللهم إلا أن يكون إذا وصف به الكثيب جمع على هيم، ولا يطلق إلا هيم على الرمل بل الهيام، وإذا جمع قيل هيم، و"قد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء" بن عازب "قال: لما كان" تامة وفاعلها "حين" بالبناء على الفتح لإضافته إلى الجملة الماضوية في قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو الأكثر لإضافته إلى مبني، ويجوز فيه الإعراب أو كان ناقصة، أي: عملنا في الخندق حاصلا حين أمرنا "بحفر الخندق"، وجواب لما هو قوله: "عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول" جمع معول، وهو الفأس العظيمة التي ينقر بها قوي الصخر، كما في الجوهري. وقول شيخنا
فاشتكينا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة وقال بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.
جوابها محذوف، أي: لما كان زمن أمره بالحفر حفرنا؛ لأن نسخته فعرضت بالفاء لكن الثابت في النسخ الصحيحة، وهو الذي رأيته في الفتح في نسختين صحيحتين عرضت بدون فاء فهي الجواب على أنه قد يقترن بالفاء جواب لما، فلا حاجة للتقدير، "فاشتكينا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء وأخذ المعول" من سلمان "فقال: بسم الله، ثم ضربه فنشر" بشين معجمة قطع، والذي في الفتح فكسر "ثلثها" بالمعول. وفي رواية: فخرج نور أضاء ما بين لابتي المدينة، "وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة" من مكاني" "ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر".
زاد في رواية: فبرقت برقة من جهة فارس أضاء ما بين لابتيها، "فقال:"الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن" مدائن كسرى "الأبيض" لعل المراد به قصر كسرى المعد له "الآن".
وفي رواية: والله إني لأبصر قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا بالنصر، فسر المسلمون، "ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر".
زاد في رواية فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كان مصباحا في جوف ليل مظلم، "فقال:" الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة" " وهذا الحديث الحسن لا يعارضه رواية ابن إسحاق بلفظ عن سلمان فذكره، وفيه أما الأولى فإن الله فتح بها على اليمن، والثانية الشام والمغرب، والثالثة المشرق فارس؛ لأنه منقطع، فلا يعارض المسند المرفوع الحسن، ومن ثم لم يلتفت الحافظ لرواية ابن إسحاق وإن تبعه عليها اليعمري وغيره، بل اقتصر على هذا الحديث وأيده، بأن طرقه تعددت بقوله عقبه، وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر ونحوه، وأخرجه البيهقي مطولا من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده.
وفي رواية: خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، وفيه فمرت بنا صخرة بيضاء
ومن أعلام نبوته ما ثبت في الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام والقليل يوم حفر الخندق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره.
وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة.
وعند الواقدي: أربعا وعشرين.
وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما.
وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا.
كسرت معاويلنا، فأردنا أن نعدل عنها ثم قلنا حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنا إليه سلمان، وفيه فضرب ضربة صدع الصخرة، وبرق منها برقة، فكبر وكبر المسلمون، وفيه رأيناك تكبر فكبرنا بتكبيرك قال:"إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم"، وفي آخره ففرح المسلمون واستبشروا، وأخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاصي بنحوه ا. هـ.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
"ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيح من حديث جابر" المتقدم أوله في حديث الكدية "من تكثير الطعام القليل" وهو صاع من شعير وعنز صغير "يوم حفر الخندق" فجاء بالقوم وهم ألف، فبصق في العجين والبرمة. قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه، وإن برمتنا كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره".
ومنها خبر الحفنة من التمر التي جاءت بها ابنة بشير بن سعد، أخت النعمان لأبيها وخالها ابن رواحة ليتغديا به، فقال لها صلى الله عليه وسلم:"هاتيه فصبته في كفيه" فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم قال لإنسان:"اصرخ في أهل الخندق، أن هلموا إلى الغداء"، فاجتمعوا عليه فجعلوا يأكلون، وجعل يزيد حتى صدروا عنه، وإنه ليسقط من أطرا الثوب رواه ابن إسحاق، "وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق" أي: مدة حفره، "قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي: أربعا وعشرين" وعند ابن سعد: ستة أيام. قال السمهودي، وهو المعروف.
"وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما، وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا"
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة.
ونزل عيينة بن حصن في غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد.
كذا قاله المصنف تبعا للفتح حرفا بحرف، ورد ذلك الشريف السمهوري، بأن الذي في الروضة، والهدي ومغازي ابن عقبة، إنما هو في مدة الحصار، لا في عمل الخندق، ثم استدرك على الرد بأن ابن سيد الناس بعد نقله عن ابن سعد، أنه كمل في ستة أيام. قال وغيره يقول بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعا وعشرين ا. هـ، وليست بواثق من هذا التعقب، فإن الحافظ نقل أولا عن ابن عقبة، أن مدة الحصار عشرون يوما، ثم بعد قليل ذكر هذا الخلاف في مدة الحفر، وتوهيم مثله بمجرد نسخ قد يكون سقط منها أحد الموضعين، لا ينبغي فإنه لا يجازف في النقل.
قال ابن إسحاق: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من: حفر "الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع" بضم الميم الأولى، وسكون الجيم، وفتح الفوقية والميم الثانية، أي: الموضع الذي تجتمع فيه "السيول" جمع سيل، كما في القاموس وغيره، ويجمع أيضا على أسيال.
وفي ابن إسحاق على أسيال من رومة بين الجرف وزغابة.
قال السهيلي: بزاي مفتوحة وغين منقوطة، وقيل: بضم الراء وعين مهملة اسم موضع ذكرهما البكري، مقدما الثاني
وحكي عن الطبري، أنه قال في هذا الحديث: بين الجرف والغابة، واختار هذه الرواية، وقال: لأن زغابة لا تعرف وإلا عرف عندي رواية الغين المنقوطة
لحديث: ألا تعجبون لهذا الأعرابي، أهدى إلي ناقتي أعرفها بعينها ذهبت مني يوم زغابة، وقد كافأته بست فيسخط ا. هـ، وتحققت ووجدت جملة قريش، ومن معهم "في عشرة آلاف" منهم، "ومن أحابيشهم" فهو ظرف لمقدر لا لقريش، وإلا لاقتضى أنهم ليسوا من العشرة والجار والمجرور عطف على محذوف مع حذف العاطف، حتى لا يقتضي ذلك أيضا، مع أن الجميع عند ابن إسحاق الذي هذا كلامه عشرة آلاف فقط، ثم الأحابيش الحلفاء من التحبيش التجميع لتجمعهم على أنهم يد واحدة، أو لتحالفهم بذنبة حبشي جبل بأسفل مكة، أو واديها كما مر في أحد، "ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، ونزل عيينة بن حصن في" على بابها، أو بمعنى مع "غطفان، ومن تبعهم من أهل نجد".
قال ابن إسحاق: بذنب نقمي، "إلى جانب أحد" ونقمي بفتح النون، والقاف وفتح الميم مقصور.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذراري من بني قريظة.
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال: ويحك افتح لي، ولم يزل، به حتى فتح له
قال الصغاني: موضع من أعراض المدينة ذكره البرهان.
"وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع" بفتح السين المهملة، وسكون اللام وبالعين المهملة، جبل بالمدينة "وكانوا ثلاثة آلاف رجل".
قال الشافعي: ووهم من قال كانوا سبعمائة، "فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم".
قال ابن هشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، "وكان" كما ذكر ابن سعد "لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة".
قال ابن سعد: كان يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير "خوفا على الذراري من بني قريظة" زاد غيره فإذا أصبحوا أمنوا.
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب" فسار "حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم"، تفسيري، "وكان وادع" صالح "رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال" بعدما ناداه حيي: ويحك يا كعب، "ويحك يا حيي"، كلمة ترحم وتوجع، والمراد أمره بالانصراف عنه، كأنه قال: اذهب عني "إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أرم من إلا وفاء وصدقا فقال: ويحك افتح لي" أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، "ولم يزل به حتى فتح له"، ذلك أنه نسبه إلى البخل بالطعام، والله إني أغلقت دوني إلا تخوفا على
فقال: ويلك يا كعب جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان
جشيشتك أن آكل معك منها، ففتح له "فقال: ويلك" كلمة تقال لمن وقع في هلاك يستحقه، والمعنى وقعت في الهلاك إن لم توافقني، "يا كعب جئتك بعز الدهر" أي: بسبب عز مدته وبينه بقوله، "جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال" جمع سيل، "ومن دونه" أي: منزل قريش "غطفان، وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا، حتى نستأصل محمدًا ومن معه" فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه يرعد، ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي دعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمدًا إلا صدقا ووفاء، "ولم يزل به" يفتله في الذروة والغارب.
