المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌غزوة بني قريظة - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌غزوة بني قريظة

ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة:"لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم" تتميم.

حديث سليمان بن صدر الذي لم يذكره المصنف اكتفاء بذكر معناه "ولفظه أن النبي صلى لله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "وقد جمعوا له جموعا كثيرة، لا يغزونكم بعدها أبدا ولكن أنتم تغزونهم" " فهذا بمعنى حديث الصحيح، وفي زيادة لفظ أبدا، وذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد أن انصرفوا.

"تتميم":

ذكر ابن إسحاق والواقدي أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهل الأوسيون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، بمهملة ونون مفتوحتين، وكعب بن زيد الخزرجيون، وزاد الدمياطي في الأنساب قيس بن زيد بن عامر، وعبد الله بن أبي خالد.

وذكر الحافظ في الكنى أبا سنان ابن صيفي بن صخر، فقال: شهد بدرا، واستشهد في الخندق، وقتل من المشركين ثلاثة منبه بن عبيد.

قال ابن هشام: هو عثمان بن أمية بن منبه العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي وعمرو بن عبدود.

في البخاري عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذ قفل من الغزو أو الحج أو العمرة، يبدأ، فيكبر ثلاث مرات، ثم يقول:"لا إله إلا الله، وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، وهذا من السجع المحمود، وهو ما جاء بانسجام واتفاق بلا قصد، والمذموم ما يأتي بتكلف واستكراه والله أعلم.

ص: 65

"‌

‌غزوة بني قريظة

":

ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه، ووضعوا السلاح

غزوة بني قريظة:

"ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء" الذي انصرف فيه من الخندق لسبع بقين من ذي القعدة، قاله ابن سعد، وكان المصنف لم يترجم لها لاتصالها بغزوة الخندق حتى كأنها بيان لبعض تعلقاته؛ لأنهم ظاهروا الأحزاب، فكانوا من جملتهم "هو وأصحابه ووضعوا السلاح".

قال ابن إسحاق: وكان الظهر.

ص: 65

جاء جبريل عليه السلام معتجرا بالعمامة من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج.

وفي البخاري من حديث عائشة أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل

"جاء جبريل علي السلام معتجرا بالعمامة" وهو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه، كما في النهاية، وتبعه الشامي ونحوه في القاموس.

وقال ابن فارس: اعتجر الرجل لف العمامة على رأسه فلم يقيده، فإما أن يحمل عليه، أو هو قول ثان، "من استبرق" ضرب من الديباج غليظ، وتصغيره أبيرق قاله البرهان.

قال ابن سعد: وكانت سوداء وأرخى منها بين كتفيه "على بغلة" بيضاء عليها رحالة، "عليها قطيفة ديباج"، هكذا لفظ ابن إسحاق عن الزهري، ورحالة، بكسر الراء، وخفة الحاء المهملة، سرج من جلود لا خشب فيها، تتخذ للركض الشديد، والجمع رحائل، والقطيفة كساء له خمل، وكانت حمراء كما روي عن الماجشون، وديباج بكسر الدال، وقد تفتح، فارسي معرب، والإضافة بيانية على معنى من، وفي لفظ: بغلة شهباء، وآخر فرس أبلق، وجمع بأن الدابة ليست من دواب الدنيا، فبعض الرائين تصورها بغلة، وبعضهم فرسا، فأخبر كل بما تصور، وبعض أمعن نظره، فقال بلقاء لكونها ذات لونين، وبعض لم يمعنه، ورأى غلبة البياض، فقال شهباء أو بيضاء.

"وفي البخاري" في الجهاد والمغازي "من حديث عائشة، أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم" من الخندق، كما في رواية للبخاري أيضا، أي: إلى المدينة، "ووضع السلاح، واغتسل" للتنظيف من آثار السفر، وعليه بوب البخاري الغسل بعد الحرب، وظاهره أنه فرغ من غسله، وبه صرح كعب بن مالك عند الطبراني وغيره بسند صحيح، أنه اغتسل واستجمر، وكذا الواقدي، وقال: ودعا بالمجمرة ليتبخر، وقد صلى الظهر.

وعند ابن عقبة فأخذ يغسل رأسه، وقد رجل أحد شقيه، ويحتمل أنه أتم الغسل، وأخذ يرجل رأسه مكانه، والمحمرة عنده "أتاه جبريل" جواب لما، وللبخاري في الجهاد فأتاه بالفاء وهي زائدة قاله القرطبي، ويؤيده رواية المغازي هذه الأولى، وفي الرواية الثانية في المغازي لما رجع من الخندق، وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل.

قال الحافظ: فهذا يبين أن الواو في الجهاد زائدة في قوله: ووضع السلاح، هو أولى من دعوى زيادة الفاء لكثرة مجيء زيادة الواو، وللواقدي أنه وقف موضع الجنائز، وللطبراني والبيهقي عن كعب بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب، وجمع عليه اللامة، واغتسل

ص: 66

فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه. واخرج إليهم.. وأشار إلى بني قريظة.

وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فزلزل بهم

واستجمر تبدى له جبريل فنادى عذيرك من محارب، فوثب فزعا بفتح العين المهملة، وكسر الذال المعجمة، وسكون التحتية وفتح الراء، أي: من يعذرك فعيل بمعنى فاعل، وللطبراني والبيهقي عن عائشة قالت: سلم علينا رجل، ونحن في البيت، فقام صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال:"هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة"، فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل، وللبخاري أيضا، وهو أي: جبريل، ينفض رأسه من الغبار، وله في الجهاد، وقد عصب رأسه الغبار، "فقال: قد وضعت السلاح" بحذف همزة الاستفهام الثابتة في ابن إسحاق، ولفظه: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" قال: "والله" نحن "ما وضعناه".

وعند ابن سعد من مرسل يزيد بن الأصم: وضعت السلاح، ولم تضعه ملائكة الله، "واخرج إليهم".

وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال فقال: يا رسول الله انهض إلى بني قريظة، فقال:"إن في أصحابي جهدا، فلو أنظرتهم أياما"، قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، وأسقط المصنف من حديث البخاري قال: قل لي: أين، قال: ههنا، "وأشار" زاد الكشميهني بيده "إلى بني قريظة" بضم لقاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المعجمة فتاء تأنيث.

قال السمعاني: اسم رجل نزل أولاده قلعة حصينة بقرب المدينة فنسبت إليهم، وقريظة والنضير أخوان من أولاد هارون، وذكر عبد الملك بن يوسف أن بني قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله.

قال الحافظ: وهو محتمل، وأن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدا، ا. هـ.

"وعند ابن إسحاق" عن شيخه الزهري: "إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة،" فاذهب كما أمرك الله، "فإني عامد إليهم" فهو علة لمقدر "فزلزل بهم" حصونهم، فالمفعول محذوف لرواية ابن إسحاق: أن جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.

وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار بفتح الغين المعجمة وسكون النون، بطن من الخزرج.

ص: 67

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.

وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث مناديا ينادي يا خيل الله اركبي.

وعند الحاكم والبيهقي: وبعث عليا على

وفي البخاري عن أنس لكأني أنظر إلى الغبار في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة.

روى كما قال المصنف وغيره بنصب موكب بتقدير انظر، والجر بدل من الغبار، والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا موكب وهو نوع من السير، وجماعة الفرسان، أو جماعة يسيرون برفق ا. هـ.

"فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا"، أي: مناديا. قال البرهان: لا أعرفه، وقال الشامي: هو بلال، ومثله في الفتح ناسبا لابن إسحاق ولعله في رواية غير البكائي إذ روايته "مؤذنا، فأذن من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وعند ابن عائذ" بسنده عن جابر، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، مرجعه من طلب الأحزاب إذ وقف عليه جبريل، فقال: ما أسرع ما حللتم والله ما نزعنا من لامتنا شيئا منذ نزل العدو، "قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض"، كذا في نقل المصنف عنه، ومثله في الفتح والذي في العيون عن ابن عائذ كدق البيض، "على الصفا" وليس المراد أنه يقتلهم، وإن كان ظاهر اللظف لكونه خلاف الواقع، بل المراد ألقى الرعب في قلوبهم حتى يصيروا كالهالكين، ثم أزلزلهم، فأنزلهم من حصونهم، فتقتلهم فيصيروا كالبيض على الصفا، فعبر عن اسم السبب بالمسبب، وقد كان ذلك وبقية حديث هذا ثم ولى فأتبعته بصري، فلما رأينا ذلك نهضنا.

"و" روى ابن عائذ أيضا من مرسل قتادة، قال:"بعث" صلى الله عليه وسلم "مناديا" قال البرهان: لا أعرف اسمه، وقال الشامي: هو بلال. "ينادي: يا خيل الله اركبي".

قال العسكري وابن دريد هو على المجاز والتوسع أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصره لعلم المخاطب ما أراده، وتعقبه شيخنا، بأنه لا يناسب قوله اركبي، فالأظهر أنه نزل الخيل منزلة المقاتلين حتى كأنها هي التي يوجد منها الفعل، فخاطبها بطلب الركوب منها، والمقصود أصحابها، فلما عبر بالخيل راعى لفظها، فأسند الفعل إليها، أو أنه سمى أصحاب الخيل خيلا مجازا لعلاقة المجاورة.

"وعند الحاكم والبيهقي" من طريق أبي الأسود عن عروة، "وبعث عليا" أميرا "على"

ص: 68

المقدمة، وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره.

وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.

واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.

ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة

الجماعة "المقدمة" على الجيش بكسر الدال مثقلة، من قدم اللازم، بمعنى تقدم، "وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره" بكسر الهمزة، وسكون المثلثة ويجوز فتحها، وحكي تثليث الهمزة كما في السبل، أي: لم يتأخر في خروجه عنه.

