المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب عمرة القضاء - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌باب عمرة القضاء

رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا.

وأصاب لهم نعما فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما.

رجل"، وعقد له لواء "لجمع" من غطفان "تجمعوا" بالجناب بكسر الجيم من أرض غطفان، قد واعدهم عيينة بن حصن الفزاري "للإغارة على المدينة فساروا الليل وكمنوا" بفتح الميم، وكسرها "النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا" فجاء الصحابة بمن وحبار، وهو نحو الجناب، والجناب معارض سلاح بسين وحاء مهملتين وخيبر ووادي القرى فنزلوا بسلاح، "وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها" ونفروا الرعاء فحذروا، وتفرقوا ونجعوا به عليا بلادهم بضم المهملة وسكون اللام والقصر نقيض السفلى.

وخرج بشير بن سعد في أصحابه حتى أتى محالهم، فلم يجد فيها أحدًا فلقوا عينا لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة وهو لا يشعر بهم فناوشوهم ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم المسلمون، "وأسر" منهم "رجلين وقدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما"، فأرسلهما ولم يسميا رضي الله عنهما، والمناوشة تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا.

ص: 311

"‌

‌باب عمرة القضاء

":

ثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء

باب عمرة القضاء:

كذا ترجم به البخاري عند الأكثر وللمستملي وحده غزوة القضاء، والأول أولى ووجهوا كونها غزوة بأن موسى بن عقبة ذكر في المغازي عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح والمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، فبلغهم ذلك ففزعوا فلقيه مكرز، فأخبره أنه باق على شرطه وأن لا يدخل مكة بسلاح إلا السيوف في أغمادها، وإنما خرج في تلك الهيئة احتياطا فتوثق بذلك وأخر صلى الله عليه وسلم السلاح مع طائفة من أصحابه خارج الحرم حتى رجع ولا يلزم من إطلاق الغزوة وقوع المقاتلة.

وقال ابن الأثير أدخل البخاري عمرة القضاء في المغازي لكونها مسببة عن غزوة الحديبية. انتهى من الفتح. ولذا ترجمها المصنف بقوله: "ثم عمرة القضية، وتسمى" أيضا "عمرة القضاء"، وتسمى أيضا عمرة القصاص ذكره ابن إسحاق، وعمرة الصلح ذكره الحاكم، فهي أربعة كما قال الحافظ. وقدم المصنف الأول؛ لأنه أبعد من إيهام كونه قضاء حقيقيا لا لأنه أشهر كما زعم. كيف وقد ترجم البخاري، وابن إسحاق، واليعمري، ومن لا يحصى بعمرة القضاء واختلف في سبب

ص: 311

لأنه قاضى فيها قريشا؛ لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، لذا عدوا عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت.

وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.

تسميتها بهما، فقال السهيلي:"لأنه قاضى" أي عاهد "فيها" أي: عليها أو بسببها أو في شأنها "قريشا" سنة الحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذا يقال لها: عمرة القضية.

قال أهل اللغة: قاضى فلانا عاهده وقاضاه عاوضه فيحتمل تسميتها بذلك للأمرين قاله عياض.

قال الحافظ: ويرجح الثاني تسميتها قصاصا قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} .

قال السهيلي: تسميتها عمرة القصاص أولى بها لأن هذه الآية نزلت فيها. قال الحافظ: كذا رواه عبد بن حميد وابن جرير بإسناد صحيح عن مجاهد، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وقال ابن إسحاق: بلغنا عن ابن عباس، فذكره ووصله الحاكم في الإكليل عن ابن عباس، فذكره لكن في إسناده الواقدي "لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها" عند مالك والشافعي، وإن كانت نفلا لوجوب قضاء فاسد الحج والعمرة، ولو نفلا حتى عند الشافعي وإن لم يقل بوجوب قضاء النفل، "بل كانت عمرة تامة" أي في حكمها لثبوت الأجر فيها، وكونها لم يجب قضاؤها وإلا فلم يأتوا فيها بشيء من أعمالها سوى الإحرام، "لذا عدوا" أي الصحابة كأنس، وابن عمر في الصحيح "عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا" عمرة الحديبية وعمرة القضاء وعمرة من الجعرانة وكلهن في ذي القعدة وعمرة مع حجته، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في مقصد عبادته.

"وقال آخرون: بل كانت هذه "قضاء عن العمرة الأولى" التي صد عنها، ولذا سميت عمرة القضاء "و" إنما "عدوا عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها" وقبولها "لا لأنها كملت".

"وهذا الخلاف" في سبب التسمية "مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت" سواء كان الصد عاما أو خاصا، وسواء عمرة الإسلام أو غيرها،

ص: 312

فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه.

عن أبي حنيفة: عكسه.

وعن أحمد رواية: أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء. وأخرى: يلزمه الهدي والقضاء.

فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .

وحجة أبي حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.

وحجة من أوجبهما: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدي.

وحجة من لم يوجبهما: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحر، ومن ليس معه هدي أن يحلق. انتهى.

"فقال الجمهور" من العلماء: "يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه. وعن أبي حنيفة عكسه" القضاء ولا هدي، "وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء وأخرى يلزمه الهدي والقضاء، فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم من إتمام الحج أو العمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ} تيسر {مِنَ الْهَدْيِ} عليكم شاة فأعلى، ففيه دليل على جواز التحلل بالإحصار، وأن فيه دما ولا قضاء لعدم ذكره في جواب الشرط. "وحجة أبي حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء"، وهو دليل عقلي "وحجة من أوجبهما" التثنية أي الهدي، والقضاء "ما وقع للصحابة فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا، من قابل وساقوا الهدي".

وقد روى أبو داود عن أبي حاضر بحاء مهملة وضاد معجمة الأزدي، قال: اعتمرت، فأحصرت، فنحرت الهدي، وتحللت، ثم رجعت العام المقبل، فقال لي ابن عباس: أبدل الهدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك. "وحجة من لم يوجبهما" بالتنثية "أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحره ومن ليس معه هدي أن يحلق" زاد الحافظ: وأسعد الكل بظاهر الأحاديث من أوجبهما. انتهى.