قال في الروض: هو مثل أصله البعير، يستصعب عليك، فتأخذ القراد من ذروته، وغارب سنامه فيجد لذة، فيأنس عند ذلك، فضرب مثلا في المراوضة. قال الحطيئة:
لعمرك ما قراد بني بغيض
…
إذا نزع القراد بمستطاع
"حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأعطاه عهدا على أنه إن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك يصيبني ما أصابك.
"وعن عبد الله بن الزبير" الصحابي أمير المؤمنين ابن الصحابي الحواري "قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمر" بضم العين "ابن أبي سلمة" بن عبد الأسد القرشي المخزومي الصحابي ابن الصحابي ربيبه صلى الله عليه وسلم أمه أم سلمة "مع النساء" يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم "في أطم" بضمتين حصن مبني بالحجارة "حسان" بن ثابت أضيف إليه لكونه فيه مع النساء، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية في الأطم الذي فيه النسوة.
قال ابن الكلبي: كان حسان لسا شجاعا فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان لا ينظر إلى قتال ولا يشهده.
وأخرج ابن إسحاق من مرسل يحيى بن عباد، عن أبيه، والطبراني برجال الصحيح من مرسل عروة، وأبو يعلى والبزار بإسناد حسن عن الزبير بن العوام قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال: أرأيتني يا بني قلت: نعم
إلى الخندق جعل نساءه وعمته صفية في حصن، ومعهم حسان فأقبل عشرة من اليهود، فجعلوا يرمون الحصن، ودنا أحدهم إلى بابه، وجعل يطيف به.
قالت صفية: وقد حاربت قريظة، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم، فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي، كما ترى ولا آمنه أن يدل على عوراتنا، فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، ولو كان في لخرجت مع رسول الله، قالت: فلم لم أر عنده شيئا أخذت عمودا، ثم نزلت فضربته به ضربة شدخت رأسه، حتى قتلته، ورجعت فقلت: يا حسان اسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه، إلا أنه رجل قال ما لي بسلبه من حاجة، فقلت: خذ الرأس وارم به إلى اليهود، قال: ما ذاك في، قالت: فأخذت الرأس فرميت به على اليهود، فقالوا: قد علمنا أن محمدًا لم يترك أهله خلوا ليس معهم أحد فتفرقوا.
زاد أبو يعلى، فأخبر بذلك صلى الله عليه وسلم فضرب لها بسهم كالرجال، أي: من غنائم قريظة.
قال في الروض: محمل هذا الحديث على أن حسان كان جبانا شديد الجبن، وأنكره بعض العلماء منهم ابن عبد البر في الدرر؛ لأنه حديث منقطع الإسناد، ولو صح لهجي به حسان، فإنه كا يهاجي الشعراء كطرار وابن الزهراء، وكانوا يناقضونه، ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن، ولا وسمه به، فدل ذلك على ضعف حديث ابن إسحاق وإن صح فالأولى أنه كان معتلا ذلك اليوم بعلة تمنعه شهود القتال ا. هـ.
وإنما كان أولى لأن ابن إسحاق لم ينفرد به، بل جاء بسند حسن متصل، كما علم فاعتضد حديثه، وقد قال ابن السراج: سكوت الشعراء عن تعبيره بذلك من أعلام النبوة؛ لأنه شاعره صلى الله عليه وسلم وفي مسلم وكان، أي: عمر، يطأطئ لي مرة فأنظر، وأطأطئ له مرة، فينظر فكنت أعرف أبي إذا مر على فرسه في السلاح "فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة" أي: يذهب ويجيء، "مرتين أو ثلاثا".
قال المصنف بالشك، كذا بإثبات مرتين أو ثلاثا في كل ما وقفت عليه من الأصول، وعزاه الحافظ ابن حجر، وتبعه العيني لرواية الإسماعيلي من طريق أبي أسامة لا يقال مراد الحافظ زيادة لك عند الإسماعيلي على رواية البخاري بعد قوله يختلف؛ لأنه ذكر ذلك عقب قوله إلى بني قريظة، "فلما رجعت" من أطم حسان إلى منزلنا، "قلت: يا أبت رأيتك تختلف" تجيء وتذهب إلى بني قريظة "قال" مستفهما بالهمز استفهام تقرير: "أرأيتني يا بني؟ قلت:
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه في الفداء فقال:"فداك أبي وأمي". أخرجه الشيخان والترمذي وقال: حديث حسن.
وفي رواية أصحاب المغازي: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر،
نعم" رأيتك "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأت بني قريظة، فيأتيني بخبرهم" بتحتية ساكنة بعد الفوقية، ولأبي ذر عن الكشميهني، فيأتني بحذفها، "فانطلقت" إليهم، "فلما رجعت" بخبرهم "جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه في الفداء" تعظيما لي وإعلاء لقدري، فإن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل له نفسه، "فقال: فداك أبي وأمي" لا يعارضه قول على ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لغير سعد بن مالك؛ لأن مراده بقيد يوم أحد أو تفدية خاصة كما مر.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث صحة سماع الصغير، وأنه لا يتوقف على أربع، أو خمس؛ لأن ابن الزبير كان ابن سنتين وأشهر، أو ثلاث وأشهر بحسب الاختلاف في وقت مولده.
وفي تاريخ الخندق فإن قلنا: إنه ولد في أول سنة الهجرة، والخندق سنة خمس فيكون ابن أربع وأشهر، وإن عجلنا إحداهما وأخرنا الأخرى فيكون ابن ثلاث سنين وأشهر، "أخرجه الشيخان والترمذي، وقال: حديث حسن" من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير.
قال الحافظ: وبين مسلم أن في هذه الرواية أدراجا، فساقه من رواية علي بن مسهر إلى قوله إلى بني قريظة.
ثم قال: قال هشام، وأخبرني عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزبير، قال فذكرت ذلك لأبي، إلخ الحديث ثم ساقه من طريق أبي أسامة عن هشام، فساق الحديث نحوه، ولم يذكر عبد الله بن عروة، ولكن أدرج القصة في حديث هشام عن أبيه، ويؤيده أن النسائي أخرج القصة الأخيرة من طريق عبدة عن هشام، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، والله أعلم.
"وفي رواية أصحاب المغازي فلما انتهى الخبر" أي: خبر نقض قريظة العهد، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومعهما ابن رواحة وخوات" بفتح الخاء المعجمة، وشد الواو فألف ففوقية "ابن جبير" الأنصاري الأوسي، شهد بدرا والمشاهد كلها.
زاد الواقدي وأسيد بن الحضير "ليعرفوا الخبر".
فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، قالوا من رسول الله وتبرءوا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة، أي: كغدرهما بأصحاب الربيع.
فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.
وعند ابن إسحاق فقال: انطلقوا لتنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟، فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا فاجهروا به للناس.
قال في الروض: اللحن العدول بالكلام على الوجه المعروف عند الناس إلي وجه لا يعرفه إلا صاحبه، كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول على الصواب المعروف، وتفتوا بضم الفاء وشد الفوقية.
قال في الروض: أي تكسروا من قوتهم، وتوهنوهم وضرب العضد مثلا، وقال في أعضاد ولم يقل أعضاء؛ لأنه كناية عن الرعب الداخل في القلب، ولم يرد كسرا حقيقيا، ولا العضد الذي هو العضو، وإنما هو عبارة عما يدخل في القلب من الوهن، وهو من أفصح الكلام، فخرجوا حتى أتوهم، "فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، قالوا من رسول الله" فتكلموا فيه بما لا يليق، وقالوا من رسول الله "وتبرءوا من عقده وعهده" فقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، "ثم أقبل السعدان، ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم،" فلحنوا له كما أمرهم، "وقالوا: عضل والقارة أي:" غدرروا "كغدرهما بأصحاب الربيع" خبيب وأصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين"، كذا في ابن إسحاق، ثم رواية أصحاب المغازي هذه لا تنافي رواية الصحيح التي قبلها أنه أرسل الجميع دفعة، أو بعد إرسال الزبير لاحتمال أن يرجعوا إلى العهد بعد نقضه حياء من حلفائهم؛ لأنهم كانوا حلفاء الأوس، وقد أرسل إليهم سيدهم فغلبت عليهم الشقوة، وليس لك أن تقول أو لاحتمال أن الزبير علم من غيرهم نقض العهد، فاكتفى به؛ لأنه ظن سوء بمثل الزبير تأباه مروءته وشجاعته "فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم" من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان، "ومن أسفل منهم"، من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش.
وعند ابن مردويه عن ابن عباس: إذ جاءوكم من فوقكم.
قال عيينة بن حصن: ومن أسفل منكم أبو سفيان بن حرب "حتى ظن المؤمنون كل ظن" كما قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] أي: المختلفة بالنصر
ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} الآيات [الأحزاب: 12] .