"وعند ابن سعد، ثم سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف" أي: جملة الخارجين أعم من كونهم معه، أو قبله، أو بعده "والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة" ذكره تتميما لكلام ابن سعد وإن قدمه أول كلامه، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" عبد الله، أو عمرا "فيما قال ابن هشام" بيان للعز، ولا احتراز عن قول آخر، ولبس صلى الله عليه وسلم الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قتادة بيده، وتقلد القوس، وركب فرسه اللحيف، بضم اللام وفتحها.

قال القاموس: كأمير وزبير وحاؤه مهملة، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة رواه البخاري، ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله ابن الأثير.

وللطبراني عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بني قريظة ركب على حمار عري يقال له يعفور، والناس حوله فإن صحا، فيمكن أنه ركب الفرس بعض الطريق والحمار بعضها.

قال ابن إسحاق: وقدم صلى الله عليه وسلم عليا برايته وابتدرها الناس، فسار حتى دنا من الحصون، سمع مقالة قبيحة له عليه السلام، فرجع حتى لقيه بالطريق، فقال: لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؟، قال:"لم أظنك سمعت منهم لي أذى"، قال: نعم، قال:"لو رأوني لم يقولوا شيئا"، فلما دنا من حصونهم قال:"يا خوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته"؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، ومر بنفر من أصحابه قبل أن يصل إليهم، فقال:"هل مر بكم أحد"؟، قالوا: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء، فقال:"ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم"، "ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة". قال ابن إسحاق يقال لها بئر أنا.

وقال ابن هشام: بئر أنا، وفي الشامية بالضم وتخفيف النون، وقيل: بالفتح والتشديد،

ص: 69

وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد عشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي البخاري عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك

وقيل: بموحدة بدل النون وقيل غير ذلك.

"وتلاحق به الناس فأتى رجال". قال البرهان: لا أعرفهم بأعيانهم، "من بعد عشاء" الصلاة "الآخرة" بالإضافة، ولعل المراد من بعد الظلام الذي تفعل فيه الصلاة الآخرة، "ولم يصلوا العصر لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يصلين" بنون التوكيد الثقيلة "أحد العصر إلا في بني قريظة".

قال في رواية ابن إسحاق: "فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم،" أي: فما نسب إليهم عيبا، أي: ذنبا، "الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به" أي: ما لامهم ولا عتب عليهم بسببه "رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنهم إنما أخروها لفهمهم النهي عن فعلها قبل بني قرظة، وإن خرج الوقت كما هو ظاهر اللفظ.

"وفي البخاري عن ابن عمر" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة""فأدرك بعضهم العصر" بالنصب مفعول، ولأبي ذر بنصب بعضهم، ورفع العصر فاعل، "في الطريق، فقال بعضهم": الضمير لنفس بعض الأول، "لا نصلي حتى نأتيها" حملا للنهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على الأول، وهو ترك تأخير الصلاة على وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بالحرب، بنظير ما وقع في الخندق، أنهم صلوا العصر بعد غروب الشمس لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا عمومه في كل شغل تعلق بالحر، ولا سيما والزمان زمان تشريع قاله في الفتح.

وقال المصنف: عملا بظاهر النهي؛ لأن في النزول مخالفة للأمر الخاص، فخصوا عموم الأمر بالصلاة أول وقتها، بما إذا لم يكن غدر بدليل أمرهم بذلك.

"وقال بعضهم" نظرا إلى المعنى، لا إلى ظاهر اللفظ، "بل نصلي" حملا للنهي عن غير حقيقته وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع، "لم يرد" بضم أوله، وفتح الراء وكسرها، كما قال المصنف "منا ذلك" الظاهر بل لازمه من الحث والإسراع إلى قريظة.

قال ابن القيم: فحازوا الفضيلتين امتثال الأمر في الإسراع، وفي المحافظة على الوقت، ولا سيما ما في هذه القصة بعينها من الحث على المحافظة عليها، وأن من فاتته حبط عمله،

ص: 70

فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم.

كذا وقع في جميع النسخ من البخاري: أنها العصر، واتفق عليه جميع أهل المغازي.

"فذكر" بضم الذال "ذلك" المذكور من فعل الطائفتين "للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف،" لم يلم "واحدا منهم" لا التاركين ولا الفاعلين؛ لأنهم بذلوا جهدهم، واجتهدوا فلم يأثموا.

قال السهيلي وغيره فيه: أن لا يعاب من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مجتهد في الفروع مصيب.

قال الحافظ: وليس بواضح، فإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه.

قال السهيلي: ولا يستحيل كون الشيء صوابا في إنسان وخطأ في حق غيره، وإنما المحال الحكم في نازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، والأصل فيه أن الخطر والإباحة صفات أحكام لا أعيان، فكل مجتهد وافق وجها من التأويل فهو مصيب ا. هـ.

والمشهور وعليه الجمهور أن المصيب في القطعيات واحد، وخالفه الجاحظ والعنبري وما لا قطع فيه، فالجمهور أيضا واحد.

وعن الأشعري كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد.

وقال بعض الحنفية والشافعية: هو مصيب في اجتهاده، فإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ، وادعى ابن المنير أن الذين صلوا إنما صلوا على دوابهم؛ لأن النزول ينافي مقصود الإسراع.

قال: فالذين لم يصلوا عملوا بالدليل الخاص، وهو الأمر بالإسراع، فتركوا عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا؛ لأنهم لو صلوا نزولا لضادوا ما أمروا به الإسراع، ولا يظن بهم ذلك مع ثقوب أذهانهم وفيه نظر؛ لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بالأمر المبالغة في الإسراع فامتثلوه، وخصوا الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا، ولا يكون مضادا لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركبانا يحتاج إلى دليل، ولم أره صريحا في شيء من طرق هذه القصة ا. هـ. من الفتح ملخصا، وفيه أيضا ما حاصله قوله:"لا يصلين أحد العصر"، "كذا وقع في جميع نسخ البخاري أنها العصر"، ووافقه أبو نعيم، "واتفق عليه جمع أهل المغازي".

"ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد

ص: 71

ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون.

وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم -قبل الأمر- كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.

بإسناد واحد،" وهو حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، فذكراه مسلم بلفظ الظهر، والبخاري بلفظ العصر.

"ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون" كابن سعد، وابن حبان كلاهما من طريق مالك بن إسماعيل عن جويرية.

قال الحافظ ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ الظهر، غير أن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية، فقال: العصر، كذا أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل بإسناد صحيح، عن كعب بن مالك، والبيهقي عن عائشة.

"وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل: لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها: العصر".

قال الحافظ: وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديثح لأنه عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه، فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده، حدث به على الوجهين، ولم يوجد ذلك، ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته، فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية، فذكر لفظ البخاري المذكور في المصنف بما زدته أوله، وقال: ولفظ مسلم وسائر من رواه نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة"، فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين، فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله شيخ الشيخين لما حدث البخاري حدثه على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الآخر، وهو اللفظ الذي حدثه به عمه جويرية بدليل موافقة مالك بن إسماعيل له عليه بخلاف اللفظ الذي حدث به البخاري، أو أن البخاري كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف من

ص: 72

وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها العصر، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار.

وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة.

وقذف الله في قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم:

مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي تؤيد الاحتمال الأول، وهذا من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره، فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال: الظهر لطائفة، والعصر لطائفة، مجيئهما متجه، فيحتمل أن رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر.

ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة، وقيل في وجه الجمع أيضا أن يكون لأهل القوة، أو لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر، وقال لغيرهم: لا يصلين أحد العصر ا. هـ.

والجمع الأخير ظاهر أيضا بالنظر لغير رواية ابن عمر "والله أعلم" بما وقع في نفس الأمر.

"قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم" أي: بلغهم "الحصار" غاية المشقة، وكونه بالألف مثله في الفتح، وروايته في ابن إسحاق، وكذا نقله اليعمري جهدهم بلا ألف، وهما بمعنى.

ففي القاموس جهد دابته، بلغ جهدها كأجهدها ا. هـ.

"وعند ابن سعد: خمس عشرة" ليلة.

"وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة" ولو قدمه على ما قبله، كما في الفتح ليكون كالتفسير للبضع كان أولى، وقد جمع شيخنا في التقرير، بأنه يمكن أن مدة شدة الحصار خمس عشرة المردودة إليها رواية بضع عشرة والخمس وعشرين مدته كلها، وعطف على أجهدهم قوله:"وقذف" ألقى "الله في قلوبهم الرعب" وإطلاقه على ذلك مجاز؛ لأن حقيقة القذف الرمي بالحجارة، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، فقال لهم:" عطف على

ص: 73

يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي:

قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا.

قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين

عرض، "يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم"، أي: أذكر لكم، "خلالا".

قال الشامي: بكسر الخاء المعجمة، أي: خصالا جمع خلة، بفتح المعجمة وشد اللام، "ثلاثا فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع" من المتابعة "هذا الرجل، ونصدقه فوالله لقد تبين" ظهر، وتحقق لكم "أنه" بفتح الهمزة "نبي مرسل" هكذا في نسخة صحيحة من ابن إسحاق.

وفي العيون عنه، وكذا في بعض نسخ المصنف أنه لنبي بزيادة لام.

فقال البرهان: بكسر الهمزة؛ لأن اللام في خبرها. قال: وكذا، "وإنه الذي" والمذكور في ابن إسحاق، والعيون للذي بلام "تجدونه في كتابكم" التوراة، "فتأمنون على دمائكم" من القتل، "وأموالكم وأبنائكم ونسائكم" من الأسر والسلب، ولم يقل فنأمن، وإن كان الظاهر المطابق لقوله قبل نتابع اقتصارا على ما يحملهم على المتابعة مما تتعلق به أنفسهم، وذكر نفسه فيها إشارة إلى رضاه به لنفسه وأنه شريكهم فيه إن فعلوه ليكون أدعى لقبول ما عرضه، "فأبوا" حيث قالوا: لا نفارق حكم التوراة، ولا نستبدل به غيره.