ويقع في نسخ: حجة من أوجبها، ثم حجة من لم يوجبها بالإفراد فيهما، ويمكن توجيهها بأن الضمير للخصلة المروية عن أحمد وهي وجوبهما أو عدمه. "انتهى".

ص: 313

قال الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهلّ ذو القعدة -يعني سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا.

وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري، وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة

هذا المبحث وهو في فتح الباري "قال الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهل ذو القعدة يعني سنة سبع".

روى يعقوب ابن سفيان، في تاريخه بإسناد حسن عن ابن عمر قال: كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع "أمر أصحابه أن يعتمروا لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية" هذا ظاهر فيما قاله أبو حنيفة، ويجيب الجمهور عنه بأن معنى قضاء عوض عنها لا قضاء واجب "و" أمر "أن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف منهم" أحد "إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا".

وعند الواقدي: فقال رجال من حاضري المدينة من العرب: يا رسول الله! والله ما لنا من زاد وما لنا من يطعمنا، فأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن يكفوا أيديهم فلا يهلكوا فقالوا: يا رسول الله بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما كان ولو بشق تمرة".

وروى البخاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة ووكيع، والبيهقي عن ابن عباس، وابن جرير عن عكرمة ووكيع عن مجاهد، قالوا في قوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . إن التهلكة ترك النفقة في سبيل الله وليس التهلكة أن يقتل ارجل في سبيل الله، ولكن الإمساك في سبيل الله أنفق ولو شقصا.

"وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان" سوى النساء والصبيان "واستخلف على المدينة" فيما قال الواقدي، وابن سعد "أبا رهم" بضم الراء، وسكون الهاء كلثوم بن الحصين "الغفاري" الصحابي المشهور، وقال ابن هشام: عويف بن الأضبط الديلمي بضاد معجمة وطاء مهملة.

وقال البلاذري: أبا ذر، ويقال: عويفا وهو مصغر عوف، ويقال فيه: عويث بمثلثة بدل الفاء "وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة" كما للواقدي عن محمد بن إبراهيم التيمي وعن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قلد هديه بيده وعن عبد الله بن دينار أنه جعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي يسير بها أمامه يطلب الرعي في الشجر معه أربعة فتيان من أسلم رواهما الواقدي.

ص: 314

وحمل السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد.

وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.

"و" عند الواقدي عن عاصم بن عمر أنه عليه السلام "حمل السلاح والبيض" بكسر الموحدة جمع بيضة وهي الواحدة من الحديد "والدروع" جمع درع، وفي نسخة الدرع بالأفراد على إرادة الجنس وضبطه بضمتين خلاف قول القاموس جمعه أدرع ودروع وأدراع "والرماح" وعطف الثلاثة على السلاح مباين إن أريد ما عداه كالسيوف، وخاص على عام إن أريد به ما ينفع في الحرب بمنع أو دفع، "وقاد مائة فرس" من الخيل يقع على الذكر والأنثى، والظاهر أنها كانت منهما، "فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة" الأنصاري "وقدم السلاح" المذكور "واستعمل عليه بشير" كأمير "ابن سعد" والد النعمان، وبقية رواية عاصم فقيل: يا رسول الله حملت السلاح، وقد شرطوا أن لا تدخلها إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال عليه السلام:"إنا لا ندخله عليهم الحرم ولكن يكون قريبا منا فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا". "وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم" من باب المسجد؛ لأنه سلك طريق الفرع ولولا ذلك لأهل من البيداء.

رواه الواقدي عن جابر وذكره المحب الطبري عن جابر ولم يعزه لكتاب ومر أن الفرع بضم الفاء وسكون الراء أو ضمهما، "ولبى والمسلمون يلبون معه ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران" واد قرب مكة يضاف إليه مر كما في القاموس، فظاهره أنه اسم لنفس الوادي.

وفي المصباح الظهران بلفظ التثنية واد قرب مكة نسب إليه قرية هناك فقيل: مر الظهران ويوافقه تأنيث الضمير العائد عليها من قوله "فوجد بها نفرا من قيش فسألوه" عن سبب مجيئه بالخيل، "فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح" بفتح الصاد وكسر الموحدة مشددة، أي يأتي "هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى"، وأما يصبح بسكون الصاد وخفة الموحدة فمعناه يدخل في الصباح، كما في اللغة وليس مرادا "فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا" وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا

ص: 315

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج -كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل.

وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال.

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف

وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه وبعثوا مكرزا في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج وهو في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحق، فقالوا: والله ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، فقال:"إني لا أدخل عليهم بسلاح". فقال مكرز: هو الذي تعرف به البر والوفاء، ثم رجع بأصحابه إلى مكة، فقال: إن محمدًا على الشرط الذي شرط لكم.

رواه الواقدي "ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج" بتحتية فهمزة ساكنة فجيمين بتثليث الجيم "كيسمع وينصر ويضرب" هذا لفظ القاموس في فصل الهمزة من باب الجيم، وهو الذي سمعه شيخنا واقتصر في فصل الياء على أنه كيمنع. وهو الذي رآه صاحب النور، وقد ذكره المجد أيضا في كتاب المثلث له.

واقتصر ابن الأثير على كسر الجيم "موضع" بالجر بدل والرفع خبر محذوف، "بمكة" أي قربها أو نواحيها فلا ينافي قول ابن الأثير على ثمانية أميال من مكة، وأفاده قوله:"حيث" ظرف مكان "ينظر" من به "إلى أنصاب الحرم" أي أعلام حدوده "وخلف" بشد اللام أي أخر "عليه" حافظا له "أوس بن خولى" بفتح المعجمة وفتح الواو ضبطه العسكري في كتاب التصحيف.

واقتصر عليه في التبصير "الأنصاري" الخرجي البدري المتوفى في أواخر خلافة عثمان "في مائتي رجل،" قال ابن سعد، ثم خلفهم مثلهم حتى قضى الكل مناسك عمرتهم رضي الله عنهم، "وخرجت قريش" أي أكابرهم وأشرافهم، كما في العيون وغيرها "من مكة إلى رءوس الجبال" عداوة الله ولرسوله، ولم يقدروا على الصبر على رؤيته يطوف البيت هو وأصحابه.