واليأس، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] .
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب. أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر.
وعند الواقدي فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا بنصر الله وعونه إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن كسرى وقيصر ولننفقن أموالهما في سبيل الله"، يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب.
وذكر ابن إسحاق ما حاصله فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن، ومن معه ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا، فمنعه السعدان وقالا: كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا بقرى أو بيع، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا بهذا من حاجة، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنت وذاك".
وروى البزار والطبراني عن أبي هريرة: أتى الحارث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا ورجالا، فقال:"حتى أستأمر السعود سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم" فقالوا: لا والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام، فأخبر الحارث فقال: غدرت يا محمد، كذا في هذا الحديث، وسعد بن الربيع وقد تقدم أنه استشهد بأحد ولا خلف لاحتمال أن إتيان الحارث بسبب ذلك قبل أحد إذ ليس في الحديث أنه أتى يوم الخندق.
"ونجم" بفتح النون والجيم والميم، ظهر "النفاق من بعض المنافقين" كذا عند ابن إسحاق، وينافيه ظاهر قوله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 12] إلا أن يكون الذين أظهروه بعضهم ولم ينكره باقيهم ولا ضعاف القلوب من المؤمنين، فنسب القول إلى جميعهم "وأنزل الله تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12]" من الظفر وإعلاء الدين "{إِلَّا غُرُورًا} " [الأحزاب: 12] وعدا باطلا.
ذكر ابن إسحاق أن قائله معتب بن قشير.
قال: كان محمد يرى أن نأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط.
وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس بن قيظي: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة.
وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه فوقع في الخندق فقتله الله. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله
وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية في معتب بن قشير الأنصاري، هو صاحب هذه المقالة وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه.
قال ابن هشام: وأخبرني من أثق به من أهل العلم أن معتبا لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كان من أهل بدر "الآيات" وهذا إخبار إجمالي عما نزل بسبب ظهور النفاق، فصله بقوله:"وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم" بضم الميم وفتحها، أي: لا إقامة ولا مكان، "فارجعوا" إلى منازلكم بالمدينة.
"وقال أوس بن قيظي" بتحتية وظاء معجمة، الأنصاري الأوسي، يقال: إنه منافق تمسكا بهذه القصة ونحوها، لكن ذكره في الإصابة في القسم الأول، وقال: شهد أحدًا هو وابناه عرابة وعبد الله، ويقال كان منافقا، وإنه القائل: إن بيوتنا عورة، ا. هـ. وابنه عرابة في صحبته خلاف، وكان سيدا وفيه يقول شماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمين
"يا رسول الله إن بيوتنا عورة" غير حصينة، نخشى عليها "من العدو" قال ابن إسحاق، وذلك عن ملأ من رجال قومه، "فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة" قال تعالى:{وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] .
قال ابن عائذ: بياء وذال معجمة، محمد الحافظ صاحب المغازي، "وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي" يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي نعيم "على فرس له ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق".
زاد في رواية أبي نعيم: فاندقت عنقه، "فقتله الله وكبر" عظم "ذلك على المشركين فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية".
قال ابن هشام: بلغني عن الزهري أنهم أعطوا في جسده عشرة آلاف درهم، "على أن تدفعوه إلينا، فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم" جواب قولهم ذلك بقوله: "إنه خبيث" لموته كافرا محاربا لله ورسوله، "خبيث الدية" لعدم حلها، إذ لا دية في مثل هذه الصورة، "فلعنه الله
ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنون ولا أرب لنا في ديته".
قال ابن إسحاق: وأقام عليه الصلاة والسلام والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبدود العامري اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى كانوا بالسبخة، فبارزه علي فقتله،
ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة، أي: حاجة "لنا في ديته".
"وقال ابن إسحاق: وأقام عليه الصلاة والسلام والمسلمون" على الخندق، "وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال،" إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة، قاله ابن سعد، "اقتحم هو ونفر معه" هم: عكرمة وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان وضرار بن الخطاب، كما في ابن إسحاق "خيولهم" بالرفع بدل من الفاعل فهو المقصود بالنسبة، ومعناه اقتحمت بإكراههم إياها، أو بالنصب واقتحم بمعنى أقحم مجاز "من ناحية ضيقة من الخندق حتى كانوا بالسبخة" بمهملة فموحدة فمعجمة مفتوحات، واحدة السباخ، ويقال أرض سبخة بالكسر ذات سباخ وهو أنسب بالمصنف، أي: حتى صاروا بالأرض السبخة بين الخندق وسلع، "فبارزه علي" بعدما نادى عمرو ثلاثا من يبازر؟ وفي كل مرة يقول علي: أنا له يا نبي الله، فيقول:"اجلس، إنه عمرو"، فقال علي في الثالثة: وإن كان عمرا فأعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه، وقال:"اللهم أعنه عليه"، فدعاه إلى الإسلام أو الرجوع عن الحرب، فأبى إلا البراز فضحك، وقال: ما كنت أظن أحدا يرومني على هذه الخصلة فمن أنت، قال: علي بن أبي طالب، قال: يابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك فغضب عمرو، فنزل عن فرسه وعقرها وسل سيفه، كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحوه علي مغضبا، فاستقبله على بدرقته ودنا أحدهما من الآخر، وثارت بينهما غبرة فضربه عمرو فاتقاها بدرقته، فانقدت وأثبت فيها السيف وضربه علي فوق عاتقه "فقتله" وقيل: طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فسقط ثم أقبل نحوه صلى الله عليه وسلم وهو متهال، فقال له عمر بن الخطاب: هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع خير منها، فقال: إنه حين ضربته استقبلني بسوأته فاستحييت.
قال الحاكم: سمعت الأصم، قال: سمعت العطاردي قال: سمعت الحافظ يحيى بن آدم يقول: ما شبهت قتل علي عمرا إلا بقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] .
وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله علي، ورجعت بقية الخيول مهزومة.
ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل -وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق في وسط الذراع. قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن في كل عضو منه شعبة فهو في اليد الأكحل وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النسا،
"وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة" المخزومي "فقتله الزبير" بن العوام بالسيف، حتى شقه اثنتين وقطع سرجه حتى خلص إلى كاهل الفرس، فقيل: ما رأينا مثل سيفك، قال: ما هو السيف، ولكنها الساعد، "وقيل: قتله علي" هكذا عزاه في الفتح لابن إسحاق فتبعه المصنف ولم يذكر ذلك ابن هشام في روايته عن البكائي عنه، فلعله في رواية غيره ثم هو معارض لما قدمه المصنف عن ابن عائذ من أنه اقتحم الخندق، فوقع فيه فقتل، وهو الذي ذكره ابن هشام عن زياد عن ابن إسحاق ومثله في رواية أبي نعيم، وعليه اقتصر اليعمري.
وقد روي ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، أن رجلا من المشركين قال يوم الخندق: من يبارز؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقالت أمه صفية: واحدي يا رسول الله، فقال:"قم يا زبير"، فقام فقتله، ثم جاء بسلبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله إياه.
وذكر ابن جرير، أن نوفلا لما تورط في الخندق، رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله، وفي الجمع بين الثلاثة عشر.
"ورجعت بقية الخيول مهزومة" قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ، وهو منهزم عن عمرو فعيره حسان بأبيات، فلما رجعوا إلى أبي سفيان قال: هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء فارجعوا، وكان شعار الصحابة يوم الخندق وبني قريظة حم لا ينصرون، "ورمي سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل، وهو بفتح الهمزة و" الحاء "المهملة بينهما كاف ساكنة، عرق في وسط الذراع".
"قال الخليل" ابن أحمد لأزدي الفراهيدي، أبو عبد الرحمن البصري اللغوي، صاحب العروض والنحو، العالم العابد الصدوق في الحديث. مات بعد الستين ومائة، وقيل: سنة سبعين أو بعدها. أخرج له ابن ماجه في التفسير، "هو عرق الحياة يقال: إن في كل عضو منه شعبة، فهو في اليد الأكحل".
وفي القاموس: هو عرق في اليد، أو هو عرق الحياة، ولا تقل عرق الأكحل، "وفي الظهر الأبهر" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة، وفي القاموس: الأبهر الظهر، وعرق فيه ووتد العنق والأكحل، "وفي الفخذ النسا" بفتح النون مقصور، كما قال الأصمعي: عرق من الورك إلى
إذا قطع لم يرقا الدم.
وكان الذي رمى سعدا، ابن العرقة، أحد بني عامر بني لؤي، قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه.
الكعب.
قال أبو زيد: يثنى نسوان ونسيان والجمع أنساء.
