المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

........................................... - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ...........................................

...........................................

فقالت له امرأة منهن: وأنت نجيت عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترا، قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس الأسلمي عن أشياخ منهم عمن حضرها، قالوا: فقامت إليه المرأة حين ضرب عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.

وروى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال: إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها، ثم اصنعوا بي ما بدا لكم، فإذا امرأة طويلة أدماء، فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش، وذكر البيتين الأولين، وقال بعدهما، قالت: نعم فديتك، فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة، فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين، ثم ماتت، فلما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم أخبروه، فقال:"أما كان فيكم رجل رحيم".

وأخرجه البيهقي من وجه آخر نحو هذه القصة، وقال في آخرها: فانحدرت إليه من هودجها، فحنت عليه حتى ماتت.

قال السهيلي: وحبيش مرخم حبيشة، وحلية بفتح المهملة، وسكون اللام، فتحتية فتاء تأنيث، والخوانق بفتح المعجمة، ونون وقاف موضعان، والودائق جمع وديقة، وهي شدة الحر في الظهيرة. انتهى.

ص: 496

"‌

‌غزوة حنين

":

ثم غزا صلى الله عليه وسلم حنينا -بالتصغير- وهو واد قرب ذي المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن.

غزوة حنين:

"ثم غزا"، أي: قصد "صلى الله عليه وسلم حنينا" أي: أهلها، بالسير لقتالهم "بالتصغير" كما نطق به التنزيل، "وهو واد قرب" نحوه قول الفتح وغيره إلى جنب "ذي المجاز" وهو سوق كان للعرب على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، كجعفر جبل وراء الخطيب إذا وقف، كما في القاموس، وبقية هذا القول، كما في الفتح وغيره، قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، "وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف"، حكاه في المراصد، قال أبو عبيد البكري: سمي باسم حنين بن قاين بن مهلاييل.

قال الشامي: والأغلب عليه التذكير؛ لأنه اسم ماء، وربما أنثته العرب؛ لأن اسم البقعة، فسميت الغزوة باسم مكانها، وفي المصباح مذكر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة، "وتسمى غزوة هوازن، بفتح الهاء وكسر الزاي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون، ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة، بمعجمة ثم مهملة ثم هاء مفتوحات، ابن قيس

ص: 496

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري.

عيلان بعين مهملة ابن إلياس بن مضر، كما في الفتح وغيره سميت بذلك؛ لأنهم الذين أتوا لقتاله صلى الله عليه وسلم.

روى الواقدي عن أبي الزناد: أن هوازن أقامت سنة تجمع الجموع، وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم، وغاير المصنف الأسلوب؛ لأن الحاصل منه صلى الله عليه وسلم، لما خرج من مكة مجرد السير، والمناسب له الفعل، والمشار إليه بالتسمية، هو ما حصل للمسلمين مع هوازن ومن معهم، والمناسب له الغزوة، وتسمى أيضا كما في الروض وغيره أوطاس باسم الموضع الذي كانت فيه الوقعة أخيرا، "و" سبب "ذلك" الغزوة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها" أي غالبهم لما يأتي أنه خرج معه ثمانون من المشركين، "مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض" بدل من أشراف، "وحشدوا" بمهملة فمعجمة: اجتمعوا "وقصدوا محاربة المسلمين".

قال أهل المغازي: وأشفقوا أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم، وقالوا: قد فرغ لنا، فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا، وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال، فأجمعوا أمركم، فسيروا في الناس، وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فأجمعت هوازن أمرها، "وكان رئيسهم مالك بن عوف"، وهو ابن ثلاثين سنة، ويقال: مالك بن عبد الله، والمشهور ابن عوف بن سعد بن يربوع بن واثلة، بمثلثة عند أبي عمر وتحتية عند ابن سعد، ابن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن "النصري،" بالصاد المهملة نسبة إلى جده الأعلى نصر المذكور، أسلم بعد غزوة الطائف، وصحب، وشهد القادسية، وفتح دمشق.

ذكر ابن إسحاق: أنه لما انهزم المشركون لحق مالك بالطائف، فلما جاءه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن سألهم عنه، فقالوا: هو مع ثقيف، فقال:"أخبروه أنه إن أتاني مسلما، رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل" ، فأتى مالك بذلك فركب مستخفيا، فأدركه صلى الله عليه وسلم بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه المائة وأسلم، وحسن إسلامه، وقال حين أسلم هذا الشعر:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى

ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عودت أنيابها

بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله

وسط الهباة جاء ذر في مرصد

ص: 497

فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست خلون من شوال، في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعني: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق -فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله.

واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد.

فاستعمله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وتلك القبائل، فكان يقاتل بهم ثقيفا، لا يخرج لهم سرح، إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم، "فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست خلون من شوال"، قاله الواقدي وغيره، وقال ابن إسحاق وعروة: لخمس منه واختاره ابن جرير وروي عن ابن مسعود، فأما إنه للاختلاف في هلال الشهر، أو من قال لست عد ليلة الخروج، ومن قال لخمس لم يعدها؛ لأنه لما خرج في صبيحتها، كأنه خرج فيها وقيل: خرج لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم، كما في الفتح وغيره: بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان، وسار سادس شوال، ووصل إليها في عاشره، "في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف" الذين خرج بهم "من أهل المدينة" أربعة آلاف من الأنصار، وألف من جهينة، وألف من مزينة، وألف من أسلم، وألف من غفار، وألف من أشجع، وألف من المهاجرين وغيرهم.

رواه أبو الشيخ عن محمد بن عبيد بن عمير الليثي، "وألفان ممن أسلم من أهل مكة" قاله ابن إسحاق، ومن وافقه في أن جميع من حضر الفتح عشرة آلاف، فزادوا ألفين، "وهم الطلقاء" الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، "يعني الذين خلى عنهم يوم فتح مكة، وأطلقهم، فلم يسترقهم"، بل منَّ عليهم بعدما كانوا مظنة لأن يسترقهم، "وأحدهم طليق فعيل بمعنى مفعول وهو الأسير إذا أطلق سبيله"، فكأنه جعلهم أسرى، مع أنه لم يأسر أحدًا منهم بالفعل، تنزيلا لهم منزلة الأسرى، لقدرته عليهم ومنِّه.

قال الشامي: وعلى قول عروة، والزهري، وابن عقبة: يكون جميع الجيش الذين سار بهم أربعة عشر ألفا؛ لأنهم قالوا: قدم مكة باثني عشر ألفا، وأضيف إليهم ألفان من الطلقاء، قال شيخنا: ولا يتعين، بل يجوز أن الألفين الذين لحقوه بعد خروجه من المدينة رجعوا إلى أماكنهم بعد الفتح، وبقي من خرج معه من المدينة خاصة، وانضم إليهم الطلقاء، "واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب" بفتح المهملة والفوقية المشددة وبالموحدة، "ابن أسيد" بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون التحتية فمهملة، ابن أبي العيص، بكسر المهملة، ابن أمية الأموي المكي، أمير

ص: 498

وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع بأداتها.

مكة في العهد النبوي، وسنه قريب من عشرين سنة، ومعه معاذ بن جبل، يعلمهم السنن والفقه.

وفي الروض قال أهل التعبير: رأى صلى الله عليه وسلم في المنام أسيدا واليا على مكة مسلما، فمات كافرا، فكانت الرؤيا لولده عتاب، حين أسلم ولاه، وهو ابن إحدى وعشرين سن، ورزقه كل يوم درهما، فكان يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم، وقال عند موته: والله ما اكتسبت في ولايتي كلها قميصا معقدا كسوته غلامي كيسان.

قال الحافظ: مات عتاب يوم مات الصديق، فيما ذكر الواقدي، لكن ذكر الطبري أنه كان عاملا على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين، "وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين"، وابن عقبة والواقدي: خرج معه أهل مكة، لم يغادر منهم أحدا ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين، نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "منهم صفوان بن أمية"، وهو يومئذ في المدة التي جعل له عليه السلام الخيار فيها، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع"، كما رواه أحمد، وأبو داود والنسائي، وابن إسحاق في رواية يونس عنه، عن جابر وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم لما أجمع السير إلى هوازن، ذكر له أن عند صفوان أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال:"يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلقى فيه عدونا". فقال صفوان: أغصبا يا محمد، فقال:"بل عارية مضمونة حتى نردها إليك". قال: ليس بهذا بأس فأعطى له مائة درع بما فيها من السلاح، فسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها، فحملها إلى أوطاس "بأداتها" الأنسب قول غيره بآلاتها، أي التروس والخوذ ويقال: إنه استعار منه أربعمائة درع بما يصلها، فإن صح، فالمائة داخلة في الأربعمائة، قال في النور: واختلفوا في قوله عارية مضمونة، هل هو صفة موضحة أو مقيدة، فإن قال بالأول كالشافعي، قال: تضمن إذا تلفت، ومن قال: مقيدة، قال: لا إلا الشرط.

قال السهيلي: واستعار صلى الله عليه وسلم من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فقال صلى الله عليه وسلم:"كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين".

روى ابن إسحاق والترمذي وصححه، والنسائي عن الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، فسرنا معه، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، فرأينا ونحن نسير سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر".

ص: 499

فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.

فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب.

ووجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم.

ثلاثا، "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم". "فوصل إلى حنين" كما رواه أبو نعيم والبيهقي من طريق ابن إسحاق.

قال: حدثني أمية بن عبد الله، أنه حدث أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى حنين مساء "ليلة الثلاثاء" كأنه جعلها مضت مع إتيانهم فيها، فقال:"لعشر ليال خلون من شوال" ولم يحسب ليلة السبت مما مضى، فتكون سابعة وإلا فتكون ليلة الثلاثاء تاسعة؛ لأنه إذا حسبه ماضية، فالماضي بعدها ثلاث ليال، "فبعث مالك بن عوف" رئيس المشركين "ثلاثة نفر" من هوزان "يأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لفظ رواية أمية المذكور ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، "فرجعوا إليه، وقد تفرقت أوصالهم" أي مفاصلهم جمع وصل بالكسر "من الرعب" بقية الرواية المذكورة، فقال، أي مالك: ويلكم ما شأنكم، فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، والله ما نقاتل أهل الأرض إن نقاتل إلا أهل السماء، وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل الذي رأينا، أصابهم مثل ما أصابنا. فقال: أف لكم بل أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج، ثم رجع إليه، قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيض على خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فوالله ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثن ذلك مالكا عن وجهه، "ووجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد" بمهملات وزان جعفر، واسمه سلامة، وقيل: عبيد بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن سنان بن الحارث بن قيس بن هوازن بن أسلم "الأسلمي" الصحابي ابن الصحابي، المتوفى سنة إحدى وسبعين، وله إحدى وثمانون سنة، وما في نسخ ابن حدرد بإسقاط أبي غلط، "فدخل عسكرهم" كما أمره عليه السلام، "فطاف بهم، وجاء بخبرهم".