وفي رواية خرجوا استنكافا أن ينظروا إليه صلى الله عليه وسلم وحنقا بفتح المهملة والنون وقاف أي: غيظا، فهو مساو، ونفاسة أي: حسدا يقال: نفس بالشيء بالكسر حسده عليه ولم يره أهلا له. "وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس" أي ترك "بذي طوى" بتثليث الطاء واد بقرب مكة يصرف ولا يصرف إليه، كما في الشامية حتى يفرغ من عمرته ويحضره للنحر. "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" راكبا "على راحلته" ناقته "القصواء" كحمراء "والمسلمون متوشحون السيوف".

ص: 316

محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته.

وفي رواية الترمذي في الشمائل، من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

.........................

قال الشامي: توشح السيف ألقى طرف علاقته على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على منكبه الأيسر تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره "محدقون" محيطون "برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون".

وفي الصحيح عن ابن أبي أوفى لما اعتمر صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم مخافة أن يؤذوه "فدخل من الثنية" وهي كل عقبة مسلوكة "التي تطلعه على الحجون" بفتح المهملة وضم الجيم وبالواو، والنون جبل بمكة.

"وابن رواحة آخذ" بمد الهمزة وكسر الخاء المعجمة "بزمام راحلته" كما في رواية ابن إسحاق وغيره.

وفي رواية بغرزه أي ركابه فيحتمل أخذه تارة بالزمام وأخرى بالركاب وتارة يمشي بين يديه كما في الرواية الآتية.

"وفي رواية الترمذي في الشمائل" النبوية ولا داعي للتقييد، وكذا في سننه والنسائي، والبزار كلهم "من حديث" عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن "أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة" الخزرجي "يمشي" بالميم من المشي وفي نسخ ينشئ بالنون من الإنشاء أي يحدث نظم الشعر "بين يديه وهو يقول: خلوا" تنحوا يا "بني الكفار عن سبيله" طريقه، واغتر بعضهم بقوله السابق خرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال فأول قوله: خلوا باثبتوا على التخلية ولا حاجة إليه فلم يخرجوا كلهم، بل أشرافهم كما مر. "اليوم نضربكم" بسكون الباء للتخفيف كقراءة أبي عمر: "وأن الله يأمركم". وقوله: اليوم أشرب غير مستحقب. "على تنزيله" أي النبي مكة إن عارضتم، ولا نرجع كما رجعنا عام الحديبية أو على تنزيل القرآن، وإن لم يتقدم ذكره نحو:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} .

وأبعد من قال على تنزيل النبي أي إرسال الله له إليكم فهو كالأمر النازل من السماء. "ضربا يزيل الهام" جمع هامة بالتخفيف وهي الرأس. "عن مقيله" أي: محل نومه نصف النهار مستعار من موضع القائلة، فهو كناية عن محل الراحة إذ النوم أعظم راحة أو شبه به العنق بجمع

ص: 317

.....................

ويذهل الخليل عن خليله

فقال عمر: يابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول شعرا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضج النبل".

ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ.

خلوا بني الكفار عن سبيله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

بأن خير القتل في سبيله

نحن قتلناكم على تأويله

كما قتلناكم على تنزيله

أنه محل الاستراحة، أي يزيل الرأس عند العنق، وذكر الضمير نظر إلى أن الهام اسم جمع يفرق بينه وبين واحده بالتاء ولا ينافيه إطلاق النور وغيره أنه جمع لجواز أن المراد اللغوي "ويذهل الخليل عن خليله" لكونه يهلك أحد الخليلين فيذهل الهالك عن الحي والحي عن الهالك.

"فقال عمر: يابن رواحة بين" استفهام محذوف الأداة، وفي رواية بإثباتها: أبين "يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول شعرا".

وفي رواية: الشعر وذلك قد يحرك غضب الأعداء فيلتحم القتال في الحرم أو وهو مناف لما اعتدناه من رعاية كمال الأدب خصوصا في حال العبادة التي منها ما نحن فيه من العمرة بالحرم.

"فقال له صلى الله عليه وسلم" تسلية وإخبارا بأن الله عصمه ومن معه وأن ذلك لا يخل بالأدب: "خل عنه يا عمر" أي: لا محل بينه وبين ما سلكه من قول الشعر حينئذ "فلهى" أي: هذه الجملة أو الأبيات أو الكلمات واللام جواب قسم مقدر، أي لتأثيرها "فيهم" أي: في إيذائهم ونكايتهم وقهرهم "أسرع" وصولا وأبلغ نكاية "من" تأثير "نضح النبل" رمي السهام إليهم، فكما يبعدون منها يبعدون من سماع هذا، ومحال لهم أن يقربونا بعون الله وإلقاء الرعب، ثم هو من إضافة الصفة للموصوف أي النبل الذي يرمى به.

قال البزار: لم يروه عن ثابت إلا جعفر بن سليمان، وقال الترمذي: حديث صحيح غريب. "ورواه عبد الرزاق من حديث أنس من وجهين" أي طريقين أحدهما روايته عن جعفر عن ثابت عنه وهي المتقدمة، والثاني روايته عن معمر عن الزهري عن أنس "بلفظ" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة ينشد بين يديه "خلوا" يا "بني الكفار عن سبيله". "قد نزل الرحمن في تنزيله" القرآن "بأن" الباء زائدة "خير القتل في سبيله" أي جهاد أعدائه وفي السياق بمعنى الطريق المحسوس، فلا إبطاء "نحن قتلناكم على تأويله، أي على إنكاركم ما أول به، كما فهمنا منه، والمعنى نحن نقاتلكم على إنكار تأويله "كما قتلناكم على" إنكار "تنزيله".