قال ابن السكيت: هو عرق النسا، وقال الأصمعي: هو النسا، ولا تقل عرق النسا.
قال الزجاج: لأن الشيء لا يضاف إلى بعضه.
"إذا قطع لم يرقأ الدم" بالهمز، أي: لم ينقطع، ونسخة لم يرق تحريف، فالذي في اللغة إنه مهموز، لكن وجهها شيخنا في التقرير، بأن الهمزة أبدلت ألفا قبل الجازم، فلما دخل حذفت الألف كالحركة، "وكان الذي رمى سعدا هو ابن العرقة" بفتح العين المهملة وكسر الراء، وهي أمه واسمها قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم، تكنى أم فاطمة، سميت العرقة لطيب ريحها، وهي جدة خديجة أم أبيها، وهو حبان بن عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن هصيص بن عامر بن لؤي، كذا قال السهيلي.
وقال ابن الكلبي: هي أم عبد مناف جد أبيه، وهو عنده حبان بن أبي قيس بن علقمة بن عند مناف.
قال في التبصير: وحبان، بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة مثقلة، وصحفه موسى بن عقبة، فقال جبار، بجيم وموحدة وراء، والأول أصح قاله الأمير، يعني ابن ماكولا "أحد بني عامر بن لؤي" ولذا يقال له العامري، "قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد" ويقال النبي صلى الله عليه وسلم "عرق" بعين مهملة "الله وجهك في النار، ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه" وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، هذا بقية قوله عند ابن إسحاق ونحوه في الصحيح، وقد استحباب الله له، فلم يقم لقريش حرب بعدها، وما مات حتى حكم في بني قريظة كم يأتي.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشني حليف بني مخزوم.
وأقام عليه الصلاة والسلام وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم بن مسعود الأشجعي -وهو مخف إسلامه- فثبط قوما عن قوم وأوقع بينهم شرا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الحرب خدعة
وقال ابن هشام: ويقال الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان، والله أعلم.
"وأقام عليه الصلاة والسلام وأصحابه" في حصار الكفار على الخندق، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة "بضع عشرة ليلة".
وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار عشرون يوما، نقله الفتح.
وفي العيون: بضع وعشرون ليلة قريب من شهر.
وفي الهدي: إنه شهر.
"فمشى نعيم بن مسعود" بن عامر بن أنيف، بنون وفاء مصغر "الأشجعي" الصحابي، المشهور، المتوفى أول خلافة علي، خرج له أبو داود، "وهو مخف إسلامه، فثبط قوما" وهم بنو قريظة "عن قوم" وهم قريش ومن معهم، "وأوقع بينهم شرا" كراهية من كل فريق للآخر لا حربا، وإنما فعل ذلك "لقوله عليه الصلاة والسلام" له لما أتاه قائلا: إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، قال صلى الله عليه وسلم:"خذل عنا فـ " إن الحرب خدعة " ".
قال الحافظ: بفتح المعجمة، وبضمها مع سكون الدال المهملة فيها، وبضم أوله وفتح ثانيه صيغة مبالغة، كهمزة لمزة.
قال النووي: اتفقوا على أن الأولى أفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزار، والثانية ضبطت كذلك في رواية الأصيلي.
قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعملها كثيرا لو جاه لفظها ولكونها تعطي معنى للشيئين الآخرين.
قال: ويعطي معناها أيضا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن، ولو مرة، فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى إذ المعنى أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير، أي: مضروبه.
وقال الخطابي: إنها المرة الواحدة، يعني أنه إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته، ومعنى الضم مع السكون أنها تخدع الرجال، أي: ي محل الخداع، وموضعه ومع فتح الدال، أي: تمنيهم الظفر، ولا تفي لهم، كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء، الدلالة على الوحدة، فإن الخداع أن كان من المسلمين، فكأنه حضهم على ذلك، ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار، فكأنه حذرهم من مكرهم، ولو وقع مرة واحدة، فلا ينبغي
فاختلفت كلمتهم.
التهاون بهم، لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قل.
وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع، أي: إن أهلها بهذه الصفة، فكأنه قال أهل الحرب خدعة.
وحكى مكي، ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة كسر أوله مع الإسكان، وأصل الخدع أبطأن أمر وإظهار خلافه، وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار، وإن لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
قال النووي: اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز.
قال ابن العربي: ويقع الخداع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولذا اقتصر على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله: الحج عرفة.
قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة، أن الحرب الجيدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة، لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.
وذكر الواقدي أن أول ما قال صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة في غزوة الخندق انتهى من الفتح، وهو صريح في أن الرواية إنما هي بالثلاثة، الأولى لتصريحه بلغة رابعة لغة خامسة، وتبعه المصنف.
وفي القاموس: أنه روي أيضا بكسر الخاء وسكون الدال، ويوافقه قول السيوطي في التوشيح بفتح الخاء وضمها، وكسرها وسكون الدال، أمر باستعمال الحيلة فيه ما أمكن.
"فاختلفت كلمتهم" وذلك أن نعيما أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال:"إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة" فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما، فقال: قد عرفتم ودي وإياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وأنهم جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم أتى قريشا، فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر رأيت حقا علي أن أبلغكموه نصحا لكم،
وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب
فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال: إن يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمد إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالا تضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم، فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا، ثم أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورءوس غطفان أرسولوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين، فقالوا: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بمقاتلين معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدًا، فإنا نخشى إن اشتد عليكم القتال، أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طلاقة لنا به، فقالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم به لحق، فأرسلوا إليهم إناوالله لا ندفع إليكم جلا واحدا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، فأرسلوا إليهم إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شديدة البرد، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم، ذكره ابن إسحاق في رواية ابن هشام عن البكائي عنه، ولخصه الحافظ في الفتح بأوجز عبارة، وقال بعده ما لفظه.
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة عن عائشة: أن نعيما كان رجلا نمويا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن اليهود قد بعثت إلي، إن كان يرضيك أنا نأخذ من قريش وغطفان رهنا نبعثهم إليك فتقتلهم فعلنا، فرجع نعيم مسرعا إلى قومه فأخبرهم، فقالوا: والله ما كذب محمد عليهم وإنهم لأهل غدر، وكذا قال لقريش، فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم ا. هـ.
"وروى الحاكم عن حذيفة" بن اليمان الصحابي ابن الصحابي "قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب" أي: الليلة التي اشتد علينا الأمر فيها من ليالي الأحزاب، وهي الليلة التي كانت بعد المحاصرة الشديدة، وذلك كما ذكر ابن سعد وغيره، أنه لما طال المقام على قريش، وقتل عمرو، وانهزم من معه اتعدوا أن يفدوا جميعا، ولا يتخلف منهم أحد، فباتوا يعبون أصحابهم، ثم وافوا الخندق قبل طلوع الشمس وعبى صلى الله عليه وسلم أصحابه، وجمعهم على القتال، ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جمعوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم، فأحدقوا بكل وجه من الخندق، ووجهوا على خيمته صلى الله عليه وسلم كتيبة عظيمة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم
وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأن جاث على ركبتي
ذلك إلى هوى من الليل ما يقدر صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين أن ينزلوا من مواضعهم، ولا على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل الصحابة يقولون: ما صلينا، فيقول صلى الله عليه وسلم:"ما صليت" حتى كشفهم الله، فرجعوا متفرقين، ورجع كل فريق إلى منزله، وأقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق فكرت خيل المشركين، وعليها خالد يطلبون غرة فناوشوهم ساعة، فزرق وحشي بن حرب الطفيل بن النعمان، وقيل: فيه الطفيل بن مالك بن النعمان من بني سلمة بمزراقه، فقتله وانكشفوا وسار صلى الله عليه وسلم إلى قبته، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى الظهر، ثم أقام لكل صلاة إقامة فصلوا ما فاتهم، وقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا، ولم يكن بعد قتال حتى انصرفوا، لكنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة "وأبو سفيان ومن معه من فوقنا" أي: من فوق الوادي من قبل المشرق، "وقريظة أسف منا" من بطن الوادي من قبل المغرب، وهذا خلاف ما مر عن ابن عباس أن الذين من فوقهم غطفان، ومن أسفل منهم قريش، رواه ابن مردويه، وبه جزم البغوي وغيره، وزادوا وانضم إلى غطفان بنو قريظة والنضير، ويحتمل الجمع بأن قريشا كانت تأتي تارة من فوق وغطفان من أسفل، وتارة على العكس من ذلك، ثم لعل معنى كون قريظة مع المشركين، أي: في جهتهم منحازين في جانب لأنفسهم ممتنعين من الزحف معهم عليه صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي أيضا حديث نعيم من امتناعهم من القتال، وفيه بعد لأن ظاهر حديث نعيم أنهم لم يخرجوا من ديارهم، فلعل معنى قوله وقريظة أسفل منا وهم في ديارهم، ويؤيده أو يعينه قوله:"نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها،" لا ينافي هذا قوله في بقية ذا الحديث، فإذا الريح فيه، أي: عسكر المشركين لا يجاوز شبرا؛ لأن شدة هذه بالنسبة للعادة، والآتية هي التي هتكت قبابهم وأطفأت نيرانهم، "فجعل المنافقون يسأذنون" النبي، "ويقولون: بيوتنا عورة" أي: غير حصينة.
