الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.................................
من نكاحها، وأصدقتها مائتي درهم، فلم أجد شيئا أسوقه إليها، فقلت على الله ورسوله المعول، فجئت رسول الله، فأخبرته، فقال: كم سقت إليها، فقلت: مائتي درهم، فقال:"سبحان الله لو كنتم تغترفون من ناحية بطحان ما زدتم". فقلت: يا رسول الله! أعني على صداقها. فقال: "ما وافقت عندنا ما أعينك به، ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية، فهل لك في أن تخرج فيها؟ فإني أرجو أن يغنمك الله مهر زوجتك". فقلت: نعم، فخرجنا حتى جئنا الحاضر، فذكر القصة، وأن أبا قتادة ألف بين كل رجلين، وقاتل رجالا من القوم.
فإذا فيهم رجل من طويل أقبل على ابن حدرد، وقال: يا مسلم هلم إلى الجنة يتهكم به، قال: فملت عليه، فقتلته وأخذت سيفه، فلما أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي، تكثر الالتفات خلفها وتبكي، فقلت: أي شيء تنظرين، قالت: أنظر والله إلى رجل إن كان حيا استنقذنا منكم، فقلت: لها، قد قتلته وهذا سيفه معلق بالقتب، قالت: فألق إليّ غمده، فلما رأته بكت ولبثت، ولا يخفى أن سياق كل من القصتين يبعد أو يمنع كونهما واحدة والله تعالى أعلم.
"
باب غزوة الفتح الأعظم
":
ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال في زاد المعاد: "الفتح الأعظم، الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين.
باب غزوة الفتح الأعظم:
"ثم فتح مكة زادها الله شرفا"، يحتمل أنه دعاء من المصنف، وأنه إخبار بأن الفتح النبوي زادها الله به شرفا على شرفها السابق، "وهو كما قال" العلامة ابن القيم، "في زاد المعاد" في هدي خير العباد:"الفتح الأعظم" من بقية الفتوحات قبله، كخيبر وفدك والحديبية، وعد فتحا لأمور تقدمت منها أن مقدمة الظهور ظهور، وهو قد كان مقدمة لهذا الفتح الأعظم، "الذي أعز الله به دينه"، قواه وأظهره على جميع الأديان، إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، "ورسوله وجنده" أنصاره المسلمون الذين بذلوا نفوسهم في نصرة دينه، وجعلوا أنصارا وجندا، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لإخلاصهم في إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، "وحرمه الأمين" الآمن فيه من دخله، "واستنقذ" خلص "به بلده وبيته"، والإضافة للتشريف ولتمييزه لهما على غيرهما من البقاع، "الذي جعله الله هدى للعالمين" هاديا لهم لأنه قبلتهم ومتعبدهم، كما قال تعالى:{مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} "من أيدي الكفار والمشركين" عبدة الأوثان، فهو عطف أخص على أعم، بعد
وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا".
خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
طول استيلائهم عليه، وعبادتهم لغير الله فيه، فجعله مثابة لعامة من قصده من المسلمين.
"وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب" جمع طنب بضمتين وهو حبل الخباء الخمية، "عزه" استعارة بالكناية شبه العز بخباء متين، وأثبت الإطناب تخييلا، "على مناكب الجوزاء" بفتح الجيم وسكون الواو، وبالزاي والمد، يقال: إنها تعرض في جوز السماء، أي وسطها ولا استعارة فيها، ولا في مناكب أيضا لأنها اسم لنجوم متصلة بها، "ودخل الناس في دين الله أفواجا" جماعات جمع فوج، جاءوا بعد الفتح من أقطار الأرض طائعين، "وأشرق به وجه الأرض" وفي نسخة الدهر، "ضياء وابتهاجا" سرورا "خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب" بالفوقية جمع كتيبة، وهي القطعة من الجيش، "الإسلام وجنود الرحمن" أي الملائكة لما ورد أنها تحضر مواضع قتال المسلمين، مع الكفار وإن لم تقاتل، فالعطف مباين أو عام على خاص، إن أريد بجنوده ما يشمل الملائكة وغيرهم، وهذا أحسن من أنه مساو، "لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية" في شعبان سنة ثمان على رأس اثنين وعشرين شهرا، من صلح الحديبية.
روى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم ال لعائشة صبيحة وقعة خزاعة: "لقد حدث يا عائشة في خزاعة أمر". فقالت: أترى قريشا تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال: "ينقضون العهد لأمر يريده الله". قالت: يا رسول الله خير. قال: "خير". "فإنه كان قد وقع الشرط". كما رواه ابن إسحاق. حدثني الزهري عن المسور ومروان: "أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده"، وكانت حلفاء عبد المطلب، وكان عليه الصلاة والسلام بذلك عارفا، ولقد جاءته خزاعة يومئذ بكتاب عبد المطلب، فقرأه عليه أبي بن كعب وهو: باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سراتهم وأهل الرأي غائبهم يقر بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم
وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر في بني الديل.
عهود الله وعقوده وما لا ينسى أبدا.
اليد واحدة والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفة ولا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجددا أبد الدهر سرمدا، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام". انتهى.
من الشامية والحلف المنهي عنه ما كان على الفتن والقتال والغارات والذي قواه الإسلام ما كان على نصر المظلوم وصلة الأرحام والخير ونصرة الحق، كما في النهاية.
قال ابن إسحاق: "وكان بيني بني بكر" بن عبد مناة بن كنانة "وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية" وذلك أن مالك بن عباد من بني الحضرمي خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه وقتلوه وأخذوا ماله وكان حليفا للأسود بن رزن بفتح الراء وكسرها، كما في الروض والمحكم فزاي ساكنة وتفتح كما في الإملاء فنون فعدت بنو بكر على خزاعي فقتلوه حمية للأسود فعدت خزاعة على بني الأسود وهم ذؤيب تصغير ذئب وسلمى بفتح السين وكلثوم فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم وكان قوم الأسود يؤدون ديتين لفضلهم في بني بكر وباقيهم دية دية، فبينما هم كذلك بعث صلى الله عليه وسلم "فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام" وإن لم يسلموا، "فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية" بن عروة بن يعمر بن نفاثة بضم الون وخفة الفاء فألف فمثلثة ابن عدي بن الديل "الديلمي" بكسر المهملة وسكون التحتية كما ضبطه الحافظ وغيره أبو معاوية صحابي من مسلمة الفتح وعاش إلى أول إمارة يزيد وعمر مائة وعشرين سنة.
روى له البخاري ومسلم والنسائي "من بني بكر في بني الديل" بكسر الدال المهملة وسكون الياء كما قاله الكسائي وأبو عبيد وغيرهما، وقال الأصمعي وسيبويه وأبو حاتم وغيرهم هو بضم الدال وكسر الهمزة وإنما فتحت في النس كما فتحت ميم النمر في النمري، ولام سلمة في السلمي فرارا من توالي الكسرات وكان عيسى بن عمر ويونس وغيرهما يكسرانها في النسب تبقية على الأصل.
قال الأصمعي: وهو شاذ في القياس وهو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة كما في مقدمة الفتح ونحوه في التبصير له، ففي قول الشامي بكسر الدال وسكون الهمزة وتسهل نظر
حتى بين خزاعة وهم على ماء لهم يقال له: الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له: منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال.
وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية.
لأن الذين قالوا بكسر الدال، إنما قالوا بعدها تحتية لا همزة، والذين قالوا همزة إنما قالوا بكسرها والدال مضمومة قال ابن إسحاق ونوفل يومئذ قائدهم وليس كل بني بكر تابعه "حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم" بأسفل مكة "يقال له: الوتير" بفتح الواو وكسر الفوقية وسكون التحتية آخره راء.
قال السهيلي: وهو في كلام العرب الورد الأبيض سمي به الماء "فأصاب منهم رجلا" أبهمه ابن إسحاق في أول عبارته ثم بعد قليل قال: "يقال له: منبه" بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة.
قال ابن إسحاق وكان رجلا مفئودا أي ضعيف الفؤاد، خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم فقال له منبه: يا تميم انج بنفسك فوالله إني لميت قتلوني أو تركوني لقد أنبت فؤادي فأفلت تميم وأدركوا منبها فقتلوه فليسا برجلين كما اقتضاه قول البرهان قوله رجلا لا أعرف اسمه ثم ضبط منبها بلفظ اسم الفاعل، قال ولا أعلم ترجمته إلا أنه كافر إلا أن يقال مراده لا أعرف له اسما عند من ذكر أسماء الرجال، وإنما وقفت عليه في السيرة فيحتمل أنه اسم كما هو الظاهر المتبادر وأنه صفة وله اسم آخر، وهذا مع ما فيه من التعسف أحوج إليه التماس المخرج لمثل هذا الحافظ حتى لا يتناقض في أسطر يسيرة، "واستيقظت" تنبهت "لهم خزاعة" لما علموا بهم "فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال" فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة لا إله له يا بني بكور أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبوا ثأركم فيه؟ "وأمدت قريش" حلفاءهم "بني بكر بالسلاح وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية" منهم: صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو قاله موسى بن عقبة. وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص قاله ابن سعد.
فلما دخلوا مكة لجأت خزاعة إلى دار بجديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم، يقال له: رافع فانتهوا بهم في عماية الصبح ودخلت رؤساء قريش منازلهم وهم يظنون أنهم لا يعرفون، وأن هذا لا يبلغه عليه الصلاة والسلام وأصبحت خزاعة مقتولين على باب بديل ورافع فقال سهيل لنوفل: قد رأيت الذي صنعنا بك وبأصحابك وبمن قتلت من القوم وأنت قد حصرتهم تريد قتل من بقي وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم فتركهم فخرجوا وندمت قريش على ما صنعوا وعرفوا أنه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين المصطفى وجاء الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى صفوان، ومن سمي، فلاماهم بما صنعوا، وقالا: إن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقض لها أخرج مسدد في مسنده، والواقدي أن قريشا ندمت، فقالت: إن محمدا غازينا، فقال ابن
ولما خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه. فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول:"لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسي".
وفي المعجم الصغير، من حديث ميمونة أنها سمعته صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه
أبي سرح: لا يغزوكم حتى يخيركم في خصال كلها أهون من غزوه، يرسل إليكم أن دوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلا أو تبرءوا من حلف بني نفاثة أو ننبذ إليكم على سواء، فقال سهيل: نبرأ من حلفهم أسهل وقال شيبة: ندي القتلى أهون.
وقال قرطة بن عبد عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء. وقال أبو سفيان ليس هذا بشيء وما الرأي الأصوب إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض عهد أو قطع مدة وأنه قطع قوم بغير رضا منا ولا مشورة فما علينا. قالوا: هذا الرأي لا رأي غيره، "ولما" انقضى القتال "خرج" كما رواه ابن إسحاق وغيره "عمرو" بفتح العين وقيل بضمها وصححه الذهبي "ابن سالم" بن كلثوم "الخزاعي" أحد بني كعب الصحابي.
ذكر ابن الكلبي، وأبو عبيد، والطبري أنه أحد من عمل ألوية خزاعة يوم الفتح.
زاد ابن سعد وشيخه "في أربعين راكبا من خزاعة" ترجى اليعمري أن يكونوا هم النفر الذين قدموا مع بديل وفيه أن الأربعين لا يقال لهم: نفر، "فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه"، وهو يقول:"لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر" ضمن معنى أمنع فعدي بمن في قوله "منه" وفي نسخة به "نفسي" فلا تضمين.
وروى عبد الرزاق وغيره عن ابن عباس، مرفوعا:"والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي".
وروى أبو يعلى بسند جيد عن عائشة: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب ما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان، وقال:"لا نصرني الله تعالى إن لم أنصر بني كعب". "وفي المعجم الصغير" قيد به، لأنه ساق الحديث بتمامه إلى آخر الشعر.
وروى في الكبير بعض الحديث، وأما من عزاه لهما كالشامي فلذكره عنه ما اتفقت عليه روايته في الكبير والصغير "من حديث ميمونة" بنت الحارث، أم المؤمنين "أنها" قالت: بات عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام ليتوضأ إلى الصلاة "سمعته" لفظها فسمعته "صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه" بميم مضمومة ففوقية مفتوحة فواو فضاد معجمة مشددة مفتوحتين فهمزة مكسورة أي مكان وضوئه، كما قال الشامي؛ لأنه أنسب من زمانه ومن نفسه وإن أطلق عليهما أيضا، فإن مزيد الثلاثي
ليلا: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر". ثم خرج عليه الصلاة والسلام فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدري، فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر.
يستوي فيه اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم الزمان، والمكان، والمصدر في لفظ واحد، ليلا:"لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت". بفتح التاء، فيها خطابا للذي سمعه "ثلاثا، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك أحد؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا راجز" بجيم وزاي، قائل الرجز نوع من الشعر معروف وصحف من قال، راجل "بني كعب" بطن من خزاعة "يستصرخني" يستغيث بي "ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر" ففي إخباره به قبل قدومه علم من أعلام النبوة باهر، فأما أنه أعلم بذلك بالوحي وعلم ما يصوره الراجز في نفسه، أو يكلمه به أصحابه فأجابه بذلك، وأنه كان يرتجز في سفره، وأسمعه الله كلامه قبل قدومه بثلاث، ولا يعد في ذلك، فقد روى أبو نعيم مرفوعا:"إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط". الحديث.
قال ميمونة: "ثم خرج عليه الصلاة والسلام" بعد قدوم الوفد، وبديل ثم أبي سفيان كما عند أصحاب المغازي لا قبل مجيئهم كما يوهمه السياق ففيه اختصار، "فأمر عائشة أن تجهزه" بالتثقيل أي: تهيئ له أهبة السفر وما يحتاج إليه في قطع المسافة "ولا تعلم أحدا" وعند ابن إسحاق وابن عقبة، والواقدي، أنه قال:"جهزينا وأخفي أمرك". وقال: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة" وأمر جماعة أن تقيم بالأنقاب وكان عمر يطوف على الأنقاب فيقول لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه وكانت، الأنقاب مسلمة إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ منه ويسأل عنه.
"قالت" ميمونة، راوية الحديث:"فدخل عليها" أي على عائشة "أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز" بفتح الجيم والكسر لغة قليلة كما في المصباح "فقالت: والله ما أدري، فقال" أبو بكر: "والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر"، وهم الروم؛ لأن جدهم روم بن عيص بكسر العين ابن إسحاق بن إبراهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر أو لأن جدته سارة، حلته بالذهب، وقيل غير ذلك وكأنه خصهم لتوقعهم الغزو إليهم لما فعلوا، مع
فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح في الناس فسمعت الراجز ينشده:
يا رب إني ناشد محمدًا
…
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
…
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا
…
.........................
أهل مؤتة "فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت" عائشة: "والله لا علم لي" وعند ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة أنها أعلمته، فقال: والله ما انتقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر له أنهم أول من غدر ثم أمر بالطرق فحبست فعمي على أهل مكة لا يأتيهم خبر ويحتمل الجمع بأنه دخل عليها مرتين الأولى قالت له: لا علم لي، حتى أخبرته صلى الله عليه وسلم وأذن لها في إخبار أبيها لكونه غيبة سره فدخل عليها ثانيا فأخبرته وكأنه لم يبلغه نقضهم العهد أو تأول أنه غير ناقض لكونه لم يصدر من جميعهم، فقال: ما انتقضت الهدنة، وأخبر النبي والله أعلم. "قالت" ميمونة: كما هو رواية الطبراني "فأقمنا ثلاثا" لفظ الطبراني بالناس، صبح اليوم الثالث، "فسمعت الراجز ينشده" وعند الواقدي، وغيره فلما فرغوا من قصتهم قام عمرو بن سالم، فقال وهو جالس بالمسجد: ظهري الناس "يا رب إني ناشد" طاب ومذكر "محمدا".