"قال: فإذا" حيث "أبيتم علي" بشد الياء "هذه" الخصلة، فامتنعتم بها، "فهلم" تعالوا وافقوني، "فقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا" أي: مشاة، "مصلتين".

قال الشامي: جمع مصلت بكسر اللام، وبالصاد المهملة الساكنة، أي: مجردين السيوف من أغمادها ا. هـ.

فقوله: "بالسيوف" متعلق بمحذوف ذكر تأكيدا، كأنه قيل مجردين السيوف، مقاتلين بها، وأقام الظاهر مقام المضمر لعدم تقدمه لفظا، أو هو متعلق بنخرج، وإن أخر لفظا عن مصلتين "لم نترك وراءنا ثقلا".

قال البرهان: بفتح المثلثة والقاف، ويجوز كسر الثاء، ونقاتل "حتى يحكم الله بيننا وبين

ص: 74

محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه.

فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا.

فقال: إن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.

قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.

وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة -وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره في أمرنا.

فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم يا أبا لبابة، أترى أن ننزل

محمد" غاية لنخرج أو لمحذوف، "فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما" وفي ابن إسحاق والعيون: نسلا، "نخشى عليه" حال من فاعل نهلك، وهو المقصود من الجواب، فلم يتحد الشرط والجزاء وبقية قوله: وإن نظهر على محمد، فلعمري لنجدن النساء والأبناء "فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا" استفهام إنكاري لرد قتلهم "فقال: إن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا" بفتح الهمزة المقصورة وكسر الميم، أي: اطمأنوا، وسكنت قلوبهم لاعتقادهم أنا لا نحدث شيئا "فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة" بكسر الغين المعجمة وشد الراء، غفلة، "قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ" قردة وخنازير، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما، "وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أيقنوا بالهلاك "أن ابعث إلينا أبا لبابة" الأنصاري المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، "وهو" أي: اسمه فيما صدر به السهيلي، "رفاعة" وقيل: مبشر، وقيل: بشير، "ابن عبد المنذر".

قال في التقريب: ووهم من سماه مروان، "نستشيره في أمرنا" في شأننا وحالنا، وخصوه لكون ماله وولده وعياله فيهم، "فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش" بفتح الجيم والهاء وكسرها، فزع وأسرع، "إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم" رحمهم لما رآهم عليه من الحزن والذلة، "وقالوا:" عطف على قام إليه الرجال، "يا أبا لبابة، أترى أن ننزل

ص: 75

على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح.

قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله.

ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

على حكم محمد" وذلك أنهم لما حوصروا حتى أيقنوا بالهلكة أنزلوا شاس بن قيس، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزل بنو النضير من تلك الأموال والحلقة والخروج بالنساء والذراري، وما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله، فقال: تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه وعاد شاس إليهم بذلك، "قال: نعم، وأشار بيه إلى حلقه أنه" أي: حكمه فيهم، "الذبح" كأنه فهم ذلك من ترك إجابته بحقن دمائهم.

"قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله"، زاد في رواية: فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى، حتى جئت إلى المسجد، "ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده" بضم العين، والميم وفتحهما، ويكون مفردا وجمعا.

قال في رواية: وكان ارتباطي إلى الأسطوانة المخلقة، أي: التي طليت بالخلوق بوزن رسول، وهو ما يخلق به من الطيب، "وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى" أموت، أو "يتوب الله علي" أي: ينزل توبتي، "مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ" وفي نسخة: وعاهدت الله أن لا أطأ على الالتفات "بني قريظة أبدا، ولا أرى".

قال البرهان: بضم الهمزة وفتح الراء مبني للمفعول، وقال الشامي: بفتح الهمزة فإن كان رواية، فالمعنى لا أرى أحدا "في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا"، وهو يستلزم أن لا يذهب إليهم.

قال ابن هشام: وأنزل الله في أبي لبابة، فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ

ص: 76

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

قال ابن هشام: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فتربطه بالجذع.

وقال أبو عمر: روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه

تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]"فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه قال: أما لو جاءني" وأخبرني خبره "لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه".

قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم في حر شديد عدة ليال لا آكل فيهن شيئا، ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله علي، وأذكر رؤيا رأيتها في النوم، ونحن محاصرون بني قريظة، كأني في حمأة، أي: طين سود آسنة، أي: متغيرة، فلم أخرج منها حتى كدت أموت من ريحها، ثم رأيت نهرا جاريا، فأراني اغتسلت فيه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحا طيبة، فاستعبرتها أبا بكر، فقال: لتدخلن في أمر تغتم له، ثم يفرج عنك، فكنت أذكر قوله وأنا مرتبط، فأرجو أن ينزل الله توبتي، فلم أزل كذلك حتى ما أسمع الصوت من الجهد ورسول الله ينظر إلي.

"قال ابن هشام" عبد الملك: "وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته" بطلب منه، أو بلا طلب على العادة من تفقد الزوجة، ونحوها الشخص في الشدة، "في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع" وكان هذه الست تقيدت به فيها امرأته، وباقي البضع عشرة بنته، فلا تنافي بين هذه والآتية.

"وقالوا أبو عمر" بن عبد البر الحافظ: "روى ابن وهب" عبد الله أحد الأعلام، "عن مالك" بن أنس الإمام، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، قاضيها الثقة، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة عن سبعين سنة، "أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة،" لفظ الرواية، كما في العيون عن أبي عمر بسلسلة ربوض، والربوض الثقيلة وهو بفتح الراء، وضم الموحدة مخففة، فواو فضاد معجمة، أي: عظيمة غليظة، "بضع عشرة ليلة حتى

ص: 77

فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته.

وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت يا رسول الله مم تضحك، أضحك الله سنك. قال:"تيب على أبي لبابة". قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال:"بلى إن شئت". قال: فقامت على باب حجرتها -وذلك قبل أن يضرب عليهن الححاب- فقالت: فقلت يا أبا لبابة

ذهب سمعه، فما يكاد يسمع، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ" من الصلاة، أو لحاجة "أعادته". والظاهر كما قال الشامس أن زوجه كانت تحله مرة وبنته أخرى.

"و" روى ابن إسحاق "عن يزيد" بياء تحتية وزاي "ابن عبد الله بن قسيط" بقاف ومهملتين مصغر، ابن أسامة الليثي أبي عبد الله المدني الأعرج الثقة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائة، وله تسعون سنة.

روى له الستة وفي غالب النسخ بإسقاط يزيد، وهو خلاف ما عند ابن إسحاق، وغيره من أنه عن يزيد، وهو الصواب، "أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال ابن هشام: والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ، "وهو في بيت أم سلمة،" وهذا مرسل، وقد رواه ابن مردويه بسند فيه الواقدي، موصولا عن أم سلمة، وفيه، وأنزل الله تعالى:{وَآخَرُونَ..} ويحتمل أن يزيد حمله عنها وقد يشعر به قوله.

"قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر، وهو يضحك" فرحا بالتوبة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، "فقالت: قلت: يا رسول الله مم تضحك؟، أضحك الله سنك، قال:"تيب على أبي لبابة"، قالت: قلت:" أأترك الذهاب إليه "فلا أبشره" أم أذهب إليه فأبشره، "يا رسول الله؟، قال:"بلى" بريه "إن شئت"".

ولفظ ابن مردويه قال: "ما شئت" وكله إليها حتى لا يشق عليها بالليل.

"قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: "ولفظ ابن مردويه: فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، "فقلت: يا أبا لبابة

ص: 78

أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.

وروى البيهقي في الدلائل بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] قال: هو أبو لبابة إذ قال لبني قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدًا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقي وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ.

وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك

أبشر" بهمزة قطع، "فقد تاب الله عليك، فثار" أي: نهض "الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده"، تعظيما له ورجاء حصول بركته حتى لا يعود لمثلها "فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح، أطلقه" زاد ابن مردويه عقب هذا: ونزلت: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} .

قال السهيلي: فإن قيل الآية ليست نصا في توبة الله عليه، أكثر من قوله: عسى الله أن يتوب عليهم، فالجواب أن عسى منه سبحانه واجبة وخبر صدق، فإن قيل القرءان نزل بلسان العرب، وعسى ليست في كلامهم بخبر، ولا تقتضي وجوبا، قلنا: عسى تعطي الترجي مع المقاربة، ولذا قال:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، ومعناه الترجي مع الخبر بالقرب كأنه قال قرب أن يبعثك، فالترجي مصروف إلى العبد، والخبر عن القرب، مصروف إلى الله، وخبره حق ووعده حتم، فما تضمنه من الخبر، فهو الواجب الذي هو الترجي الذي هو محال على الله انتهى باختصار.

"وروى البيهقي في الدلائل" النبوية "بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} قال: هو أبو لبابة، إذ قال لبني قريظة ما قال"، هو من إطلاق القول على الفعل، إذ لم يصدر منه قول غير الإشارة، ولذا أتى بعطف التفسير في قوله، "وأشار إلى حلقه بأن محمدًا يذبحك إن نزلتم على حكمه".

"قال البيهقي: وترجم محمد بن إسحاق بن يسار" ضد يمين إمام المغازي "أن ارتباطه كان حينئذ" أي: حين إشارته لقريظة، "وقد روينا عن ابن عباس" من طرق عند ابن مردويه وابن جرير "ما دل" على سبيل الصراحة "على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك،

ص: 79

كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية.

ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله في خيمة في المسجد الشريف لامرأة من أسلم

كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} ، وقد أخرجه أبو الشيخ وابن منده عن جابر بسند قوي، وعلى تقدير صحة الخبرين، فيجمع باحتمال تعدد ربطه نفسه، "ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا"، خضعوا وذلوا ورضوا، "أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: على ما يحكم به فيهم.

قال ابن إسحاق: فقالت الأوس: قد فعلت في موالي الخزرج، أي: بني قينقاع، ما علمت فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟، قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ.

وعند ابن عقبة فقال: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعدا، فرضي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن عليا صاح وهم محاصرون: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأقتحمن حصنهم، فقالوا: ننزل على حكم سعد، "فحكم فيهم سعد بن معاذ".

وفي الصحيح: فرد الحكم إلى سعد.

قال الحافظ: كأنهم أذعنوا للنزول على حكم المصطفى، فلما سأله الأنصار فيهم رد الحكم إلى سعد، كما بينه ابن إسحاق قال: وفي كثير من السير، أنهم أبوا أن ينزلوا على حكم سعد، ويجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يحكم فيهم سعدا.

وفي حديث عائشة عند أحمد والطبراني: فلما اشتد بهم البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة قالوا: ننزل على حكم سعد، ونحوه في حديث جابر عند ابن عائذ، فحصل في سبب رد الحكم إلى سعد أمران: أحدهما سؤال الأوس، والآخر إشارة أبي لبابة، ويحتمل أن الإشارة أثرت توقفهم، ثم لما اشتد بهم الحصار عرفوا سؤال الأوس، فأذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم واثقين بأنه يرد الحكم إلى سعد.

وفي رواية مسلم: وكانوا حلفاءه.

"وكان" عليه السلام "قد جعله في خيمة في المسجد الشريف" النبوي، كما دل عليه كلام ابن إسحاق خلافا لمن قال، المراد المسجد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في قريظة أيام حصارهم قاله الفتح، والجملة حالية والأولى أنها مستأنفة؛ لأن التحكيم لم يكن وقت جعله في الخيمة، بل وقت كونه فيها، وكانت تلك الخيمة "لامرأة من أسلم"، كما جزم به ابن إسحاق

ص: 80

يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطؤا له بوسادة من أدم -وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين

وغيره، وصدر البرهان بأنها أنصارية، وفي الإصابة: الأنصارية أو الأسلمية، "يقال لها رفيدة" بضم الراء، وفتح الفاء، وسكون التحتية، وفتح الدال المهملة ثم تاء تأنيث، صحابية، "وكانت تداوي الجرحى"، وتحتسب بنفسها على من به ضيعة من المسلمين، قاله ابن إسحاق.

وروى البخاري في الأدب المفرد، بسند صحيح عن محمود بن لبيد: لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فثقل حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول:"كيف أمسيت"، وإذا أصبح يقول:"كيف أصبحت" فيخبره ذكره في الإصابة، ثم قال في الكاف كعيبة بالتصغير، بنت سعيد الأسلمية.

ذكر أبو عمر عن الواقدي: أنها شهدت خيبر معه صلى الله عليه وسلم فأسهم لها سهم رجل.

وقال ابن سعد: هي التي كانت لها خيمة في المسجد، تداوي المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ عندها تداوي جرحه حتى مات ا. هـ.

فهما امرأتان، وقع الخلاف فيمن تنسب إليه الخيمة منهما، وليس أحدهما اسما، والآخر لقبا، ثم عجب من الشامي في اقتصاره على قول ابن سعد، وتركه قول إمام المغازي، مع أنه لم ينفرد به، بل ورد عن محمود الصحابي بسند صحيح هذا.

وقال البخاري: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب.

قال المصنف: وعند ابن إسحاق في خيمة رفيدة عند مسجد ا. هـ. ففهم فاهم منه أنه جعله مقابلا للبخاري، وليس كذلك، فمراده بيان اسم صاحبة الخيمة، وأن قوله ضرب مجاز عن جعل، كما عبر به ابن إسحاق، وهو ما دل عليه كلام الفتح.

"فلما حكمه أتاه قومه" الأوس، "فحملوه على حمار" لأعرابي عليه قطيفة، "وقد وطؤا له" زيادة عى ذلك، "بوسادة من أدم"، لمشقة ركوبه على القطيفة للجرح "و" لأنه "كان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

زاد ابن إسحاق: وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، "فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين".

وفي البخاري عن أبي سعيد: فلما دنا من المسجد، فقيل هو تصحيف صوابه، فلما دنا

ص: 81

قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم". فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين.

فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.

من النبي صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم وأبي داود، وفيه تخطئة الراوي بمجرد الظن، فالأولى كما في المصابيح، أن المراد بالمسجد الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في قريظة أيام حصارهم، قال: ولئن سلمنا أنه لم يكن ثَمّ مسجد صلاة فلا نسلم أن قوله من المسجد متعلق بقوله قريبا، بل بمحذوف، أي: فلما دنا آتيا من المسجد، فإن مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من مسجد المدينة.

"قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم" " وفي حديث عائشة عند أحمد: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" فقال عمر. السيد هو الله. قال رجال من بني عبد الأشهل: قمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجل منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأم المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار" لكونه سيدهم، وهو فيهم بمنزلة الصديق في المهاجرين، ففهموا أن الإضافة عهدية، "وأما الأنصار، فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين" أنصارا ومهاجرين، إبقاء للفظ العام على عمومه، والسيادة لا تقتضي الأفضلية.

وفي رواية: "قوموا إلى خيركم".

وفي البخاري في المناقب والمغازي: إلى سيدكم، أو خيركم، بالشك.

وله في الجهاد: إلى سيدكم بلا شك.

وفيه أيضا في المغازي، عن أبي سعيد الخدري، قال للأنصار، وكأنه من تصرف بعض الرواة لما رأى اختلاف المهاجرين والأنصار، ويدل له أنه أسقط في الجهاد والمناقب قوله للأنصار.

قال ابن إسحاق: فقاموا إليه، "فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو عطف على ما حذفه المصنف من كلام ابن إسحاق، وإلا فليس قبله ما يظهر عطفه عليه.

وفي رواية: فقالت الأوس: "قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم".

وفي رواية: فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك، أي: مناصرتهم ومعاونتهم لك قبل هذا اليوم.

وعند ابن إسحاق فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت، قالوا: نعم، قال: وعلي من ههنا من الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عنه إجلالا له، فقال صلى الله عليه وسلم:"نعم".

وفي البخاري عن أبي سعيد: فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن هؤلاء نزلوا على

ص: 82

فقال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء.

فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" والرقيع: السماء سميت بذلك؛ لأنها رقعت بالنجوم.

حكمك، فكأنه عليه السلام تكلم أولا، ثم تكلمت الأوس بذلك.

"فقال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال وتسبى"، بالبناء للمفعول في الأفعال الثلاثة، كما في النور؛ لأنه جواب لقومه الأنصار، "الذراري" الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم، "والنساء" أي: أزواجهم.

وفي البخاري، فقال: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم.

قال المصنف: بفتح الفوقية الأولى، وضم الثانية، وهم الرجال، وتسبى، بفتح الفوقية، وكسر الموحدة، ذراريهم بالتشديد، وهم النساء والصبيان ا. هـ، فضبطه بالبناء للفاعل؛ لأنه جواب لقول المصطفى: احكم فيهم يا سعد.

"فقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه ابن إسحاق من مرسل علقمة بن وقاص الليثي: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" بالقاف، جمع رقيع بتذكير العدد على معنى السقف، كما قال ابن دريد: إذا السماء مؤنث سماعي، فقياسه سبع أرقعة بتأنيث العدد.

قال السهيلي: معناه: أن الحكم ينزل من فوق قال، ومثله قول زينب ابنة جحش: زوجني الله من نبيه من فوق سبع سموات، أي: نزل تزويجها من فوق، وهذا نحو يخافون ربهم من فوقهم، أي: عقابا ينزل من فوقهم، وهو عقاب ربهم.

قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الفهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه، ولكن لا ينبغي إطلاق ذلك الوصف، بما تقدم من الآية والحديثين، لارتباط حرف الجر بالفعل، حتى صار وصفا لا وصفا للباري سبحانه ا. هـ.

"والرقيع السماء" بدليل الرواية الآتية من فوق سبع سموات، "سميت" كما قال السهيلي "بذلك؛ لأنها رقعت" مخفف مبني للمفعول "بالنجوم" على التشبيه؛ لأنها لما كانت في مواضع منها شبهت بالثوب الذي فيه رقع في مواضع متفرقة، وظاهره أن كل سماء مرقوعة بالنجوم، وهو أحد قولين، والآخر أن الكواكب كلها في السماء الدنيا حكاهما ابن كثير. هذا وفي القاموس: الرقيع كالأمير السماء أو السماء الدنيا والرقع السابعة، فعلى القول الثاني ففي الحديث تغليب

ص: 83

ووقع في البخاري: قال: قضيت فيهم بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك -أي: بكسر اللام.

وفي رواية محمد بن صالح لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات.

وفي حديث جابر بن عبد الله -عند ابن عائد-

السماء الدنيا على غيرها.

"ووقع في البخاري" من حديث أبي سعيد، قال" صلى الله عليه وسلم "قضيت"، وفي الجهاد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك" شك الراوي في أي اللفظين قاله، وهما بمعنى، "أي بكسر اللام" أي: الله كما وجه الحافظ لرواية محمد بن صالح الآتية.

ورواية جابر: قد أمرك الله أن تحكم فيهم.

ورواية ابن إسحاق المذكورة في المصنف، قال: وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام، أي: جبريل؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام ا. هـ.