وفي رواية البيهقي: فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له فيتسللون.
وفي رواية له أيضا: أن رجلا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه، قال: يابن أخي والله لا تدري لو أدركته كيف تكون، لقد رأيتنا ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، فقال صلى الله عليه وسلم:"من يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة، فوالله ما قام أحد" فقال الثانية: " جعله الله رفيقي" فلم يقم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، "فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا جاث على ركبتي" من شدة البرد والجوع والخوف، ولابن إسحاق: فدعاني فلم
فقال: اذهب فائتني بخبر القوم ولم يبق معه إلا ثلاثمائة قال ودعا لي، فأذهب الله عز وجل عني القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه، لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم.
وفي رواية: أن حذيفة لما أرسله عليه الصلاة والسلام ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول:
يكن لي بد من القيم "فقال: اذهب فائتني بخبر القوم" وعند البيهقي: فقلت: أخشى أن أؤسر، قال:"إنك لن تؤسر""ولم يبق معه إلا ثلاثمائة" لا يفهم منه أن من عداهم وهم ألفان وسبعمائة منافقون. وقد قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} [الأحزاب: 13] .
قال ابن عباس: الفريق بنو حارثة، قال غيره: وبنو سلمة، أي: منافقوهم، لأنهم خصوا بالذكر لتعللهم بالباطل، وإنما هو وسيلة الفرار، كما قال تعالى:{وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] إن يريدون إلا فرارا. وأما المؤمنون فإنما رجعوا لألم البرد والجوع الشديدين، أو الخوف الحقيقي على بيوتهم، أو لفهمهم عدم التغليظ في ذهاب من يذهب فكشفوا حال بيوتهم ثم رجعوا.
"قال: ودعا لي" وفي رواية أبي نعيم عن حذيفة، فقال: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، وعند ابن عقبة وابن عائذ فقال: قم حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا، فقمت مستبشرا بدعائه فما شق علي شيء مما كان، "فأذهب الله عز وجل عني القر" بضم القاف والبرد، "والفزع" الخوف.
زاد في رواية أبي نعيم: فوالله ما خلق الله تعالى قرا ولا فزعا في جوفي إلا خرج، فما وجدت منه شيئا، فمضيت كأنما أمشي في حمام، فلما ولت دعاني، فقال:"يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئا حتى تأتيني"، "فدخلت عسكرهم".
قال في رواية ابن إسحاق: والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء "فإذا الريح فيه لا تجاوز" عسكرهم "شبرا فلما رجعت رأيت فوارس" نحو عشرين "في طريقي" حين انتصف بي الطريق، أو نحو ذلك معتمين، "فقالوا:" وفي رواية فارسين، فقالا: "أخبر صاحبك أن الله قد كفاه القوم" بالريح والجنود.
"وفي رواية" لابن إسحاق: "أن حذيفة لما أرسله عليه الصلاة والسلام ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول،" ولفظه: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه، قال: نعم، قال: فكيف كنتم تصنعون، قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركنا ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه
يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم.
ووقع في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم الأحزاب:
على أعناقنا فقال حذيفة: والله لقد رأيتني بالخندق وصلى صلى الله عليه وسلم هو يأمن الليل، ثم التفت إلينا فقال:"من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم، ثم يرجع بشرط له الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة" فما قام رجل من شدة الخوف، وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني فلم يكن لي بد من القيام، فقال:"يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتنيا"، فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء.
فقال أبو سفيان: لينظر امرؤ من جليسه.
فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان:"يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام" أي: بمحل يصلح للإقامة فيه، "ولقد هلك الخف والكراع" بضم الكاف، وخفة الراء وبالعين المهملة، اسم لجمع الخيل، كما في الشامية، "واختلفنا وبنو قريظة" حيث امتنعوا من القتال معنا، وفيه عطف الظاهر على ضمير الرفع المتصل بلا فاصل، وهو جائز على قلة، لكن لفظ الرواية عند ابن إسحاق: وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، "ولقينا من هذا الريح ما ترون"، ما يطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، "فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، فما حل عقال يده،" أي: الجمل، "إلا وهو قائم".
ولفظ الرواية في ابن إسحاق: ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي، أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر وسمعت غطفان بما صنعت قريش، فرجعوا إلى بلادهم هذا بقية رواية ابن إسحاق.
"ووقع في البخاري" في الجهاد، وفي المغازي، وكذا في مسلم، والترمذي، والنسائي وابن ماجه كله عن جابر، "أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم الأحزاب" وفي رواية النسائي عن
"من يأتينا بخبر القوم". فقال الزبير: أنا، فقال:"من يأتينا بخبر القوم"، فقال الزبير: أنا، فقال:"من يأتينا بخبر القوم"؟ قالها ثلاثا.
وقد أشكل ذكر الزبير في هذه القصة.
فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب والمشهور أنه حذيفة بن اليمان.
قال الحافظ بن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر
جابر، أنه قال: يوم بني قريظة "من يأتيني بخبر القوم" بين الواقدي، أن المراد بهم بنو قريظة، وبه يسقط الإشكال الآتي، "فقال الزبير: أنا" آتيك بخبرهم، "ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا ثم قال: "إن لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير" هذا بقية الحديث في البخاري وغيره، وقوله "قالها ثلاثا" من المصنف ضبطا للحديث لئلا تسقط واحدة، وهي رواية المغازي، وأما الجهاد فقالها مرتين.
"وقد أشكل ذكر الزبير في هذه القصة، فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب" لكشفها، "والمشهور" كما قال شيخنا أبو الفتح اليعمري، "أنه حذيفة بن اليمان"، كما رويناه من طريق ابن إسحاق وغيره.
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب" الزبير "لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها" فتوهمها ابن الملقن وشيخه واحدة وليس كذلك، "فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين" وهي التي رواها جابر في الصحيحين وغيرهما.
"وصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح، واشتد البرد تلك الليلة فانتدب" أي: دعا "عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر
قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل وعرف قصتهم.
قريش، فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك"، وهو الذي رواه ابن إسحاق وغيره، فتوهم اليعمري وتلميذه القصتين واحدة، فقضى بأن المشهور رواية ابن إسحاق وغيره، أنه حذيفة على رواية الصحيحين، وغيرهما أنه لزبير مع أنك قد علمت من هذا البيان الشافي، أنهما قصتان وهو واضح جدا، ولم يظهر لي قول شيخنا لا يظهر منه رد قول ابن الملقن، فالمفهوم منه أنه إنما أنكر أن الذاهب لقريش هو الزبير، ولم يدع أنه لم يذهب في غزوة الخندق بأمره صلى الله عليه وسلم البتة ا. هـ.
فإن وجه الرد عليه ليس من دعواه ذلك، حتى يقال إنه لم يدعه، بل من توهمه أن حديث الصحيح في بعثه لقريش، مع أنه إنما كان لبني قريظة، كما بينه الواقدي، بل روى النسائي عن جابر نفسه لما اشتد الأمر يوم بني قريظة، قال صلى الله عليه وسلم:"من يأتيني بخبرهم"، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضا، فقال:"من يأتينا بخبرهم"؟، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، ثم اشتد الأمر أيضا، قال:"من يأتينا بخبرهم"؟ فلم يذهب أحد، فذهب الزبير.
ففيه أنه ذهب لقريظة ثلاث مرات، وقول بعضهم: لا مانع أنه أرسل الزبير لقريظة مرة أخرى للبحث عن حال قريش فاسد، فالمانع موجود وهو مجيء الرواية عن جابر نفسه، أن ذهاب الزبير لبني قريظة.
والروايات يفسر بعضها بعضا، وتجويز أنه صلى الله عليه وسلم عدل عن إرسال الزبير؛ لأن له حة وشدة، لا يملك معها نفسه أن يحدث بالقوم، ما نعى عنه حذيفة، فاختار إرساله لذلك، وأن بهذا يرد كلام الحافظ، هذا الذي نقله المصنف خطأ صريح أوقعه في حق الحواري أحد الشعرة، حاشاه من هذا الهذيان، فإنه لا يفعل ما نهاه عنه لو وقع.