"حلف" بكسر المهملة وإسكان اللام مناصرة "أبينا وأبيه" عبد المطلب إشارة إلى ما مر "الأتلدا" بفتح أوله وسكون والفوقية وفتح اللام، وبالدال المهملة، أي الأقدم مما بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم وقول الشامي أي القديم لا يناسب، أفعل التفضيل إنما هو تفسير للتليد وزاد في رواية ابن إسحاق وغيره:
قد كنتم ولدا وكنا والدا
…
ثمت أسلمنا فلم نزغ سدى
ولد بضم الواو وسكون اللام، لغة في ولد، وذلك أن ولد بني عبد مناف أمهم من خزاعة وكذا أم قصي فاطمة الخزاعية، كما في الروض وثمت حرف عطف أدخل عليه تاء التأنيث، "إن" بكسر الهمزة، وتقديره أقول:"قريشا أخلفوك" أو هو التفات وإلا فمقتضى الظاهر أخلفوه، "الموعدا".
"ونقضوا" عطف تفسير لأخلفوك "ميثاقك" عهدك "المؤكدا" بالكتب والإشهاد "وزعموا أن لست" بفتح التاء على الخطاب "تدعو أحدًا" لنصرتنا، وبضم التاء على رواية إسحاق، وجماعة بعد قوله، المؤكد أقوله جماعة:
وجعلوا لي في كداء رصدا
…
وزعموا أن لست أدعو أحدا
..........................
…
فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
…
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
قال في القاموس: وتربد -يعني بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق:
هم بيتونا بالوتير هجدا
…
وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا
…
وهم أذل وأقل عددا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم".
"فانصر هداك الله نصرا أبدا" مستمرا لا ينقطع أثره من التأبيد وهذه رواية الطبراني، ورواه ابن إسحاق، وطائفة نصرا اعتدا بفتح العين المهملة وكسر الفوقية، بعدها مهملة، أي حاضرا مهيئا أو قويا.
"وادع عباد الله يأتوا مددا" بفتحتين جيوشا ينصرونا، ويقوونا "فيهم رسول الله" أتى به لدفع توهم أنه يبعث سرية وإنما القصد أنه فيهم حالة كونه "قد تجردا" روي بحاء مهملة أي غضب وبجيم أي شمر وتهيأ لحربهم "إن سيم" بكسر المهملة وسكون التحتية، وبالميم، مبني للمفعول، "خسفا" بفتح المعجمة وضمها وسكون المهملة وبالفاء، أي أولى ذلا "وجهه تربدا،" بفتح لفوقية فراء فموحدة فمهملة "قال في القاموس وتربد يعني بالراء تغير. انتهى".
والمعنى هنا أنه صلى الله عليه وسلم إن قصد بذل له أو لأحد من أهل عهده تغير وجهه حتى ينتقم ممن أراد ذلك لله وهذه رواية الطبراني في الصغير، "وزاد ابن إسحاق" عليه في الرجز "هم بيتونا" أي قصدونا ليلا من غير علم "بالوتير هجدا" بضم الهاء، وفتح الجيم مشددة جمع هاجد، وهو النائم "وقتلونا ركعا وسجدا" هذا يدل على أنه كان فيهم من صلى لله فقتل.
قال السهيلي متعقبا قول نفسه، في قوله: ثمت أسلمنا من السلم لأنهم لم يكونوا آمنوا بعد، قال في الإصابة وتأوله بعضهم، بأنهم حلفاء الذين يركعون ويسجدون ولا يخفى بعده، قال: وقد رواه ابن إسحاق أي: في رواية، غير زياد هم قتلونا بصعيد هجدا، نتلو القرآن ركعا وسجدا. انتهى.
يعني فهذا يبطل التأويل "وزعموا أن لست"، بضم التاء، أنا "أدعو أحدا، وهم أذل وأقل، عددا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" جوز البرهان، ضم عمرو، وفتح ابن وفتحهما وضمهما، قال: وذكر الثالث في التسهيل. انتهى.
في شرح التسهيل للدماميني رواه الأخفش عن بعض العرب، وكان قائله، راعى أن التابع ينبغي أن يتأخر عن المتبوع ولم يراع أن الأصل الحامل على الاتباع قصد التخفيف. انتهى.
فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة.
"فكان ذلك ما" الذي "هاج" حرك "فتح مكة" زاد ابن إسحاق ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال:"إن هذه السحاب، لتستهل بنصر بني كعب". والعنان بفتح المهملة، ونونين بينهما ألف السحاب، "وقد ذكر"، أي روى "البزار من حديث أبي هريرة، بعض الأبيات المذكورة" بإسناد حسن، موصول.
ورواه ابن أبي شيبة عن أبي سلمة، وعكرمة، مرسلا كما في الفتح، قال في الإصابة: ورويت هذه الأبيات لعمر بن كلثوم، أخرجه ابن منده، ويحتمل أن يكون هو عمرو بن سالم ونسب في هذه الرواية إلى جد جده. انتهى.
وعند الواقدي، أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سالم وأصحابه:"ارجعوا وتفرقوا في الأودية". فرجعوا وتفرقوا وذهبت فرقة إلى الساحل بعرض الطريق وعند ابن إسحاق وغيره، ثم قدم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فأخبروه صلى الله عليه وسلم الخبر، ورجعوا، قال ابن عقبة: ولزم بديل الطريق في نفر من قومه وروى الواقدي عن محجن بن وهب أن بديلا لم يفارق مكة من الحديبية حتى لقيه في الفتح بمر الظهران قال الواقدي: وهذا أثبت. انتهى.
وليس بشيء والمثبت مقدم على النافي.
وروى ابن عائذ، عن ابن عمران، ركب خزاعة لما قدموا وأخبروه خبرهم، قال صلى الله عليه وسلم:"فمن تهمتكم وظنتكم"؟ قالوا بني بكر: قال: "أكلها"؟ قالوا: لا ولكن بنو نفاثة ورأسهم نوفل، قال:"هذا بطن من بني بكر، وأنا باعث إلى أهل مكة، فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال ثلاث"، فبعث إليهم ضمرة يخبرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرءوا من حلف بني نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة، فأخبرهم، فقال قرطة بن عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء، فرجع بذلك فندمت قريش على ما ردوا وبعثت أبا سفيان، قال: في الفتح، وكذا، أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، وأنكره الواقدي وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادرا قبل أن يبلغ المسلمين الخبر، والله أعلم. انتهى.
وروى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كأنكم بأبي سفيان، قد جاء يقول جدد العهد، وزد في المدة وهو راجع بسخطة". ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان، فقالا: لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه، فقال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وخفت من شرها، قالوا: وما هي؟ قال: رأت دما أقبل من الحجون يسيل، حتى وقف بالخندمة مليا، ثم كان ذلك الدم كأن لم يكن فكرهوا الرؤيا، وقال أبو سفيان: هذا أمر لم أشهده
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة. فأبى عليه.
ولم أغب عنه لا يحمل إلا علي ولا والله ما شوورت فيه ولا هويته، حين بلغني ليغزوننا محمد إن صدقني ظني وهو صادقي، وما بد في أن آتي محمدا فأكلمه، فقالت قريش: أصبت فخرج ومعن مولى له على راحلتين، "وقدم" كما رواه ابن إسحاق، وابن عائذ عن عروة "أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" فدخل على بنته أم حبيبة، فذهب ليجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم فطوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني. قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك، نجس ولم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، فقالت: بل هداني الله تعالى للإسلام، فأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع، ولا يبصر فقام؟ من عندها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، "يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة فأبى عليه" قال ابن إسحاق: فكلمه فلم يرد عليه شيء، وعند الواقدي: فقال: يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية، أجدد العهد وزدنا في المدة، فقال صلى الله عليه وسلم:"فلذلك جئت". قال: نعم. فقال: "هل كان من حدث"؟. فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا لا نغير ولا نبدل، فقال صلى الله عليه وسلم:"فنحن على ذلك". فأعاد أبو سفيان القول فلم يرد عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، وعند الواقدي، فقال: تكلم محمدًا وتجير أنت بين الناس، فقال: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عمر. فقال: أنا أشفع لكم والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
زاد الواقدي ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله وما كان منه متينا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله فقال: أبو سفيان جوزيت من ذي رحم شر إثم. دخل عليٌّ عليَّ، وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديه، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائبا فاشفع لي، فقال عليٌّ: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة وقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما كان يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الواقدي، أنه أتى عثمان قبل، علي، فقال: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى عليا، ثم سعد بن عبادة، فقال: يا أبا ثابت إنك سيد هذه البحيرة، فأجر بين الناس وزد في المدة، فقال سعد: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجير أحد عليه صلى الله عليه وسلم، فأتى أشراف قريش والأنصار فكلهم يقول: جواري في جوار رسول الله
وانصرف إلى مكة.
فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد بذلك.
ما يجير أحد عليه، فلما أيس منهم دخل على فاطمة، فقال: هل لك أن تجيري بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة وأبت عليه فقال: مري ابنك، فقالت: ما بلغ أن يجير، فقال لعلي: يا أبا حسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك قال: أوترى ذلك مغنيا عني شيئا، قال: لا والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني قد أجرت بين الناس، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة"؟. ثم ركب بعيره "وانصرف إلى مكة".
وعند الواقدي: وطالت غيبته واتهمته قريش أشد التهمة وقالوا: قد صبأ واتبع محمدًا سرا وكتم إسلامه، فلما دخل على هند امرأته ليلا، قالت: لقد غبت حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح، فأنت الرجل، ثم جلس منها مجلس الرجل من امرأته فقالت: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال لي علي فضربت برجلها في صدره، وقالت: قبحت من رسول قوم فما جئت بخير فلما أصبح حلق رأسه عند إساف ونائلة وذبح لهما ومسح بالدم رأسيهما وقال: لا أفارق عبادتكما حتى أموت إبراء لقريش مما اتهموه به، فقالوا له: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا فقال: والله لقد أبى عليّ. ولابن إسحاق كلمته فوالله ما رد عليّ شيئا ثم جئت أبا بكر، فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو وفي لفظ أعدى العدو وكلمت عليه أصحابه فما قدرت على شيء منهم إلا أنهم يرمونني بكلمة واحدة وما رأيت قوما يوما، أطوع لملك عليهم منهم له. إلا أن عليا، لما ضاقت بي الأمور، قال: أنت سيد بني كنانة، فأجر بين الناس فناديت بالجوار. قالوا: هل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: رضيت بغير رضا وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ولعمر الله ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين والله إن زاد على عليٍّ أن لعب بك تلعبا، فقال: والله ما وجدت غير ذلك.
وفي مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة، فقالوا: ما جئتنا بحرب فنحذر ولا بصلح فنأمن "فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير إعلام أحد بذلك" لعامة الناس أولا فلا ينافي عند ابن إسحاق وغيره ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال:"اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها". فتجهز الناس، وقال حسان يحرضهم ويذكر مصاب
فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك.
رجال خزاعة:
عناني ولم أشهد ببطحاء مكة
…
رحال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم
…
وقتلى كثير لم تجس ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي
…
سهيل بن عمرو حرها وعقابها
فلا تأمننا يابن أم مجالد
…
إذا احتلبت صرفا واعضل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا
…
لها وقعة بالموت يفتح بابها
قال ابن إسحاق: بأيدي رجال يعني، قريشا وابن أم مجالد: عكرمة بن أبي جهل وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي مالك الأشجعي قال: خرج صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجلس عند بابها، وكان إذا جلس وحده لم يأته أحد، حتى يدعوه، فقال:"ادع لي أبا بكر". فجاء، فجلس بين يديه فناجاه طويلا ثم أمره فجلس عن يمينه، ثم قال:"ادع لي عمر". فجلس فناجاه طويلا فرفع عمر صوته، فقال: يا رسول الله هم رأس الكفر هم الذين زعموا أنك ساحر وأنك كاهن وأنك كذاب وأنك مفتر، ولم يدع شيئا مما كانوا يقولونه إلا ذكره فأمره فجلس، عن شماله ثم دعا الناس، فقال:"ألا أحدثكم بمثل صاحبيكم هذين". قالوا: نعم يا رسول الله فأقبل بوجهه الكريم عل أبي بكر، فقال:"إن إبراهيم كان ألين في الله تعال من الدهن بالليل، ثم أقبل على عمر، فقال: إن نوحا كان أشد في الله تعالى من الحجر وإن الأمر أمر عمر فتجهزوا وتعاونوا". فتبعوا أبا بكر فقالوا: إنا كرهنا أن نسأل عمر عما ناجاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قال لي: "كيف تأمرني في غزو مكة". قلت: يا رسول الله هم قومك، حتى رأيت أنه سيطيعني، ثم دعا عمر، فقال عمر: هم رأس الكفر حتى ذكر له كل شيء كانوا يقولونه وايم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة، وقد أمركم بالجهاز لتغزوا مكة، "فكتب حاطب" بن أبي بلتعة بموحدة مفتوحة ولام ساكنة، ففوقية فعين مهملة مفتوحتين عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد اتفقوا على شهوده بدرا مات في سنة ثلاثين، وله خمس وستون سنة.
قال ابن عبد البر: لا أعلم له غير حديث واحد: "من رآني بعد موتي"
…
الحديث. ورده في الإصابة بأن له خمسة أحاديث به وذكرها "كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك" مع امرأة استأجرها بدينار وقيل: بعشرة دنانير، وقال لها: أخفيه ما استطعتي، ولا تمري على الطريق، فإن عليه حرسا ذكره الواقدي، "فأطلع الله نبيه على ذلك" وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، وغيره وأتاه الخبر
فقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب والزبير والمقداد: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها". قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب.
من السماء "فقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب، والزبير، والمقداد" كما أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: بعثني صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد فقال:"انطلقوا".
وللبخاري في غزوة بدر من رواية عبد الرحمن السلمي عن علي بعثني وأبا مرثد الغنوي، والزبير وكلنا فارس، قال الحافظ: فيحتمل أن الثلاثة كانوا معه، فذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكر الآخر ولم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا وساق الخبر بالتثنية. قال: انطلقا فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها. فالذي يظهر أنه كان مع كل منهما آخر تبعا له. انتهى.
ووقع في البيضاوي زيادة عمار وطلحة، والله أعلم بصحته "حتى تأتوا روضة خاخ" بخاءين معجمتين بينهما ألف على بريد من المدينة.
قال السهيلي: وصحفه أبو عوانة، وهشيم بحاء وجيم "فإن بها ظعينة" بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة فتحتية فنون مفتوحة امرأة في هودج سماها ابن إسحاق سارة، والواقدي، كنود، وفي رواية: أم سارة، وقيل: كانت مولاة العباس ذكره الحافظ وذكر المصنف في الجهاد أن اسمها سارة على المشهور، وتكنى أم سارة. انتهى.
وفي الإصابة سارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب كان معها كتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، كذا في التجريد، "معها كتاب" وزاد في غزوة بدر من حاطب بن أبي بلتعة إلى المركين "فخذوه منها". "قال: فانطلقنا" تعادي بنا خيلنا كما في الرواية، بحذف إحدى التاءين تجري "حتى أتينا الروضة" المذكورة "فإذا نحن بالظعينة".
وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، فخرجا حتى أدركاها بالخليقة خليقة بني أبي أحمد، بقاف وخاء معجمة كسفينة، منزل على اثني عشر ميلا من المدينة، وعند ابن عقبة، أدركاها ببطن ريم بكسر الراء وسكون التحتية والهمز وتركه واد بالمدينة، فيحتمل أن روضة اسم لمكان يشتمل على بطن رئم والخليقة، وإلا فما في الصحيح أصح.