أخرج ابن إسحاق في رواية الشيباني، عن جابر وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر عبد الله بن أبي حدرد، فيقيم فيهم، وقال له: اعلم لنا من علمهم، فأتاهم، فدخل فيهم، فأقام فيهم يوما أو يومين، حتى

ص: 500

وفي حديث سهل بن الحنظلية -عند أبي داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطنبوا السير، فجاء رجل فارس فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، وإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال:"تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله تعالى".

سمع، وعلم ما قد أجمعوا، عليه من حربه صلى الله عليه وسلم وسمع من مالك وأمر هوازن، وما هم عليه.

وعند الواقدي أنه انتهى إلى خباء مالك، فيجد عنده رؤساء هوازن، فسمعه يقول لأصحابه: إن محمدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب، فيظهر عليهم، فإذا كان السحر، فصفوا مواشيكم، ونساءكم، وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا، ثم تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم، فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون، واحملوا حملة رجل واحد، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا، فأقبل حتى أتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لعمر:"ألا تسمع ما يقول"، فقال: كذب، فقال ابن حدرد: لئن كذبتني يا عمر ربما كذبت بالحق، فقال عمر: ألا تسمع ما يقول، فقال صلى الله عليه وسلم:"قد كنت ضالا فهداك الله" وقوله بعشرين ألف سيف صواب، ويأتي تحقيقه قريبا.

"وفي حديث سهل ابن الحنظلية،" هي أمه، أو جدته، أو أم جده، واسم أبيه الربيع، أو عبيد، أو عمر بن عدي، وهو الأشهر، بن زيد بن جشم الأنصاري الأوسي.

قال البخاري: صحابي بايع تحت الشجرة، وكان عقيما، لا يولد له، وقال غيره: شهد المشاهد إلا بدرا، توفي في صدر خلافة معاوية، قاله في الإصابة ملخصا، ووقع في نسخ سعد ابن الحنظلية، وهو خطأ، فالذي في الفتح وغيره سهل، وهو الذي "عند أبي داود بإسناد حسن، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" يوم حنين، "فأطنبوا السير" بالغوا فيه حتى كان عشيته، حضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فجاء رجل فارس" قال الحافظ: هو عبد الله بن أبي حدرد، كما دل عليه حديث جابر عند ابن إسحاق، يعني الحديث المتقدم، "فقال إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، وإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم" بفتح الموحدة وسكون الكاف، قاله ابن الأثير، وتبعه غيره، فهو الرواية هنا، وإن كان فتح الكاف لغة، "بظعنهم، ونعمهم، وشائهم" جمع شاة "اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم"، وقال:"تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى"، وهذا صنعه الله لرسوله، وإن كان قد غيب ذلك على مالك بن عوف، فعند ابن إسحاق وغيره، أن هوازن لما اجتمعت على حرب المصطفى، سألت دريد بن الصمة الرياسة عليها، فقال: وما ذاك، وقد عمي بصري، وما أستمسك على ظهر الفرس، أي لأنه بلغ

ص: 501

وقوله: عن بكرة أبيهم. كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا.

مائة وعشرين، أو خمسين، أو وسبعين سنة، أو قارب المائتين، قال: ولكن أحضر معكم لأشير عليكم رأيي، بشرط أن لا أخالف، فإن ظننتم أني مخالف أقمت ولم أخرج، فقالوا: لا نخالفك، وجاءه مالك، وكان جماع أمرهم إليه فقال له: لا نخالفك فيما تراه فقال: تريد أنك تقاتل رجلا كريما، قد أوطأ العرب، وخافته العجم ومن بالشام، وأجلى يهود الحجاز، إما قتلا وإما خروجا عن ذلك وصغار، ويومك هذا الذي تلقى فيه محمدا، ما بعده يوم، قال مالك: إني لأطمع أن ترى ما يسرك، قال دريد: منزلي حيث ترى، فإذا جمعت الناس رست إليك.

فلما خرج مالك بالظعن والأموال، وأقبل دريد، قال لمالك: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، قال: أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله، يقاتل عنهم، فانتقص به دريد، وقال: راعي ضأن والله ما له وللحرب وصفق بإحدى يديه على الأخرى تعجبا، وقال: هل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك، إنك إن لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل، فارتفع الأموال، والنساء، والذراري إلى ممتنع بلادهم، ثم الق القوم على متون الخيل، والرجال بين أصناف الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك، وقد أحرزت أهلك ومالك. فقال مالك: والله لا أفعل، ولا أغير أمرا فعلته، إنك قد كبرت، وكبر عقلك، فغضب دريد، وقال: يا معشر هوازن ما هذا برأي، إن هذا فاضحكم في عورتكم، وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا وتركوه، فسل مالك سيفه، وقال: إن لم تطيعوني لأقتلن نفسي، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فمشى بعضهم إلى بعض، فقالوا: لئن عصيناه ليقتلن نفسه وهو شاب، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه، فاجمعوا رأيكم مع مالك، فلما رأى دريد أنهم خالفوه قال:

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع

كأنها شاة صدع

وطفاء بفتح الواو وسكون المهملة وبالفاء وبالمد، والزمع بفتح الزاي والميم ومهملة، صفة محمودة في الخيل، "وقوله: عن بكرة أبيهم. كلمة العرب يريدون بها الكثرة، وتوفر العدد"، وأنهم جاءوا جميعا، لم يتخلف منهم أحد، "وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا" أي: استعملت، لا المعنى الاصطلاحي، وكان المراد أن اجتماع بني أب على بكرة أبيهم التي يستقى بها، يلزمها الكثرة عرفا، فأطلق العبارة مريدا لازمها، وهو

ص: 502

وقوله: بظعنهم. أي: بنسائهم، واحدها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: ظعينة لأنها تظعن مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة: المرأة التي في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة ظعينة. انتهى.

وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين.

مطلق الكثرة، "وقوله بظعنهم" بضم الظاء المعجمة، والعين المهملة، "أي: بنسائهم واحدها ظعينة، وأصل الظعينة" يقال:"للراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي يسار، وقيل للمرأة،" أي سميت "لأنها تظعن" ترحل "مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت"، فهي من تسمية المحمول باسم الحامل، "وقيل: الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة: ظعينة. انتهى".

وبقية حديث سهل ابن الحنظلية، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"من يحرسنا الليلة"؟. قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، قال:"فاركب". فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة". فلما أصبحنا خرج صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال:"هل أحسستم فارسكم" قالوا ما أحسسناه، فوثب بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم، قال:"أبشروا، فقد جاءكم فارسكم". فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف عليه، فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كلاهما، فنظرت، فلم أر أحدا فقال صلى الله عليه وسلم:"هل نزلت الليلة" قال: لا إلا مصيبا أو قاضي حاجة، فقال له:"قد أوجبت، فلا عليك أن تعمل بعدها".

رواه أبو داود، والنسائي، ونغرن بضم النون، وفتح المعجمة، وشد الراء.

"وروى يونس بن بكير" بن واصل الشيباني، أبو بكر الكوفي، الصدوق، الحافظ، عن ابن إسحاق وهشام وخلف، وعنه ابن معين، وغيره مات سنة تسع وتسعين ومائة، "في زيادة المغازي،"لشيخه ابن إسحاق أي فيما زاده على ما رواه عنه، "عن الربيع" بن أنس البكري أو الحنفي البصري، صدوق له أوهام.

روى له الأربعة، مات سنة أربعين ومائة أو قبلها، "قال: قال رجل يوم حنين" هو غلام من الأنصار، كما في حديث أنس عن البزار، وقيل: هو مسلمة بن وقش، وقيل: هو رجل من بني بكر.

ص: 503

لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء "دلدل" لطيفة.

حكاه ابن إسحاق: "لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم" لأن ظاهره الافتخار بكثرتهم والإخبار بنفي الغلبة لانتفاء القلة، فكأنه قال: سبب الغلبة القلة، ونحن كثير فلا نغلب، كما روى الحاكم وصححه، وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم عن أنس، لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم، فقال القوم: اليوم والله نقاتل حين اجتمعنا، فكره صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم، ووقع عند ابن إسحاق: حدثني بعض أهل مكة أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال حين رأى كثرة من معه من جنود الله تعالى: "لن نغلب اليوم من قلة" قال الشامي: والصحيح أن قائل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم.

وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وبه جزم ابن عبد البر. انتهى، وعلى فرض صحة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله أو الصديق، فليس المراد الافتخار، بل التسليم لله، فالمقصود نفي القلة لا نفي الغلبة، أي إن غلبنا فليس لأجل القلة، بل من الله الذي بيده النصر والخذلان، كما أفاد ذلك الطيبي في حواشي الكشاف، فقال: هذا مثل قوله تعالى: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] الآية، في أن قوله لم يخروا ليس نفيا للخرور، إنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، كذلك لن نغلب ليس نفيا للمغلوبية، وإنا هو إثبات ونفي القلة، يعني متى غلبنا، كان سببه عن القلة، هذا من حيث الظاهر، ليس كلمة إعجاب، لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا، "ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل".

قال الحافظ في الفتح: كذا عند ابن سعد، وتبعه جماعة ممن صنف في السير، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس، وقد روى مسلم عن العباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلة له بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، وله عن سلمة: وكان على بغلته الشهباء.

قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البلغتين، إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح، وأغرب النووي، فقال: البيضاء والشهباء واحدة، ولا يعرف به بغلة غيرها، وتعقبوه بدلدل، فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل: إن الاسمين لواحدة. انتهى.

وهذا القيل زعمه ابن الصلاح وهو مردود بأن البيضاء التي هي الشهباء أهداها له فروة بن نفاثة، بضم النون وخفة الفاء ومثلثة، ودلدل أهداها المقوقس، "لطيفة" قال القطب الحلبي: استشكلت عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد، فقال لي: كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة، وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف.

ص: 504

ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح.

قال الحافظ: ودل هذا على أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السير، وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل تضلعه منها، ولخروج نسخ كتابه، وانتشاره لم يتمكن من تغييره. انتهى.