لكن نقل القاضي عياض، أن بعضهم ضبطه في البخاري بكسر اللام وفتحها، فإن صح الفتح فالمراد جبريل، يعني بالحكم الذي جاء به الملك عن الله، وعورض بأنه لم ينقل نزول الملك في ذلك بشيء، ولو نزل بشيء اتبع وترك الاجتهاد، وبأنه ورد في الصحيح:"قضيت بحكم الله".

نعم، ذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي، أنه صلى الله عليه وسلم قال في حكم سعد بذلك طرقني الملك سحرا.

"وفي رواية محمد بن صالح" بن دينار التمار المدني، مولى الأنصار: صدوق يخطئ، مات سنة ثمان وستين، ومائة، خرج له أصحاب السنن، يعني عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه.

"لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات" أخرجه النسائي، وكان الأولى بالمصنف، عزوه له دون محمد بن صالح أحد رواته؛ لأنه أوهم أن الحديث معضل مع أنه موصول كما علمت، وأما صاحب الفتح، فلكونه يتكلم على الأسانيد يحسن منه ذلك؛ لأن به يتبين ممن جاء اختلاف اللفظ، أو الزيادة، أو النقص، أو نحو ذلك مع أنه أيضا عزاه لمن أخرجه وهو النسائي ففيه إفادة أن المراد بالأرقعة السموات، وأن لفظ الملك في رواية البخاري بكسر اللام.

"وفي حديث جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما "عند" محمد "ابن عائذ" بتحتية وذال

ص: 84

فقال: احكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: قد أمرك الله أن تحكم فيهم.

وفي هذ القصة: جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان في حضرته صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته عليه السلام كما في هذه القصة وغيرها. ا. هـ.

معجمة، "فقال:"احكم فيهم يا سعد"، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال:"قد أمرك الله أن تحكم فيهم" فأوحى إلي إلهاما، أو على لسان جبريل بذلك، وأما قوله بذلك طرقني الملك سحرا، فيحتمل أن معناه، أنه أخبره أن يحكم بما يحكم به سعد، فليس نصا في أنه هو الذي أوحى إليه أن يأمر سعدا بذلك.

"وفي هذه القصة" تحكيم الأفضل من هو مفضول، وأنه يسوغ للإمام إذا كانت له حكومة في نفسه تولية نائب يحكم بينه وبين خصمه، وينفذ على خصمه إن كان عدلا، ولا يقدح فيه أن حكم له وهو نائبة، ولزوم حكم الحكم برضا الخصمين، سواء كان في أمور الحرب، أو غيرها، فهو رد على الخوارج المنكرين التحكيم على علي، قاله ابن المنير وغيره و"جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه والمختار الجواز سواء كان في حضرته صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن"، المؤدي إليه الاجتهاد، "مع إمكان القطع" بسؤاله عليه السلام، "و" لكن "لا يضر ذلك لأنه بالتقرير،" بعلمه به، والسكون عليه، أو بعدم مجيء الوحي له بخلافه، "يصير قطعيا" إذ لو كان باطلا لجاءه الوحي، "فقد ثبت وقوع ذلك بحضرته عليه السلام، كما في هذه القصة، وغيرها" كقصة قتيل أبي قتادة إذ أخذ رجل سلبه، وقال للمصطفى: أرضه منه، فأبى أبو بكر، فقال عليه السلام:"صدق فأعطه.." الحديث في البخاري "انتهى".

وقال شيخنا: وهذا كله ظاهر حيث كان الفاعل بحضرته صلى الله عليه وسلم أما في غيبته ففيه شيء، وهو أنه قد يؤدي ظن المجتهد إلى خلاف الواقع، فيفعله وعلمه صلى الله عليه وسلم به بعد لا يمنع وقوع الفعل منه، وإنما يقتضي النهي عن العود لمثله، فالأولى الجواب بأنه إنما اكتفى بالظن مع القدرة على اليقين؛ لأن انتظاره قد يؤدي إلى مشقة، بل إلى فوات المطلوب ا. هـ.

وفيها أيضا تصحيح القول: إن المصيب واحد، وإن المجتهد ربما أخطأ، ولا حرج عليه،

ص: 85

وانصرف صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال -كما قاله الدمياطي، أو لخمس كما قاله مغلطاي- خلون من ذي الحجة.

وأمر عليه الصلاة والسلام ببني قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود في السوق

ولذا قال: حكمت بحكم الله، فدل على أن حكمه في الواقعة متقرر، فمن أصابه أصاب الحق، ولولا ذلك لم يكن لسعد مزية، وأن المسألة اجتهادية ظنية، ولذا كان رأي الأنصار العفو عن اليهود خلافا لسعد، وما كان الأنصار ليتفق أكثرهم على الخطأ على سبيل القطع.

"وانصرف صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال، كما قاله الدمياطي، أو لخمس، كما قاله مغلطاي، خلون من ذي الحجة"، ولا يتأتى واحد منهما على ما قدمه، أن مدة الحصار خمس وعشرون، أو خمس عشرة، وأنه خرج لسبع بقين من ذي القعدة. نعم يتأتى على أنه بضع عشرة، يجعله أقل من خمس عشرة.

"وأمر عليه الصلاة والسلام ببني قريظة" بعد نزولهم من الحصن، فكتفوا وجعلوا ناحية، والنساء والذرية ناحية، قاله ابن سعد، وأسلم في ليلة نزولهم ثعلبة، وأسد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، كما عند ابن إسحاق.

"فأدخلوا المدينة" قال ابن إسحاق: فحبسوا في دار بنت الحارث الأنصارية النجارية.

قال في الإصابة: وهي رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد، زوجة معاذ بن الحارث بن رفاعة، تكرر ذكرها في السيرة.

والواقدي يقول: رملة بنت الحارث بفتح الدال المهملة بغير ألف قبلها، ا. هـ، وكذا قال ابن هشام.

قال السهيلي: الصحيح عندهم بنت الحارث، كما قال البخاري وليست هي كيسة، أي: بشد التحتية فمهملة، كما في الإصابة، بنت الحارث بن كريز التي أنزل في دارها وفد بني حنيفة، وكانت زوج مسليمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر، انتهى ملخصا.

وعند أبي الأسود عن عروة: أنهم حبسوا في دار أسامة بن زيد.

قال في الفتح: ويجمع بأنهم جعلوا في بيتين، كما صرح به في حديث جابر عند ابن عائذ ا. هـ.

وفي السبل: سيق الرجال إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية إلى دار رملة، ويقال: حبسوا جميعا في دارها، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بأحمال تمر، فنثرت لهم فباتوا يأكلونها.

"وحفر لهم أخدود" شق في الأرض، مستطيل "في السوق" بين موضع دار أبي جهم

ص: 86

وجلس صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة، وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل.

العدوي إلى إحجار الزيت بالسوق موضع بالمدينة، "وجلس صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه" في السوق، "وأخرجوا إليه"، زاد في الرواية: إرسالا، بالفتح، أفواجا وفرقا متقطعا بعضهم عن بعض، كما في النور، وظاهره أنه حقيقة.

وفي المصباح أن حقيقته القطيع من الإبل شبه به الناس.

"فضربت أعناقهم"، أي: ضربها علي والزبير، وأسلم الأنصاري، كما في الطبراني، قال: فكنت أضرب عنق من أنبت، وأجعل غيره في المغانم، وجاء سعد بن عبادة والحباب بن المنذر، فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ: ما كرهه من الأوس أحد فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا يبقين دار من الأوس إلا فرقتهم فيها، فمن سخط، فلا يرغم الله إلا أنفه، فابعث إلى داري أول دورهم، ففرقهم في دور الأوس فقتلوهم، وهذا يفيد أن الذين فرقوا على الأوس من لم يكن قتله علي والزبير، لمجيء ابن عبادة والحباب أثناء القتل، وبقي عليه السلام عند الأخدود حتى فرغوا منهم عند الغروب، فرد عليهم التراب، فكان الذين أرسلوا إلى الأوس حملوا بعد القتل إلى الأخدود.

"وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة" إلى بمعنى الواو؛ لأنها التي يقابل بها بين، ولم أجده هكذا، فالذي في ابن إسحاق وهم ستمائة أو سبعمائة، وكذا نقله عنه اليعمري بأو التي لتنويع الخلاف.

ففي الفتح عند ابن إسحاق أنهم ستمائة، وبه جزم أبو عمر.

وعند ابن عائذ من مرسل قتادة: كانوا سبعمائة.

"وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة" كذا عزاه له تبعا للفتح، ولا أدري لم ذلك، مع أنه في نفس كلام ابن إسحاق، بلفظ: والتسعمائة بالواو، بدل إلى، وهكذا نقله عنه اليعمري.

"وفي حديث جابر عند الترمذي، والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح: أنهم كانوا أربعمائة مقاتل".

ص: 87

فيحتمل في طريق الجمع: إن الباقين كانوا أتباعا.

واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبي ثم أمر بالباقي فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاثة آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم

قال الحافظ ابن حجر" في الفتح "فيحتمل في طريق الجمع أن الباقين كانوا أتباعا" غير مقاتلين، "واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة" بنت شمعون بن زيد، وقيل: زيد بن عمرو بن خنافة بالخاء المعجمة والنون، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة.

قال ابن عبد البر: قول الأكثر أنها قرظية، وقيل: كانت من بني النضير متزوجة في قريظة رجلا يقال له الحكم، "فتزوجها" بعد أن أسلمت وحاضت حيضة، وكانت جميلة وسيمة، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي: نصف أوقية، وأعرس بها في المحرم سنة ست في بيت سلمى بنت قيس النجارية، وضرب عليه الحجاب فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فشق عليها، وأكثرت البكاء فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت راجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنها بالبقيع، ذكر الواقدي وابن سعد وغيرهما. "وقيل: كان يطؤها بملك اليمين".