ص: 318

وأخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل وفيه:

اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إني مؤمن بقيله

وعند بن عقبة في المغازي بعد قوله:

قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله

لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله:

يا رب إني مؤمن بقيله

إني رأيت الحق في قبوله

وقال ابن هشام: إن قوله:

نحن ضربناكم على تأويله

إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله

مصدر بمعنى اسم المفعول، أي ما نزل عليه الدال على رسالته وصدقه في كل ما جاء به، أخرجه أبو يعلى من طريق عبد الرزاق، "وأخرجه الطبراني" عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن عبد الرزاق. قال الحافظ: وما وجدته في مسند أحمد. قال: وقد أخرجه الطبراني أيضا عاليا عن إبراهيم بن أبي سويد عن عبد الرزاق. "و" من هذا الوجه أخرجه "البيهقي في الدلائل" النبوية.

قال الحافظ: وأخرجه البيهقي أيضا من طريق أبي الأزهر فذكر القسم الأول من الرز "وفيه" بعده "اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله" مستعار من موضع القائلة لموضع الرأس في الجسد استعارة تصريحية لذكره فيه الشبه به "ويذهل الخليل عن خليله. يا رب إني مؤمن بقيله" أي بقوله بمعنى مقوله تعالى {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] .

قال الدارقطني تفرد به معمر عن الزهري، وتفرد به عبد الرزاق عن معمر "و" رده الحافظ، بأنه "عند ابن عقبة في المغازي" عن شيخه الزهري. وفيه "بعد قوله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله لكنه لم يذكر أنسا" أي فيكون عبد الرزاق تفرد بوصله.

قال الحافظ: وقد صححه ابن حبان من الوجهين، وعجبت من الحاكم كيف لم يستدركه فإنه من الوجه الأول على شرط مسلم لأجل جعفر ومن الوجه الثاني على شرط الشيخين.

"وزاد ابن إسحاق" في روايته عن شيخه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: بلغني فذكره وزاد "بعد قوله: يا رب إني مؤمن بقيله، إني رأيت الحق في قوله" أي قبول قوله صلى الله عليه وسلم.

"وقال ابن هشام" عبد الملك: "أن قوله: نحن ضربناكم على تأويله إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله" في غير هذا اليوم.

ص: 319

يوم صفين.

قالوا: ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه.

قال السهيلي يعني "يوم صفين" فتسمح المصنف في العز، وقال ابن هشام والدليل على ذلك أن المشركين لم يقروا بالتنزيل وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل.

قال ابن كثير وفيه نظر فلم ينفرد به ابن إسحاق بل تابعه ابن عقبة وغيره وجاء من غير وجه عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس، وقال الحافظ في الفتح: إذا ثبتت الرواية فلا مانع من إطلاق ذلك، فإن التقدير على رأي ابن هشام: نحن ضربناكم على تأويله أي حتى تذعنوا إلى ذلك التأويل، ويجوز أن التقدير نحن ضربناكم على تأويل ما فهمنا منه حتى تدخلوا فيما دخلنا فيه وإذا كان ذلك محتملا وثبتت الرواية سقط الاعتراض، نعم الرواية التي جاء فيها، فاليوم نضربكم على تأويله يظهر أنها قول عمار، ويبعد أن تكون قول ابن رواحة؛ لأنه لم يقع في عمرة القضاء ضرب ولا قتال، وصحيح الرواية نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله، يشير بكل منهما إلى ما مضى، ولا مانع أن يتمثل عمار بهذا الرجز ويقول هذه اللفظة ومعنى قوله: نحن ضربناكم على تنزيله أي في عهد الرسول فيما مضى واليوم نضربكم على تأويله أي الآن.

هذا وقد وقع للترمذي أنه قال: وفي غير هذا الحديث إن هذه القصة لكعب بن مالك وهو أصح لأن عبد الله بن رواحة قتل بمؤنة وكانت عمرة القضاء بعد ذلك.

قال الحافظ وهو ذهول شديد وغلط مردود وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته، ومع أن في قصة عمرة القضاء اختصام جعفر، وأخيه علي، وزيد بن حارثة في بنت حمزة كما يأتي، وجعفر وزيد وابن رواحة قتلوا في موطن واحد. فكيف يخفى على الترمذي مثل هذا؟ ثم وجدت عن بعضهم أن الذي عند الترمذي من حديث أنس أن ذلك كان في فتح مكة، فإن كان كذلك اتجه إعراضه لكن الموجود بخط الكروخي، راوي الترمذي هو ما تقدم، والله أعلم. انتهى.

وفيه جواز بل ندب إنشاد واستماع الشعر الذي فيه مدح الإسلام، والحث على صدق اللقاء ومبايعة النفس لله سبحانه، وعدم المبالاة بالعدو، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لما أنكر عمر، على ابن رواحة:"يا عمر إني أسمع". فسكت عمر.

وقال عليه السلام: "يابن رواحة قل: لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ". فقالها ابن رواحة، فقالها الناس، كما قالها وفي أمره بذلك زيادة إغاظة الكفار لتأذيهم بها أكثر من الشعر المذكور، لا سيما وقد قالوها كلهم معلنين بها "قالوا" ابن سعد وغيره:"ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن" الحجر الأسود "بمحجنه" بكسر

ص: 320

مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم.

وفي البخاري، عن ابن عباس: قال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد

الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم، عصا معوجة الرأس يلتقط بها الراكب ما سقط منه "مضطبعا بثوبه" أي جعل وسطه تحت الإبط اليمين وطرفه على الكتف اليسرى "وطاف على راحلته"، كما ذكر ابن سعد، والواقدي وغيرهما وزادوا من غير علة.

وروى يونس بن بكير عن زيد بن أسلم أنه صلى الله عليه وسلم طاف على ناقته وعند ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس أنه طاف ماشيا وهرول ثلاثة أشواط ومشى سائرها "والمسلمون يطوفون معه" مكة طاف، فطفنا معه وأتى الصفا والمروة وأتيناهما معه، قال: وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد. وفي رواية سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوه.

رواهما البخاري وفي رواية الإسماعيلي لما قدم صلى الله عليه وسلم مكة وطاف بالبيت في عمرة القضية كنا نستره من السفهاء والصبيان مخافة أن يؤذوه.

وروى البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد أن رجلا سأل ابن أبي أوفى أدخل صلى الله عليه وسلم عام القضية الكعبة قال: لا.