ووقع في رواية لأحمد، وأبي داود وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان يومئذ على فرس، قال الشامي: وهي شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة.

قال الواقدي عن شيوخه: لما كان ثلث الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه، فعبأهم في وادي حنين، وهو واد أجوف خطوط ذو شعاب ومضايق، وفرق الناس فيها، وأوعز إليهم أن يحملوا على المسلمين حملة واحدة، وعبأ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصفهم صفوفا في الشجر، ووضع الألوية والرايات في أهلها، "ولبس درعين، والمغفر، والبيضة"، واستقبل الصفوف، وطاف عليهم بعضا خلف بعض ينحدرون، فحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن الوليد في بني سليم، وأهل مكة، وجعل ميمنة، وميسرة وقلبا كان صلى الله عليه وسلم فيه.

قال ابن القيم: من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا، وشرعا، فإنه صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق توكلا، وقد دخل مكة، والبيضة على رأسه، ولبس يوم حنين درعين، وقد أنزل الله عليه:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .

وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب تارة بأنه فعله تعليما لأمته، وتارة بأنه قبل نزول الآية، ولو تأمل أن ضمان الله العصمة، لا ينافيه تعاطيه لأسبابها، فإن ضمان ربه لا ينافي احتراسه من الناس، كما أن إخباره تعالى بأنه يظهره على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال، وإعداده العدة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية، فكان إذا أراد غزوة وارى بغيرها، وذلك لأنه إخبار من الله عن عاقبة حاله وما له بما يتعاطاه من الأسباب، التي جعلها بحكمته موجبة لما وعده من النصر والظفر، وإظهار دينه وغلبة عدوه. انتهى.

"فاستقبلهم من هوازن ما لم يرو مثله قط من السواد والكثرة" لأنهم أزيد من عشرين ألفا، "وذلك في غبش" بفتح المعجمة والموحدة وبالمعجمة قال في القاموس: بقية الليل أو ظلمة آخر، فإضافته إلى "الصبح" الذي هو أول النهار إشارة إلى شدة قربه من الليل حتى كأن ظلمته باقية، وفي حديث جابر عند ابن إسحاق وغيره في عماية الصبح، بفتح المهملة وخفة الميم بقية ظلمته، ولا ينافي هذا ما عند أبي داود وغيره بسند جيد عن أبي عبد الرحمن بن

ص: 505

وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بني سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس.

ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب،

يزيد: أنه أتاه صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس قال: "ثم سرنا يومنا فلقينا العدو"؛ لأنه يجمع بأنهم ساروا بقية اليوم، ونزلوا بحنين ليلا، والتقوا بغبش الصبح، "وخرجت الكتائب من مضيق الوادي،" وكانوا فيه كامنين، "فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية" لتقدم كثير ممن لا خبرة له بالحرب، وغالبهم من شبان مكة، "وتبعهم أهل مكة" مؤلفة وغيرهم ممن إسلامه مدخول، قيل: فقالوا: اخذلوه هذا وقته، فانهزموا "والناس" المسلمون.

قال الحافظ: والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة، أن العدو كانوا ضعفهم في العدد، وأكثر من ذلك. انتهى، بل في النور أنهم كانوا أضعاف المسلمين، وما وقع في البيضاوي والبغوي ونحوهما: أن ثقيف وهوازن كانوا أربعة آلاف إن صح، فلا ينافيه لأنهم انضم إليهم من العرب ما بلغوا به ذلك، فقد مر أنهم أقاموا حولا يجمعون لحربه عليه السلام، لا أنهم باعتبار ما معهم من نساء ودواب يرون ضعفا وأضعاف المسلمين وإن كانوا في نفس الأمر أربعة آلاف، لأن بعده لا يخفى، كما كتبناه عن شيخنا في التقرير، أي لأن فيه رد كلام الحفاظ الثقات الأثبات بلا دليل، فإن أربعة داخلة في الزائد، فلا يصح رد الزائد إليها، بهذا الحمل المتعسف الذي يأباه قول مالك بن عوف تلقونه بعشرين ألف سيف، فإن البهائم لا سيوف معها، ثم كون هذا سبب انكشافم، وأنهم بمجرد التلاقي ولوا مدبرين، هو ما وقع عند ابن سعد وغيره، ورواه ابن إسحاق وأحمد وابن حبان عن جابر: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعوب، وإنما ننحدر فيه انحدارا، وفي عماية الصبح: وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي، فكمنوا في شعابه، وأجنابه، ومضايقه وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن محيطون إلا الكتائب قد شدو علينا شدة رجل واحد، وكانوا رمة، وانحاز صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال:"أيها الناس هلم إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله"، قال: فلأي شيء حملت الإبل بعضه على بعض، فانطلق الناس. وفي حديث البراء عند البخاري، كما يأتي: أن هوازن كانوا رماة، ولما حمل المسلمون عليهم كشفوهم فأكبوا على المغانم، فاستقبلوهم بالسهام، فهذا صريح في أنهم لم يفروا بمجرد التلاقي، بل قاتلوا المشركين حتى كشفوهم، واشتغلوا بالغنيمة وذكر الحافظ السببين ولم يجمع بينهما، "ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب".

قال أنس: وكان يومئذ أشد الناس قتالا بين يديه، رواه أبو يعلى والطبراني لرجال ثقات،

ص: 506

والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، في أناس من أهل بيته وأصحابه.

قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، وفعل ذلك العباس لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه.

"والفضل بن العباس" أكبر ولده، وبه كان يكنى استشهد في خلافة عمر "وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، زاد ابن إسحاق في حديث جابر: وأخوه ربيعة وابنه، قال ابن هشام واسمه جعفر، قال: وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ولا يعد ابن أبي سفيان، ويأتي فيه نظر لأن قثما كان صغيرا يومئذ، "وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد في أناس من أهل بيته وأصحابه" منهم أيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.

قال الحافظ: وأكثر ما وقفت عليه قول ابن عمر وما معه عليه السلام مائة رجل.

وللبخاري عن أنس فأدبروا عنه حتى بقي وحده، ويجمع بينهما بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو والذين ثبتوا معه، كانوا وراءه أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره، كانوا يخدمونه في إمساك البغلة وغير ذلك، ولأبي نعيم في الدلائل تفصيل المائة: بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار.

ومن الأنصار من النساء أم سلم وأم حارثة. انتهى، ويأتي مزيد لذلك حيث أعاد الكلام فيه المصنف، "قال العباس" في رواية مسلم وغيره: شهدت يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث، فلم نفارقه

الحديث، وفيه تولي المسلمين مدبرين، فطفق صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، "وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، فعل ذلك العباس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو"، أي: صدره، أي: أوله، "وأبو سفيان بن الحارث آخد بركابه".

وفي حديث البراء عند البخاري وغيره وأبو سفيان بن الحارث: آخذ برأس بغلته البيضاء وفي رواية له وابن عمه يقود به. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها، فلما ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين، خشي العباس فأخذ بلجامها يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب، وترك اللجام للعباس، إجلالا له، لأنه عمه. انتهى.

قال ابن عقبة: فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو على البغلة يدعو: "اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا".

وروى أحمد برجال الصحيح عن أنس كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "اللهم إنك إن تشأ لا تعبد بعد اليوم". وعند الواقدي كان من دعائه حين انكشف الناس ولم يبق معه إلا المائة

ص: 507

وجعل عليه الصلاة والسلام يقول للعباس: "ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة". يعني: شجرة بيعة الرضوان التي بايعوا تحتها، أن لا يفروا عنه.

فجعل ينادي تارة يا أصحاب السمرة، وتارة أيا أصحاب سورة البقرة.

الصابرة: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان". فقال له جريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن الله تعالى موسى يوم فلق البحر، وكان البحر أمامه وفرعون خلفه.

وروى البيهقي عن الضحاك قال: فدعا موسى حين توجه إلى فرعون، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين:"كنت وتكون، وأنت حي لا تموت، تنام العيون، وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم". والجمع أنه دعا بجميع ذلك، وقوله:"لا تعبد بعد اليوم"؛ لأنه أول يوم لقي فيه المشركين بعد الفتح الأعظم، ومعه المشركون والمؤلفة قلوبهم، والعرب في البوادي كانت تنتظر بإسلامها قريشا، فلو وقع والعياذ بالله تعالى خلاف ذلك، لما عبد الله.

وقد روى الواقدي عن قتادة قال: مضى سرعان المنهزمين إلى مكة يخبرون أهلها بالهزيمة، فسر بذلك قوم من أهلها وأظهروا الشماتة، وقال قائلهم: ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه، فقال عتاب بن أسيد، إن قتل محمد فإن دين الله قائم، والذي يعبده محمد حي لا يموت، فما أمسوا حتى جاءهم الخبر بنصره صلى الله عليه وسلم فسر عتاب ومعاذ، وكبت الله من كان يسر خلاف ذلك.

وعند اب إسحاق لما رأى من كان معه صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة ما وقع، تكلم رجال بما في أنفسهم، فقال أبو سفيان بن حرب وكان إسلامه بعد مدخولا: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل، وقال ابن هشام كلدة بن الحنبل: وأسلم بعد ألا بطل السحر اليوم، فقال له أخوه لأمه صفوان بن أمية، هو حينئذ مشرك: اسكت فض الله فاك، لأن يريني رجل من قريش أحب إلي من أن يريني رجل من هوازن، وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري، أقتل محمدا فأقبل شيء حتى غشي فؤادي فعلمت أنه ممنوع مني، وعند ابن أبي خثيمة، لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار، وسور من حديد فالتفت إليّ صلى الله عليه سلم وتبسم وعرف ما أردت فمسح صدري وذهب عني الشك، "وجعل عليه الصلاة والسلام يقول للعباس:"ناد يا معشر الأنصار ". لأنهم بايعوه ليلة العقبة على عدم الفرار "يا أصحاب السمرة". "يعني: شجرة الرضوان التي بايعوا تحتها على أن لا يفروا عنه"، كما في مسلم، بل في البخاري أنهم بايعوه على الموت.

وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على هذا وبعضا بايع على هذا وبعضا على ذاك، كما مر مفصلا "فجعل ينادي تارة يا أصحاب السمرة، وتارة يا أصحاب سورة البقرة" خصت بالذكر

ص: 508

وكان العباس رجل صيتا، فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها.

وفي رواية مسلم: قال العباس: فوالله لكأن عطفتهم -حين سمعوا صوتي- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه.