قال ابن إسحاق: كان صلى الله عليه وسلم سباها، فأبت إلا اليهودية، فوجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال:"هذا ثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة" فبشره وعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك، فتركها، لكن قال الواقدي بعد أن أخرج من عدة طرق: أنه تزوجها وضرب عليها الحجاب، هذا أثبت عند أهل العلم، واقتصر عليه ابن الأثير. "وأمر بالغنائم فجمعت،" وهي ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفا رمح وخمسمائة ترس وجحفة وخمر جرار سكر بفتحتين أي: نبيذ تمر، فأهريق ذلك كله، ولم يخمس وجمال نواضح وماشية كثيرة، قاله ابن سعد، وجحفة بحاء مهملة فجيم ترس صغير.

"وأخرج الخمس من المتاع والسبي، ثم أمر بالباقي فبيع فيمن يريد،" ظاهره أنه بيع ما عد الخمس وهو مخالف قول ابن إسحاق وغيره.

بعث صلى الله عليه وسلم سعد بن يزيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا، وعند الواقدي: بعث سعد بن عبادة بطائفة إلى الشام يبيعهم ويشتري بهم خيلا وسلاحا، "وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان" لما مر أن الخيل كانت ستة وثلاثين فرسا "ولصاحبه سهم" وعلى هذا

ص: 88

وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق به ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة - وهو السقط من المتاع.

وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا.

وفي البخاري أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه

مضت السنة في المغازي.

وروى أنه أعطى صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليطة، وأم العلاء، وأم سعد بن معاذ، والسميراء بنت قيس حضرن القتال، ولم يسهم لهن.

"وصار الخمس إلى محمية" بفتح الميم، وسكون الحاء المهملة، وكسر الميم الثانية، فتحتية مخففة مفتوحة "ابن جزء" بفتح الجيم وسكون الزاي، ثم همزة، ابن عبد يغوث "الزبيدي" بضم الزاي وفتح الموحدة ودال مهملة حليف بني سهم، قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأخماس.

وذكر ابن الكلبي: أنه شهد بدرا.

وقال الواقدي: أول مشاهده المريسيع.

قال أبو سعيد بن يونس: شهد فتح مصر، ولا أعلم له رواية.

"وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك يصنع بما صار إليه من الرثة" بكسر الراء وشد المثلثة "وهو السقط من المتاع" أي: متاع البيت الدون، "وانفجر" لما انقضى شأن بني قريظة "جرح" بضم الجيم "سعد بن معاذ" الذي أصابه من ابن العرقة في الخندق في أكحله، "فمات شهيدا" كذا قال ابن إسحاق وغيره، ولعل مرادهم شهيد الآخرة؛ لأنه لم يمت عقب الجرح، بل عاش حتى شرف على البراء وأيضا فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وغسل، فلو كان شهيد المعركة لم يفعل به ذلك.

"وفي البخاري" في الصلاة والهجرة والمغازي عن عائشة "أنه دعا،" وزاد مسلم: وتحجر كلمه للبرء، أي: تيبس، أي: أنه دعا بذلك لما كاد جرحه يبرأ، ولفظ البخاري عن عائشة أن سعدا، قال:"اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد"، أي: قوم "أحب إلي أن أجاهدهم فيك" جملة في تأويل المصدر فاعل اسم التفضيل "من قوم كذبوا رسولك، وأخرجوه" من وطنه، بيان للمفضل عليه الواقع في حيز النفي، فكان جهاده مفضل ومفضل عليه باعتبارين، كمسألة الكحل

ص: 89

اللهم إني أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة لامرأة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها.

المشهورة، ثم مدلول هذه العبارة عرفا أن جهاد هؤلاء أحب إليه من جهاد غيرهم، ولو كانوا كفارا، وإن صدق لغة بالتساوي على نحو: ما ركبك خلق أكرم على الله منه، وقد أفاد المصنف بسوق هذا الحديث هنا، وبما قدمه من دعاء سعد بذلك في الخندق، أنه دعا به في الوقتين.

"اللهم إني أظن أنك قد وضعت الحرب" بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب، "فافجرها" هذا كله قول سعد في البخاري، فكأن المصنف حذفه اختصارا والضمير للجراحة، والهمزة للوصل، والجيم مضمومة، "واجعل موتي فيها" لأفوز بموتة الشهادة.

قال الحافظ: فيه جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت، وفيه صبر سعد "فانفجرت من لبته" بفتح اللام والموحدة المشددة، موضع القلادة من صدره، وهي رواية مسلم والإسماعيلي، وللكشميهني من ليلته وهو تصحيف.

ففي رواية ابن خزيمة: فإذا لبته قد انفجرت من كلمه، أي: من جرحه، وكان موضع الجروح ورم حتى وصل إلى صدره، فانفجر من ثم قاله الحافظ، "فلم يرعهم" بفتح أوله، وضم ثانيه وتسكين العين المهملة، أي: لم يفزع أهل المسجد، "وفي المسجد خيمة" جملة حالية لرجل "من بني غفار" بكسر المعجمة وخفة الفاء، أو من خيامهم.

قال الحافظ في المقدمة: هي خيمة رفيدة نزلها قوم من بني غفار، وقال في الفتح: تقدم أن ابن إسحاق ذكر أن الخيمة كانت لرفيدة الأسلمية، فيحتمل أن يكون لها زوج من بني غفار. "إلا الدم" فاعل يرعهم، أي: الخارج من سعد، "يسيل إليهم" أي: أهل المسجد، "فقالوا: يا أهل الخمية ما هذا" الدم "الذي يأتينا من قبلكم؟ " بكسر القاف وفتح الموحدة، من جهتكم.

قال المصنف: وهذا يضعف قول الكرماني، وتبه البرماوي أن ضمير يرعهم لبني غفار، والسياق يدل عليه ما لا يخفى. نعم، إن كان ثم خيمة غير التي فيها سعد، فلا إشكال ا. هـ، فبحثوا عن ذلك، "فإذا سعد يغذو" بغين وذال معجمتين، يسيل، "جرحه دما".

وفي رواية ابن خزيمة: فإذا الدم له هدير، "فمات منها،" أي: من تلك الجراحة ولا حمد عن عائشة، فانفجر كلمه، وقد كان برأ الأمثل الخرص، وهو بضم المعجمة، وسكون الراء ثم

ص: 90

وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه في هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيه من المشركين، فإنه عليه الصلاة والسلام تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكاد الحرب أن يقع بينهم فلم يقع كما قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] ثم وقعت الهدنة واعتمر عليه الصلاة والسلام من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أي: أن يقصدونا محاربين، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن نغزوهم ولا يغزونا

مهملة، من حلي الأذن.

وفي مسلم: فما زال الدم يسيل حتى مات، وقد زعم بعض شراح البخاري، أن سعدا لم يصب في هذا الظن لما وقع من الحروب في الغزوات، قال: فيحمل على أنه دعا بذلك فلم يجب، وله ما هو أفضل منه، كما ثبت في الحديث الآخر في دعاء المؤمن، أو أنه أراد بوضع الحرب، أي: في تلك الغزوة خاصة لا فيما بعدها.

"و" رده الحافظ فقال: الذي يظهر لي أنه "قد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه في هذه القصة مجابا و"، بيان "ذلك، أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب، يكون ابتداء القصد فيه من المشركين" أي: قريش "فإنه عليه الصلاة والسلام تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة" سنة الحديبية، "وكاد الحرب أن يقع بينهم، فلم يقع كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} بالحديبية، {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حيث طاف ثمانون منهم بعسكركم، ليصيبوا منكم فأخذوا، وأتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، وخلى سبيلهم فنزلت الآية، رواه مسلم وغيره وهو الصحيح، وقبل في فتح مكة، "ثم وقعت الهدنة" الصلح بينهم على وضع الحرب عشر سنين، "واعتمر عليه الصلاة والسلام من قابل"، سنة سبع، "واستمر ذلك" المذكور من الهدنة، "إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا" قاصدا "ففتحت مكة" سنة ثمان "فعلى هذا، فالمراد بقوله أظن أنك قد وضعت الحرب، أي: أن يقصدونا محاربين" فلا ينافي وقوع الحرب بينهم في فتح مكة،؛ لأن القصد فيه إنما كان منه صلى الله عليه وسلم لهم، "وهو كقوله عليه الصلاة والسلام" حين انصرف الأحزاب: "إلا أن نغزوهم وهم لا يغزونا".

ص: 91

-كما تقدم- وقد بين سبب انفجار جرح سعد في مرسل حميد بن هلال -عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات.

وحضر جنازته رضي الله عنه سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن. رواه الشيخان.

روى بنون واحدة وبنونين، كما قاله المصنف، "كما تقدم" في آخر غزوة الخندق انتهى كلام الفتح، واللائق بالمصنف حذف كما تقدم، لأنه لم يقدم هذا اللفظ، بل معناه "وقد بين سبب انفجار جرح سعد في مرسل حميد بن هلال" العدوي، أبي نصر البصري، الثقة التابعي الكبير العالم، احتج به الستة.

"عند" محمد" بن سعد، ولفظه أنه مرت به عنز وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر" بنون فمهملة، من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: موضعا هو النحر، وهو موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصدر كله، وهذا موافق لقول عائشة السابق، فانفجرت من لبته، وفي نسخة الفجر بفاء وجيم، أي: موضع فجر الجرح، والذي في الفتح عن هذا المرسل من موضع الجرح، وتبعه المصنف في شرحه ونحوه قول اليعمري عن ابن سعد فأصابت الجرح بظلفها، وكان معناه أصابت ما انتهى إليه ورم الجرح، وسماه جرحا، وإن لم يكن موضعه؛ لأنه لما سرى الورم إليه، صار الكل أثر الجراحة، "فانفجرت" جراحته وسال الدم "حتى مات، وحضر جنازته رضي الله عنه سبعون ألف ملك" كما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا، ما وطئوا الأرض إلا يومهم هذا" ذكره ابن عائذ وتبعه السهيلي"، "واهتز لموته عرش الرحمن"، رواه الشيخان" من حديث جابر، وثبت عن عشرة من الصحابة أو أكثر.