"وقصته" أي: حذيفة "في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل، وعرف قصتهم"، فعند أبي نعيم والبيهقي وغيرهما عنه قال: لما دخلت بينهم نظرت في ضوء نار توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته وحوله عصبة، قد تفرق عنه الأحزاب، وهو يقول الرحيل، ولم أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش لأضعه في كبد القوس لأرميه في ضوء النار، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني" فأمسكت ورددت سهمي، فلما جلست فيهم أحس أبو سفيان أنه قد دخل فيهم من غيرهم، فقال:"ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه"، فضربت بيدي على يد الذي عن يميني، فأخذت بيده فقلت: من أنت؟، قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي، فبدرتهم
وفي البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب
بالمسألة ثم تلبثت فيهم هنيهة، فأتيت قريشا وبني كنانة وقيسا، وقلت: ما أمرني به صلى الله عليه وسلم بقوله: ادخل حتى تدخل بين ظهراني القوم، فأتيت قريشا، فقلت: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقال أين قريش، أين قادة الناس، أين رءوس الناس، فيقدمونكم فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة فقل إذا كان غدا فيقال: أين رماة الحذف فيقدمونكم فتصلوا القتال فيكون القتل فيكم ثم ائت قيسا فقل: يا معشر قيس إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا أين قيس، أين أحلاس، الخيل أين الفرسان، فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم الحديث.
وذكر في بقيته ارتحالهم وغلبة الريح عليهم، وأنه عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولقيه الفوارس في نحو نصف الطريق، فلما وصل عاد له البرد ووجده صلى الله عليه وسلم يصلي، فأومأ إليه بيده فدنا منه، فسدل عليه من فضل شملته، قال: فأخبرته الخبر وإني تركتهم يترحلون، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أصبحت، قال صلى الله عليه وسلم:"قم يا نومان".
"وفي البخاري" في الجهاد، والمغازي، والتوحيد والدعوات، ومسلم في المغازي، والترمذي وابن ماجه في الجهاد والنسائي في السير كلهم "من حديث" الصحابي ابن الصحابي "عبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة، كما ضبطه الكرماني وغيره، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، شهد عبد الله الحديبية، وعمر دهرا، ومات سنة سبع وثمانين، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة. "قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب".
وفي رواية أحمد وابن سعد عن جابر، أنه صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فوضع رداءه، فقام فرفع يديه يدعو عليهم، فرأينا البشر في وجهه.
وفي رواية أبي نعيم: انتظر حتى زالت الشمس، ثم قام، فقال:"يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإن لقيتم العدو فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، ثم دعا "فقال:"اللهم" أي: يا الله، يا "منزل الكتاب" القرءان.
قال الطيبي: لعل تخصيص هذا الوصف بهذا المقام تلويح إلى معنى الانتصار في قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] ، وأمثال ذلك يا "سريع الحساب".
قال الكرماني: إما أن يريد به سريع حسابه، بمجيء وقته، وإما أنه سريع في الحساب،
اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
وروى أحمد عن أبي سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال: "نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح فهزمهم بالريح.
"اهزم الأحزاب" بزاي: اكسرهم، وبدد شملهم، "اللهم اهزمهم وزلزلهم" فلا يثبتوا عند اللقاء، بل تطيش عقولهم، وترعد أقدامهم، وقد استجاب الله لرسوله، فأرسل عليهم ريحا وجنودا، فهزمهم حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحرة فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال.
وخص الدعاء عليهم بالهزيمة والزلزلة دون الهلاك؛ لأن في الهزيمة سلامة نفوسهم، وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك ويدخلوا في الإسلام والإهلاك مفوت لهذا المقصد الصحيح.
"وروى أحمد عن أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان الخدري، الصحابي، ابن الصحابي، "قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر" جمع حنجرة، وهي مجرى النفس.
قال قتادة: شخصت مكانها، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها لخرجت، رواه ابن أبي حاتم، وقد قيل: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع والغضب، أو الغم الشديد ربت، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وقيل: هو تمثيل عن شدة الخوف، وعليه السهيلي. قال في الروض فيه: أن التكلم بالمجاز مبالغة حتى إذا فهمه المخاطب، فإن القلب لو انتقل إلى الحنجرة لمات صاحبه، فحالهم فيما بلغهم من الخوف وضيق الصدر، كمثل المنخلع قلبه من موضعه، ومثله جدارا يريد أن ينقض، أي: مثله كمثل من يريد الفعل، ويهم به فهو من مجاز التشبيه، وقيل: هو على حذف مضا، تقديره بلغ وجيف القلوب الحناجر ا. هـ، "فقال:"نعم"، قولوا: اللهم استر عوراتنا"" أي: خللنا، أي: عيوبنا، وتقصيرنا وما يسوءها إظهاره، "وآمن" بمد الهمزة وكسر المبهم مخففة، ويجوز القصر والتثقيل "روعاتنا" خوفنا وفزعنا من الروع بالفتح الفزع، وفيه من أنواع البديع جناس القلب، وإيقاع الأمن على الروع مجاز من إطلاق اسم المحل، وهو القلب على الحال فيه وهو الروع، وبهذا وافق قوله تعالى:{وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، قوله:{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] ، حيث أوقع الأمن على الذوات.
"قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم بالريح" وكفى الله المؤمنين القتال، فانصرف الكفار خائبين خائفين، حتى إن عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد أقاما في مائتي
وفي "ينبوع الحياة" لابن ظفر: قيل إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي". فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا:"شكرا شكرا"، وهبت ريح الصبا ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفت القدور
فارس، ساقه عسكر المشركين ردأ لهم، مخافة الطلب، كما ذكره ابن سعد.
"وفي ينبوع الحياة" اسم تفسير القرءان العظيم "لابن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء بعدها راء، كما ضبطه ابن خلكان، ونسب إلى جده لشهرته به، وإلا فهو محمد بن محمد بن ظفر أحد الفضلاء صاحب التصانيف الصقلى، ولد بها، ونشأ بمكة، وتنقل في البلاد، وسكن آخر وقته بحماة، وكان فقيرا جدا حتى قيل: إنه زوج بنته بغير كفؤ للحاجة، فخرج الزوج بها من حلب، وباعها "قيل: إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "يا صريخ" بخاء معجمة، أي: يا مغيث "المكروبين"، ويطلق على المستغيث أيضا، كما في القاموس، وليس مرادا هنا "يا مجيب المضطرين" المكروبين الذي مسهم الضر، كما قال: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء "اكشف همي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي، فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه وتعالى يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه" بذلك ليزول خوفهم، "ورفع يديه قائلا" أشكرك "شكرا شكرا" أي: شكرا بعد شكر على ما أوليتني من نعمائك "وهبت ريح الصبا" بفتح الصاد المهملة وخفة الموحدة، وهي الشرقية، ويقال لها القبول؛ لأنها تقابل الشمال، وهي الريح العقيم التي لا خير فيها "ليلا".
روى ابن مردويه والبزار وغيرهما برجال الصحيح، عن ابن عباس قال: لما كانت ليلة الأحزاب قال الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها، فجعلها عقيما، وأرسل الصبا، فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور".
وروى الشيخان والنسائي عنه مرفوعا: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور بفتح الدال، الريح الغربية، ومن لطيف المناسبة، كون القبول نصرت أهل القبول، والدبور أهلكت أهل الأدبار "فقلعت" الأوتاد" وأطفأت النيران، "وألقت عليهم الأبنية" أي: الأخبية، "وكفت" قلبت "القدور" على أفواهها.
قال مجاهد: سلط الله عليهم، الريح فكفت قدورهم، ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم، رواه البيهقي فهذا صريح في أنه من الريح، ومثله في الأنوار والنهر.
وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصى، وسمعوا في أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا في ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] .
وفي البخاري عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا
وزاد: وبعث الله مع الصبا ملائكة تسدد الريح، وتفعل نحو فعلها ا. هـ. "وسفت عليهم التراب" في وجوههم، "ورمتهم بالحصا وسمعوا في أرجاء معسكرهم" أي: جوانبه، "التكبير وقعقعة السلاح" من الملائكة "فارتحلوا هرابا" بضم الهاء والتشديد، جمع هارب، أي: هاربين، "في ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم" فغنمه المسلمون مع عشرين بعيرا أرسلها أبو سفيان لحيي فحملها له شعيرا وتمرا وتبنا، فلقيها جماعة من المسلمين فأخذوها وانصرفوا بها إليه صلى الله عليه وسلم، فتوسعوا بها وأكلوه حتى نفد ونحروا منها أبعرة، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة، فلما رجع ضرار بن الخطاب أخبرهم الخبر، فقال أبو سفيان: إن حييا لمشئوم قطع بنا ما نجد، ما نحمل عليه إذا رجعنا، أخرجه الواقدي بإسناد له مرسل. "قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] ، صبا باردة في ليلة شاتية، {وَجُنُودًا} ملائكة قيل: كانوا ألفا.