حين الفرار لتضمنها {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} ، أو لتضمنها:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} ، أو {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} ، وليس النداء بها اجتهادا من العباس، بل بأمره صلى الله عليه وسلم ففي مسلم وغيره قال العباس: فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس! ناد: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! " ، "وكان العباس رجلا صيتا ولذا خصه بالنداء".

قيل: كان يسمع صوته من ثمانية أميال، "فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها" حتى نزل صلى الله عليه وسلم كأنه في حرجة، بفتح المهملة والراء وبالجيم، شجر ملتف كالفيضة.

قال العباس: فلرماح الأنصار كانت أخوف عندي على رسول الله من رماح الكفار.

أخرج البيهقي وغيره، أي لعلمه بحفظ الله له من رماح الكفار، وبعدهم عنه بخلاف رماح الأنصار، خاف أن يصيبه شيء منها بغير قصدهم، لشدة عطفهم عليه ومجيئهم لديه.

"وفي رواية مسلم" أيضا: أن الذي قبلها روايته عن العباس: شهدت مع رسول الله يوم حنين

الحديث، وفيه: وكنت رجلا صيتا، فناديت بأعلى صوتي أين الأنصار أين أصحاب السمرة أين أصحاب سورة البقرة، "قال العباس: فوالله لكان عطفهم" أي إقبالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم "حين سمعوا صوتي عطفة"، أي: حنو "البقر على أولادها" وفي السابقة الإبل فتارة شبههم بها، وتارة بالبقر، والمعنى صحيح، لأنه كان حنوا زائدا، وفيه دليل على أنهم لم يبعدوا حين تولوا، "يقولون: يا" عباس "لبيك يا" عباس "لبيك" فالمنادى محذوف نحو: ألا يا اسلمي، "ألا يا اسجدوا" في قراءة، أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوما بطاعتك بعد لزوم، "فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وازدحموا "حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع" أي لكثرة الأحزاب المنهزمين، كما ذكره ابن عبد البر، "انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه".

وفي رواية ابن إسحاق: فأجابوا لبيك لبيك، فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، فيؤم

ص: 509

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم فقال:"الآن حمي الوطيس". وهو كما قال جماعة التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذي يشبه حرها حره. وهذا من فصيح الكلام الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم.

وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض ثم قال: "شاهت الوجوه" أي قبحت.

الصوت حتى ينتهي "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة" على المشركين، فامتثلوا أمره، "فاقتتلوا مع الكفار".

وفي رواية ابن إسحاق حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أولا للأنصار، ثم خلصت أخيرا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب، "فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم"، أسقط من مسلم قوله: وهو على بغلته كالمتطاولة، فقال:"الآن" وفي رواية: "هذا حين". "حمي الوطيس".

قال في الروض: من وطست الشيء إذا كدرته، وأثرت فيه، "وهو كما قال جماعة التنور يخبز فيه" وقال ابن هشام: حجارة توقد العرب تحتها النار، ويشوون فيها اللحم وفي الروض الوطيس نقرة في حجر يوقد حوله النار فيطبخ فيه اللحم والوطيس التنور.

"يضرب مثلا" بعد نطقه عليه السلام به لأنه أول من قاله، "لشدة الحرب الذي يشبه حرها" ألمها الحاصل منها، "حره" التنور الحاصل من ملاقاته إذ ليس فيها حرارة حسية تشبه بحره، وفي السبل الوطيس شيء كالتنور يخبر فيه شبه شدة الحر به، وقيل: حجارة مدورة إذا حميت منعت الوط عليها، فضرب مثلا للأمر يشتد، "وهذا من فصيح الكلام الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم" كما قاله في الروض وغيره، وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض" بنفسه، كما روى أبو القاسم البغوي والبيهقي وغيرهما عن شبيه، قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ناولني من الحصباء" فأقعد الله تعالى البغلة، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول من البطحاء، فحثى به في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه حم لا ينصرون".

ووقع عند أبي نعيم بسند ضعيف عن أنس، أنه كان على بغلته الشهباء دلدل، فقال لها:"دلدل البدي" فألزقت بطنها في بالأرض، فأخذ حفنة من تراب، كذا في هذه الرواية الضعيفة اسمها دلدل، والصحيح أنه كان على فضة، كما مر، ثم قال:"شاهت الوجوه". "أي قبحت" خبر بمعنى الدعاء أي اللهم قبح وجوههم وقال: "شاهت الوجوه" وجوههم ويحتمل أنه خبر، لوثوقه بذلك

ص: 510

ورمى بها في وجوه المشركين فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة.

وفي رواية لمسلم: ثم قبض من تراب الأرض. فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب.

ولأحمد وأبي داود والدارمي، من حديث أبي عبد الرحمن الفهري في قصة حنين.

"ورمى بها في وجوه المشركين" زاد مسلم، ثم قال:"انهزموا ورب محمد". ففيه معجزتان: فعلية خبرية، فإنه رماهم بالحصيات وأخبر بهزيمتهم فانهزموا، "فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه" الثنتين "من تلك القبضة".

قال البرهان: بضم القاف الشيء المقبوض، ويجوز فتحها انتهى، لكن المناسب هنا الضم اسم للقبض باليد، وفي بقية رواية مسلم هذه عن العباس فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى جدهم كليلا وأمرهم مدبرا فوالله ما رجع الناس، إلا والأسارى عنده صلى الله عليه وسلم مكتفون.

"وفي رواية لمسلم" أيضا من حديث سلمة بن الأكوع: فما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، نزل عن البغلة، "ثم قبض قبضة من تراب الأرض" ثم استقبل به وجوههم، فقال:"شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأت عينه ترابا تلك القبضة، فولوا منهزمين، "فيحتمل" في الجمع بين روايتي العباس وسلمة، "أنه رمى بذا" الحصى "مرة وبذا" التراب "أخرى، ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب".

لكن بقي أن في الرواية الأولى أنه لم ينزل عن البغلة، وقد بينا كيف أخذه وهو عليها وفي الثانية أنه نزل وأخذه، ويأتي قريبا أن ابن مسعود ناوله كفا من تراب، وللبزار من حديث ابن عباس أن عليا ناوله التراب يومئذ.

قال الحافظ ويجمع بين هذه الأحاديث: بأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحبه: ناولني، فرماهم ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا، فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين، وفي الأخرى التراب. انتهى. أي وأن كلا من ابن مسعود وعلي ناوله، "ولأحمد وأبي داود والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، الحافظ، الثقة، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي، وكذا رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه والبيهقي رجاله ثقات كلهم "من حديث أبي عبد الرحمن الفهري"، بكسر الفاء الصحابي قيل: اسمه يزيد بن إياس، وقيل: الحارث بن هشام وقيل: عبيد، وقيل: كرز بن ثعلبة شهد حنينا، ثم فتح مصر، كما في الإصابة وغيرها "في قصة حنين" ولفظة:

ص: 511

قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنا عبد الله ورسوله أنا عبد الله ورسوله". ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفا من تراب. قال: فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم الله تعالى.

كنت معه صلى الله عليه وسلم في حنين في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس، لبست لأمتي، وركبت فرسي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في فسطاطه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، قد حان الرواح، قال:"أجل" ثم قال: "يا بلال". فثار من تحت شجرة كأن ظله ظل طائر، فقال: لبيك وسعديك، وأنا فداؤك. قال:"اسرج لي فرسي". فأتى بسرج وقفاه من ليف، ليس فيهما أشر ولا بطر فركب فرسه، ثم سرنا يومنا، فلقينا العدو، وتشاءمت الخيلان فقاتلناهم، "قال: فولى المسلمون" أي أكثرهم، كما مر، ويأتي أنه ثبت معه جماعة نحو المائة. "مدبرين" ذاهبين إلى خلف ضد الإقبال، "كما قال الله تعالى، فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا عبد الله ورسوله أنا عبد الله وسوله". وفي مرسل عكرمة عند أبي الشيخ، فقال:"أنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثلاث مرات.

وفي حديث أنس عند أحمد والحاكم وغيرهما قال: جاءت هوازن بالنساء والصبيان، والإبل والغنم فجعلوهم صفوفا ليكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون مدبرين، كما قال تعالى، وبقي صلى الله عليه وسلم وحده، فقال:"يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله"، ونادى صلى الله عليه وسلم نداءين لم يخلط بينهما كلام فالتفت عن يمينه، فقال:"يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله"، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، ثم التفت عن يساره، فقال:"يا معشر الأنصار، أنا عبد الله ورسوله"، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، فهزم الله المشركين، ولم يضرب بسيف، ولم يطعن برمح، "ثم اقتحم عن فرسه". قال الشامي: هي رواية شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة انتهى، ويحتمل أنه عبر عنها بالفرس مجازا لشبهها بها في الإقدام بحيث كان العباس يكفها، ونزوله بعد انخفاضها به وأخذه الحصى ورميهم به، كما مر فلا تنافي.

قال العلماء: وفي نزوله عن البغلة، حين غشوه مبالغة في الشجاعة والثبات والصبر، وقيل فعله موأساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين. انتهى، فزعم أن الراوي لم يتأمله تحقيقا لكثرة الناس، وظن بانخفاضها نزوله عنها توهيم للرواة الأثبات بلا داعية، فقد أمكن الجمع بدون توهيم فنزوله عنها ثبات في الصحيحين وغيرهما، "فأخذ كفا من تراب. قال" أبو عبد الرحمن المذكور:"فأخبرني الذي كان أدنى" أقرب "إليه مني أنه ضرب به وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم الله تعالى".

ولأبي يعلى، والطبراني برجال ثقات عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يوم حنين كفا من حصباء

ص: 512

قال يعلى بن عطاء راويه عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق هنا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد بالجيم.

قال في النهاية: وصف الطست وهي مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقي فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما توصف به المرأة نحو: امرأة قتيل. انتهى.

ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به صلى الله عليه وسلم بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله.

أبيض فرمى به، وقال:"هزموا ورب الكعبة""قال يعلى" بتحتية أوله "ابن عطاء" العامري، ويقال: الليثي الطائفي، الثقة، المتوفى سنة عشرين ومائة أو بعدها، روى له مسلم والأربعة "راويه عن أبي همام" الكوفي عبد الله بن يسار، ويقال: عبد الله بن رافع مجهول من الثالثة، كما في التقريب روى له أبو داود "عن أبي عبد الرحمن الفهري" الصحابي المذكور، ومقول يعلى الموصوف بذلك هو قوله:"فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا"، فزاد الفم "وسمعنا صلصلة" صوتا له دوي "من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد بالجيم" تنبيها على قوة الصوت الذي سمعوه، فإن صوت الجديد أقوى من العتيق.