قال ابن عبد البر: هو ثابت اللفظ من طرق متواترة، وقول البراء: اهتز سريره، لم يلتفت إليه العلماء ا. هـ.

وفي العتبية: أن مالكا سئل عنه، فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدري المرء أن يتكلم بهذا، وما يدري ما فيه من الغرور.

قال ابن رشد في شرحها: إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته، كالجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرارا لله تبارك وتنزه عن مشابهة خلقه انتهى ملخصا، وهو حسن، وقول السهيلي العجب من إنكار مالك لهذا الحديث، وكراهته التحديث به مع صحة نقله، وكثرة روته، ولعل هذه الرواية لم تصح عنه، اعترضه

ص: 92

قال النووي: اختلف العلماء في تأويله.

فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك

اليعمري باقتضائه، أن إنكاره يرجع إلى الإسناد وليس كذلك، بل اختلف العلماء في هذا الخبر، فمنهم من يحمله على ظاهره، ومنهم من يؤوله، وما هذا سبيله من الأخبار المشكلة، فمن الناس من يكره روايته إذا لم يتعلق به حكم شرعي، فلعل الكراهة المروية عن مالك من هذا النمط ا. هـ.

وبهذا يرد قول الحافظ في الفتح تعقبا على ابن رشد، الذي يظهر لي أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي ذلك لما أسند في الموطأ حديث: ينزل الله إلى سماء الدنيا؛ لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش ا. هـ؛ لأن حديث النزول، تعلق به حكم شرعي من طلب الدعاء والاستغفار والتوبة، وقوله أيضا يحتمل الفرق، بأن حديث سعد ما ثبت عنده بخلاف حديث النزول، فرواه ووكل أمره إلى فهم العلماء الذين يسمعون في القرءان استواء العرش ونحوه، لكن لا معنى لإنكاره لثبوته عجيب من مثله في حق نجم الأثر، أيظن أنه يخفى عليه حديث متواتر، فإنما أراد ما قاله ابن رشد واليعمري، وهو المتبادر من قوله وما يدري المرء إلخ، ولو أراد ما فهمه السهيلي وابن حجر لقال ليس بثابت أو لا أعرفه، أو ما سمعته، أو نحو ذلك، والله أعلم.

وقد "قال" الإمام "النووي" في شرح مسلم: "اختلف العلماء في تأويله، فقالت طائة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش، تحركه" حقيقة "فرحا بقدوم روح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزا حصل به هذا" التحرك "ولا مانع منه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا} أي: الحجارة، {لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من علو إلى سفل {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وهذا القول هو ظاهر الحديث وهو المختار" وكذا رجحه السهيلي، فقال: ولا معدل عن ظاهر اللفظ ما وحد إليه سبيل.

"قال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وإن العرش تحرك لموته، قال: وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم" مخلوق "يقبل الحركة والسكون".

"قال" المازري: "لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك" أي: مجرد تحركه لجواز أنه اتفاقي

ص: 93

إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للمائكة على موته.

وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول: ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها.

وقال الحربي: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشيء المعظم إلى عظم الأشياء فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.

وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة، وهو العرش

ذلك اليوم، وفيه أن علمه بموته، واهتزازه له فيه فضيلة كبيرة، كاضطراب الجبل، وتسبيح الحصى بكف المصطفى، ولا يدفع ذلك، بأنهما مرئيان للصحابة بخلاف اهتزازه؛ لأن خبر الصادق المصدوق به مثل رؤيته سواه "إلا أن يقال إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته،" فيفيد كرامته على ربه حيث تحرك العرش أسفا عليه لمحافظته على الحق.

"وقال آخرون" مقابل قوله أولا، فقالت طائفة، وقوله قال بعضهم هو على حقيقته، "المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول" بأن أودع فيه إدراكا علم به موته، وكرامته عند ربه، ففرح واستبشر، وبهذا صدر الفتح وقال: يقال لك من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك في حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: اهتز العرش فرحا به.

"ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته" تفسيري، "وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها" فهذا يصحح قول الآخرين.

"وقال" إبراهيم بن إسحاق "الحربي" الحافظ البغدادي مر بعض ترجمته: "هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته" من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحرك ولا فرح من العرش، "والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء فيقولون: أظلمت بموت فلان الأرض" ولم تظلم، "وقامت له القيامة" ولم تقم، ففي هذا منقبة عظيمة لسعد.

"وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة، وهو العرش،" وسياق الحديث يأباه، إذ المراد منه فضيلته، وأي فضيلة في اهتزاز السرير، فكل سرير يهتز إذا تجابته الأيدي.

قال الحافظ: إلا أن يراد اهتزاز، حملة سريره فرحا بقدومه على ربه، فيتجه.

وفي الصحيح: قال رجل لجابر: فإن البراء يقول اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين

ص: 94

وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التي ذكرها مسلم "اهتز لموته عرش الرحمن" وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي ذكرها مسلم والله أعلم. ا. هـ.

وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش...............................

الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ"، والحيان الأوس والخزرج"، فقال ذلك جابر إظهارا للحق، واعترافا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء كيف قال ذلك مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيا، وكان بين الحيين ما كان، لا أمتنع من قول الحق، والعذر للبراء أنه لم يقصد تغطية سعد، وإنما فهم ذلك، فجزم به.

وقال الخطابي وغيره: لأنه سمع شيئا محتملا، فحمل الحديث عليه، ولعله لم يسمع قوله عرش الرحمن، وعذر جابر أنه ظن أن البراء أراد الغض من سعد، فانتصر له وقد وقع لابن عمر، أنه قال: العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن، أخرجه ابن حبان انتهى ملخصا من الفتح.

"وهذا القول باطل يرده صحيح الروايات التي ذكرها" أيك رواها، "مسلم" خصه لقوله الروايات بخلاف البخاري، ففيه رواية واحدة "اهتز لموته" بدل من الروايات "عرش الرحمن،" فإن إضافته إليه تأبى أن المراد السرير، كما أفاده جابر، "وإنما قال هؤلاء: هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي ذكرها مسلم" ألا ترى إلى أنها لما بلغت ابن عمر، رجع عن قوله: لا يهتز لأحد، وقد قال الحاكم: الأحاديث المصرحة باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين، وليس لمقابلها في الصحيح ذكر، "والله أعلم، انتهى" كلام النووي في شرح مسلم بحروفه، "وقيل: المراد باهتزاز العرش، اهتزاز حملة العرش"، فرحا بقدوم روحه، لما رأوا من كرامته وعظم منزلته، نقله النووي في التهذيب عن العلماء، أي: بعضهم بدليل كلامه في الشرح، ففيه مجاز الحذف.

قال الحافظ: ويؤيده حديث الحاكم أن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟ وقيل هو علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه، ليعلم ملائكته بفضله. قال: ووقع عند الحاكم عن ابن عمر: اهتز العرش فرحا بلقاء الله، سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا.

قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وفيه عطاء بن السائب فيه مقال؛ لأنه اختلط آخر عمره.

ص: 95

وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حصلت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "إن الملائكة كانت تحمله".

وعن البراء قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها

"و" يعارضه أنه "صحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت" بالبناء للمفعول "جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون" أي: بعضهم وعند ابن إسحاق من مرسل الحسن: كان سعد رجلا بادنا، فلما حمله الناس، وجدوا له خفة، فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه، "ما أخف جنازته" كأنهم قالوه استهزاء به، وأن خفته لخفة ميزانه بزعمهم الفاسد.

"فقال النبي صلى الله عليه وسلم" ردا عليهم: "إن الملائكة كانت تحمله".

وفي المرسل أن له حملة غيركم، والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتز له العرش، وذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما احتمل على نعشه بكت أمه وقالت:

ويل أم سعد سعدا صرامة وحدا

وسوددا ومجدا وفارسا معدا سد به مسدا

فقال صلى الله عليه وسلم: "كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ"، وفي رواية:"لا تزيدي على هذا، وكان فيما علمت والله حازما في أمر الله قويا في أمره كل النوائح تكذب إلا أم سعد".

وروي أنه قال لها: "ليرقأ دمعك، ويذهب حزنك، فإن ابنك يضحك الله عز وجل له".

وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بين العمودين، ومشى أمام جنازته، ثم صلى عليه، وجاءت أمه، ونظرت إليه في اللحد، وقالت: احتسبتك عند الله عز وجل، وعزاها صلى الله عليه وسلم وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وف ودعا، وأم سعد بن معاذ اسمها كبشة بنت رافع بن عبيد الأنصارية الخدرية.

ذكر ابن سعد أنها أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصار.

"وعن البراء" بن عازب بن حارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأوسي الصحابي، ابن الصحابي، والخزرج المذكور في نسبه ليس هو مقابل الأوس، وإنما سمي على اسمه، وظنه الخطابي إياه، فزعم أن البراء خزرجي، وهو خطأ فاحش نبه عليه الحافظ.

"قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم." قال الحافظ: الذي أهدى أكيدر دومة، كما في حديث أنس السابق في الهبة، "حلة حرير،" وفي حديث أنس عند البخاري: جبة من سندس، فكأنها مركبة من ظهارة وبطانة؛ لأن مسمى الحلة ثوبان فلا خلف، وفي حديث أنس عند البزار برجال الصحيح، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، "فجعل أصحابه يمسونها" بفتح

ص: 96

ويعجبون من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم:"أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين". هذا لفظ رواية أبي نعيم في مستخرجه على مسلم.