وللبخاري في غزوة بدر فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقلنا" لها: "أخرجي" بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء "الكتاب. قالت: ما معي كتاب".
زاد البخاري في بدر: فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قالت: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر.
المصنف بفتحتين وللأصيلي بضم الكاف، وكسر المعجمة مخففة "قلنا: لتخرجن" بضم الفوقية وكسر الراء والجيم "الكتاب أو لنلقين" بضم النون، وكسر القاف، وفتح التحتية ونون التأكيد الثقيلة نحن "الثياب".
وللأصيلي وأبي الوقت بضم الفوقية وحذف التحتية، وفي بعض الأصول أو لنلقي بتحتية مكسورة أو مفتوحة، بعد القاف والصواب في العربية أو لتلقن بدون باء لأن النون الثقيلة إذا اجتمعت مع الياء الساكنة حذفت الياء لالتقاء الساكنين، لكن أجاب الكرماني وتبعه البرماوي، وغيره بأن الرواية إذا صحت تؤول الكسرة بأنها لمشاكلة لتخرجن، وباب المشاكلة واسع والفتح بالحمل على المؤنث الغائب على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة قاله المصنف في الجهاد، وفي رواية ابن إسحاق، فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا لتخرجن لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنك "قالت": كذا بالتأنيث في الفرع وفي غيره. قال: أفاده المصنف ويوجه التأنيث بأن فيه حذفا، ففي رواية ابن إسحاق فلما رأت الجد منه قالت: أعرض فأعرض فحلت قرونها "فأخرجته من عقاصها" بكسر المهملة وبالقاف والصاد المهملة الخيط الذي تعتقص به أطراف الذوائب أو الشعر المضفور.
وقال المنذري: هو لي الشعر بعضه على بعض على الرأس وتدخل أطرافه في أصوله. وقيل: هو السير الذي تجمع به شعرها على رأسها.
وللبخاري في بدر فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته الحجزة بضم المهملة وسكون الجيم وفتح الزاي معقد الإزار، قال في النور: والظاهر أن الكتاب كان ف ضفائرها وجعلت الضفائر في حجزتها. انتهى.
وذكر في الفتح هنا أنه قدم في الجهاد وجه الجمع بين كونه في عقاصها أو في حجزتها وراجعته فلم أجده فيه ولا في بدر، "فأتينا به" بالكتاب "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وللمستملي في الجهاد فأتينا بها، وللبخاري في بدر فانطلقنا بها، قال المصنف: أي بالصحيفة المكتوب فيها قول الكرماني أو بالمرأة معارض بما رواه الواقدي بلفظ: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين فخذوه وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها". انتهى.
"فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة" وهي التظرف في اللغة واسمه عمر، وقاله السهيلي:"إلى ناس من المشركين بمكة": سهيل، وصفوان، وعكرمة كما يأتي "يخبرهم ببعض أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب، ما هذا"؟. قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش -يقول: كنت حليف ولم أكن من أنفسها- وكان من معكم من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنه قد صدقكم". فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي مرسل عروة يخبرهم بالذي أجمع عليه صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم فقال: "يا حاطب ما هذا"؟. وفي مرسل عروة، فدعاه. فقال: "ما حملك على هذا؟ " وللبخاري في بدر: "ما حملك على ما صنعت"؟، "قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ" بالمؤاخذة على ما صنعت. ولابن إسحاق: أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت، "إني كنت امرأ ملصقا" بضم الميم وفتح الصاد، "في قريش" أي مضافا لهم من إلصاق الشيء بغيره وليس منه وقد فسره بقوله: "يقول: كنت حليفا" لها "ولم أكن من أنفسها" بضم الفاء، قال في الإصابة: يقال: إنه حالف الزبير وقيل: كان مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى فكاتبه، فأدى كتابته وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق: ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه، "وكان من معك من المهاجرين" ممن له أهل أو مال بمكة "لهم قرابات" بالجمع "يحمون بها أهليهم وأموالهم" فليس المراد جميع المهاجرين لأن كثيرا منهم ليس له بمكة مال ولا أهل، "فأحببت إذ" أي حين "فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخد"، مصدرية في محل نصب مفعول أحببت "عندهم يدا" أي نعمة ومنة عليهم "يحمون بها قرابتي"، وروى ابن شاهين، والطبراني وغيرهما، فقال حاطب: والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكنني، كنت امرأ غريبا ولي بمكة بنون وأخوة وعند ابن مردويه، من حديث ابن عباس، عن عمر، فكتبت كتابا لا يضر الله ولا رسوله "ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما" بفتح الهمزة، وخفة الميم "إنه قد صدقكم" بتخفيف الدال، أي قال الصدق، فيما أخبركم به زاد البخاري في بدر: "ولا تقولوا له إلا خيرا". "فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال: "إنه قد شهد بدر" وكأنه قال: وهل شهودها يسقط عنه هذا الذنب الكبير، فقال: "وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا".
وللبخاري في الجهاد: "وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر".
قال المصنف: استعمل لعل استعمال عسى، فأتى، فإن قال النووي: الترجي هذا راجع إلى
فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] رواه البخاري.
قال في فتح الباري: وإنما قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق.
عمر لأن وقوع هذا الأمر محقق عند الرسول. انتهى.
وفي الفتح هي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم. وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله وكلام الرسول للوقوع وعند أحمد، وأبي داود، وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة، بالجزم، ولفظه:"إن الله اطلع على أهل بدر". "فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، زاد البخاري في بدر: فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
قال الحافظ اتفقوا على أن هذه البشارة فيما يتعلق، بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها. "فأنزل الله تعالى" السورة كما في لفظ البخاري:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فيه أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} أي كفار مكة {أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} حال من ضمير لا تتخذوا أي لا تتخذوهم أولياء ملقين {إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تبذلونها لهم ودخول الباء وعدمه سواء عند الفراء، وقال سيبويه: لا تزاد في الواجب فمفعول تلقون عند طائفة من البصريين محذوف أي النصيحة.
وقال النحاس: أي تخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته وهذا التقدير إن نفع هنا لم ينفع في مثل قول العرب: ألقى إليه بوسادة أو ثوب، فيقال: إن ألقى قسمان وضع الشيء بالأرض وفي الآية إنما هو إلقاء بكتاب وإرسال به فعبر عنه بالمودة؛ لأنه من أفعال أهلها فمن ثم حسنت الباء؛ لأنه إرسال بشيء، كذا في الروض "إلى قوله:{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} " أخطأ طريق الهدى والصواب، والسواء في الأصل السوط ودل هذا الأغياء على أن قوله فأنزل الله السورة مجاز من تسمية الجزء باسم الكل، أو من مجاز الحذف أي بعض السورة التي أولها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
وفي مرسل عروة، عند ابن إسحاق: فأنزل الله في حاطب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} "رواه البخاري"، هنا وقبله في بدر وفي الجهاد وبعده في التفسير "قال في فتح الباري" دفعا لإشكال مشهور علم من قوله:"وإنما قال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق" زاد البخاري في بدر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين "مع تصديق
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره، فإنه فعل ذلك متأولا أن لا ضرر فيه. وعند الطبراني من طريق الحارث عن علي في هذه القصة فقال:"أليس قد شهد بدرا -أو: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فأرشد إلى علة ترك قتله.
وعند الطبراني أيضا عن عروة: "فإني غافر لكم".
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به"، ونهيه أن يقال له إلا خيرا.
"لما كان عند عمر من القوة" الشدة "في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم" من إخفاء مسيره عن قريش وحرصه على عدم وصول خبره إليهم، وبعثه جماعة على الطريق حتى لا يبلغهم الخبر، كما مر وظهور هذا بين الصحابة، لا يخفى على حاطب رضي الله عنهم أجمعين، فلذا ظن أنه "استحق القتل لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله" ولو جزم به لما استأذن، "وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر"، فلم يرد عمر أنه أظهر الإسلام وأخفى الكفر، فلا يشكل بتصديقه له عليه السلام، بأنه ما فعل ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فإن هذه الشهادة نافية للنفاق قطعا "وعذر حاطب ما ذكره" من خوفه على أهله بمكة "فإنه فعل ذلك متأولا أن لا ضرر فيه"، كما صرح بذلك في قوله: فكتبت كتابا لا يضر الله ولا رسوله، وفي كتابه لقريش: فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وقد يكون تأول أن مع سلامة قرابته بذلك يلقي الله الرعب في قلوبهم فيسلموا مكة طائعين بلا قتال، خصوصا وقد وصف الجيش بأنه كالسي، "وعند الطبراني، من طريق الحارث" بن عبد الله الأعور الهمداني، بسكون الميم، الكوفي صاحب علي في حديثه ضعف ورمي بالرفض مات في خلافة ابن الزبير "عن علي في هذه القصة"، فقال:"أليس قد شهد بدرا -أو: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". "فأرشد" صلى الله عليه وسلم "إلى علة ترك قتله" أي تركه أمر عمر بقتله. وفي نسخة تركه قتله.
قال السهيلي: ففيه دليل على قتل الجاسوس لتعليقه حكم المنع من قتله بشهوده بدرا فدل على أن من فعل مثله، وليس بدريا أنه يقتل.
وعند الطبراني أيضا عن عروة: "فإني غافر لكم" ما سيقع منكم، وفي المغازي، وابن عائذ
وهذا يدل على أن المراد: بقوله "غفرت" أغفر، على طريق التعبير عن الآتي بالماضي مبالغة في تحققه.
قال: والذي يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا عن أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة.
عن عروة: "فسأغفر لكم". "وهذا يدل على أن المراد بقوله: غفرت: أغفر على طريق التعبير عن الآتي" في المستقبل "بالماضي مبالغة في تحققه"، كقوله:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، فقصر من أجاب عن إشكال قوله:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". من أن ظاهره الإباحة، وهو خلاف عقد الشرع بأنه إخبار عن الماضي، أي كل عمل كان لكم فهو مغفور، وأيده بأنه لو كان للمستقبل لم يقع بلفظ الماضي ولقال: فسأغفر لكم، وقد تعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكرا عليه ما قاله في أمر حاطب، فدل على أن المراد ما سيقع، وأورد ماضيا مبالغة في تحققه "قال" الحافظ في الفتح:"والذي يظهر" في الجواب عن الإشكال المذكور "أن هذا الخطاب" والأمر في قوله: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". "خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة" قبل بدر "وتأهلوا" أي: صاروا أهلا "أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة" إن وقعت، أي كل ما عملوه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور خصوصية لهم. قاله الحافظ في بدر وما أحسن قوله:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع
قال المصنف: وليس المراد أنه نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل له صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء وجود ذلك الشيء، "وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله" الصادق والمصدوق صلوات الله وسلامه عليه "في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة"، امتثالا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية، وهي تمحو آثار الذنب:{إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، ومن أولى بها من أهل بدر، ولذا لما شرب قدامة بن مظعون من أهلها أيام عمر وحده رأى عمر في المنام
ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم، بالقطع من اطلع على سيرهم. قاله القرطبي.
وذكر بعض أهل المغازي -وهو في تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلي.
لكن وقد ذكر وروى الواقدي بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد.
من يأمره بمصالحة قدامة "ولازم الطريق المثلى يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع" وفاعل يعلم "من اطلع على سيرهم، قاله القرطبي".
قال الحافظ: في بدر، وهذا هو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي، التابعي الكبير حيث قال لحسان بن عطية: قد علمت الذي جرأ صاحبك على الماء، وذكر له هذا الحديث وقيل في الجواب أيضا: المراد أن ذنوبهم تقع إذ وقعت مغفورة، وقيل: بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم وفيه نظر لقصة قدامة. انتهى.
"وذكر بعض أهل المغازي وهو في تفسير يحيى بن سلام أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب" لأهل مكة "أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل" وجه الشبه امتلاء الوادي بجيشه وكثرة انتشارهم، "فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده" بنصره عليكم "فانظروا لأنفسكم والسلام"، وفي هذا مزيد إرهاب لهم وكسر لقلوبهم، ولذا قال: لا يضر الله ولا رسوله "كذا حكاه السهيلي، لكن" قوله وهو في تفسير يحيى بن سلام لم يحكه كذلك فلفظ الروض وقد قيل: إن لفظ الكتاب فذكر ما نقل عنا هنا وعقبه بقوله وفي تفسير ابن سلام أنه كان في الكتاب أن محمدًا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر. انتهى، وقد نقله الشامي بلفظ الروض كما ذكرته وعزاه له.
"وقد ذكر" أي "وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة" بن أبي جهل، وأسلم الثلاثة رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن"، أعلم "في الناس بالغزو ولا أراه" أظنه أو اعتقده "يريد غيركم" لنقضكم عهد الحديبية، "وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد" نعمة ومنة.
انتهى.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق.
فكان المسلمون في غزوة الفتح: عشرة آلاف.
وفي "الإكليل" و"شرف المصطفى" اثني عشر ألفا.
ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل: أبا رهم الغفاري.
"انتهى" كلام فتح الباري، وقد جمع باحتمال أن جميع ما ذكر في الكتاب بأن يكون كتب أولا أنه نفر
…
إلخ.
وأنه أذن في الناس
…
إلخ. قبل علمه بأن السير إلى مكة، فلما علم ألحق فيه أما بعد
…
إلخ.
"وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله، من العرب فجلبهم" طلب حضورهم إليه، "أسلم" سالمها الله "وغفار" غفر الله لها "وأشجع وسليم" مصغر، وعند الواقدي وغيره أنه أرسل يقول لهم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة". وبعث رسلا في كل ناحية فقدموا "فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح" كما في الصحيح عن ابن عباس "عشرة آلاف" قال في الفتح: أي من سائر القبائل، وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق، وابن عائذ: خرج صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، وأسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وسليم "و" كذا، وقع "في الإكليل" للحاكم "و" كتاب "شرف المصطفى" للنيسابوري "اثني عشر ألفا ويجمع بينهما"، كما قال الحافظ "بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به ألفان" ولعل ما عزاه الحافظ لابن إسحاق رواية لغير زياد، وإلا فلفظه: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة الآف، ثم صرح آخر الغزوة، بأن جميع من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف. انتهى.
وكذا نسبه له اليعمري، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" قاله ابن سعد، والبلاذري "وقيل: أبا رهم" بضم الراء وسكون الهاء، كلثوم بضم الكاف وسكون اللام، ابن الحصين، بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين "الغفاري" وهو الصحيح، فقد رواه ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. قال: ثم مضى صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن صين بن عتبة بن خلف الغفاري. وأخرجه أحمد
وخرج عليه الصلاة والسلام يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان من الهجرة، قاله الواقدي.
وعن أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان.
فما قاله الواقدي ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه. وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة، ولأحمد: لثماني عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة. والذي في المغازي: لسبع عشرة مضت، وهو.
والطبراني، وسنده حسن فكان اللائق بالمصنف تقديمه كما فعل اليعمري وغيره أو الاقتصار عليه كما فعل صاحب الفتح ويحتمل أنه استخلف أبا رهم على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة بها كما تقدم نظيره مرارا.
"وخرج عليه الصلاة والسلام" من المدينة "لعشر ليال خلون من رمضان بعد العصر سنة ثمان من الهجرة، قاله الواقدي" ولم ينفرد به كما يوهمه سياق المصنف تبعا للحافظ ففي بقية حديث ابن عباس المذكور عند ابن إسحاق: وخرج لعشر مضين من رمضان، وإسناده حسن كما علمت وفوق الحسن، وقد أخرجه ابن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس.
"وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد" الخدري "قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان"، وهذا يعين يوم الخروج فيدفع تردد الزهري عند البيهقي حيث قال: لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان أو خرج في رمضان بعد ما دخل؟ "فما قال الواقدي" من أنه خرج لعشر "ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه" كذا قال تبعا للفتح وهو كما علمت واضح لو انفرد به الواقدي، أما حيث رواه ابن راهويه، وإسحاق عن ابن عباس بسند صحيح فهو قوي.
"وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر" ظاهره أنها في تاريخ الخروج ولا كذلك وإنما هي في تاريخ دخول مكة ففي الفتح أخرج البيهقي عن الزهري: صبح صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان قال الحافظ: فهذا يعين يوم الدخول ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما. وما قاله الواقدي ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه.
وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر "منها عند مسلم": أنه دخل مكة "لست عشرة. ولأحمد: لثمان عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة". قال أعني الحاظ: والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، "والذي في المغازي: دخل" مكة "لسبع عشرة مضت
محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى: لتسع عشرة أو سبع عشرة على الشك.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد -بفتح الكاف- الماء الذي بين قديد وعسفان أفطر
وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر،" فالكلام كله في الاختلاف في دخول مكة، وبه يصح الحمل المذكور من زيادة يوم ونقصه، وأما الخروج من المدينة فإنما فيه روايتان عشر وليلتان، والمصنف أراد تلخيص كلام الفتح فسقط عليه منه ما ذكرته فوهم حتى تحير شيخنا رحمه الله تعالى وبرد مضجعه في صحة هذا الحمل؛ لأنه لم يقف على كلام الفتح وقت التأليف.
"ووقع في" رواية "أخرى" دخل مكة "لتسع عشرة أو سبع عشرة على الشك" وروى يعقوب بن سفيان من طريق إسحاق عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير. هذا بقية كلام الحافظ رحمه الله، ثم اعلم أنه لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان كما في الصحيح وغيره عن ابن عباس.
"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد بفتح الكاف" وكسر الدال المهملة الأولى فتحتية فمهملة "الماء الذي بيد قديد" بضم القاف وفتح الدال بلفظ التصغير، قرية جامعة قرب مكة "وعسفان" بضم العين وسكون السين المهملتين وبفاء ونون، قرية جامعة على ثلاثة مراحل من مكة، والكديد أقرب إليها من عسفان، وهو على اثنين وسبعين ميلا من مكة، وهذا تعيين للمسافة.
وقول ابن عباس: ماء. تعيين للمحل فلا تنافي.
وفي رواية ابن إسحاق بين عسفان وأمج بفتح الهمزة، والميم، وجيم خفيفة اسم واد "أفطر" لأنه بلغه أن الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون فيما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس فشرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب.
رواه مسلم والترمذي عن جابر، وفي الصحيحين من طريق طاوس عن ابن عباس: ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه. ولأبي داود: إلى فِيهِ فأفطر، وللبخاري وحده من طريق عكرمة عن ابن عباس بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته بالشك فيهما. قل الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا مرة، وبهذا مرة. قال الحافظ: ولا دليل على التعدد، فإن الحديث واحد، والقصة واحدة، وإنما وقع الشك من الراوي فيقدم عليه رواية من جزم، وأبعد الداودي فقال: كانتا قصتين: إحداهما في الفتح والأخرى في حنين. انتهى.
فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر. رواه البخاري، وفي أخرى له: أفطر وأفطروا. الحديث.
وروى مالك وغيره عن رجل من الصحابة: لما دخل صلى الله عليه وسلم العرج وهو صائم صب الماء على رأسه ووجهه من العطش. وللحاكم في الإكليل، بسند صحيح عن أبي هريرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم، فقد حصلت له المشقة لزيادة رفعة الدرجات، والعرج بفتح العين، وسكون الراء المهملتين، وبالجيم: قرية على نحو ثلاث مراحل من المدينة، فتحمل المشقة لأنه لا يبالي بها في عبادته. ألا ترى إلى قيامه حتى تورمت قدماه، حتى بلغ الكديد، فأفطر "فلم يزل مفطرا" رفقا بالمسلمين "حتى انسلخ الشهر"؛ لأنه وإن قدم مكة قبل تمام العشر الأوسط على ما مر، لكنه كان في أهبة القتال وبعث السرايا ولم ينو الإقامة، بل كان يقصر الصلاة على ما يأتي مفصلا.
"رواه البخاري" هنا وقبله في الجهاد والصوم، ومسلم، والنسائي، في الصوم عن ابن عباس، قال الحافظ أبو الحسن القابسي: وهو من مرسلات الصحابة؛ لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة، فلم يشاهد هذه القصة، فكأنه سمعها من الصحابة.
"وفي" رواية "أخرى له" للبخاري، هنا وفي الصوم من طريق آخر عن ابن عباس: فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد "أفطر وأفطروا" كلهم بعد حثه لهم على الفطر. ففي حديث جابر عند مسلم، والترمذي: أنه لما أفطر قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام. فقال: "أولئك العصاة". وعبر بذلك مبالغة في حثهم على الفطر رفقا بهم.
وقد روى الشيخان: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وعينه الترمذي، فقال: في غزوة الفتح رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال:"ما هذا"؟. فقالوا: صائم، فقال:"لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ". وروايته على لغة حمير في مسند أحمد لا في الصحيح، وإلا ففطره لا يوجب فطرهم فقد يكون احتمل عندهم، اختصاصه بمن شق عليه الصوم جدا والذين صاموا لم يكونوا كذلك.
وروى مسلم عن أبي سعيد. قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صيام، فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر، فقال:"إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا". فكانت عزيمة فأفطرنا فهذا ظاهر في فطر الجميع بعد أمره، فإن كان هذا السفر سفر الفتح كما هو ظاهر سوقهم الحديث هنا فلعل هاتين المقالتين كانتا بعد فطر المصطفى، والغرض بهما حث من صام على الفطر بصريح الأمر هذا ولا يعارض ما في "الحديث" أنه أفطر بالكديد.
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.
وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، عليه الصلاة
رواية جابر أنه أفطر بكراع الغميم ولا رواية بقديد ولا بعسفان لما جمع به المحب الطبري وغيره بجواز أنه أفطر في واحد من الأربعة حقيقة لكن لتقاربها عبر بعض الرواة، باسم ذلك الموضع، والباقي باسم غيره مجاز القربة منه، أو أفطر في واحد منها حقيقة لكن لم يره جميع الناس لكثرتهم فكرره ليتساوى الناس في رؤية الفعل، فأخبر كل عن رؤية عين وبمحل رؤيته والله أعلم.
"وكان العباس" بن عبد المطلب أبو الفضل الهاشمي، أجود قريش كفا وأوصلها، كما قال صلى الله عليه وسلم، أخرجه النسائي "قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما" أي مظهرا للإسلام، فإنه أسلم قديما وكان يكتمه، قال ابن عبد البر، وذلك بين في حديث الحجاج بن علاظ: أن العباس كان مسلما يسره ما يفتح الله على المسلمين، ثم أظهره يوم الفتح، وقيل: كان إسلامه قبل فتح خيبر وتقدم مزيد لذلك في بدر "مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة" فيما قال ابن هشام، وقال غيره: بذي الحليفة فيحتمل أنه انفرد عن أهله وعياله فلقيه بها ثم رجع معه إلى الجحفة فاجتمع معه بأهله وعياله فيها، فسار معه في الفتح وبعث ثقله إلى المدينة.
قال البلاذري: وقال له صلى الله عليه وسلم: "هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة". وروى أبو يعلى والطبراني بسند ضعيف عن سهل بن سعد قال: استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه: "يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة". "وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض" كما ذكر الزهري، عند ابن هشام لعلمه بإسلامه باطنا وأن إقامته بها لخوفه على ماله وعياله؛ ولأنه كان يكتب بأخبار المشركين إليه صلى الله عليه وسلم وكان يثق به، وكان ينفع المستضعفين بمكة وبه يثقون، "وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان" الهاشمي اسمه كنيته، وقال جماعة المغيرة لكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر بأن المغيرة أخوه "ابن الحارث" بن عبد المطلب الهاشمي، المتوفى سنة خمس عشرة أو عشرين وصلى عليه عمر.
روى أبو أحمد الحاكم عن عروة رفعه: "أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة". قال فحلقه الحلاق بمنى وفي رأسه ثؤلول فمات فيرون أنه مات شهيدا.
قال الحافظ: مرسل رجاله ثقات، وفي الروض مات من ثؤلول حلقه الحلاق في حج
والسلام وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له عليه الصلاة والسلام بالأبواء وأسلما قبل دخوله مكة.
وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبي أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو
فقطعه مع الشعر فنزف منه الدم، وقال عند موته: لا تبكن عليّ فإني لم أنطق بخطيئة منذ أسلمت "ابن عمه" بالرفع، بيان لأبي سفيان بعد وصفه بأنه الحارث عمه "عليه الصلاة والسلام" ذكره لبيان قربه منه ليميزه من أبي سفيان بن حرب الذي تقدم ذكره كثيرا، وليعطف عليه قوله "وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان" الصحابي ابن الصحابي، شهد حنينا هو وأبوه وكان غلاما مدركا، كما ذكره ابن شاهين، وابن سعد، وابن حبان، وزاد أنه مات بدمشق سنة خمسين، ولا عقب له كما في الإصابة وكأنه جمع بين ولده وابن
…
إلخ.
إشارة إلى أنه اشتهر بين الصحابة بهذا الاسم "وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا يفارقه قبل النبوة "فلما بعث عاداه وهجاه" وأجابه حسان عنه كثيرا، "وكان لقاؤهما" هو وابنه "له عليه الصلاة والسلام بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد، قرية بين مكة والمدينة، "وأسلما قبل دخوله مكة" عليه الصلاة والسلام "وقيل: بل لقيه هو" أي أبو سفيان "وعبد الله بن أبي أمية" واسمه حذيفة وقيل: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أم سلمة لأبيها.
قال البخاري: له صحبة شهد الفتح وحنينا والطائف وبها استشهد "ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب" وأم سلمة أمها عاتكة بنت عامر بن قيس، وكان عند أبي أمية أربع عواتك.
قال الزبير بن بكار: كان يدعى زاد الراكب، وكان ابنه عبد الله شديد الخلاف على المسلمين. قال: خرج مهاجرا فلقي النبي صلى الله عليه وسلم "بين السقيا" بضم السين المهملة وسكون القاف قرية جامعة بطريق مكة "والعرج" بفتح فسكون قرية جامعة على ثلاثة أميال من المدينة بطريق مكة، وبهذا القول جزم ابن إسحاق وعين المحل فقال لقياه بنقب العقاب بين مكة والمدينة، "فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهم من شدة الأذى والهجو"، وعند ابن إسحاق فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك. قال: "لا حاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي
فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان -فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال أخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ
قال لي بمكة ما قال". قال في الروض يعني قوله له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك. "فقالت له أم سلمة" هند أم المؤمنين آخر الزوجات موتا سنة اثنتين وستين، وقيل: إحدى. وقيل: قبلها. والأول أصح تأتي في الزوجات: "لا يكن ابن عمك، وابن عمتك، أشقى الناس بك" نهى لهما ظاهرا وهو في الحقيقة سؤال له صلى الله عليه وسلم في الإقبال عليهما حتى لا يكونا أشقى الناس، وتلطفت في التعبير تعظيما لمقامه العظيم وأدبا عن أن تخاطبه بصورة نهي.
لكن في رواية ابن بكار كما في الإصابة: لا تجعل، فيحتمل أنه بالمعنى وعند ابن إسحاق: فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبو سفيان بني له، فقال: والله ليأذن لي، أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وأنشده أبو سفيان في إسلامه، واعتذر مما مضى فقال:
لعمرك إني يوم أحمل راية
…
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
…
لهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ونالني
…
مع الله من طردته كل مطرد
أصد وأنأى جانبا عن محمد
…
وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم
…
وإن كان ذي رأي يلام ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط
…
مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه لما قال: ونالني مع الله من طردته كل مطرد. ضرب صلى الله عليه وسلم صدره، وقال:"أنت طردتني كل مطرد".
قال ابن هشام: ويروى: ودلني على الحق من طردته كل مطرد، "وقال علي لأبي سفيان" مرشدا لابن عمه إلى ما يكون، سببا لإقباله صلى الله عليه وسلم عليه بعد إذنه لهما في الدخول عليه، "فيما حكاه أبو عمر" بن عبد البر الحافظ الشهير "وصاحب ذخائر العقبي" في مناقب ذوي القرى، وهو المحب الطبري:"ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل" جهة "وجهه" الوجيه؛ لأن عادة الكرماء الاستحياء من المواجهة ولا أكرم منه، "فقل له ما قال أخوة يوسف:{تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ} فضلك {اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ}
كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه.
قالوا: ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.
مخففة أي، وإنا {كُنَّا لَخَاطِئِينَ} آثمين في أمرك فأذلنا لك، "فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا،" بل أن يكون هو الأحسن على مفاد هذا التركيب عرفا؛ لأن النفي إذا دخل على اسم التفضيل، فالقصد تفضيل من نسب إليه الفعل على غيره، وإن صدق النفي بالمساواة لغة ولا يرد أنه أجابهم بجواب يوسف، لإمكان أن حسن القول بما اقترن به من الإقبال بعد أن بالغوا في الأذى واقتراح الآيات والتصميم على قتله، ومحاربته المرة بع المرة يجعله فائقا على جواب يوسف وإن ساواه لفظا؛ لأن أخوته ما بالغوا في أذاه مبلغهم من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما وما صمموا على قتله بل لما علموا حياته باعوه، وهذا التعسف أحوج إليه القاعدة ولك أن تقول: ما المانع هنا من جريه على أصل اللغة كما هو الظاهر والقاعدة أغلبية، "ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ} عتب {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} خصه بالذكر لأنه مظنة التثريب فغيره أولى {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فأسلم أبو سفيان فكان -كما في الروض وغيره- من أصح الناس إيمانا، وألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه في حنين، "ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه"، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، ويشهد له بالجنة ويقول: "أرجو أن يكون خلفا من حمزة"، كما في العيون وقال له: "كل الصيد في جوف الفراء". وقيل: بل قالها لابن حرب، قال السهيلي: والأول أصح، ووقع عند البغوي أنه أول من بايع تحت الشجرة، قال في الإصابة ولم يصب في ذلك فقد أخرجه غيره من الوجه الذي أخرجه هو منه، فقال أبو سنان بن وهب وهو الصواب والمستفيض عند أهل المغازي كلهم وأسند أبو سفيان بن الحارث حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقدس الله أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوي". أخرجه الدارقطني، وابن نافع، وسنده صحيح، لكن فيه راو لم يسم. انتهى.
"قالوا: ثم سار صلى الله عليه وسلم" والترتيب ذكرى، فإن قديدا قبل الماء الذي أفطر به فعقد الألوية قبله، "فلما كان بقديد" ولقيته سليم هناك "عقد الأولية والرايات، ودفعها إلى القبائل" لبني سليم لواء وراية، وبني غفار راية وأسلم لواءين وبني كعب راية، ومزينة ثلاثة ألوية، وجهينة أربعة ألوية، وبني بكر لواء، وأشجع لواءين، كذا ذكره الواقدي.
هذا وادعى الشارح أن أبا بكر رأى مناما قبل عقد الألوية، ولا أدري من أين أخذه فإن
ثم نزل مر الظهران، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون خائفون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.
وفي البخاري.