"قال في النهاية: وصف الطست، وهي مؤنثة بالجديد، وهو مذكر إما لأن تأنيثها غير حقيقي، فأوله على الإناء والظرف" الواو بمعنى أو، وهذا قد يفهم أن المؤنث الحقيقي لا يصح مع أنه يصح بالتأويل على إرادة الشخص، كما صرحوا به كثيرا إلا أن غير الحقيقي أسهل "أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث، كما يوصف به المرأة حو: امرأة قتيل. انتهى"، وفيه أن الذي يستوى فيه المذكر والمؤنث هو فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح لا بمعنى فاعل، كقوله: جديد إذ معناه قامت به الجدة، ولذا اعترض من قال ذلك في قوله تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ، بأنه بمعنى فاعل؛ لأن معناه قام به القرب، "ولأحمد، والحاكم" والطبراني، وأبي نعيم، والبيهقي برجال ثقات "من حديث ابن مسعود" قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، فقمنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله تعالى عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته لم يمض قدما، "فحادت" مالت "به صلى الله عليه وسلم بغلته،" ولعل معناه خرجت عن الاستقامة لأمر أصابها، "فمال السرج" لخروجها عنها في نفسها، "فقلت: ارتفع رفعك الله" خطاب له ودعاء

ص: 513

فقال: ناولني كفا من تراب، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار.

وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا.

تأدبا، والمراد صاحبه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ناولني كفا من تراب" زاد في رواية فناولته، "فضرب" به "وجوهم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب" جمع شهاب، "فولى المشركون الأدبار".

روى البخاري في التاريخ والبيهقي عن عمرو بن سفيان قال: قبض صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الحصى، فرمى بها وجوهنا، فما خيل إلينا إلا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا، وعند ابن عساكر عن الحارث بن زيد مثله، ليس في هذا كله ما ينفي قتال الصحابة، فإنهم حين صرخ بهم العباس عادوا فقاتلوا بأمره عليه السلام، وأشرف عليهم، وقال:"الآن حمي الوطيس"، فأخذ القبضة، ورمى بها، فانهزموا، ولا ينافيه ما وقع عند أبي نعيم بسند ضعيف عن أنس بلفظ: فأخ حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال:"حم لا ينصرون"، فانهزم القوم وما رمينا بسهم، ولا طعنا برمح؛ لأن نفيهما لا ينفي اجتلادهم بالسيوف، وقد ثبت في حديث شيبة فأقبل المسلمون والنبي يقول:"أنا النبي لا كذب" فجالدوهم بالسيوف، فقال:"الآن حمي الوطيس".

"وروى أبو جعفر" محمد "بن جرير" الطبري الحافظ المجتهد "بسنده"، وكذا رواه البيهقي وابن عساكر ومسدد كلهم "عن عبد الرحمن بن مولى"، كذا في النسخ وصوابه، كما في رواية المذكور ابن مولى أم برثن، وفي التقريب عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن، بضم الموحدة وسكون الراء بعدها مثلثة مضمومة ثم نون، صدوق من الثالثة، روى له مسلم وأبو داود، "عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا" لم يصبروا لقتالنا، "حلب شاة" أي مقدار حلبها، بل ولو أمن رشق النبل ونيتهم العود، "فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم" ونحن متبعوهم "في آثارهم".

وفي رواية فبينا نحن نسوقهم في أدبارهم، "حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فانهزمنا وركبوا أكتافنا" أي تمكنوا منا تمكنا تاما، واتصلوا بنا حتى كأنهم ركبوا أكتافنا.

ص: 514

وفي سيرة الدمياطي: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم.

وفي حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء.

والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم الله تعالى بهم،

وفي رواية، وكانت إياها، أي الهزيمة، ولم يعلم هل أسلم بعد هذا الرجل الذي حدث عبد الرحمن أم لا؟ إلا أن ظاهر سياق الحديث إسلامه، ثم كون الرائي للملائكة مشركا؛ لأنه لا يراها على صورة المقاتلة إلا المشرك؛ لأن القصد إرهابهم، فقد أخرج ابن مردويه، والبيهقي وابن عساكر، عن شيبة بن عثمان قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما خرجت إسلاما، ولكن خرجت إتقاء أن تظهر هوازن على قريش، فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت: يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا، قال:"يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر" فضرب بيده في صدري، وقال:"اللهم اهد شيبة". فعل ذلك ثلاث مرات، فوالله ما رفع صلى الله عليه وسلم الثالثة حتى ما أجد من خلق الله تعالى أحب إلي منه، فالتقى المسلمون، فقتل من قتل، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ باللجام، والعباس آخذ بالثغر

الحديث، فإن صح، فلعل عمر تناوب مع العباس في أخذ اللجام، ولعل حكمة عدم رؤية المسلمين لهم، لئلا يعتمدوا عليهم أو يشتغلوا بالنظر إليهم لكون قتالهم خارقا للعادة، فيفوتهم الاجتهاد في الحرب والثواب المرتب عليه، "وفي سيرة الدمياطي كان سيما" خبر مقدم، أي علامات "الملائكة يوم حنين عمائم أرخوها بين أكتافهم،" كما روى عند الواقدي عن مالك بن أوس بن الحدثان، وقال ابن عباس: كانت عمائم خضرا أخرجه ابن إسحاق والطبراني، فيحتمل أن بعضها خضر، وبعضها حمر.

"وفي حديث جبير بن مطعم" عند ابن إسحاق وابن مردويه، وابيهقي وأبي نعيم:"نظرت" قبل هزيمة القوم، أي: المشركين "والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء" نقل بالمعنى، ولفظه رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم "والبجاد بالموحدة" المكسورة "والجيم" الخفيفة "آخره دال مهملة الكساء، وجمعه بجد أراد الملائكة الذين أيدهم الله تعالى بهم،" لأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض صاروا في ذلك كالبجاد المتصل أجزاؤه بنسجه.

ص: 515

قاله ابن الأثير.

وفي البخاري: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم.

وروى الواقدي عن شيوخ من الأنصار قالوا: رأينا يومئذ كالبجاد السود هوت من السماء ركاما، فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كان ننفضه عن ثيابنا، فكان نصر الله أيدنا به، قال شيخنا: ولعل نزولهم في صورة النمل ليظهروا للمسلمين فيسألوا عنه، ويتوصلوا بذلك للعلم بهم، فيعلموا أن ذلك من معجزاته، فقوى بذلك إيمانهم. "قاله ابن الأثير".

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: في يوم حنين أيد الله تعالى رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين، قال الله تعالى:{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26]، وأخرج أيضا عن السدي الكبير في قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]، قال: هم الملائكة، {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال: قتلهم بالسيف، "وفي البخاري" في مواضع بطرق "عن" أبي إسحاق السبيعي سمع "البراء" بن عازب، "وسأله رجل من قيس". قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين" وفي رواية له أيضا: أفررتم م النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن الجمع بينهما بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى إخراجه، "فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر" قال النووي: هذا الجواب من بديع الأدب؛ لأن تقديره أفررتم كلكم، فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا والله ما فر صلى الله عليه وسلم ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار، وكأنه لم يستحضر الرواية الثانية، ويحتمل أن السائل أخذ التعميم من قوله تعالى:{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص. انتهى.

وفي رواية: أما أنا فأشهد على النبي أنه لم يزل، وفي أخرى: ولا والله ما ولى يوم حنين دبره. وبين سبب التولي بقوله: "كانت" بالتأنيث، كما هو الثابت في البخاري، فما في نسخ: كان بالتذكير تصحيف "هوازن رماة"، وللبخاري في الجهاد تكملة لهذا السبب، قال: خرج شبان أصحابه وأخفارهم حسرا، بضم الحاء وشد السين المهملتين، ليس عليهم سلاح، فاستقبلهم جمع هوازن وبنو نصر ما يكادون يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، "وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا" أي: انهزموا، كما هو روايته في الجهاد، "فأكببنا" بفتح الموحدة الأولى وسكون الثانية بعدها نون، أي وقعنا "على الغنائم" وفي الجهاد فأقبل الناس على

ص: 516

فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث أخذ بزمامها، وهو يقول:"أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".

الغنائم "فاستقبلنا" بضم التاء وكسر الموحدة، وفي الجهاد فاستقبلونا "بالسهام" وفي مسلم فرموهم برشق من نبل كأنها رجل جراد، وعنده أيضا عن أنس جاء المشركون بأحسن صفوف رأيت صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم الإبل، ونحن بشر كثير وعلى خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب، ومن تعلم من الناس، "ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء" التي أهداها له فروة بن نفاثة، كما في مسلم وعند ابن سعد وغيره، على بغلته دلدل وفيه نظر؛ لأن دلدل أهداها له المقوقس، وجمع القطب الحلبي باحتمال أنه ركب كلا منهما يومئذ كما مر، "وأن أبا سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "أخذ بزمامها" أولا، فلما ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين، خشي العباس، فأخذه، وأخذ أبو سفيان بالركاب، كما مر جمعا بينه وبين ما في مسلم، أن العباس كان آخذا بزمامها، وللبخاري في الجهاد فنزل، أي عن البغلة، فاستنصر.

وفي مسلم فقال: "اللهم أنزل نصرك". وهو يقول: "أنا النبي لا كذب" قال ابن التين: كان بعض العلماء يفتح الباء ليخرجه عن الوزن، قال الدماميني: وهذا تغيير للرواية بمجرد خيال يقوم في النفس ولا حاجة للعدول عن الرواية؛ لأن هذا لا يسمى شعرا، أي: لما سيذكره المصنف، "أنا ابن عبد المطلب".

قال الحافظ: اتفقت الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث على سياقه إلى هنا، إلا رواية زهير بن معاوية فزاد في آخرها: ثم صف أصحابه، وفي مسلم قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يحاذيه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وفي الحديث من الفوائد حسن الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب، وذم الإعجاب، وفيه الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عنه محمول على ما هو خارج الحرب، ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها، وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله تعالى، ولا يقال كان صلى الله عليه وسلم متيقنا بالنصر بوعد الله تعالى له به، وهو حق لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته، وليس هو في اليقين، وقد استشهد في تلك الحالة ابن أم أيمن، كما مر وفي ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات؛ لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وإذا كان رئيس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ أسباب ذلك، كان ذلك أدعى لاتباعه على الثبات، وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة، وعدم المبالاة بالعدو. انتهى.