وروى الواقدي عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية وقد أرسل إليهم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك.

ووقع للبيهقي من طريق الواقدي عن ابن المسيب أنه عليه السلام لما قضى طوافه في عمرة القضاء دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة بأمره صلى الله عليه وسلم

الحديث وفيه: أن عكرمة وصفوان وخالد بن أسيد، كأمير، حمدوا الله على موت آبائهم ولم يروا هذا العبد ينهق فوق الكعبة وهو وهم، فالذي رواه أبو يعلى، وابن أبي شيبة، وابن هشام، والبيهقي نفسه من وجه آخر. وغيرهم من عدة طرق: أن دخول المصطفى الكعبة وأذان بلال على ظهرها إنما كان في فتح مكة كما يأتي. وصرح بعضهم بأنه المشهور والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف لا سيما ما في البخاري؟ وقد صرح الواقدي نفسه بأن القول بأنه لم يدخلها هو الثبت، والشامي رحمه الله أار إلى الترجيح بالعزو والتبري بقوله: كذا في هذه الرواية أنه دخل البيت وعقبه برواية البخاري أنه لم يدخله، وهذا مع ظهوره لم يتنبه له من زعم أنه لم يرجح شيئا.

"في البخاري" ومسلم "عن ابن عباس" قدم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه "فقال المشركون: إنه" أي: الشأن "يقدم عليكم وفد" أي قوم وزنا ومعنى.

ص: 321

وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

وفي رواية ابن السكن، بفتح القاف، وسكون الدال، وهو خطأ قاله الحافظ وصدر المصنف بأنه بالفاء الساكنة والرفع فاعل يقدم أي جماعة وعز الثانية لأبي الوقت، وتكلف توجيهها بأن ضمير أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أي: يقدم والحال أنه قد "وهنتهم" أي الصحابة.

قال الحافظ: بتخفيف الهاء وتشديدها، أي: أضعفتهم قال المصنف: ولابن عساكر وهنهم بحذف الفوقية "حمى" فعلى غير منصرف لألف التأنيث كما في المصباح "يثرب" اسم المدينة النبوية في الجاهلية، ونهى صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية لكلام المشركين.

وروى أحمد عن ابن عباس لما نزل صلى الله عليه وسلم مر الظهران في عمرته بلغ أصحابه أن قريشا يصفونهم بالضعف، فقالوا: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة وهو بفتح الجيم أي راحة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم". فجمعوا وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحشا كل واحد منهم في جرابه.

وفي رواية الإسماعيلي فأطلعه الله على ما قالوا "فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا" بضم الميم مضارع رمل بفتح الراء، والميم وهو الإسراع، وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته.

قال الحافظ: وهو في موضع مفعول أمرهم تقول: أمرته كذا، وبكذا. "الأشواط" بفتح الهمزة بعدها معجمة، جمع شوط بفتح الشين وهو الجري إلى الغاية. والمراد الطواف حول الكعبة وفيه جواز تسمية الطوافة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته. انتهى.

"الثلاثة" ليرى المشركون قوتهم بهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم، ولذا قالوا كما في مسلم: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم لهؤلاء أجلد من كذا، وكذا. قال الحافظ: وفيه جواز المعاريض بالفعل، كما تجوز بالقول وربما كانت بالفعل أقوى، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم. وأمرهم "أن يمشوا ما بين الركنين" اليمانيين حيث لا تراهم قريش إذ كانوا من قبل قعيقعان وهو لا يشرف عليهما إنما شرف على الركنين الشاميين.

وعند أبي داود فكانوا إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا وإذا اطلعوا عليهم رملوا "ولم يمنعه" بالإفراد، وفي نسخ ولم يمنعهم بالجمع والأولى هي الصحيحة للعز، وللبخاري فإن روايته بالإفراد وأما بالجمع فرواية مسلم "أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" بكسر الهمزة وسكون الموحدة، بعدها قاف.

ص: 322

وفي رواية، قال:"ارملوا" ليرى المشركون قوتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.

ومعنى قوله: "إلا الإبقاء عليهم" أي لم يمنعه من أمرهم بالرمل في جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم.

ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه -وقد وقف الهدي عن المروة- قال: "هذا المنحر، وكل فجاج

قال: القرطبي رويناه بالرفع على أنه فاعل يمنعهم وبالنصب على أنه مفعول من أجله. وفي يمنعهم ضمير عائد على رسول الله وهو فاعله ذكره الحافظ واقتصر المصنف هنا على الرفع.

وقال: في كتاب الحج أن العيني تبع ابن حجر وسبقهما الزركشي، وتعقبه الدماميني، بأن تجويز النصب مبني على أن لفظ البخاري لم يمنعهم وليس كذلك إنما فيه لم يمنعه فرفع الإبقاء متعين لأنه الفاعل، وكلام القرطبي إنما هو ظاهر في حديث مسلم لم يمنعهم فنقله إلى ما في البخاري غير متأت.

"وفي رواية" للبخاري أيضا عن ابن عباس لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن "قال" لأصحابه: "ارملوا". "ليرى المشركون قوتهم" وفي رواية ابن إسحاق: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة". "والمشركون من قبل" بكسر ففتح جهة "قعيقعان" بضم القاف الأولى وكسر الثانية فعين في هذه الرواية مكانهم.

وزاد الإسماعيلي فلما رملوا قال المشركون: ما وهنتهم. "ومعنى قوله: إلا الإبقاء عليهم أي لم يمنعه" عليه الصلاة والسلام "من أمرهم بالرمل في جميع الطوافات إلا الرفق بهم والإشفاق" الخوف "عليهم" من النصب هكذا قاله الحافظ، والمحوج لهذا التأويل أن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعه من ذلك إذ الإبقاء معناه الرفق كما في الصحاح فلا بد من تأويله بالإرادة ونحوها.