الشامي إنما ذكره بعد نزوله عليه السلام مر الظهران، فقال: روى البيهقي عن ابن شهاب أن أبا بكر قال: يا رسول الله أراني في المنام وأراك دنونا من مكة فخرجت إلينا كلبة تهر، فلما دنونا منها، استلقت على ظهرها فإذا هي تشخب لبنا، فقال صلى الله عليه وسلم:"ذهب كلبهم وأقبل درهم وهم سيأوون بأرحامهم وأنكم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه". تشخب: تدر وتسيل. كلبهم بفتح الكاف واللام: شدتهم. درهم بفتح المهملة: لبنهم، والمراد هنا خيرهم وهو انقيادهم، وإسلامهم. "ثم نزل مر الظهران" قال الحافظ: بفتح الميم وتشديد الراء، مكان معروف، والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو. الظهران، بفتح المعجمة وسكون الهاء، بلفظ تثنية ظهر. "فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارا" لتراها قريش فترعب من كثرتها، ولم يأمر باقي من معه وهم ألفان بالإيقاد تخفيفا، فليس في أمره بذلك أن الذين معه عشرة آلاف فقط، واستجاب الله لرسوله فغم على أهل مكة الأمر، "ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون" محزونون، متحيرون "خائفون".
وفي نسخة لما يخافون بما المصدرية أي: لخوفهم "من غزوه إياهم فبعثوا أبا سفيان" صخر "بن حرب" الأموي "وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا فخرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام" بالزاي، الأسدي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، قيل: ولد في جوف الكعبة، قبل الفتح بأربع وسبعين سنة، ثم عمر إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها "وبديل" بموحدة ومهملة مصغر "ابن ورقاء" الخزاعي، أسلموا في الفتح رضوان الله عليهم أجمعين.
وعند ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالطرق فحبست ثم خرج فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم: هل لك أن نركب إلى مر لعلنا أن نلقى خبرا، فقال بديل: وأنا معكم. قالا: وأنت إن شئت، فركبوا "حتى أتوا مر الظهران فلما رأوا العسكر أفزعهم"، وعند ابن أبي شيبة: حتى إذا دنوا من ثنية مر أظلموا أي دخلوا في الليل فأشرفوا فإذا النيران قد أخذت الوادي كله.
"وفي البخاري" من مرسل عروة ابن الزبير، قال الحافظ: ولم أره في شيء من الطرق، عن عروة موصولا، قال: لما سافر صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان، وحكيم وبديل
فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم.
يلتمسون الخبر، قال الحافظ: ظاهر أنه بلغهم مسيره قبل خروج الثلاثة، والذي عند ابن إسحاق، وابن عائذ، من مغازي عروة: ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، ولم تعلم بهم قريش، وكذا في رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة، فيحتمل أن قوله بلغ قريشا، أي: غلب على ظنهم ذلك لا أن مبلغا بلغهم ذلك حقيقة. انتهى.
قال: فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران "فإذا هم بنيران" جمع نار ويجمع أيضا على نور، مثل ساحة وسوح كما في المصباح وغيره فهو مشترك بينها وبين الضوء، ويميز بالقرائن اللفظية ونحوها، "كأنها نيران عرفة" التي كانوا يوقدونها فيها، ويكثرون منها، "فقال أبو سفيان، ما هذه النيران؟ " والله "لكأنها نيران عرفة" قال الحافظ: جواب قسم محذوف أشار إلى ما جرت به عادتهم من إيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة، "فقال له بديل بن ورقاء،" هذه "نيران بني عمرو" بفتح العين، وفي رواية نيران بني كعب، ويعني بهما خزاعة، وعمرو وهو ابن لحي، كما في الفتح وغيره، "فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك" وفي نسخة: بنو عمرو.
لكن الذي في البخاري، هو الأولى فإن صحت فهي بيان المراد، وأنه بتقدير مضاف، قال الحافظ: ومثل هذا في مرسل أبي سلمة وفي مغازي عروة عند ابن عائذ، عكس ذلك وأنهم لما رأوا الفساطيط، وسمعوا صهيل الخيل، راعهم ذلك، فقالوا: هؤلاء بنو كعب يعني خزاعة وكعب، أكبر بطون خزاعة جاشت بهم العرب، فقال بديل: هؤلا أكثر من بني كعب ما بلغ تألبها هذا. قالوا: فانتجعت هوازن أرضنا والله ما نعرف هذا إن هذا المثل حاج الناس "فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم".
وعند ابن عقبة: فأخذوا بخطم أبعرتهم، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ وروى الطبراني عن أبي ليلى: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فقال: إن أبا سفيان بالأراك، فخذوه فدخلنا فأخذناه، وفي رواية ابن عائذ: وكان صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه خيلا تقنص العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدًا يمضي فلما دخل أبو سفيان، وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل، تحت الليل وفي مرسل أبي سلمة: وكان حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب عليهم تلك الليلة فجاءوا بهم إليه، فقالوا: جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة.
فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان بن حرب.
فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خطم الجبل". فحبسه العباس،
فقال عمر: وهو يضحك إليهم والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم. قالوا والله قد أتيناك بأبي سفيان، فقال: احبسوه فحبسوه، حتى أصبح فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند ابن إسحاق أن العباس خرج ليلا فلقيهم فحمل أبا سفيان معه على البغلة ورجع صاحباه، وجمع الحافظ بإمكان أن الحرس، لما أخذوهم استنقذ العباس أبا سفيان ويأتي ما فيه "فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان بن حرب" أي انقاد وأظهر الذل له عليه الصلاة والسلام فلا ينافي ما يأتي عن ابن إسحاق وغيره أنه لم يسلم حتى أصبح.
وفي مغازي ابن عقبة فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. "فلما سار" أبو سفيان "قال" صلى الله عليه وسلم للعباس:"احبس أبا سفيان" وعند موسى ابن عقبة، أن العباس قال له صلى الله عليه وسلم: لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر فأحبسه حتى يرى جنود الله ففعل. فقال أبو سفيان: أغدر يا بني هاشم قال: لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله وما أعد الله للمشركين.
وعند الواقدي، فقال: إن أهل النبوة، لا يغدرون.
وروى ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن أن أبا بكر لما ولي أبو سفيان، قال: لو أمرت بأبي سفيان فحبس على الطريق ولا منافاة لجواز أنه بعد سؤال الصديق والعباس ذلك قال العباس احبسه "عند خطم الجبل" قال الحافظ: بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة، أي أنفع، كذا في رواية النسفي، والقابسي، وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي.
وفي رواية الأكثر بفتح المهملة، من اللفظة الأولى، وبالخاء المعجمة، وسكون التحتية، أي ازدحامها "فحبسه العباس" هناك لكونه مضيقا ليرى الجميع ولا تفوته رؤية أحد منهم، وفي رواية ابن عقبة فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم أي أجابوا المؤذن ففزع أبو سفيان، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال العباس: الصلاة.
وعند ابن أبي شيبة ثار المسلمون إلى ظهورهم فقال: يا أبا الفضل ما للناس أمروا بشيء، قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فذهب العباس به فلما رأى اقتداءهم به في الصلاة، قال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من ههنا، وههنا، ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له يا أبا الفضل. أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك ولكنها النبوة، قال: أو ذاك.
فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم: تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان: فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: ما لي ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك.
وعند ابن عقبة وأمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: لتصبح كل قبيلة عند راية صاحبها وتظهر ما معها من الأداة والعدة. فأصبح الناس على ظهر وقدم، بين يديه الكتائب، ومرت القبائل على قاداتها والكتائب على راياتها "فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة" بمثناة ووزن عظيمة، وهي القطعة من الجيش فعيلة من الكتب بفتح فسكون، وهو الجمع "على أبي سفيان" قال الواقدي: وأول من قدم صلى الله عليه وسلم خالد في بني سليم، وهو ألف، ويقال تسعمائة معهم لواءان يحملهما العباس بن مرداس وخفاف، بضم المعجمة ابن ندبة، بضم النون، وراية مع الحجاج ابن علاط فمروا بأبي سفيان فكبروا ثلاثا فقال: من هؤلاء؟ فقال خالد بن الوليد. قال: الغلام. قال: نعم. قال: ومن معه، قال: بنو سليم، قال: ما لي وبني سليم، ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة من المهاجرين، وأفتاء العرب فكبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك. قال: نعم "فمرت" بعدهما "كتيبة" في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر ويقال: غيره. فلما حاذوه كبروا ثلاثا، "فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار" بكسر الغين المعجمة "قال: ما لي ولغفار" قال المصنف بغير صرف ولأبي ذر بالتنوين مصروفا، أي: ما كان بيني وبينهم حرب.
وعند الواقدي: ثم مرت أسلم في أربعمائة فيها لواءان يحملهما بريدة بن لحصيب وناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: ما لي ولأسلم، قال: مرت بنو كعب بن عمرو في خمسمائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء، قال: بنو كعب أخوة أسلم، قال: هؤلاء حلفاء محمد، ثم مرت مزينة فيها مائة فرس وثلاثة ألوية يحمله النعمان، وعبد بن عمرو بن عوف وبلال بن الحارث، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: ما لي ولمزينة، قد جاءتني تقعقع من شواهقها.
"ثم مرت جهينة" بضم الجيم، وفتح الهاء، وسكون التحتية وبالنون، في ثمانمائة فيها أربعة ألوية يحملها معبد بن خالد، وسويد بن صخر ورافع بن مكيث، وعبد الله بن بدر فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: جهينة، قال: ما لي ولجهينة، وعند ابن أبي شيبة والله ما كان بيني وبينهم حرب قط "فقال" كل من أبي سفيان والعباس "مثل ذلك" لقول الأول ففيه تجوز إذ الحاصل من أبي سفيان السؤال، والعباس الجواب، ثم من أبي سفيان الإخبار بأنه لا حرب بينه وبينها.
وأسقط المصنف من رواية عروة هذه التي في البخاري قوله: ثم مرت سعد بن هذيم،
حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل.
فقال: مثل ذلك، ومرت سليم، فقال: مثل ذلك. قال في الفتح: ذكر عروة من القبائل أربعا، وفي مرسل أبي سلمة زيادة أسلم ومزينة، والواقدي: أشجع، وتميم، وفزارة، ولم يذكرا سعد بن هذيم وهم من قضاعة، وقد ذكر قضاعة موسى بن عقبة، والمعروف فيها سعد بن هذيم بالإضافة، ويصح الآخر على المجاز وهو سعد بن زيد بن ليث بن سود بضم المهملة ابن أسلم بضم اللام ابن الحاف بمهملة وفاء بن قضاعة. انتهى.
وقول عروة ومرت سليم لا يقتضي أنها مرت بعد سعد بن هذيم؛ لأنه لما عدل عن حرف الترتيب علم أنه لم يضبط مرورها، فلا ينافي أنها أول من مر مع خالد، كما مر عن أن ثم في ثم مرت سعد للترتيب الذكرى، فإنهم كما علمت من قضاعة، وقد قال ابن عقبة: بعث خالدا في قبائل قضاعة وسليم، وغيرهم كما يأتي في المتن، وقد كان خالد أول من مر وعند الواقدي، بعد جهينة ثم مرت كنانة بكسر الكاف بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد بالقاف الليثي فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر، قال: نعم أهل شؤم والله هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، ثم مرت أشجع وهم آخر من مر، وهم ثلاثمائة معهم لواءان يحملهما معقل بن سنان ونعيم بن مسعود، فكبروا ثلاثا قال: من هؤلاء؟ قال: أشجع. قال: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد. قال: أدخل الله تعالى الإسلام في قلوبهم فهذا فضل الله. ثم قال أبو سفيان: أبعد ما مضى محمد، فقال العباس: لا لو أتت الكتيبة التي هو فيها رأيت الخيل، والحديد، والرجال وما ليس لأحد به طاقة، قال: ومن له بهؤلاء طاقة؟ وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: ما مر محمد؟ فيقول العباس: لا "حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها" إذ في كل بطن منها لواء وراية وهم في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق "قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية" أي: راية الأنصار وراية المهاجرين مع الزبير، كما يأتي، ومر "فقال سعد بن عبادة" لما مر بالراية النبوية: "يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة" قال الحافظ: بالحاء المهملة، أي يوم حرب، لا يوجد منه مخلص أو يوم القتل. يقال: لحم فلانا إذا قتله.
قال الشامي: برفعهما أو نصب الأول ورفع الثاني. انتهى.
ولا يرد على الثاني من ظرفية الزمان لنفسه إذ يوم الملحمة مظروف في اليوم لأنه من ظرفية الكل لجزئه إذ المراد به وقت الحرب.
"اليوم" قال المصنف: نصب على الظرفية "تستحل" بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية
الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار بالمعجمة المكسورة: أي الهلاك.
قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله! ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة. فقال لعلي: "أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها".
والحاء المهملة مبنيا للمفعول "الكعبة" بقتل من أهدر دمه ولو تعلق بأستارها، وقتال من عارض من أهل مكة وإباحة خضراء قريش وبإزالة ما يزعمون أنه تعظيم لها من نحو أصنام وصور وهو باطل وقد وقع جميع ذلك، كما يأتي "فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا" بفتح الحاء والموحدة، فعل ماض، وذا فاعل على مذهب سيبويه، وجزم به في الخاصة وفيه أقوال أخر محلها كتب النحو "يوم الذمار" وفصل المصنف حديث البخاري بشيء من الفتح فقال: "بالمعجمة المكسورة" وتخفيف الميم، "أي: الهلاك، قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد" قوة في هذا اليوم "فيحمي قومه ويدفع عنهم" قاله عجزا "وقيل": معناه "هذا يوم الغضب للحريم والأهل، والانتصار لهم، لمن قدر عليه" قاله غلبة وعجزا ومخالفته للأول.
وبالمفهوم فإن كلا من الهلاك والغضب صالح لتمنيه لشرفه وعزه في قومه فإن غضبه لهم يستلزم تمنيه قدرة لتحميهم "وقيل" معناه "هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي" لقربك، للمصطفى، وحبه لك وإقباله عليك "من أن ينالني مكروه، وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم: أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة" أي حرمة الكعبة "فسمعها رجل من المهاجرين" قال ابن هشام: هو عمر، قال الحافظ: وفيه بعد؛ لأن عمر كان معروفا بشدة البأس عليهم. انتهى.
وفي مغازي الواقدي والأموي أن عثمان وعبد الرحمن قالا ذلك جميعا، فالأولى أن يفسر المبهم بأحدهما أو بهما على إرادة الجنس، "فقال: يا رسول الله ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة" بفتح المهملة وسكون الواو: حملة. فقال لعلي: "أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها".
وقد روى الأموي في المغازي: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: "لا". فذكر له ما قاله سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال:"يا أبا سفيان! اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله تعالى قريشا". وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا نبي الهدى إليك لجا
…
حي قريش ولات حين لجائي
حين ضاقت عليهم سعة الأر
…
ض وعاداهم إله السماء
"وقد روى الأموي" يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل بجيم صدوق روى له الستة مات سنة أربع وتسعين ومائتين "في المغازي أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه" وهو مار في جنود الله: "أمرت" بحذف همزة الاستفهام "بقتل قومك، قال: "لا". فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده الله تعالى والرحم" نقل بالمعنى ولفظ مغازي الأموي: أنشدك الله في قومك فإنك أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم "فقال: "يا أبا سفيان! اليوم يوم المرحمة" بالراء الرأفة والشفقة على الخلق "اليوم يع الله تعالى قريشا" بالإسلام والدين وإنقاذهم من الضلال المبين بهذا الرسول الرءوف الرحيم الذي من أنفسهم وأنفسهم فعزه عزهم وكم تحمل أذاهم ولم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهدى وحجزهم من الوقوع في مهالك الردى "وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس" ورأى صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه إذ صار إلى ابنه هذا بقية رواية الأموي.
"وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي "عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك" القول "عارضت" تعرضت له، كأن وقفت في طريقه. "امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند الواقدي، والأموي، أن هذا الشعر لضرار بن الخطاب الفهري، قال أبو الربيع وهو من أجود شعر قاله. قال الحافظ: فكأن ضرار أرسل به المرأة ليكون أبلغ في انعطافه صلى الله عليه وسلم على قريش "فقال: يا نبي الهدى إليك لجا" بالهمز وتركه للوزن "حي قريش ولا حين" أي ليس الوقت وقت "لجاء" بإثبات الألف للضرورة وإلا فلجاء مهموز من بأبي نفع وتعب كما في المصباح، قال البرهان وأنشده في الاستيعاب في ترجمة ضرار، وأنت خير لجاء وفي ترجمة سعد كما هنا. انتهى.
فكأنهما روايتان "حين ضاقت" ظرف لجا "عليهم سعة الأرض" بفتح السين كناية عن شدة كربهم حتى كأن الأرض لم تسعهم "وعاداهم إله السماء" أي فعل معهم فعل المعادي،
إن سعدا يريد قاصمة الظهـ
…
ـر بأهل الحجون والبطحاء
فسلط عليهم من لا طاقة لهم به لكفرهم وبعد هذا في مغازي الأموي والواقدي:
والتقت حلقتا البطان عل القو
…
م ونودوا بالصيلم الصلعاء
تثنية حلقة البطان بكسر الموحدة حزام يجعل تحت بطن البعير، يقال ذلك إذا اشتد الأمر.
الصيلم بفتح المهملة وسكون التحتية، وفتح اللام وميم الداهية الصلعاء بفتح المهملة، وسكون اللام فعين مهملة مد، كأنه عطفها على الصيلم وحذف حرف العطف للنظم وهو جائز في غيره أيضا كما في النور:
"إن سعدا يريد قاصمة الظهـ
…
ـر بأهل الحجون والبطحاء"
قاصمة الظهر، كأسرته، يعني أنه يريد الخصلة لمانعة لهم من كل الأمور حتى كأنها كسرت ظهورهم بحيث صار وإلا حركة لهم وبقية ضرار، كما في رواية الأموي والواقدي:
خزرجي لو يستطيع من
…
الغيظ رمانا بالنسر والعوا
وغر الصدر لا يهم بشيء
…
غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت
…
عنه هند بالسوأة السوآء
إذ ينادي بذل حي قريش
…
وأين حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى
…
يا حماة الأدبار أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز
…
رج والأوس انجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش
…
فقعة القاع في أكف الإماء
أنهينه فإنه أسد الأسد
…
لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأمر
…
سكوتا كالحية الصماء
النسر بفتح النون نجم. والعواء بفتح العين المهملة، وشد الواو، والمد وقصره لغة، وهي خمسة أنجم، قال القالي: من مدها فهي، فعال من عويت الشيء إذ لويت طرفه.
وقال السهيلي الأصح أن العواء من العوة وهي الدبر، كأنها سميت بذلك لأنها دبر الأسد من البروج والوغر بفتح الواو وكسر المعجمة وبالراء، اسم فاعل، والوغرة شدة توقد الحريهم بفتح فضم تلظى تلهب هند بنت عتبة بالسوأة السوآء بالخلة القبيحة. أقحم اللواء أرسله في عجلة. الأدبار جمع دبر والمراد الظهر ثابت بمثلثة فألف فموحدة بفوقية رجعت بهم بضم الموحدة، وفتح الهاء جمع بهمة بالضم الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى من شدة بأسه.
ويقال: أيضا للجيش بهم، قال أبو عبيدة الهيجاء، بالمد وفيها القصر، إيضاء الحرب. الفقعة
فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس.
وعند أبي يعلى من حديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناد ضعيف جدا. لكن جزم موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد.
والذي يظهر في الجمع أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير.
قال في رواية البخاري: ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
بكسر الفاء، فقاف فعين مفتوحة جمع فقع بكسر، الفاء وفتحها، وسكون القاف، ضرب من الكمالة، وهي البيضاء الرخوة، يشبه به الرجل الذليل لأن الدواب تنحله بأرجلها. القاع المكان المستوي الواسع الأسد بضم فسكون. الغاب أجم الأسد والغ بغين معجمة، "فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة ورحمة فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس" وعند الواقدي، فأبى أن يسلمها إلا بإنارة منه صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه بعمامته.
"وعند أبي يعلى من حديث الزبير" بن العوام "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه فدخل" الزبير "مكة بلواءين" لواء المهاجرين الذي كان معه أولا وهذا "وإسناده ضعيف جدا لكن حزم موسى بن عقبة في المعازي، عن الزهري، أنه دفعها إلى الزبير بن العوام" فاعتضد به وإن كان مرسلا ضعف حديث الزبير المسند، "فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد، والذي يظهر في الجمع"، كما قال الحافظ، "أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها ثم خشي، تغير خاطر في الجمع" كما قال الحافظ: "أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها ثم خشي، تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير".
ويؤيد ذلك ما رواه البزار، بسند على شرط البخاري عن أنس قال: كان قيس في مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي هو فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك انتهى. ملام فتح الباري بجميع ما ساقه المصنف.
"قال في رواية البخاري" المذكورة من مرسل عروة تلو قوله حبذا يوم الذمار، "ثم جاءت كتيبة" خضراء يقال فيها ألف دارع، "فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" المهاجرون والأنصار
وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال"؟ قال: قال كذا وكذا. فقال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة. قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون".
وفيها الرايات والألوية مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية وهم في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر فيها زجل بصوت عال وهو يقول رويدا يلحق أولكم آخركم كذا عند الواقدي.
وأسقط المصنف من البخاري قبل قوله فيهم ما لفظه وهي أقل الكتائب قال الحافظ: أي أقلها عددا، قال عياض، وقع للجميع بالقاف ووقع في الجمع للحميدي، أجل بالجيم، وهي أظهر، ولا يبعد، صحة الأولى؛ لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم، من القبائل. انتهى.
وقال البدر في مصابيحه كل منهما ظاهر لا خفاء فيه، ولا ريب أن المراد قلة العدد، لا الاحتقار هذا ما لا يظن بمسلم اعتقاده ولا توهمه، فهو وجه لا محيد عنه ولا ضير فيه بهذا الاعتبار، والتصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم فيها قاض بجلالة قدرها وعظم شأنها ورجحانها على كل شيء سواها، ولو كان ملء الأرض، بل وأضعاف ذلك فما هذا الذي يشم من نفس القاضي، في هذا المحل، قد تجر أعلى، القاضي، بما لم يحط بعلمه وفهم منه غير مراده، فإن الكتيبة النبوية موصوفة في السير بالكثرة، وأن فيها ألفي دارع فضلا ن غيرهم وليس في الكتائب ما وصل إلى هذا العدد، ولذا احتاج الحافظ لتأويل قلتها باعتبار المهاجرين الذين كانوا فيها لا مطلقا، وقد قال عروة في كتيبة الأنصار: لم ير مثلها وهي من جملة كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم على أن القاضي قال: أظهر فأفاد أن رواية أقل ظاهرة، فلم هذا التشدق عليه من ذا النحوي الغافل عن أفعل التفضيل "وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير" بن العوام "فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة" لم يكتف، بما دار بينه وبين العباس حتى شكا للنبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما قال" سعد؟ "قال" أبو سفيان: "قال: كذا، وكذا" أي: اليوم يوم الملحمة، "فقال" عليه السلام:"كذب سعد".
قال الحافظ: فيه إطلاق الكذب على الأخبار بغير ما سيقع لو بناه قائله على لبة ظنه وقوة القرينة "ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة" بإظهار الإسلام، وأذان بلال على ظهرها وإزالة ما كان فيه من الأصنام، ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك، "ويوم تكسى فيه الكعبة" قيل: إن قريشا كانت تكسوها في رمضان فصادف ذلك اليوم أو المراد باليوم الزمان كما قال يوم الفتح، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام، ووقع. ذلك "قال" عروة: "وأمر
قال: وقال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ قال: نعم.
قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء -بالفتح والمد- ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى -بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز" بضم أوله وفتح الكاف مبني للمفعول "رايته بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة، مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة "قال: وقال عروة" بن الزبير، راوي الحديث المذكور: "وأخبرني" بالإفراد "نافع بن جبير بن مطعم" القرشي النوفلي أبو محمد وأبو عبد الله المدني الثقة الفاضل روى له الستة مات سنة تسع وتسعين.
"قال سمعت العباس يقول: الزبير بن العوام" قال الحافظ: أي في حجة اجتمعوا فيها في خلافة عمر أو عثمان لا أن نافعا حضر المقالة، كما يوهمه السياق، فإنه لا صحبة له أو التقدير سمعت العباس يقول: قلت للزبير فحذف قلت: "يا أبا عبد الله ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز" بفتح التاء وضم الكاف "الراية قال: نعم، قال" عروة: وهو ظاهر الإرسال في الجميع إلا ما صرح بسماعه من نافع وأما باقيه فيحتمل أن عروة تلقاه عن أبيه أو عن العباس، فإنه أدركه وهو صغير أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة وهو الراجح.
ذكره الحافظ "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل" مكة "من أعلى مكة، من كداء".
قال المصنف "بالفتح والمد ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى" أي "بالضم والقصر فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش" بمهملة ثم موحدة، ثم تحتية، ثم معجمة كما رواه الأكثر ع ابن إسحاق.
وروى عنه إبراهيم بن سعد وسلمة بن الفضل أنه بمعجمة ونون، ثم مهملة والصواب الأول كما في الإصابة مصغر على الضبطين "ابن الأشعر" بشين معجمة، وعين مهملة وهو لقب واسمه خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة الخزاعي أخو أم معبد التي مر بها صلى الله عليه وسلم مهاجرا.
وروى أحمد، عن حزام بن هشام ابن حبيش قال: شهد جدي الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكرز" بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي، "ابن جابر" بن حسل بمهملتين بكسر ثم سكون ابن الأحب بمهملة مفتوحة وموحدة، مشددة ابن حبيب "الفهري" وكان من رؤساء المشركين، وهو الذي أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم في غزة بدر الأولى، ثم أسلم قديما، وبعثه صلى الله عليه وسلم في طلب
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة في البخاري أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها.
يعني حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد، وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة وغيرهما.
العرنيين ووقع عند الواقدي أنهما من خيل الزبير بن العوام وكأنه وهم، ولذا لم يعرج عليه صاحب الفتح، لأن عروة لم ينفرد به، بل وافقه عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عند ابن إسحاق فقالا: إنهما من خيل خالد شذا فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا حبيش أولا فجعله كرز بين رجليه ثم قاتل عنه حتى قتل "قال الحافظ ابن حجر وهذا" أي مرسل عروة "مخالف للأحاديث الصحيحة" المسندة "في البخاري أن خالدا دخل من أسفل مكة" الذي هو كدى بالقصر "والنبي صلى الله عليه وسلم" دخل "من أعلاها" الذي هو بالمد وبه جزم ابن إسحاق، وموسى بن عقبة وغيرهما فلا شك في رجحانه على المرسل لكونه موصولا وإخبارا من صحابي شاهد القصة واعتضد بموافقة أصحاب المغازي الذين هم أهل الخبرة بذلك، فيجب تقديمه على مرسل عروة، ويحتمل الجمع بتأويل قول عروة دخل هم بالدخول من السفلى وأمر خالدا بالدخول من العليا، ثم بدا له خلاف ذلك لما ظهر له أن بالسفلى مقاتلين ليبعد عن محل القتال، ما أمكن رعاية للرحم ناشدوه بها وحرمة الحرم فدخل هو من العليا، وخالد من السفلى، والله أعلم.
"يعني" الحافظ بالأحاديث الصحيحة "حديث ابن عم" الذي رواه البخاري، في مواضع منها هنا وترجم عليه في باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة "أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته" حال كونه، "مردفا أسامة بن زيد" وفي هذا مزيد تواضعه وكريم أخلاقه حيث أردف في هذا الموكب العظيم خادمه وابن خادمه رضي الله عنهما، والمتكبر يعد إرداف ابنه إذا ركب في السوق عارا عليه ما ذاك إلا تكبر برأ صلى الله عليه وسلم منه ونزه من خلقه على خلق عظيم. "وحديث عائشة" المروي عنده من رواية عروة نفسه أن عائشة أخبرته "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة" فما وصله عروة نفسه مقدم على ما أرسله قال في الروض: وبكداء وقف إبراهيم حين دعا لذريته، فقال: واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، كما روي عن ابن عباس فمن ثم، استحب صلى الله عليه وسلم الدخول منها لأنها المواضع الذي دعا فيه إبراهيم. انتهى.
وعند البيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر، قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر، وقال:" يا أبا بكر! كيف قال حسان"؟ فأنشده قوله:
وغيرها قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال:
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء بأعلى مكة، وأمره أن يركز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه.
وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عنه أدنى البيوت.
وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتهلم.
عدمت بنيتي إن لم تروها
…
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مسرحات
…
يلطمهن بالخمر النساء
فقال صلى الله عليه وسلم: "أدخلوها من حيث قال حسان"، "و" يعني حديث "غيرها" كالعباس، فقد روى الطبراني، عن العباس لما بعث صلى الله عليه وسلم قلت لأبي سفيان بن حرب: أسلم بنا قال: لا والله حتى أرى الخيل تطلع من كداء، قال العباس: قلت: ما هذا قال: شيء طلع بقلبي، لأن الله لا يطلع هناك خيلا أبدا، قال العباس فلما طلع صلى الله عليه وسلم من هناك ذكرت أبا سفيان به، فذكره.
"قال" الحافظ ابن حجر "وقد ساق ذلك" أي دخول خالد والزبير "موسى بن عقبة سياقا واضحا" موافقا للأحاديث الصحيحة، "فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء" بالفتح والمد "بأعلى مكة وأمره أن يركز" بفتح الياء وضم الكاف "رايته بالحجون" وأن يمكث عند الراية "ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل" أبدل منها "قضاعة وسليم" بالتصغير "وغيرهم" جمع باعتبار أفراد القبائل فلم يقل وغيرهما كأسلم وغفار ومزينة وجهينة، "وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت" أقربها إلى الثنية التي دخل منها، وهو أول بيوت مكة من الجهة التي دخل منها.
روى أصحاب السنن الأربعة عن جابر كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض.
وروى ابن إسحاق عن عائشة: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة مرط مرجل "وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار" ومعه الراية، حتى نزعت منه لابنه أو غيره، واستمر هو بلا راية "في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم".
وروى ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش منهم صفوان وعكرمة وسهيل تجمعوا بالخندمة بخاء معجمة ونون مكان
واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فانهزموا، وقتل من بني بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال.
أسفل مكة ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، قتل من المشركين اثنا عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا وفي ذلك يقول جماش بن قيس بجيم مكسورة وميم مخففة ومعجمة يخاطب امرأته حين لامته على الفرار، وقد كان يصلح سلاحه ويعدها أن يخدمها بعض المسلمين:
إنك لو شهدت يوم الخندمه
…
إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالموتمه
…
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه
…
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه
…
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
قال ابن هشام: ويروى هذا الشعر للمرعاش الهذلي وكان شاعر المهاجرين يوم الفتح وحنين، والطائف يا بني عبد الرحمن وشاعر الخزرج يا بني عبد الله والأوس يا بني عبيد الله "واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش" وظاهر كلام ابن عقبة هذا أن بني بكر اجتمعوا كلهم.
وعند لواقدي، ناس من بني بكر فيحتمل كثرة بني بكر فأطلق عليهم اسم القبيلة وقلة هذيل بالنسبة لهم فعبر عنهم بناس "فقاتلوا خالدا".