ص: 517

وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز عليّ الفرار.

وأما ما في مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: "فأرجع منهزما" إلى قوله: "ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما فقال: "لقد رأى ابن الأكوع فزعا" فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه عليه الصلاة والسلام ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم في موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع

"وهذا" أي قوله لا كذب "فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب"، أي قوله لا كذب، لأنها صفة شريفة، والكذب ذميمة، فهما ضدان لا يجتمعان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ولا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه".

أخرجه الديلمي عن أبي هريرة، "فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق"؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، "فلا يجوز عليّ الفرار"، وقد قال له تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "وأما ما في رواية مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله": غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلوا ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه، بسهم وتوارى عني، فما دريت ما صنع، ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم والصحابة، فولى الصحابة، "فأرجع" أنا "منهزما" وعلي بردتان مؤتزر بإحداهما مرتد بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعا.

وهذا ما أشار إلى أنه حذفه "إلى قوله: ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، فقال: "لقد رأى ابن الأكوع فزعا"، خوفا "فقال العلماء: قوله: منهزما حال من ابن الأكوع، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،" ونسبه للعلماء تنبيها على أنه مجمع عليه، "كما صرح أولا بانهزامه" في قوله: فأرجع منهزما.

قال الحافظ: ولقوله من طريق أخرى مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، وهو على بغلته "ولم يرد" سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم"، فلا يرد على إقسام البراء أنه ما ولى، "وقد قالت الصحابة كلهم: إنه عليه الصلاة والسلام ما انهزم"، فلا يجوز أن ينقل عن سلمة ما يخالفهم بمجرد لفظ محتمل، دفعته الرواية الأخرى عنه، فهذا من جملة ما استند إليه العلماء في أنه حال من ابن الأكوع، "ولم ينقل أحد قط أنه انهزم في موطن من المواطن، وقد نقلوا إجماع

ص: 518

المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو.

وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط من المالكية، فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء: أن من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطي تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة يعني: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى.

وقال بعضهم: وقد كان ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في هذا المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا للنبوة، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب في العادة إلا الخيل.

المسلمين"، وهو حجة "على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذلك عليه، بل" انتقال مؤكد لما قبله، "كان العباس وأبو سفيان بن الحارث" الهاشميان "آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو" لما ركضها في نحورهم، فنزل عنها، واستنصر، وتقدم ورمى العدو بالتراب، مبالغة في الشجاعة والثبات والصبر، "وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط" محمد بن خلف الإفريقي "من المالكية، فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء، أن من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" مبالغة في الرد على توهم نسبة ذلك إليه، حيث جعله ردة على رأي قوم، "وأن العلامة البساطي" محمد بن أحمد بن عثمان، "تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف" المالكية "في أصل المسألة، يعني حكم الساب فله وجه"؛ لأنه خرج عن مذهبه لغيره، "وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته" بالنسبة إلى أحكام الدني، بمعنى أنها لا تفيده في نفي قتله؛ لأن حده كالزاني والشارب، "فمشكل" لمخالفته نص مالك وأصحابه أنه يقتل بلا استتابة "انتهى"، فكيف يجوز عليه نسبة شيء يرتد ناسبه أو يقتل، ولو تاب على اختلاف العلماء.

"وقال بعضهم وقد كان ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في هذا المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا للنبوة، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة" وفي الفتح قال العلماء: في ركوبه البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات انتهى، فنسبه المصنف إلى البعض لما فيه من زيادة الإيضاح، لا سيما قوله:"وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا تصلح لمواطن الحرب في العادة، إلا الخيل" لأنها أشد

ص: 519

فبين عليه الصلاة والسلام أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة في الحرب معه عليه الصلاة والسلام على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك القتال عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم في الحرب إلا الخيل، والسر في ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف الإبل. انتهى.

وعند ابن أبي شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا أربعة.

الدواب عدوا وفي طبعها الخيلاء في مشيها، والسرور بنفسها ومحبة صاحبها، "فبين عليه الصلاة والسلام" بركوب البغلة "أن الحرب عنده، كالسلم قوة قلب" مفعول لأجله، أي لقوة قلب، "وشجاعة نفس، وثقة" بوعد الذي لا يخلف الميعاد، "وتوكلا على الله تعالى"، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وكفى بالله وكيلا.

"وقد ركبت الملائكة في الحرب" شمل إطلاقه هذه الغزوة وغيرها مما ركبت فيه الملائكة "معه عليه الصلاة والسلام على الخيل" البلق، كما مر في حديث شيبة بن عثمان، ومر قول النفر الثلاثة: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما نقاتل إلا أهل السماء، وقول سعيد بن جبير: يوم حنين أعز الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.

وعند الواقدي عن مالك بن أوس بن الحدثان: ولقد رأينا يومئذ رجالا بلقا على خيل بلق، عليها عمائم حمر قد أرخوها على أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب ما يليقون شيئا، ولا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم، ويليقون بتحتانيتين بينهما لام مكسورة فقاف "لا غير؛ لأنها بصدد ذلك القتال،" والصالح له الخيل "عرفا، دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم في الحرب إلا للخيل" فيسهم للفرس مثلا فارسه عند الأئمة الثلاثة، لخبر الصحيحين عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما، وقال أبو حنيفة: له سهم واحد كصاحبه، وأكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وأيا ما كان فاتفقوا على أنه لا يسهم إلا للخيل، "والسر في ذلك أنها مخلوقة للكر" على القتال، "والفر" منه عند الاجة، "بخلاف الإبل" والبغال والحمير والفيلة إن قوتل عليها "انتهى".

قول بعضهم: "وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة" بفوقية ثم موحدة مصغر، الكندي، أبي محمد الكوفي التابعي، الوسط، الثقة، الثبت، الفقيه، الحافظ، مات سنة ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، أو خمس عشرة ومائة.

روى له الستة قال: لما ولى الناس يوم حنين، "لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا أربعة

ص: 520

نفر، ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم: عليّ والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.

وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل.

وفي شرح مسلم للنووي: أنه ثبت معه عليه الصلاة والسلام اثنا عشر رجلا، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق.

نفر، ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي، والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان" وهؤلاء الهاشميون "وابن مسعود من الجانب الأيسر" كما في نفس هذا المرسل، كما في الفتح وغيره، وكأنه سقط من قلم المصنف، قال: "وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل" بقتل الملائكة، على المتبادر من أنه لم يبق إلا هؤلاء الأربعة وبين ما اشتغلوا، وتقدم في حديث أبي عبد الرحمن، فتلقانا عند صاحب البغلة رجال بيض الوجوه حسان.

"وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر لقد رأيتنا" مفعول أول "يوم حنين" ظرف، "وإن الناس لمولون" جملة، في موضع نصب مفعول رأى الثاني، فاندفع إيراد أنه لا يصح أنها علمية لعدم المفعول الثاني، ولا بصرية لأن شرط مفعولها أن لا يتحد الفاعل والمفعول، بأن يكونا لمتكلم، "وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل".

قال الحافظ: هذا أكثر ما وقفت عليه في عدد من ثبت يومئذ، ولأبي نعيم في الدلائل تفصيل المائة بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار.

وروى أحمد والحاكم عن ابن مسعود: أنه ثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، وهذا لا يخالف حديث ابن عمر، لأنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين. انتهى.

وروى البيهقي عن حارثة بن النعمان: لقد حرزت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: مائة واحدة.

وحكى الواقدي عنه: فما علمت أنهم مائة حتى مررت يوما عليه صلى الله عليه وسلم، وهو ينادي جبريل عند باب المسجد فقال جبريل: من هذا؟ فقال: حارثة بن النعمان، فقال جبريل: هو أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه، فأخبرني عليه السلام، فقلت ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك.

"وفي شرح مسلم للنووي أنه ثبت معه عليه الصلاة والسلام اثنا عشر رجلا، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق" الذي لم يذكره المصنف، وهو ما رواه عن جابر قال: ثبت معه أبو بكر

ص: 521

ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا

وعاشرنا..................

وعمر، وعلي، والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان وربيعة ابنا الحارث، وابن أبي سفيان، قال ابن هشام: واسمه جعفر، وأسامة وأيمن بن عبيد استشهد، فهؤلاء عشرة، وتقدم في مرسل الحاكم، ذكر ابن مسعود، والثاني عشر يمكن تفسيره بعثمان، فقد روى البزار عن أنس: أن أبا بكر، وعمر، وعثمان وعليا ضرب كل منهم بضعة عشر ضربة، وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره: أنه ثبت يومئذ عتبة ومعتب ابنا أبي لهب، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، ونوفل وابن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وشيبة بن عثمان الحجبي، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس ولوا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره وقال له:"قاتل الكفار". فقاتلهم حتى انهزموا، وقثم بن العباس.

قال مغلطاي: وفيه نظر لأن المؤرخين قاطبة فيما أعلم عدوه فيمن توفي وهو صغير، فكيف شهد حنينا؟ وعند الواقدي وغيره: من الأنصار أبو دجانة، وأبو طلحة، وحارثة بن النعمان، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير وأبو بشر المازني، ومن نسائهم أم سليم، وأم عمارة، وأم الحارث، وأم سليط. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه صلى الله عليه وسلم رأى أم سليم، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حامل منه بعبد الله، وقد خشيت أن يضربها الجمل، فأدنت رأسه منها، وأدخلت يدها في خزامه مع الخطام، فقال صلى الله عليه وسلم:"أم سليم"؟. قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل المنهزمين عنك، كما يقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو يكفي الله يا أم سليم".

وروى مسلم وغيره عن أنس قال: اتخذت أم سليم خنجرا عام حنين، وكان معها، فقال أبو طلحة: ما هذا؟ قالت: إن دنا مني بعض المشركين، أبج بطنه. فقال أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم، فضحك صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله أقتل الطلقاء انهزموا عنك، فقال:"إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم". "ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط".

قال الحافظ: ولعل هذا هو المثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع، فعد فيمن لم ينهزم، "وذلك لقوله نصرنا رسول الله في الحرب تسعة، وقد فر من قد فر عنه" راعى لفظ من فأفرد ومعناها فجمع في قوله "فاقشعوا" أي انكشفوا مطاوع قشع متعديا "وعاشرنا"

ص: 522

.... لاقى الحمام بنفسه

لما مسه في الله لا يتوجع

وقد قال الطبراني: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة.