قاله المصنف في الحج: "ثم" كما روى الواقدي عن ابن عباس "طاف" سعى "رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته" وسماه: طوافا اقتداء بقوله تعالى: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وفيه الإشعار بأن السعي وإن لم يكن صورة عبادة لكنها مقصودة منه فليس الغرض منه مجرد الذهاب والعود وإن وقع مثله في سعي الناس، ثم إلى حوائجهم، "فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدي عند المروة" بعد أمره عليه الصلاة والسلام بإحضاره كما مر، أنه حبس بذي طوى. قال:"هذا المنحر" المستحب، "وكل فجاج" بكسر الفاء جمع فج بفتحها

ص: 323

مكة منحر".

فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج، فيقيمون على السلاح، ويأتي الآخرون يقضوا نسكهم ففعلوا.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا.

وفي البخاري من حديث البراء. فلما دخلها -يعني مكة- ومضى الأجل، أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل.

وهو في الأصل الطريق الواسع فتجوز به عن بقاع "مكة منحر" كما تجوز بها عن جميع الحرم، "فنحر عند المروة وحلق هناك" ذكر صاحب الامتاع أنه حلقه معمر بن عبد الله العدوي "وكذلك فعل المسلمون".

قال الواقدي وكان قد اعتمر معه قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا فأما من شهدها وخرج في القضية فاشتركوا في الهدي، وقال:"وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم،" أي: مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت وسعوا كما قال الواقدي: "أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج فيقيمون على السلاح ويأتي الآخرون يقضوا نسكهم،" أي يفعلوه وإن لم يكن قضاه. يقال: قضى الدين أداه لصاحبه. "ففعلوا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا" كما اشترطه مع قريش في الهدنة، ولا ينافي هذا ما رواه الواقدي من مرسل عمر بن علي بن أبي طالب، وأبو الأسود عن عروة لما كان اليوم الرابع. لفظ عروة: وقال عمر لما كان عند الظهر يوم الرابع جاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، فقالا: ننشدك الله والعهد إلا ما خرجت من أرضنا فرد عليه سعد بن عبادة فأسكته صلى الله عليه وسلم وأذن بالرحيل لقول الحافظ في الفتح: كأنه دخل في أوائل النهار فلم يكمل الثلاث إلا في مثل ذلك الوقت من النهار الرابع الذي دخل فيه بالتلفيق وكان مجيئهما قرب مجيء ذلك الوقت. انتهى. وكأنه لم يصح عنده مرسل الواقدي، فلم يذكره ولم يعول عليه في جمعه.

"وفي البخاري من حديث البراء" بن عازب الذي قدم المصنف صدره في الحديبية "فلما دخلها يعني مكة ومضى الأجل" أي الأيام الثلاثة، قال الكرماني: أي قرب مضيه ويتعين الحمل عليه لئلا يلزم الخلف. "أتوا" كفار قريش "عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل".

وفي رواية للبخاري، أيضا فقالوا: قل لصاحبك فليرتح فذكر ذلك علي له، فقال: نعم

ص: 324

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فحملتها.

فارتحل "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة"، أمامة أو عمارة، أو سلمى، أو فاطمة، أو أمة الله، أو عائشة، أو يعلى؛ أقوال سبعة. قال الحافظ: وأمامة هو المشهور وترجم به في الإصابة وعزاه لأبي جعفر بن حبيب وابن الكلبي، والخطيب في المبهمات. قال: وصرح به في شعر لحسان، وسماها الواقدي: عمارة، وابن السكن: فاطمة فهذا كله صريح في أن المشهور أمامة كما في الفتح ومقدمته، وقول المصنف: عمارة أشهر فيه نظر.

وقد قال الخطيب: انفرد الواقدي بهذا القول وإنما عمارة ابن حمزة لابنته، وكذا القول بأن اسمها: يعلى وهم فإنه ابنه ولم يعقب حمزة إلا منه أعقب خمس بنين ثم ماتوا بلا عقب كما ذكره الزبير بن بكار، ولابن عساكر، بنت حمزة "تنادي: يا عم يا عم" مرتين، قال الحافظ: كأنها خاطبته بذلك إجلالا له، وإلا فهو ابن عمها، أو بالنسبة إلى أن حمزة وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة "فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة" زوجه:"دونك" أي خذي.

قال الحافظ: دون من أسماء الأفعال تدل على الأمر بأخذ الشيء المشار إليه "ابنة" ولابن عساكر بنت "عمك". وعند الحاكم من مرسل الحسن: فقال علي لفاطمة وهي في هودجها: أمسكيها عندك، وعند ابن سعد من مرسل محمد الباقر بإسناد صحيح بينما بنت حمزة تطوف في الرجال إذ أخذ علي بيدها فألقاها إلى فاطمة في هودجها.

وفي رواية أبي سعيد السكري أن فاطمة قالت لعلي: إنه صلى الله عليه وسلم شرط أن لا يصيب منهم أحدا إلا رده عليهم. فقال لها علي: إنها ليست منهم إنما هي منا "فحملتها" كذا في نسخ المصنف، والذي في البخاري: حملتها.

قال الحافظ: كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي، وكأن الفاء سقطت وقد ثبتت في رواية النسائي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري، وكذا لأبي داود من طريق آخر، وكذا لأحمد من حديث علي ولأبي ذر عن السرخسي، والكشميهني: حمِّليها بتشديد الميم المكسورة، وبالتحتانية بصيغة الأمر، وللكشميهني في الصلح: احمليها بألف بدل التشديد. انتهى.

ونسبها المصنف للأصيلي هنا، ثم ظاهر حديث الصحيح أنها خرجت بنفسها، وفي مغازي سليمان التيمي أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى رحله وجد بنت حمزة، فقال لها: ما أخرجك؟ قالت: رجل من أهلك ولم يكن صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها، وفي حديث علي عند أبي داود أن زيد بن حارثة أخرجها من مكة، وفي حديث ابن عباس عند الواقدي أن بنت حمزة وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدمها صلى الله عليه وسلم كلمه علي، فقال: علام تترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني

ص: 325

فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". الحديث.