وعند الواقدي، فمنعوه الدخول، وشهروا له بالسلاح، ورموه بالنبل وقالوا: لا تدخلها عنوة فصاح خالد في أصحابه "فقاتلهم فانهزموا" أقبح الانهزام، "وقتل من بني بكر نحوا من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة" وعند ابن سعد، وشيخه الواقدي، فقتل أربعة وعشرين رجلا من قريش وأربعة من هذيل، ويحتمل الجمع بأنه من مجاز الحذف أي، من حزب قريش لأن بني بكر دخلوا في عقدهم عام الهدنة ونحو العشرين شامل للأربعة والعشرين، فيفسر بها وأما رواية، ابن إسحاق، اثنا عشر وثلاثة عشر، فالأقل لا ينفي الأكثر بل هو داخل فيه "حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة" بفتح المهملة والواو بينهما زاي ساكنة، ثم راء، وهاء تأنيث كانت سوقا بمكة ثم أدخلت في المسجد "حتى دخلوا الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال" هربا وتبعهم
وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال: "ما هذه؟ وقد نهيت عن القتال". فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟. فقال: هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعت. قال:"قضاء الله خير".
المسلمون "وصاح أبو سفيان، من أغلق بابه وكف يده" عن القتال، "فهو آمن".
وعند الواقدي، وصاح حكيم، وأبو سفيان، يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم من دخل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعلوا يقتحمون الدور، ويغلقون أبوابها، ويطرحون السلاح في الطرق فيأخذه المسلمون "قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة" اللامعة صفة لمحذوف أي السيوف بثنية قرب مكة، يقال لها: أذاخر بفتح الهمزة، وذال معجمة فألف فمعجمة مكسورة، فراء وفي السبل البارقة لمعان السيوف وفيه أن اللمعان مصدر فلا يفسر به اسم الفاعل إلا نحو العافية والعاقبة ولا أحفظ الآن أن البارقة منها. شيخنا فقال: "ما هذه"؟ البارقة "وقد نهيت عن القتال"، "فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتلهم".
"قال" ابن عقبة: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟، فقال: هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير". زاد في الفتح.
وروى الطبراني عن ابن عباس قال: خطب صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الله حرم مكة"
…
الحديث. فقيل له هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال:"قم يا فلان فقل له فليرفع يديه من القتل". فأتاه الرجل، فقال له: إن نبي الله يقول لك اقتل من قدرت عليه فقتل سبعين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل إلى خالد:"ألم أنهك عن القتل". فقال: جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه، فأرسل إليه:"آمرك أن تنذر خالدا"، قال: أردت أمرا فأراد الله أمرا، فكان أمر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان، فسكت صلى الله عليه وسلم وما رد عليه. انتهى.
قيل: وهذا الرجل أنصاري فيحتمل أنه تأول، ويحتمل أنه سبق إلى سمعه ما أمر به خالدا، كما قد يرشد إلى كل من الاحتمالين قوله وأراد الله أمر
…
إلخ.
ثم في قوله فقل سبعين مباينة زائدة لما قبله بكثير إذ غاية الأول ثمانية وعشرون لكن
وعند ابن إسحاق: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يجد أحدًا فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنوه، فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة.
زيادة الثقات، مقبولة والأقل داخل فيها.
"وعند ابن إسحاق" بمعناه وأخرجه ابن راهويه بسند صحيح من حديث ابن عباس بلفظ "فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران رقت نفس العباس لأهل مكة"، فقال: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قبل، أن يأتوه فيستأمنوه أنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، "فخرج ليلا راكبا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم"الشهباء، كما في رواية ابن راهويه وهو بمعنى رواية ابن إسحاق البيضاء "لكي يجد أحدًا فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنوه"، ولفظ ابن إسحاق عقب قوله إلى آخر الدهر، فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقتل لعلي أجد بعض الخطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، "فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلقه وأتي بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم" نقل بالمعنى أيضا ولفظ ابن إسحاق قال: فوالله إني لأسير ليها ألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل وهما يتراجعان فذكر مراجعتهما في النيران لمن هي؟ قال: فعرفت صوته فقتل: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل، قلت: نعم. قال مالك: فداك أبي وأمي. قلت: ويحكم هذا رسول الله في الناس واصباح قريش والله قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة فركب خلفي "وانصرف الآخران ليعلم أهل مكة " كذا في رواية ابن إسحاق بلا سند وابن راهويه، والواقدي، عن ابن عباس أنهما رجعا وعند ابن عقبة، وابن عائذ، والواقدي في موضع آخر أنهما لم يرجعا. وأن العباس قدم بهم عليه صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم.
قال الحافظ: فيحمل قوله ورجع صاحباه أي، بعد أن أسلما، واستمر أبو سفيان عند العباس لأمره صلى الله عليه وسلم بحبسه حتى يرى العساكر ويحتلم أنهما رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا.
وفي مغازي ابن عقبة، ما يؤيد ذلك ففيه فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم عليه صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. انتهى.
ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس.
وروي أن عمر رضي الله عنه لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذا أبو سفيان، دعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به".
"ويمكن الجمع" كما قال في الفتح بين هذا وبين ما مر عن البخاري من مرسل عروة أن الحرس أخذوا الثلاثة فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه في مرسل أبي سلمة عند ابن أبي شيبة "بأن الحرس لما أخذوه" أي أبا سفيان" استنقذه العباس" وأردفه خلفه وأتى به المصطفى، ويؤيده ما رأيته عن ابن عقبة قريبا، وقد روى ابن أبي شيبة عن عكرمة أن أبا سفيان لما أخذه الحرس، قال دلوني على العباس فأتى العباس وأخبره الخبر وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان العباس سمع صوت أبي سفيان وهو مع الحرس فأجاره مع صاحبيه وأتى بهم المصطفى، فمن نسب إليه أنه أتى بهم فلإجارته لهم وتخليصه إياهم من الحرس، واستئذانه لهم في الدخول على المصطفى، ومن نسبه للحرس فلكنهم السبب فيه إذ وقفوا به حتى أدركه العباس واستنقذ منهم غير أنه يعكر على ذا الجمع قول عمر احبسوا أبا سفيان فحبسوه حتى أصبح فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر من مرسل أبي سلمة، وقد لا يعكر بحمله على ضرب من المجاز أي كان مرادهم ذلك حتى أجازه العباس وأخذه وذهب به وبالجملة فحقيقة الجمع بين هذا التباين لم تنقدح.
"وروي" عن ابن إسحاق وغيره "أن عمر رضي الله عنه لما رأى سفيان رديف العباس" قال: عدو الله الحمد له الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس: وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ودخل" عمر "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان دعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته"، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا عباس به إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به". كذا في رواية ابن إسحاق وغيره.
فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله"؟. فقال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا. ثم قال:"ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله"؟.
وذكر ابن عقبة وغيره قال العباس: فقلت: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم وبديل قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، قال: أدخلهم فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم، فدعاهم إلى الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله. فقال:"واشهدوا أني رسول الله". فشهد بديل وحكيم، وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا بعد فأرجئها.
وفي رواية ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة قال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا سفيان أسلم، تسلم". قال: كيف أصنع باللات والعزى؟ فسمعه عمر وهو خارج القبة، فقال: اخرأ عليهما أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها، وفي رواية عبد بن حميد، فقال: يا أبا سفيان، ويحكم يا عمر إنك رجل فاحش دعني مع ابن عمي، فإياه أكلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"اذهب به يا عباس"، "فذهب فلما أصبح غدا" أي أتى "به" أول النهار قبل الشمس كما أفاده تعبيره بغدا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وروى عبد بن حميد وغيره أنه لما أصبح رأى الناس بادروا إلى الوضوء، فقال: ما للناس أأمروا فيَّ بشيء قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فأمره العباس فتوضأ وانطلق به، فلما كبر صلى الله عليه وسلم كبر الناس، ثم ركع فركعوا، ثم رفع فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، فقال: ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من ههنا، وههنا ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم لا يا أبا الفضل أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك ولكنها النبوة فقال: أو ذاك "فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال" بعد فراغه من الصلاة: "ويحك يا أبا سفيان! توقع نفسك في الهلاك مع مزيد عقلك؟ فإنك لو نظرت بعين البصيرة لبادرت إلى الإسلام".
وفي هذا التعبير مزيد رفق في الدعاء للإسلام "ألم يأن" يحن "لك أن تعلم أن لا إله إلا الله". "فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك" حيث خاطبتني بهذا الخطاب اللين العذب وأغضيت، وضرب صفحا عما جرى مني في عداوتك ومحاربتك. "لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى" ما زائدة ولفظ ابن إسحاق لقد أغنى "عني شيئا" بعد، زاد في رواية الواقدي: لقد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك فوالله ما لقيتك من مرة إلا نصرت عليّ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك، ثم قال:"ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله". ولم يختصر ويقل له أن تسلم لأنه ليلا شهد أن لا إله إلا الله وتوقف في
فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء.
فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال:"نعم".
الشهادة له، "فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء" لفظ ابن إسحاق: والله إن في النفس منها شيئا حتى الآن، "فقال له العباس:" خوفا عليه لئلا يبادر أحد بقتله فإنه ليس وقت مجادلة في الكلام لا سيما مع شدة حنق المسلمين عليه "ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق" رضي الله عنه، وعند بن عقبة والواقدي، قال أبو سفيان، وحكيم: يا رسول الله جئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم أظلم وأفجر، فقد غدرتم بعد الحديبية وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه". فقالا: صدقت يا رسول الله، ثم قالا: لو كنت جعلت جدك ومكيدتك لهوازن فهم أبعد رحما وأشد عداوة لك، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله فتح مكة وإعزاز الإسلام بها وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم وذراريهم فإني أرغب إلى الله تعالى في ذلك". انتهى.
ثم أراد العباس تثبيت إسلام أبي سفيان لئلا يدخل عليه الشيطان أنه كان متبوعا فأصبح تابعا ليس له من الأمر شيء "فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا" قال: "نعم" وعند ابن أبي شيبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب السماع يعني الشرف، فقال:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فقال: وما تسع داري؟ زاد ابن عقبة: "ومن دخل دار حكيم فهو آمن". وهي من أسفل مكة ودار أبي سفيان بأعلاها، "ومن دخل المسجد فهو آمن". قال: وما يسع المسجد؟ قال: " ومن أغلق بابه فهو آمن".
قال أبو سفيان: هذه واسعة، ثم لما أراد الانصراف أمر بحبسه حتى مرت عليه جنود الله، كما مر، ثم قال له العباس النجاء إلى قومك حتى إذ جاءهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به.
زاد الواقدي: أسلموا تسلموا من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، فقامت إليه هند زوجته فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فقد جاءكم بما لا قبل لكم به، فتفرقوا إلى دوركم وإلى المسجد
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين.
وهم كما قال مغلطاي وغيره:
عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
كما أورده ابن إسحاق وغيره مفصلا فلخصه المصنف بقوله: "وأمر رسول الله فنادى مناديه" هو أبو سفيان كما علم: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن"، فليس المراد أنه أمر المنادي بذلك حين سأله العباس والصديق كما قد يوهمه السياق، والحميت بفتح المهملة وكسر الميم وسكون التحتية وبالفوقية، قال: في الروض الزق نسبته إلى الضخم والسمن والدسم، بدال فسين مكسورة مهملتين الكثير الودك، والأحمس بحاء وسين مهملتين، قال في الروض: أي الذي لا خير عنده من قولهم عام أحمس إذا لم يكن فيه مطر. انتهى.
وفي النهاية الدسم الأحمس أي الأسود الدنيء، وفي حديث عبد بن حميد، أنها قالت: يا آل غالب اقتلوا الأحمس فقال لها أبو سفيان: والله لتسلمن أو لأضربن عنقك "إلا المستثنين" بوزن المصطفين فاصله متثنيين بياءين تحركت الأولى وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، "وهم كما قاله مغلطاي وغيره" كالحافظ قال في الفتح: قد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" بفتح السين وسكون الراء، وبالحاء المهملات. ابن الحارث القرشي العامري، أول من كتب بمكة له صلى الله عليه وسلم روى أبو داود، والحاكم عن ابن عباس، قال: كان عبد الله بن سعد يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله يعني يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، إنها أنزلت فيها، كان يكتب للنبي فيملي عليه عزيز حكيم فيكتب غفور رحيم، ثم يقرأ عليه فيقول نعم سواء فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.
ورواه عن السدي بزيادة، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله قال محمد: سميعا عليما فقلت أنا: عليما حكيما.
وروى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص أنه اختبأ عند عثمان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال:"أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن مبايعته فيقتله"؟، فقال رجل: هلا أومأت إليّ، فقال:"إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين"، وأفاد سبط
أسلم.
وابن خطل قتله أبو برزة، وقينتاه وهما: فرتنى بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون. وقريبة بالقاف والراء والموحدة مصغرا، أسلمت إحداهما وقتلت الأخرى. وذكر غير ابن إسحاق أن التي أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت.
وسارة مولاة لبني المطلب.
ابن الجوزي في مرآة الزمان أن الرجل عباد بن بشر الأنصاري وقيل: عمر. انتهى.
ثم أدركته العناية الأزلية وأتته السعادة الأبدية حتى "أسلم" وحسن إسلامه وعرف فضله وجهاده، وكان على ميمنة عمرو بن العاصي في فتح مصر، وكان له المواقف المحمودة في الفتوح، وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان سنة ثمان أو سبع وعشرين وكان من أعظم الفتوح، بلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وغزا الأساود من النوبة سنة إحدى وثلاثين وهادن باقي النوبة الهدنة الباقية بعد وغزا ذات الصواري سنة أربع وثلاثين وولاه عمر صعيد مصر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودا في ولايته واعتزل الفتنة حتى مات سنة سبع أو تسع وخمسين.
روى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب، قال: لما كان عند الصبح، قال ابن أبي سرح: اللهم اجعل آخر عملي الصبح فتوضأ، ثم صلى فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره، فقبض الله روحه رضي الله عنه.
"وابن خطل" بفتح المعجمة والمهملة كما يأتي قريبا، ثم بعد قليل يأتي الخلاف في اسمه وقاتله، وأن الأرجح أنه "قتله أبو برزة" بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الزاي، آخره هاء، اسمه نضلة بن عبيد على الأصح بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة. الأسلمي أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات ثم نزل البصرة وغزا خراسان وبها مات سنة خمس وستين على الصحيح "وقينتاه" بفتح القاف وسكون التحتية فنون ففوقية تثنية قينة الأمة غنت أم لم تغن كثيرا ما يطلق على المغنية، وقد كانتا تغنيانه بهجوه صلى الله عليه وسلم، "وهما فرتنى بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية" وتليها "النون" والقصر "وقريبة بالقاف والراء والموحدة، مصغرا" وضبطه الصغاني بفت القاف وكسر الراء، وأيده البرهان بقول الذهبي في المشتبه لم أجد أحدا بالضم لكن، قال في التقصير فيه نظر "أسلمت إحداهما" بعد أن هربت حتى استؤمن لها صلى الله عليه وسلم. "وقتلت الأخرى" كذا وقع مبهما عند ابن إسحاق "وذكر غير ابن إسحاق أن التي أسلمت فرتنى" فلم تقتل "وأن قريبة قتلت وسارة مولاة لبعض بني المطلب" بن هاشم بن عبد مناف كذا
أسلمت، ويقال: كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم.
وأرنب -علم امرأة- وقريبة قتلت، وعكرمة بن أبي جهل: أسلم.
وقع بإبهام البعض عند ابن إسحاق، "ويقال" في تعيين هذا البعض "كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم" بن المطلب بن عبد مناف وهي التي وجد معها كتاب حاطب ومر عند الفتح قيل: كانت مولاة العباس.