يعني أيمن بن عبيد، كما في الاستيعاب وغيره "لاقى الحمام" الموت "بنفسه، لما مسه في الله لا يتوجع" حال من مفعول مسه، يعني أنه أصيب في الحرب، ولم يظهر جزعا، ولا تألما، ومحصل ما ذكره المصنف فيمن ثبت أربعة أقوال أربعة دون مائة: اثنا عشر، عشرة، ومر خامس وهو ثمانون، وسادس وهو مائة.

رواه البيهقي، وغيره عن حارثة بن النعمان إلا أنه يمكن ترجيع دون مائة إلى الثمانين، كما أشار له الحافظ فلا يعد قولا، فهي خمسة فقط، وجمع شيخنا بحمل الأربعة على ما بقي معه آخذا بركابه، والاثني عشر، والعشرة على المتلاحقين بسرعة، فمن قال: اثنا عشر عد من كان معه أولا فيهم، ومن قال: عشرة أراد الأربعة، وستة ممن أسرع وحمل الثمانين على الذين نكصوا على أعقابهم، ولم يولوا الدبر، والمائة عليهم وعلى من انضم إليهم حين تقدموا إليه عليه السلام، هذا وقد تقدم الاعتذار عمن تولى من غير المؤلفة، بأن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، كما جزم به في الفتح، وكذا حزم في النور بأنهم كانوا أضعاف المسلمين، ولذا تبرأ الشامي في تفسيره للآية مما جزم به غير واحد أنهم كانوا أربعة آلاف، وسبق الاعتذار عنهم باحتمال أن الأربعة آلاف من نفس هوازن، والزائد ممن انضم إليهم من غيرهم، لأنهم أقاموا حولا يجمعون الناس.

"وقد قال الطبري" الإمام ابن جرير في الاعتذار عنهم، "الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود" بلا عذر، "وأما الاستطراد" أي الفرار في الحرب، "للكثرة فهو كالمتحيز إلى فئة" أي جماعة من المسلمين يستنجد بها فليس انهزاما منهيا عنه، واستعمل الاستطراد بمعنى الفرار مجاز؛ لأنه كما في المصباح الفرار كيدا، ثم يكر عليه وتقدير بلا عذر المدلول عليه بمقابلته بعذر الكثرة ليظهر وجه مقابلته لما قبله، وإلا فلا يخفى أنه من أفراده لشموله، لما إذا نوى أن يعود أو لا نية له والفرار للكثرة، لا يخرج عنهما، وفي العيون فرارهم يوم حنين، قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة وقتالهم معه حتى كان الفتح، ففي ذلك نزل قوله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] كما قال فيمن تولى يوم أحد: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] وإن اختلف الحال في الوقعتين، وفي الروض لم يجمع العلماء على أنه الكبائر إلا في يوم بدر، وهو ظاهر قوله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، ثم أنزل التخفيف في الفارين يوم أحد، وهو قوله:{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وكذا أنزل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ

ص: 523

انتهى.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر؛ لأن الشاعر إنما سمي شاعر الوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا ابن عبد المطلب". ولم يقل: أنا ابن عبد الله، فأجيب: بأن شهرته كانت بجده أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفي في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده عليه الصلاة والسلام.

أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] وفي تفسير ابن سلام كان الفرار يوم بدر من الكبائر، وكذا يكون في ملحمة الروم الكبرى وعند الدجال، وأيضا فقد رجعوا لجيشهم وقاتلوا معه حتى فتح الله عليهم. "انتهى".

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي" حقا، "لا كذب" في ذلك، أو: والنبي لا يكذب، فلست بكاذب حتى أنهزم، "أنا ابن عبد المطلب" مع قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]"فقد قال العلماء" في الجواب عنه: "إنه ليس بشعر؛ لأن الشعر إنما سمي شاعر الوجوه منها أنه شعر القول، وقصده، واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف" الستة، "أو" من "بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا" الوا للحال؛ لأن هذا موزون، واقتصر على هذا القول الحافظ، لأنه أعدل الأجوبة، ومنها أن لا يكون شعرا حتى تتم قطعة، وهذه كلمات يسيرة لا تسمى شعرا، وقيل: إنه نظم غيره وكان أنت النبي لا كذب، أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ أنا في الموضعين، والممتنع عليه إنشاء الشعر، لا إنشاده، وقيل: هو رجز، وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود لأن الجمهور على أن الرجز شعر:"وأما قوله عليه الصلاة والسلام أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: أنا ابن عبد لله" فانتسب إلى جده دون أبيه، "فأجيب بأن شهرته كانت بجده أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفي" شابا، "في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده عليه الصلاة والسلام" على أصح الأقوال.

ص: 524

وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله: أيكم ابن عبد المطلب، وقيل: غير هذا.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه، وأفضى الناس في القتل إلى الذرية، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك.

"وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة"، ورزقه الله طول العمر، ونباهة الذكر "وكان سيد قريش، وكان كثير من الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، ينسبونه إلى جده لشهرته به، ومنه حديث ضمام" بكسر الضاد المعجمة وخفة الميم، "ابن ثعلبة" الصحابي، في قوله" لما قدم المدينة، وأناخ بعيره في المسجد قال: "أيكم ابن عبد المطلب"، ولم يقل: ابن عبد الله لشهرته به، وتأتي القصة في الوفود.

"وقيل غير هذا" في حكمة انتسابه له دون أبيه، فقيل: لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله، ويهدي الله الخلق على يديه، ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكر سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة، فأراد صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه، لأنه لا بد من ظهوره، وأن العاقبة لهم لتقوى نفوسهم، إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم.

ذكره في الفتح، وفي الروض قال الخطابي: خص عبد المطلب بالذكر في هذا المقام تثتبيتا لنبوته، وإزالة للشك لما اشتهر وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة به صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت، ولما انبأت به الأحبار والكها، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بد مما وعدت به لئلا ينهزموا عنه، ويظنوا أنه مغلوب، أو مقتول، فالله أعلم، أراد ذلك رسوله أم لا انتهى، فليس من الافتخار بالآباء في شيء وبفرق تسليمه، فهو جائز في الحرب لإرهاب العدو.

وقد روى الطبراني: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "أنا ابن العواتك"، ثم لما أقبل المسلمون سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا، قتل الله من قتل من الكفار، وانهزم الأعداء من كل ناحية، وأفاء الله تعالى على رسوله أموالهم، ونساءهم وأبناءهم، وفر مالك بن عوف في ناس من أشراف قومه حتى بلغ حصن الطائف، وأسلم عند ذلك ناس كثير من مكة حين رأوا نصر الله لرسوله، وإعزاز دينه، "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه" من الكفار المنهزمين، فقال:"اجزروهم جزرا" وأومأ بيده إلى الحلق.

أخرجه البزار برجال ثقات عن أنس، فامتثلوا أمره، فتبعوهم يقتلونهم، "وأفضى الناس على القتل إلى الذرية، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك".

ص: 525

وقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة.

روى الواقدي: أن سعد بن عبادة جعل يصيح يومئذ بالخزرج ثلاثا، وأسيد بن حضير بالأوس ثلاثا، فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل تأوي إلى يعسوبها.

قال أهل المغازي: فحنق المسلمون على المشركين، فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذراري المشركين، فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية لا لا تقتل الذرية". ثلاثا، فقال أسيد: يا رسول الله! أليس إنما هم أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم:"أوليس خياركم أولاد المشركين، كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها".

وروى أحمد، وأبو داود عن رباح بن ربيع: أنه مر هو والصحابة على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويعجبون من خلقها حتى لحقهم صلى الله عليه وسلم على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها، فقال:"ما كانت هذه لتقاتل"، فقال لأحدهم:"الحق خالدا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا"، وعند ابن إسحاق:"فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا" والعسيف الأجير لفظا ومعنى، وذكر الواقدي عن شيوخ ثقيف: ما زال صلى الله عليه وسلم في طلبنا ونحن مولون، حتى أن الرجل منا ليدخل حصن الطائف، وأنه ليظن أنه على أثره من رعب الهزيمة.

وروى البيهقي وغيره عن يزيد بن عامر السوائي، وكان حضر يومئذ فسئل عن الرعب، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فتطن، فيقول: إن كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.

وروى الواقدي عن مالك بن أوس: حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية من الحصى فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينيه ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان "وقال" صلى الله عليه وسلم يومئذ بعد انقضاء القتال، كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي قتادة:"من قتل قتيلا" أوقع القتل على المقتول، باعتبار ما له كقوله تعالى:{أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، "له عليه بينة فله سلبه".

قال الحافظ: بفتح المهملة، واللام بعدها موحدة، ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور، وعن أحمد لا تدخل الدابة، وعن الشافعي تختص بأداة الحرب، واتفق الجمهور على أنه لا يقبل قول مدعيه إلا ببينة تشهد له أنه قتله، لمفهوم قوله:"له عليه بينة"، وعن الأوزاعي يقبل بلا بينة، ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفى به. انتهى.

"واستلب أبو طلحة" زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري، الخزرجي من كبار

ص: 526

وحده ذلك اليوم عشرين رجلا.

وقال ابن القيم في الهدى النبوي: كان الله تعالى وعد رسوله إذا فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحربه عليه الصلاة والسلام، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة.

الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، مات سنة أربع وثلاثين، وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة "وحده ذلك اليوم" كما رواه أحمد وابن حبان عن أنس: قتل أبو طلحة يومئذ "عشرين رجلا" وأخذ أسلابهم "وقال ابن القيم في الهدي النبوي" في بيان حكمة ما جرى يومئذ: "كان الله قد وعد رسوله" وهو الصادق الوعد "إذا فتح مكة، دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت" طاعت وانقادت "له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام" مديدة "وأن يجمعوا" من قدروا على جمعه، "ويتأهبوا" يجتمعوا بعد ذلك، فهو مغاير "لحربه عليه الصلاة والسلام، ليظهر أمره تعالى وإتمام إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا" مصدر شكر ككفر، أي اعترافا بنعمه "لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين، وقهره لهذه الشوكة" شدة البأس، والقوة "العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها" في الكثرة وشدة البأس.

وغاية ما لقوا في أحد ثلاثة آلاف، وكان لهم الظفر ابتداء، لكن لما خالف الرماة موقفهم الذي أمرهم عليه السلام بعدم مفارقته استشه من استشهد إظهارا لأنه لا ينبغي مخالفته في أمر ما، وغاية ما لقوا في الخندق عشرة آلاف، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا.