المشركين، فلم ينهه فخرج بها فيحتمل في طريق الجمع، والله أعلم، أنه صلى الله عليه وسلم لما لم ينهه خرج بها من البيت الذي كانت فيه بمكة، ثم دفعها إلى زيد، خوفا من أذى الكفار لمزيد قربه من المصطفى ومنها أو منهم ولذا جاءوه في طلب خروج النبي عنهم، فأتى بها زيد من مكة إلى الرحال فطافت فيها فأبصرت النبي صلى الله عليه وسلم فنادته: يا عم يا عم! فألقاها علي في هودج فاطمة، وهذا لم أره لغيري لكنه مقتضى الأحاديث "فاختصم فيها" بنت حمزة "علي، وزيد، وجعفر" رضي الله عنهم أي في أيهم تكون عنده، وكان ذلك بعد أن قدموا المدينة كما في حديث علي عند أحمد، والحاكم وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فلما دنوا من المدينة كلمه فيها زيد وكان وصي حمزة وأخاه، وهذا لا ينفي أن المخاصمة وقعت بالمدينة فلعل زيدا سأله صلى الله عليه وسلم في ذلك ووقفت المنازعة بعد.

ولأبي سعيد السكري في ديوان حسان أن مخاصمتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد أن وصلوا مر الظهران ذكره الحافظ، فإن صح فلعلهم اختصموا عنده مرتين وفي رواية أبي سعيد السكري اختصموا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فأيقظوا النبي صلى الله عليه وسلم من نومه "قال" ولابن عساكر: فقال "علي: أنا أخذتها" وفي رواية: أنا أخرجتها من بين أظهر المشركين "وهي ابنة عمي" زاد أبو داود: وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أحق به، "وقال جعفر": هي "ابنة" ولأبي ذر: بنت "عمي وخالتها" أسماء بنت عميس كما في حديث علي عند أحمد "تحتي" أي زوجتي.

وفي رواية الحاكم: عندي "وقال" بالواو ولأبي ذر: فقال "زيد: ابنة" ولأبي ذر، وابن عساكر: بنت "أخي" وكان صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين حمزة حين آخى بين المهاجرين، كما ذكره الحاكم في الإكليل وأبو سعد في شرف المصطفى.

وزاد في حديث علي عند أبي داود: أنا خرجت إليها. قال الحافظ: وكان لهؤلاء الثلاثة فيها شبهة أما زيد فللأخوة التي ذكرها ولكونه بدأ بإخراجها من مكة، وأما علي فلأنه ابن عمها وحملها مع زوجته، وأما جعفر فلكونه ابن عمها وخالتها عنده فترجح جانبه باجتماع قرابة الرجل والمرأة منها دونهما، "فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها".

وفي حديث ابن عباس: فقال: "جعفر أولى بها". ولأبي داود، وأحمد:"أما الجارية فأقضي بها لجعفر". ولأبي سعيد السكري: "ادفعاها إلى جعفر فإنه أوسعكم". قال الحافظ: وهذا سبب ثالث، وقال:"الخالة بمنزلة الأم". أي: تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد

ص: 326

وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذه مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها.

وقوله: "الخالة بمنزلة الأم". أي في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة، مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهي مقدمة على غيرها، ويؤخذ منه تقديم أقارب.

"الحديث" بقيته، وقال لعلي:"أنت مني، وأنا منك". وقال لجعفر: "أشبهت خَلقي وخُلقي". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". وقال علي: ألا تتزوج بنت حمزة؟ قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة".

قال الحافظ: فطيب خواطر الجميع وإن كان قضى لجعفر، فقد بين وجهه وحاصله أن المقضي له في الحقيقة الخالة وجعفر تبع لأنه كان القائم في الطلب، وفي حديث علي عند أحمد، وكذا في مرسل الباقر، فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم دار عليه، فقال صلى عليه وسلم:"ما هذا"؟. قال: شيء رأيت الحبشة يصنعونه بملوكهم، وفي حديث ابن عباس فقال: إن النجاشي كان إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله. وهو بفتح المهملة وكسر الجيم، أي: وقف على رجل واحدة، وهو الرقص بهيئة مخصوصة.

وفي حديث علي المذكور: أن الثلاثة فعلوا ذلك. "وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذها مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج لأنهم لم يطلبوها". قاله الحافظ، وزاد أيضا فالنساء المؤمنات لم يدخلن في ذلك، لكن إنما نزل القرآن في ذلك بعد رجوعهم إلى المدينة. انتهى.

وهو أظهر لاقتضاء الأول أنهم لو طلبوها ردها وهو ممتنع حيث لم يدخلن في الشرط، وقوله:"الخالة بمنزلة الأم". "أي: في هذا الحكم الخاص"، وهو الحضانة "لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد" كما دل عليه السياق، فلا حجة فيه لمن زعم أن الخالة ترث؛ لأن الأم ترث في حديث علي وفي مرسل الباقر، الخالة والدة، وإنما الخالة أم، وهي بمعنى قوله بمنزلة الأم لا أنها أم حقيقة "يؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي" الخالة، "مقدمة على غيرها" العمة بالأولى "ويؤخذ منه تقديم أقارب

ص: 327

الأم على أقارب الأب. انتهى.

قال ابن عباس: وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم

الأم على أقارب الأب. انتهى".

ما نقله من الفتح وزاد وعن أحمد رواية أن العمة مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب له عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب فإن قيل: والخالة لم تطلب. قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أن لقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوجت فللزوج أيضا، أن يمنعها من أخذه فإذا وقع الرضا سقط الحرج، وفيه من الفوائد أيضا تعظيم صلة الرحم بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل، إليها وأن الحاكم يبين دليل الحكم للخصم، وأن الخصم يدلي بحجته، وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضون لا تسقط حضانتها إذا كانت المحضونة أنثى أخذا بظاهر هذا الحديث، قاله أحمد وعنه: لا فرق بين الأنثى والذكر ولا يشترط كونه محرما لكن مأمونا وأن الصغير لا يشتهى، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي وكل من طلبت حضانتها لها كانت متزوجة فرجح جانب جعفر بكونه زوج الخالة. انتهى.

لكن الحق في هذه الصورة عند مالك كان للعمة لأن من شرط عدم سقوط الحضانة بالتزويج أن لا يكون هناك حاضنة خلية من الزوج، عن هذه القصة بأنها لما لم تطلب، لم يكلفها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خصوصا وقد علمت بقدومها إذ الاختصام كان بالمدينة كما مر فلا يقال: لو كان الحق لها لأرسل لها، وإن لم تطلب.