والمناديل: جمع منديل -بكسر الميم في المفرد- وهو معروف.

التحتية والميم، "ويعجبون" بسكون العين "من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم" لهم: "أتعجبون من لين هذه" الحلة"؟ زاد البخاري في الهبة عن أنس: "والذي نفس محمد بيده، "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين" " بالواو، كما رواه الكشميهني، ولغيره بأو بالشك، وكما قال صلى الله عليه وسلم ذلك في حلة أكيدر، قاله أيضا في ديباج أهداه له عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي الصحابي.

روى الطبراني برجال ثقات عن عطارد بن حاجب، أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه فقالوا: نزل عليك من السماء، فقال:"وما تعجبون من ذا لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا"، ثم قال:"يا غلام اذهب به إلى أبي جهم بن حذيفة، وقل له يبعث إلي بالخميصة".

قال العيني: وتخصيص سعد به، قيل: لأنه كان يعجبه ذلك الجنس من الثياب، أو لأن اللامسين المتعجبين من الأنصار، فقال: مناديل سيدكم خير منها ا. هـ. ومقتضى وجود المناديل في الجنة، أنهم إذا أكلوا شيئا احتاجوا للمنديل لمسح ما تعلق بأيديهم وأفواههم، ولا يلزم أنه كوسخ الدنيا، بل جعل ذلك إكراما لهم حيث وجدوا في الجنة نظير ما ألفوه في الدنيا كذا قرره شيخنا حافظ العصر البابلي رحمه الله، "هذا لفظ أبي نعيم في مستخرجه على" صحيح "مسلم،" وجه عزوه له مع أن الحديث في الصحيحين البخاري في المناقب، ومسلم في الفضائل زيادة قوله في الجنة، وقد زادها البخاري في كتاب الهبة لكن من حديث أنس، وزاد في رواية البزار عنه: ثم أهداها إلى عمر، فقال: يا رسول الله أتكرهها وألبسها؟ فقال: "يا عمر إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها، فتصيب بها مالا"، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، ويعارضه ما رواه مسلم عن علي، أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال:"شققه خمرا بين الفواطم"، وفسرن في رواية غيره بفاطمة زوجه، وفاطمة أمه، وفاطمة بنت حمزة.

"والمناديل جمع منديل بكسر الميم في المفرد" زاد القاموس، وفتحها، وكمنبر الذي يتمسح به، "وهو معروف".

قال ابن الأعرابي وغيره: مشتق من الندل النقل؛ لأنه ينتقل من واحد إلى واحد، وقيل: من الندل الوسخ؛ لأنه يندل به.

قال ابن الأنباري وغيره: مذكر.

ص: 97

قال العلماء: وهذا إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه؛ لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. ا. هـ.

وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال:

"قال العلماء: وهذ" الحديث "إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن" بفتح الهمزة عطفا على المجرور "أدنى" أقل "ثيابه فيها خير من هذه" الحلة، "لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان" فيمسح به الأيدي، وينفض به الغبار عن البدن، ويغطى به ما يهدى ويتخذ لفافا للثياب، "فغيره أفضل"؛ لأن سبيله سبيل الخادم، وسائر الثياب سبيل المخدوم، فإذا كان أدناها أفضل من حلة الملوك، فما ظنك بأعلاها.

"وأخرج ابن سعد، وأبو نعيم من طريق محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي المدني، الفاضل الثقة، المتوفى سنة ثلاثين ومائة، أو بعدها "عن محمد بن شرحبيل" بضم أوله، وفتح الراء وسكون المهملة.

قال في الإصابة في القسم الرابع، فيمن ذكر في الصحابة غلطا محمد بن شرحبيل من بني عبد الدار، ذكره ابن منده، وقال: أورده البخاري في الوحدان، ولا يعرف له صحبة، إنما روايته عن أبي هريرة.

ثم روى ابن منده عن ابن المنكدر، عنه قال: أخذت قبضة من تراب قبر سعد بن معاذ، فوجدت منه ريح المسك.

وقال أبو نعيم: هو محمود بن شرحبيل، قلت: ليس فيه إنه صحابي؛ لأن شم تراب القبر يتأتى لمن تراخى زمانه بعد الصحابة، ومن بعدهم.

وفي التابعين محمد بن ثابت بن شرحبيل من بني عبد الدار، فلعله هذا نسب لجده ا. هـ.

وفي تقريبه محمد بن ثابت، ويقال ابن عبد الرحمن بن شرحبيل العبدري، أبو مصعب الحجازي، وقد ينسب إلى جده مقبول.

روى له البخاري في الأدب المفرد، وقوله "ابن حسنة" لا يصح؛ لأنها أم الصحابي الجليل شرحبيل بن عبد الله بن المطاع الكندي، التي ربته كما في التقريب، وليس أبا لمحمد هذا؛ لأنه عبدري وشرحبيل كندي، والحديث مرسل؛ لأنه تابعي، فلم يشهد ما حدث به، حيث "قال:

ص: 98

قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك، فقثال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله، سبحان الله"، حتى عرف ذلك في وجهه، فقال:"الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج الله عنه".

قبض إنسان يومئذ" أي: يوم موت سعد، "بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك، فإذا هي مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله، سبحان الله" مرتين، تعجبا من كون تراب قبره صار مسكا، وكونه ضمه "حتى عرف ذلك" التعجب المدلول عليه بالتسبيح "في وجهه" الشريف، "فقال:"الحمد لله" شكرا له على تفريجه عن سعد، "لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر" من الأمم، صالحهم وطالحهم، إلا الأنبياء لكونهم خصوا بأنهم لا يضغطون كما في الأنموذج، ولا ترد فاطمة أم علي رضي الله عنهما؛ لأن نجاتها لسبب اضطجاعه صلى الله عليه وسلم في قبرها، ولا قارئ الإخلاص في مرض موته؛ لأن نجاته لسبب هو القراءة، والمنفي أنه لم ينج أحد منها بلا سبب، أو هي خصوصيات لا تنقض الأمور الكلية "لنجا منها سعد" لكن لم ينج أحد، فلم ينج سعد "ضم ضمة، ثم فرج الله عنه".

قال الحكيم الترمذي: سبب هذه الضمة أنه ما من أحد إلا وقد ألم بخطيئة ما، وإن كان صالحا، فجعلت هذه الضغطة جزاء له، ثم تدركه الرحمة، ولذا ضغط سعد للتقصير في البول، فأما الأنبياء فلا ضم ولا سؤال لعصمتهم ا. هـ. وهذا الحديث المرسل له شاهد.

قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر قال: لما دفن سعد، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح صلى الله عليه وسلم، فسبح الناس معه، ثم كبر، فكبر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله مم سبحت، فقال:"لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه"، ولم يقولوا كم كبرت؛ لأن الذي يقال عند التعجب إنما هو التسبيح، فسألوا عن سببه.

قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال صلى الله عليه وسلم:"إن للقبر لضمة، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ".

وفي رواية يونس الشيباني، عن ابن إسحاق حدثني أمية بن عبد الله قال: قلت لبعض أهل سعد: ما بلغكم في هذا؟ فقال: ذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال:"كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير"، ومعلوم أن تقصيره لم يكن على وجه يؤدي إلى فساد عبادته، ولكنه مخالف للأولى، كترك الجمع بين الحجر والماء في الاستنجاء، فضمه القبر ليعظم ثوابه

ص: 99

وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا.

قال الحافظ مغلطاي وغيره: وفي هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور.

وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء.

ولتنبيه غيره حيث أخبرهم الصادق بسبب الضمة، فيحترزون عن خلاف الأولى وإن جاز.

وقد روى الحافظ أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه، والبيهقي وابن منده، أن عائشة قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر، وصوت منكر ونكير، فقال:"يا عائشة، إن ضغطة القبر -أو قال- ضمة القبر على المؤمن كضم الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها، يشكو إليها الصداع فتغمز رأسه غمزا رفيقا، وصوت منكر ونكير، كالكحل في العين، ولكن يا عائشة " ويل للشاكين في الله، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطة البيض على الصخر" ". وزعم أن المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه من لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد لا يصح، فإنه لم يتقدم عنه شيء ينافي هذا الحديث، حتى ينفي، وقد يكون مراد المصطفى أن هذا العبد الصالح الذي شهده سبعون ألف ملك، واهتز له عرش الرحمن، لا يضمه القبر أسا، ولا كضم الأم ابنها إكراما له، وإن كان يقصر بعض التقصير في البول، فذلك مغفور في جنب بعض حسناته التي منها حكمه في مواليه بحكم الله، فتعجب من ضمه، وهذا هو الظاهر من كلام الروض، فإنه قال: وأما ضغطه في قبره، فروي عن عائشة، فذكر الحديث، وعزاه لمعجم بن الأعرابي كما ذكرته.

"وأخرج ابن سعد" محمد الحافظ "عن أبي سعيد" سعد بن مالك، "الخدري" الصحابي، ابن الصحابي "قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا،" وكفى بهذا منقبة عظيمة، وهذا أيضا شاهد لما قبله.

"قال الحافظ مغلطاي وغيره: وفي هذه السنة" سنة خمس "فرض الحج" فقد وقع في حديث ضمام ذكر الأمر بالحج، وقدومه سنة خمس، كما ذكره الواقدي، فيدل على فرضه فيها أو تقدم، "وقيل: سنة ست، وصححه غير واحد من الجمهور" لأنه نزل فيها قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، بناء على أن المراد بالإتمام الفرض لقراءة علقمة ومسروق والنخعي وأقيموا، رواه الطبراني بأسانيد صحيحة عنهم، أما على أن المراد الإكمال بعد الشروع فلا، "وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، ورجحه جماعة من العلماء" لبعثه صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد

ص: 100