وأما هؤلاء فكانوا أضعاف المسلمين، كما قال البرهان وغيره، وفي كلام ابن القيم: هذا رد على من زعم أنهم كانوا أربعة آلاف، "ولا يقاومهم بعد أحد من العرب" قيد بهم؛ لأنه قاومهم من فارس والروم بعد العهد النبوي أضعاف ونصرهم الله ببركته صلى الله عليه وسلم.

قال في الهدى، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين "فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة" بسين مهملة، عطف مرادف، سوغه

ص: 527

مع كثرة عَددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطأ رءوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخل عليه الصلاة والسلام واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتم بها، فإنه لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، قال الله تعالى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] .

اختلاف اللفظ "مع كثرة عَددهم" بفتح العين، "وعُددهم" بضمها، "وقوة شوكتهم ليطأ رءوسا رفعت بالفتح" لمكة، والنصر على أهلها، "ولم تدخل بلده وحرمه، كما دخل عليه الصلاة والسلام" فابتلوا بقصة حنين منعا لهم من إظهار الترفع وتنبيها لهم على أن المطلوب منهم التواضع وإظهار الشكر، كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخوله "واضعا رأسه منحنيا على مركوبه،" حتى أن ذقنه يكاد يمس سرجه "تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله، ولا لأحد بعده"، كما قال:"ولو قدر أن يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظما" وليبين سبحانه لمن قال لن نغلب اليوم من قلة" بناء عى أن قائلها غيره صلى الله عليه وسلم، كما هو الصحيح وغير الصديق رضي الله عنه، "أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأن من ينصره" يعينه على عدوه، "فلا غالب له، ومن يخذله" بترك نصره، "فلا ناصر له" بعد خذلانه، كما أنزل الله قبل ذلك في الكتاب العزيز: "وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتم بها، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر"، أي بينت لهم علامات النصر الشبيهة بالخلع في إدخال السرور والعز لمن قامت به "مع بريد" أي: رسوله وعلى المؤمنين" فردوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ناداهم العباس بإذنه، {وَأَنْزَلَ جُنُودًا} ملائكة {لَمْ تَرَوْهَا} ، وقد اقتضت حكمته تعالى أن خلع النصر وجوائزه"، أي عطاياه جمع جائزة، والمراد ما يترتب على النصر من الفوائد، "إنما تفاض على أهل الانكسار، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً

ص: 528

قال: وبهاتين الغزاتين، أعني: حنينا وبدرا، وقاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين بالحصى فيهما. وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] .

قال أعني ابن القيم عقب هذا: وافتتح الله تعالى غزو العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزاة حنين، ولهذا يجمع بين هاتين الغزاتين بالذكر: بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين، "قال" بعد هذا "وبهاتين الغزاتين" قال المصنف: أعني حنينا وبدرا"، وكان اللائق أن يقول: يعني لأن قصده بيان مراد ابن القيم، لحذفه من كلامه ما يرجع اسم الإشارة له، وهو ما ذكرته، ولم يقع في كلامه أعني "قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين،" كما هو ظاهر الأحاديث السالفة، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين، كما قدمه المصنف في بدر؛ لأن الله تعالى قال:{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] ولا دلالة فيه على قتال.

وفي تفسير ابن كثير المعروف من قتال الملائكة: إنما كان يوم بدر، وقال ابن مرزوق وهو المختار من الأقوال. اتهى، وثالث الأقوال: أنها لم تقاتل في بدر، ولا في غيرها، وإنما كانوا يكثرون السواد، ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك أهل الدنيا، وهذه شبهة دفعها الكفار بريشة من جناحه، سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم مع قدرة جبريل على دفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وتكون الملائكة مددا على عادة الجيوش، رعاية لصورة الأسباب، وسننها التي أجراها الله في عباده، والله فاعل الجميع. انتهى، وقول أبو الحسن الهروي في أرجوزته:

كذا لجنس الأنس فضل بادي

بالعلم والفطنة والجهاد

على كرام الملا العباد

من ساكني السبع العلي الفراد

لا يعارضه، لأن قتالهم ليس كقتال الإنس لأن الحاصل منهم القتل لا القتال.

وقدم المصنف في بدر أنهم كانوا يعرفون قتل الملائكة بآثار سود في الأعناق والبنان، "ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين بالحصى فيهما،" فانكشفوا ورماهم بالحصى أيضا يوم أحد، لما ولي الناس عنه، فرجعوا القهقري حتى أتوا الجبل، رواه الحاكم بإسناد صحيح عن سعد، وبعد هذا في كلام ابن القيم، "وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم" والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من حرهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله، وجبر الله أهل مكة بهذه الغزوة، وفرحهم بما نالوا من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم

ص: 529

انتهى.

وأمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منم إلى أوطاس.

واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن.

وتمام نعمته تعالى عليهم بما صرفه عنهم من شر من كان مجاورهم من أشرار العرب من هوازن وثقيف بما أوقع بهم من الكسرة، وبما قبض لهم من دخولهم في الإسلام. ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها. "انتهى".

كلام ابن القيم "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو" بعد انهزامهم "فانتهى بعضهم إلى الطائف" كمالك بن عوف في جماعة من أشراف قومه، فإنهم لما انهزموا، وقف على ثنية في شبان أصحابه، فقال: قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم وينتام آخركم، فبصر بهم الزبير، فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك إلى الطائف، ويقال: تحصن في قصر بلية، بلام مكسورة وتحتية خفيفة، على أميال من الطائف، فغزاهم صلى الله عليه وسلم بنفسه، كما يأتي وهدم القصر، "وبعضهم نحو نخلة" فتبعهم خيل المسلمين، ولم تتبع من سلك في الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بفاء مصغرا دريد بن الصمة في ستمائة نفس، فقتله فيما جزم به ابن إسحاق، وقال ابن هشام: يقال: إن قاتله عبد الله بن قبيع.

وروى البزار بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد هو الزبير، ولفظه عن أنس لما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة، فرأوا كتيبة، فقال: خلوهم لي فخلوهم، فقال: هذه قضاعة ولا بأس عليكم منهم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك، فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارسا وحده، فقال: خلوه لي، فقالوا: هذا الزبير بن العوام، وهو قاتلكم، ومخرجكم عن مكانكم هذا، فالتفت الزبير، فرآهم، فقال: علام هؤلاء هنا، فمضى إليهم وتبعه جماعة، فقتلوا ثلاثمائة، وخر رأس دريد بن الصمة، فجفلوا بين يديه، ويحتمل أن ربيعة أو عبد الله كان في جماعة الزبير، فباشر قتله، فنسب إلى الزبير مجازا، وكان دريد من الشعراء المشهورين في الجاهلية، ويقال: إنه كان لما قتل ابن عشرين ومائة سنة، ويقال: ابن ستين ومائة. انتهى من الفتح ملخصا.

"وقوم منهم إلى أوطاس" فبعث إليهم أبا عامر، كما يأتي، "واستشهد من المسلمين أربعة منهم أيمن" بن عبيد بن زيد بن عمرو بن خلال الخزرجي، كذا نسبه ابن سعد وابن منده، وأما أبو عمر، فقال الحبشي: وقد فرق ابن أبي خيثمة بين الحبشي وبين ابن أم أيمن وهو الصواب، فإن أيمن الحبشي أحد من جاء مع جعفر بن أبي طالب، قاله في الإصابة، والخزرجي أحد الثابتين، كما مر، وقول ابن إسحاق الهاشمي: يريد بالولاء، وهو المعروف بأنه "ابن أم أيمن" بركة

ص: 530

وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا.

الحبشية، وكانت تزوجت في الجاهلية بمكة عبيد المذكور لما قدمها، وأقام بها، ثم نقلها إلى المدينة، فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة فتزوجها زيد بن حارثة، قاله البلاذري وغيره، والثاني يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، جمح به فرس له يقال له: الجناح بلفظ جناح الطائر، فقتل، وسراقة بن الحارث الأنصاري وأبو عامر الأشعري، كما عند ابن إسحاق وعند ابن سعد، بدل يزيد بن زمعة رقيم بضم الراء وفتح القاف ابن ثعلبة بن زيد بن لوذان بضم اللام، وسكون الواو وذال معجمة.

لكن ابن إسحاق ذكره فيمن استشهد في الطائف، وذكر الواقدي أنه ذكر له صلى الله عليه وسلم: أن رجلا كان بحنين قاتل قتالا شديدا حتى اشتدت به الجراح، فقال: إنه من أهل النار، فارتاب بعض الناس من ذلك، فلما آذته الجراح نحر نفسه بسهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بلالا ينادي:"ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". والثابت في الصحيح أن ذلك يوم خيبر، كما مر في غزوتها، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف خصوصا ما في الصحيح، فإن كان محفوظا فيمكن أنه وقع ذلك في كلتا الغزاتين لرجلين، وقد تقدم نقل كلام العلماء في قوله:"إنه من أهل النار". بأنه لنفاقه، أو إن لم يغفر الله له، أو إنه استحل قتل نفسه، أو شك في الإيمان لما جرح. فلا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، أو أنه يدخلها للتطهير، ولا يرد بقوله:"لا يدخل الجنة إلا مؤمن" لأن المراد لا يدخلها مع السابقين، أو بلا عذاب إلا من كمل إيمانه، ولا بالرجل الفاجر، لأنه يكفي في فجوره عصيانه، "وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا" وقت الحرب، فلا ينافيه حديث أنس عند البزار السابق قريبا: أن الزبير ومن معه قتلوا ثلاثمائة لأنه بعد انهزام الكفار ولا يخالف قوله أكثر قول ابن إسحاق وغيره: "واستحر"1 القتل وهو "بحاء" وراء من الحر، أي: اشتدت الحرب، وكثر من بني مالك من ثقيف، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم.

وما رواه البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه: قال: قتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، لأن الزائد على السبعين ممن اجتمع معهم من الأخلاط.

قال ابن إسحاق: وكان راية ثقيف مع ذي الخمار، فقتل فأخذها عثمان بن عبد الله، فقاتل حتى قتل، فقال صلى الله عليه وسلم:"أبعده الله، فإنه كان يبغض قريشا" ، وأسند ابن إسحاق أحمد، وصححه ابن حبان عن جابر قال: ورجل من هوازن أمامهم على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه، فاتبعوه فأهوى له علي، ورجل من الأنصار، فضرب علي عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، فضرب الأنصاري الرجل

_________

1 في الأصل: استجر القتل وهو بجيم. وما أثبتناه فيما بين الحاصرتين هو الصواب كما في النهاية 1/ 364.

ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فوقع عن رحله، وفيه جواز عقر مركوب العدو إذا كان عونا على قتله.

ص: 531