وفي رواية أبي سعيد السكري فدفعناها إلى جعفر فلم تزل عنده حتى قتل فأوصى بها جعفر إلى علي فمكثت عنده، حتى بلغت فعرضها علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"هي ابنة أخي من الرضاعة". وذكر الخطيب في المهمات أنه صلى الله عليه وسلم، زوجها من سلمة ابن أم سلمة، وقال حين زوجها منه:"هل جزيت سلمة"؟. وذلك أنه هو الذي كان زوج أمه أم سلمة منه صلى الله عليه وسلم، وذكر أبو جعفر بن حبيب في كتاب المخبر أنها لما قدمت المدينة طفقت تسأل عن قبر أبيها، فبلغ حسان فقال:

تسائل عن قرم هجان سميذع

لدى الناس مغوار الصباح جسور

فقلت لها إن الشهادة راحة

ورضوان رب يا أمام غفور

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة

إلى جنة فيها رضا وسرور

"قال ابن عباس": عند البخاري في مواضع "وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة" ولابن حبان، والنسائي والطبراني عن ابن عباس: تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك يعني عمرة القضاء، وكان الذي زوجها العباس "وهو محرم".

ص: 328

وبنى بها وهو حلال.

وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وَهِلَ ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخاري "وهل" بكسر الهاء أي: غلط.

ولأبي الأسود عن عروة بعث صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة ليخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس وكانت أختها أم الفضل تحته فزوجه إياها.

زاد ابن هشام وأصدقها العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم "وبنى" دخل "بها وهو حلال".

قال ابن إسحاق: وكانت قريش وكلت حويطبا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، فقالوا: اخرج عنا، فقال صلى الله عليه وسلم:"وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه". فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا.

وعند الواقدي: وكان صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتا إنما ضربت له قبة من أديم بالأبطح فكان فيها حتى خرج من مكة ولم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها، فغضب سعد بن عبادة لما رأى من غلظ كلامهم، وقال سهيل بن عمرو: كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يبرح منها إلا طائعا راضيا، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال:"يا سعد، لا تؤذ قومنا، زارونا في رحالنا". وخرج وخلف أبا رافع على ميمونة، فأقام حتى أمسى فخرج بها ومن معها ولقيت من سفهاء مكة عناء فأتاه بها بسرف، ثم بقية حديث ابن عباس هذا عند البخاري وماتت بسرف أي بعد ذلك سنة إحدى وخمسين على الصحيح، وقيل: سنة ثلاث وستين وقيل: ست وستين. "وقد استدرك ذلك" أي تزوجها وهو محرم "على ابن عباس وعد من وهمه"، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.

"قال سعيد بن المسيب" أحد كبار التابعين المشهور: "وهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعدما حل، ذكره" أي رواه يعني قول ابن عباس وسعيد "البخاري ووهل بكسر الهاء، أي غلط" لمخالفته المروي عنها نفسها، وعن أبي رافع وكان الرسول بينهما وعن سليمان بن يسار، وهو مولاها فقد اتفقوا كلهم على أنه كان حلالا فتترجح روايتهم على رواية واحد، وأيضا فرواية من باشر الوقعة أرجح ممن لم يباشرها، ثم هذا المشهور عن ابن عباس.

وعند البزار عن عائشة نحوه وكذا للدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة.

وأخرج الدارقطني من طريق أبي الأسود ومطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال قال السهيلي، وهي غريبة جدا قلت: إن ثبت ذلك عنه، فكأنه رجع وإلا فالثابت عنه في الموطأ والصحيحين والسنن أنه تزوجها وهو محرم.

ص: 329

وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه مسلم.

وسيأتي في.

قال السهيلي: وتأول بعض شيوخنا قوله: وهو محرم بمعنى في الشهر الحرام والبلد الحرام وذلك أن ابن عباس عربي فصيح يتكلم بكلام العرب ولم يرد الإحرام بالحج، وقد قال الشاعر:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

فدعا فلم أر مثله مجدولا

فالله أعلم أراد ذلك ابن عباس أم لا؟ انتهى.

"وقال يزيد بن الأصم" واسمه عروة بن عبيد بن معاوية البكائي بفتح الموحدة والتشديد، أبو عون الكوفي، نزيل الرقة، ثقة، يقال له رؤية.

قال الحافظ: ولم تثبت مات سنة ثلاث ومائة، روى له مسلم والأربعة وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين "عن" خالته "ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف" بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالفاء، ما بين التنعيم وبطن مرو وهو إلى التنعيم أقرب.

"رواه مسلم" وزاد عن يزيد: وكانت خالتي، وخالة ابن عباس، وأخرج الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان عن أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما.

وروى مالك في الموطأ عن ربيعة عن سليمان بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة وهو بالمدينة قبل أن يخرج.

قال البيهقي في المعرفة: وبهذا رد الشافعي رواية ابن عباس التي احتج بها الحنفية وأهل العراق على جواز نكاح المحرم وإنكاحه، وخالفهم الجمهور وأهل الحجاز محتجين بحديث مسلم عن عثمان رفعه:" المحرم لا يَنكِح ولا يُنكِح". وأما خبر ابن عباس وإن صح إسناده إليه فوهم كما قال سعيد.

قال الشافعي: لأن ابن أختها يزيد يقول: نكحها حلالا ومعه سليمان بن يسار عتيقها أو ابن عتيقها وخبر اثنين أكثر من خبر واحد مع رواية عثمان التي هي أثبت من هذا كله، قال: ولئن سلمنا أن الخبرين تكافآ نظرنا فيما فعل الصحابة بعد وقد رأينا عمر، وزيد بن ثابت يردان نكاح المحرم، ولا أعلم من الصحابة مخالفا لذلك وقد روينا عن الحسن أن عليا قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولم نجز نكاحه. انتهى.

"و" على تقدير أن يكون حديث ابن عباس محفوظا، فلا حجة فيه لما "سيأتي في

ص: 330