وروى ابن سعد عن ابن المسيب قال: أتى جبريل يومئذ، ومعه الريح فقال صلى الله عليه وسلم حين رأى جبريل:"ألا أبشروا" ثلاثا، {لَمْ تَرَوْهَا} قذفت في قلوبهم الرعب والفشل، وفي قلوب المؤمنين القوة والأمل، وقيل: إنما أرسلت لتزجر خيل العدو وإبلهم، فقطعوا ثلاثة أيام في يوم واحد، ذكره ابن دحية.
قال مجاهد: ولم تقاتل الملائكة يومئذ.
قال البلاذري: بل غشيتهم تطمس أبصارهم فانصرفوا، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال.
"وفي البخاري" في الجهاد، والمغازي، والتفسير والدعوات، ومسلم وأبي داود والنسائي في الصلاة، والترمذي في التفسير، "عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم" وقعة "الخندق".
قال الحافظ: وفي الجهاد يوم الأحزاب: وهو بالمعنى "ملأ الله بيوتهم" أي: الكفار أحياء، "وقبورهم" أمواتا "نارا"، والجملة خبرية لفظا، إنشائية معنى أي: اللهم املأ، ففيه كما قال الحافظ جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك "كما شغلونا".
وفي رواية المستملي: لما شغلونا بزيادة لام وهو خطأ، قاله الفتح، والكاف للتعليل بمعنى
عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله، بقتال المشركين حتى غابت الشمس.
ويعارضه ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شغلونا عن الصلاة الوسطى". الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية.
قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أي: الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب ا. هـ.
وفي البخاري عن عمر بن الخطاب
اللام، وما مصدرية نحو كما هداكم، أي: لشغلهم إيانا "عن" صلاة "الصلاة الوسطى" أي: عن إيقاعها.
زاد مسلم: صلاة العصر، "حتى غابت الشمس" زاد مسلم: ثم صليناها بين المغرب والعشاء، "ومقتضى هذا" صراحة "أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين" أي: المراماة بينهم بالنبل والحجارة، "حتى غابت الشمس، ويعارضه ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود، أنه قال: حبس" منع "المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت،" أي: قاربت الغروب، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شغلونا عن الصلاة الوسطى"، الحديث. ومقتضى هذا" صراحة أيضا، "أنه لم يخرج الوقت بالكلية".
"قال الشيخ تقي الدين" أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المنفلوطي، العلامة الفقيه الحافظ، صاحب التصانيف "ابن دقيق العيد".
قال السخاوي، الملقب بذلك جده وهب لخروجه يوما من قوص، وعليه طيلسان أبيض وثوب أبيض، فقال بدوي: كأن قماش هذا يشبه دقيق العيد، يعني في البياض، فلزمه ذلك "الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أي: الحمرة أو الصفرة" كما هو لفظ ابن مسعود، "ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب" كما صرح به علي، وكأنه حصل لهم عذر، كخوف عود الكفار لهم، "انتهى" كلام تقي الدين وهو جمع بين الحديثين.
"وفي البخاري" في المواقيت، وصلاة الخوف والمغازي، ومسلم، والترمذي والنسائي في الصلاة عن جابر أن عمر جاء، وأما قوله:"عن عمر بن الخطاب" ففيه تسمح من المصنف، لم
أنه جاء يوم الخندق بعد ما غابت الشمس وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، ما كدت أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب تنبيه
يرد أنه راوي الحديث؛ لأنه خلاف الواقع في البخاري وغيره، فإنما مراده عن قصة عمر، فقد قال الحافظ: اتفق الرواة على أن هذا الحديث من رواية جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حجاج بن نصير، فرواه عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير، عن جابر، عن عمر، فجعله من مسند عمر، تفرد بذلك حجاج، وهو ضعيف ا. هـ. "أنه جاء يوم الخندق بعدما غابت"، وفي لفظ: غربت "الشمس و".
في رواية للبخاري أيضا: بعدما أفطر الصائم، والمعنى واحد. "جعل" بلا فاء في المغازي من البخاري، وله في المواقيت بإثباتها، فجعل "يسب كفار قريش" لأنهم السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إما المختار كما وقع لعمر، وإما مطلقا كما وقع لغيره. "قال: يا رسول الله ما كدت" قال المصنف: بكسر الكاف وقد تضم، "أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب".
قال اليعمري: كاد من أفعال المقاربة، فمعناه أنه صلى العصر قرب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فيحصل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة، ولم يثبت الغروب.
وقال الكرماني: يلا يلزم منه وقوع الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أن لا تقع الصلاة؛ لأنه يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها.
قال: وحاصله عرفا ما صليت حتى غربت ا. هـ، وفيه نظر، فإن كاد إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، ولا يخفى ثقل تعبيره بكيدودة، ثم قوله: أن تغرب بحذف، أن عند البخاري في المواقيت، وثبوتها له في المغازي، ومثله في مسلم.
قال اليعمري: وهو من تصرف الرواة، والراجح أن كاد لا تقترن بأن بخلاف عسى، فالراجح اقترانها وهل تسع الرواية بالمعنى مثل هذا أو لا، الظاهر الجواز؛ لأن المقصود الإخبار عن صلاته العصر كيف وقعت، لا الإخبار أن عمر تكلم بالراجحة، أو المرجوحة، فإن قيل: الظاهر أن عمر كان معه صلى الله عليه وسلم فكيف اختص بإدراك العصر قل الغروب دونهم، فالجواب يحتمل أنه كان متوضئا، فبادر فصلى، ثم جاءه عليه السلام في حال تهيئة للصلاة فاعلمه، فقام هو وأصحابه إلى الوضوء انتهى ملخصا من الفتح.
"تنبيه": ما سقته من لفظ المتن هو ما في نسخة صحيحة، وهو الصواب المذكور في صحيح البخاري، وما في أكثر النسخ من قوله عن عمر، أنه جاء بعدما كادت الشمس تغرب، فهو مع كونه خلاف ما في البخاري من الاختصار المخل، لإيهامه أن مجيء عمر للمصطفى
فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر.
وفي الموطأ: الظهر والعصر.
قبل الغروب، وهو خلاف تصريحه بأنه جاء بعدما غربت الشمس، ويوهم أيضا أن عمر لم يصل العصر قبل الغروب، مع أن الحديث كالنص في أنه صلاها قبل الغروب كما علم "فقال صلى الله عليه وسلم:"والله ما صليتها "" فيه جواز اليمين من غير استحلاف، إذا اقتضته مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهم، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه وتألفهم، "فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان".
قال الحافظ: بضم أوله وسكون ثانيه، واد بالمدينة، وقيل: بفتح أوله وكسر ثانيه، حكاه أبو عبيد البكري، ونسب عياض الأول للمحدثين، والثاني للغويين، وحكى الفتح مع السكون أيضا.
"فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها فصلى" زاد الإسماعيلي: بنا، "العصر بعدما غربت الشمس،" ففيه قضاء الفائتة جماعة، وبه قال الأكثر إلا الليث، مع إجازته صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت، "ثم صلى بعدها المغرب" ووقع عند أحمد، أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلما سلم قال:"هل علم رجل مسلم أني صليت العصر"؟ قالوا: لا يا رسول الله فصلى العصر، ثم صلى المغرب.
قال الحافظ: وفي صحته نظر، لمخالفته لحديث الصحيحين، هذا ويمكن الجمع بينهما بتكلف. قال: واختلف في سبب تأخير الصلاة ذلك اليوم، فقيل: النسيان، واستبعد وقوعه من الجميع، وقيل: شغلهم إياهم، فلم يتمكنوا من ذلك وهو أقرب لا سيما، ولأحمد والنسائي عن أبي سعيد، أن ذلك كان قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف، فرجالا أو ركبانا، "وقد يكون ذلك" أي: التأخير عن إيقاعها قبل الغروب "للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها" كخوف عود العدو قبل الغروب، "ومقتضى هذه الرواية المشهورة" في الصحيحين وغيرهما، عن جابر وعلي، "أنه لم يفت غير العصر".
"وفي الموطأ" من طريق أخرى، أنه فاتهم "الظهر والعصر".
وفي الترمذي عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق. وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فمال ابن العربي إلى الترجيح فقال: الصحيح أن التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة وهي العصر.
وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها. قال: وأما تأخيره عليه الصلاة والسلام صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف.
وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والنسائي: الظهر والعصر والمغرب، وأنهم صلوا بعد هوى من الليل.
"وفي الترمذي" والنسائي "عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق" حتى ذهب من الليل ما شاء الله.
قال الحافظ: وفي قوله: أربع، تجوز لأن العشاء لم تكن فاتت.
"وقال الترمذي: "ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة" ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال اسمه عامر كوفي ثقة، مات بعد سنة ثمانين، "لم يسمع من" أبيه "عبد الله" بن مسعود، فهو منقطع، وفي التقريب الراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، "فمال ابن العربي إلى الترجيح، فقال: الصحيح أن التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة وهي العصر".
قال الحافظ: ويؤيده حديث علي في مسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر.
"وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا،" أي: شغلهم عن العصر أو الظهر والعصر، "في بعض الأيام، وهذا" أي: تأخير أربع صلوات، "في بعضها".
قال الحافظ: ويقربه أن روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرض لقصة عمر، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب، وأما حديث جابر ففيها أن ذلك كان عقب غروب الشمس.
"قال" النووي: "وأما تأخيره عليه الصلاة والسلام للعصر حتى غربت الشمس، فكان قبل نزول" قوله تعالى: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} ، "صلاة الخوف" كما مر من حديث أبي سعيد، وقد صلى صلاة الخوف في ذات الرقاع، وهي قبل الخندق عند جماعة.
قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل تصلي صلاة الخوف على حسب الحال.
وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطي عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهي: الصبح
"قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو".
قال الحافظ: واستبعد وقوع ذلك من الجميع، "ويمكن أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو".
قال الحافظ: وهو أقرب.
وكان هذا عذرا في تأخير الصلاة "قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل تصلي صلاة الخوف على حسب الحال"، ثم استطرد المصنف، فذكر الخلاف في الصلاة الوسطى لمناسبة وقوعها في الحديث السابق.
فقال: "وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى،" تأنيث الأوسط، وهو الأعدل من كل شيء، وليس المراد التوسط بين شيئين؛ لأن معنى فعلى التفضيل ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقص والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما بخلاف المتوسط، فلا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل تفضيل قاله الحافظ.
"وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفا مفردا سماه كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا وهي الصبح، "قاله أبي، وأنس، وجابر، وأبو العالية، وعبيد بن عمير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد وغيرهم، نقله ابن أبي حاتم عنهم، وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس، نقله مالك والترمذي عنهما، ونقله مالك بلاغا عن علي، والمعروف عنه خلافه.
وروى ابن جرير عن أبي رجاء: صليت خلف ابن عباس الصبح، فقنت فيها، ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى أمرنا أن نقوم فيها قانتين، وأخرجه من وجه آخر عن ابن عمر، ومن طريق أبي العالية صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر، صلاة الغداة، فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه، وهو قول مالك والشافعي الذي نص عليه في الأم، واحتجوا بأن فيه القنوت، وقد قال تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وبأنها لا تقصر في
أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو جميع الصلوات وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضي
السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر، "أو الظهر" رواه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وابن المنذر وغيره عن أبي سعيد وعائشة، وبه قال أبو حنيفة في رواية.
وأخرج أبو داود عن زيد بن ثابت، كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحابه منها، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] .
وروى أحمد عنه، كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجيرة، فلا يكون وراءه إلا الصف، أو الصفان والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت الآية "أو العصر".
قال الترمذي: هو قول أكثر الصحابة الماوردي وجمهور التابعين ابن عبد البر، وأكثر علماء الأثر، وقال به من المالكية ابن حبيب، وابن العربي وابن عطية، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد، وصار إليه معظم الشافعية مخالفين، نص إمامهم لصحة الحديث فيه، وقد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال ابن كثير: لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولا واحدا.
وروى الترمذي والنسائي عن علي: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعته صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى" صلاة العصر.
قال الحافظ: وهذه الرواية تدفع دعوى أن صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة، فهي نص في أن كونها العصر من كلامه عليه السلام، وأن حجة من قال الصبح قوية ا. هـ.
وقال ابن عبد البر: الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى، إنما هو في هاتين الصلاتين، أعني العصر والصبح، وغير ذلك ضعيف، "أو المغرب" قاله ابن عباس عند ابن أبي حاتم بإسناد حسن، وقبيضة بن ذؤيب عند ابن جرير، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات ولا تقصر في الأسفار، وأن العمل مضى على المبادرة إليها، وتعجيلها عقب الغروب، وأن قبلها صلاتي سر، وبعدها صلاتي جهر، "أو جميع الصلوات" قاله ابن عمرو.
رواه ابن أبي حاتم بسند حسن. ومعاذ بن جبل "و" احتج له بأن قوله: حافظوا على الصلوات: "هو يتناول الفرائض والنوافل" فعطف الوسطى عليه، وأريد بها كل الفرائض تأكيدا لها، "واختاره ابن عبد البر" أبو عمر، وتعجب منه ابن كثير حيث اختار مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل، وأنها لإحدى الكبر كذا قال، وإنه من مثله لشيء عجاب، فإن السند إلى ابن عمر حسن، كما في الفتح فهو دليله، ولذا أعرض الحافظ عن تعقبه فحكاه بلا تعقب، "أو الجمعة" ذكره ابن حبيب، واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، "وصححه القاضي
حسين في صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرءان الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف
حسين في صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر في الأيام، والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء" نقله ابن التين والقرطبي، "لأنها بين صلاتين لا تقصران" ولأنها تقع عند النوم فلذا أمر بالمحافظة عليها، واختاره الواحدي، "أو الصبح والعشاء" معا للحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين. وبه قال الأبهري من المالكية، "أو الصبح والعصر" معا "لقوة الأدلة" في أن كلا منهما الوسطى، "فظاهر القرءان الصبح" لقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، "ونص السنة العصر" عند مسلم وغيره وليس بنص؛ لأن قوله: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، يحتمل كما قال الباجي أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها، وهي الظهر والعصر؛ لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معا ولا يدل ذلك على أنها أفضل من الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق ا. هـ، على أن السيوطي قد قال في الديباج على مسلم أن قوله صلاة العصر مدرج، كما ذكره بعضهم، ولهذا سقط في رواية البخاري.
وفي رواية يعني العصر، وهو صريح في الإدراج ا. هـ.
ومر أن الحافظ دفع ذلك ولكن فيه وقفة، "أو صلاة الجماعة، أو الوتر" صنف فيه علم الدين الشجاعي جزءا، ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي في جزء "أو صلاة الخوف، أو صلاة عيد الأضحى، أو الفطر، أو صلاة الضحى" كذا في النسخ الصحيحة، ومثله في الفتح، وفي نسخة بدله صلاة الفجر وهي تصحيف، "أواحدة من الخمس غير معينة" قاله الربيع بن خيثم وسعيد بن جبير، وشريح القاضي، واختاره إمام الحرمين في النهاية قال: كما أخفيت ليلة القدر "أو الصبح، أو العصر على الترديد، وهو غير القول السابق" الجازم بأن كلا منهما يقال له الوسطى، "أو التوقف".
فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.
زاد في الفتح: العشرون صلاة الليل، وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله، وصار إلى أنها أبهمت جماعة من المتأخرين.
ا. هـ.
وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا".
وفي ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في السنة التي صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد أخرج البزار من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا
قال القرطبي: وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح "انتهى".
ولنمسك عنان القلم رغبة عن التطويل.
"وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة" قاله ابن سعد، وهو مخالف لقول ابن إسحاق فلما أصبح انصرف، ثم هو ظاهر على أن الخندق في القعدة، وكذا على أنه في شوال؛ لأن المراد ابتداء حفره، فلا ينافي استمرار ما تعلق به إلى الوقت المذكور، "وكان قد أقام بالخندق" محاصرا "خمسة عشر يوما" فيما جزم به ابن سعد والبلاذري.
وقال الواقدي: إنه أثبت الأقوال، "وقيل: أربعة وعشرين يوما"، كما رواه يحيى بن سعيد عن ابن المسيب.
ورى الزهري عنه بضع عشرة ليلة، ويمكن أن يفسر بخمسة عشر كما أنه يحتمل تفسير قول ابن إسحاق بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر بالأربعة وعشرين.
وعند الواقدي عن جابر عشرين يوما، وفي الهدي شهرا.
"فقال عليه الصلاة والسلام: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا" ".
وفي البخاري عن سليمان بن صرد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه:"الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم" ".
قال الحافظ في شرحه: "وفي ذلك علم من أعلام نبوته، فإنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في السنة" المقبلة "التي صدته قريش عن البيت" سنة الحديبية، "ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وقد أخرج البزار من حديث جابر بإسناد حسن شاهد لهذا" يعني الحافظ
أمر الحديبية
…