وفي السبل كانت نواحة مغنية بمكة فقدمت قبل الفتح وطلبت الصلة وشكت الحاجة، فقال صلى الله عليه وسلم لها $"ما كان في غنائك ما يغنيك"، فقالت: إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا الغناء فوصلها وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وكان ابن خطل يلقي عليها هجاء رسول الله فتغني به، فأسلمت قال ابن إسحاق، ثم تعبت حتى أوطأها رجل فرسا بالأبطح فقتلها في زمن عمر "وأرنب علم امرأة" ذكرها الحاكم، وأنها مولاة ابن خطل أيضا، قتلت، وأم سعد قتلت فيما ذكره ابن إسحاق ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد هما القينتان، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب، قاله في الفتح. "وقريبة قتلت" كما تراه قريبا.
وتكلف شيخنا دفع التكرار فترجى أنه ذكره لضرورة أنه في ضمن من نقل عنه بقوله ويقال: وفيه وقفة "وعكرمة بن أبي جهل" بن هشام المخزومي، "أسلم" وحسن إسلامه واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر على الصحيح.
روى الواقدي: أنه هرب ليلقي نفسه في البحر أو يموت تائها في البلاد وكانت امرأته أم حكيم، بنت عمه الحارث أسلمت قبله، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود، والنسائي، أنه ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فنادى عكرمة: اللات، والعزى، فقال أهل السفينة، أخلصوا فآلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم لك عهد إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن أتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا غفورا كريما فجاء فأسلم.
وروى البيهقي، عن الزهري، والواقدي، عن شيوخه أن امرأته، قالت: يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه فقال: هو آمن فخرجت في طلبه فأدركته وقد ركب سفينة ونؤتى بقول له أخلص أخلص قال: ما أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله قال: ما هربت إلا من هذا وإن هذا أمر تعرفه العرب والعجم حتى النواتي ما الدين إلا ما جاء به محمد، وغير الله قلبي وجاءت أم حكيم تقول ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس لا تهلك نفسك إني قد استأمنت لك رسول الله فرجع وجعل يطلب جماعها فتأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة، فقال: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير فلما وافى مكة، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
والحويرث بن نقيد: قتله علي.
ومقيس بن صبابة -بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثي.
وهبار بن الأسود وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها.
"يأتيكم عكرمة مؤمنا، فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي". قال الزهري: وابن عقبة فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا به فوقف بين يديه ومعه زوجته متنقبة فقال: إن هذه أخبرتني إنك أمنتني فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت فأنت آمن"، قال: إلام تدعو قال: "أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"، وكذا حتى عد خصال الإسلام، قال: ما دعوت إلا إلى خير وأمر حسن جميل، قد كنت فينا يا رسول الله قبل أن تدعونا، وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا. ثم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله علمني خير شيء أقول. قال: "تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "تقول أشهد الله وأشهد من حضرني أني مسلم مجاهد مهاجر"، فقال عكرمة ذلك.
رواه البيهقي "والحويرث" بالتصغير "ابن نقيد" بنون وقاف مصغر بن وهب بن عبد بن قصي، قال البلاذري: كان يعظم القول فيه صلى الله عليه وسلم وينشد الهجاء فيه ويكثر أذاه وهو بمكة، وقال ابن هشام وكان العباس حمل فاطمة وأم كلثوم، بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس الحويرث بهما الجمل فرمى بهما الأرض، وشارك هبارا في نخس جمل زينب لما هاجرت فأهدر دمه "قتله علي" وذلك أنه سأل عنه، وهو في بيته، قد أغلق عليه بابه فقيل: هو في البادية فتنحى علي عن بابه فخرج يريد أن يهرب من بيت إلى آخر فتلقاه علي فضرب عنقه، "ومقيس" بميم فقاف فسين مهملة "ابن صبابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة" كان أسلم، ثم أتى على أنصاري فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاما خطأ في غزوة ذي قرد ظنه من العدو، فجاء مقيس فأخذ الدية، ثم قتل الأنصاري، ثم ارتد ورجع إلى قريش فأهدر دمه "قتله نميلة" تصغير نملة ابن عبد الله "الليثي" ويقال له: الكلبي نسبة لجده الأعلى كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث وحيث يطلق الكلبي فإنما يراد به من كان من بني كلب بن وبرة كما في الإصابة. "وهبار" بفتح الهاء وشد الموحدة "ابن الأسود" بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي، الأسدي "أسلم" رضي الله عنه بالجعرانة بعد الفتح وكان شديد الأذى للمسلمين، "وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينها"، ولم تزل مريضة حتى ماتت فأهدر دمه.
وكعب بن زهير أسلم، وهند بنت عتبة أسلمت، ووحشي بن حرب، أسلم
أخرج الواقدي عن جبير بن مطعم، قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرانة فطلع هبار، فقالوا: يا رسول الله هبار بن الأسود، قال: قد رأيته فأراد رجل القيام إليه فأشار إليه أن اجلس فوقف هبار، وقال: السلام عليك يا نبي الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك وكنا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي، فقال صلى الله عليه وسلم:"قد عفوت عنك وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما قبله".
وروى ابن شاهين من مرسل الزهري، أن هبارا لما قدم المدينة جعلوا يسبونه فشكا ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال:"سب من سبك". فكفوا عنه.
"وكعب بن زهير" ذكره الحاكم "أسلم" بعد ذلك ومدح وتأتي قصته، "وهند بنت عتبة" بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية زوجة أبي سفيان، ذكره الحاكم فيمن أهدر دمه. "أسلمت" فأتته صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه لتمسني رحمتك يا محمد. إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به ثم كشفت نقابها، فقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك ثم أرسلت إليه بهدية جديين مشويين، وقديد مع جارية لها فقالت: إنها تعتذر إليك وتقول لك: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال صلى الله عليه وسلم:"بارك الله لكم في غنمكم وأكثر والدته". فلقد رأينا من كثرتها ما لم نره قبل ولا قريبا فتقول هند: هذا بدعائه صلى الله عليه وسلم ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبدا قائمة، والظل قريب مني لا أقدر عليه، فلما دنا صلى الله عليه وسلم رأيت كأني دخلت الظل. أورده الواقدي بأسانيده.
وروى الشيخان عن عائشة: قالت هند بن عتبة: يا رسول الله ما كان لي على ظهر الأرض من أهل خباء أريد أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على وجه الأرض أحب إليّ من أن يعزوا من أهل خبائك.
"ووحشي بن حرب أسلم" قاتل حمزة رضي الله عنهما صح عنه أنه لما قتله بأحد قال: أقمت بمكة حتى فتحت فهربت إلى الطائف، فكنت به فلما خرج وفد الطائف ليسلموا، ضاقت عليّ المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي، إذ قال لي رجل: ويحك والله إنه ما يقتل أحدا دخل في دينه، فخرجت حتى قدمت عليه فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال:"وحشي". قلت: نعم يا رسول الله. قال: "اقعد فحدثني كيف حمزة". فحدثته فلما فرغت، قال:"ويحك غيب وجهك عني"، فكنت
انتهى. وابن خطل بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة. وابن نقيد بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا.
ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة.
وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة.
أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله "انتهى" ما قاله مغلطاي وغيره.
وقال الحافظ في الفتح قد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار فذكر هؤلاء وزاد وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي قتله علي وأم سعد قتلت، ثم قال: فكملت العدة تسعة رجال، وست نسوة، ويحتمل أن أرنب، وأم سعد هما القينتان، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب أي فيكون النساء أربعا "وابن خطل بفتح الخاء المعجمة" وفتح "الطاء المهملة" وباللام، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب "وابن نقيد بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا ومقيس بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح المثناة التحتية آخره مهملة".
"وقد جمع الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أبو عبد الله المدني "عن شيوخه أسماء من لم يؤمن" بضم الياء وشد الميم مبني للمفعول أي الذين لم يؤمنهم صلى الله عليه وسلم "وأمر بقتله عشرة أنفس ستة رجال" هم: ابن سعد، وابن خطل، وعكرمة، والحويرث، ومقيس، وهبار "وأربع نسوة" قينتا ابن خطل، وسارة، وأرنب. وعد صاحب إنسان العيون ممن لم يؤمن: الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وصفوان أسلموا، وزهير بن أبي سلمى، فأما الأخير فغلط قطعا لأنه والد كعب بن زهير ولم يدرك الإسلام، كما أخرجه ابن إسحاق وغيره، ويأتي في قصة ابنه كعب.
وأما الثلاثة قبله فيتوقف على رواية، أنه صلى الله عليه وسلم أهدر دماءهم، فإن كانت شبهته في الأولين أن أم هانئ أجارتهما، وقد كان شقيقها علي أراد قتلهما، فقال صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت، فهذا ليس فيه أنه كان أهدر دمهما، وإرادة علي قتلهما، لكونهما كانا ممن قاتل خالدا، ولم يقبلا الأمان وفي صفوان خوفه وهروبه من النبي صلى الله عليه وسلم حين استأمنه له ابن عمه عمير بن وهب، فهذا ليس فيه ذلك أيضا فهروبه لعلمه بشدة ما فعل، ومن جملته أنه ممن جمع، وقاتل خالدا وبغضا في الإسلام حتى هداهم الله.
وقد هرب ابن الزبعرى وطائفة لم تهدر دماؤهم خوفا وبغضا، وبالجملة فزيادة لم يوجد في كلام الحفاظ النص عليها مع قول خاتمتهم جمعها من مفرقات الأخبار، مع تكلمه على
وروى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر -بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أي الذي بغير سلاح- فقال لي:"يا أبا هريرة اهتف بالأنصار"، فهتف بهم فجاءوا فطافوا به، فقال:"أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم"، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى:"احصدوهم حصدا، حتى توافوني بالصفا". قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم
حديث أم هانئ في شرح الصحيح غير مرة لا تقبل إلا بثبت والله أعلم.
"وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فدخل مكة "وقد بعث على إحدى المجنبتين" بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر النون المشددة، قال في النهاية، مجنبة الجيش هي التي في الميمنة والميسرة، وقيل الكتيبة، تأخذ إحدى ناحيتي الطريق، والأول أصح "خالد بن الوليد".
وفي رواية ابن إسحاق من مرسل ابن أبي نجيح أن خالدا كان على المجنبة اليمنى، "وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة" فراء "أي الذين بغير سلاح"، كما قاله في الفتح، وقال في النور: وهم الذين لا دروع لهم. انتهى.
فيحتمل أنها المراد بالسلاح المنفي لا مطلقا إذ الذاهب للقتال لا يخرج بلا سلاح البتة. وفي مسلم أيضا أن أبا عبيدة كان على البياذقة بتفح الموحدة وخفة التحتية فألف فذال معجمة، فقاف فتاء تأنيث أي: الرجالة فارسية معربة وكلاهما في العيون، خلافا لما أوهمه الشارح وفي مسلم وغيره أن قريشا وبشت أوباشها وأتباعها، فقالوا: تقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فرآني صلى الله عليه وسلم، فقال لي:"يا أبا هريرة" قلت: لبيك قال: "اهتف" صح "بالأنصار" ولا يأتيني إلا أنصاري، "فهتف بهم، فجاءوا، فطافوا به" داروا حوله وحكمة تخصيصهم عدم قرابتهم لقريش، فلا تأخذهم بهم رأفة، فقال:"أترون إلى أوباش قريش" بفتح الهمزة، وسكون الواو، وبموحدة، فألف فمعجمة الجموع من قبائل شتى "وأتباعهم"، ثم قال: بإحدى يديه على الأخرى: "احصدوهم" بهمزة وصل فإن ابتدأت ضممت وبالحاء والصاد، المهملتين "حصدا" أي اقتلوهم وبالغوا في استئصالهم "حتى توافوني الصفا" قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين ما مر من تأمينه لهم أن التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما جاهروا به واستعدوا للحرب انتفى التأمين "قال أبو هريرة، فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا منهم
إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن".
قال في فتح الباري: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعي، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع في هذا من التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها؛ لأنها لم تقسم؛ ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها أحلت له ساعة، من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك.
وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن
إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيحت" بالبناء، للمفعول أي انتهبت وتم هلاكها.
وفي رواية لمسلم أيضا أبيدت ببنائه للمفعول أي أهلكت "خضراء قريش" بخاء مفتوحة وضاد ساكنة معجمتين وبالمد جماعتهم وأشخاصهم والعرب تكنى بالسواد عن الخضرة وبها عن السواد "لا قريش بعد اليوم" وهذا صريح في أنهم أثخنوا فيهم القتل بكثرة فهو مؤيد لرواية الطبراني، أن خالدا قتل منهم سبعين، فقال صلى الله عليه وسلم:"من أغلق بابه فهو آمن" زاد في رواية: "ومن ألقى سلاحه فهو آمن". فألقى الناس سلاحهم، وغلقوا أبوابهم، "قال في فتح الباري: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة" أي بالقهر والغلبة "وهو قول الأكثر" من العلماء.
"وعن الشافعي: وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما وقع في هذا من التأمين" ويأتي الجواب عنه، بأنه إنما يكون صلحا إذا كف المؤمن عن القتال وقريش لم تلتزم ذلك، بل استعدوا للحرب وقاتلوا "ولإضافة الدور إلى أهلها ولأنها لم تقسم ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها".
"وحجة الأولين ما وقع التصريح به" في الأحاديث الصحيحة "من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها حلت له ساعة من نهار ونهيه عن التأسي به في ذلك"؛ لأنه من خصائصه، فهذه أرع حجج قوية كل منها بانفراده كاف في الحجية، "وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن
عن أهلها، ويترك لهم دورهم.
عن أهلها ويترك لهم دورهم" وغنائمهم، ولأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة، فمن بعدهم وقد فتحت أكثر البلاد عنوة، فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود الصحابة.
وقد زادت مكة، بأمر يمكن أن يدعى اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي دار النسك ومتعبد الخلق وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والبادي، هذا أسقطه المصنف من كلام الفتح، وسلم له تلامذته وغيرهم.
هذه الأدلة والأجوبة لأنها كالشمس في رابعة النهار، حتى جاء سميه الشهاب الهيثمي، فأجاب عن احتجاج الجمهور الأول بأن قوله حتى توافوني بالصفا إنما كان لخالد ومن معه الداخلين من أسفلها، فقوله احصدوهم أي إن قاتلوكم، وهذا الحصر منه عجيب.
فالحديث الصحيح بعين الأنصار فحصر في غيرهم نظرا لمذهبه يعين الانتصار مع أن خالد لم يكن معه من الأنصار أحد إنما كان في قبائل قضاعة وسليم، ومزينة، وجهينة، وغيرهم من قبائل العرب كما قاله ابن إسحاق وغيره من أئمة السير، وقوله أي إن قاتلوكم برده قول أبي هريرة، في صحيح مسلم وغيره، فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا فصرح بخلاف تأويله على أن كون المراد إن قاتلوكم ينتج المدعي، وأن قريشا لم تلتزم التأمين فقاتلوهم حتى دخلوه عنوة وبهذا بطل جوابه عن الثاني بأن قتال خالد إنما كان لمن قاتله، كما أمره عليه الصلاة والسلام، قال: وبفرض، أنه باجتهاده فلا عبرة به مع رأيه صلى الله علي وسلم وفيه نظر فإنه بفرض ذلك قد أقره عليه سيد الخلق ولم يعنفه بل قال:"قضاء الله خير"، وأجاب عن الثالث، بأن حلها لا يستلزم وقوع القتال لمن لم يقاتله، وكم أحل له أشياء لم يفعلها وليس بشيء فهو عقلي مدفوع بالنقل كيف، وفي حديث مسلم كما نرى: أن الأنصار قاتلوا من لم يقاتلهم بأمره عليه الصلاة والسلام وقواه: "احصدوهم حصدا". وفي الصحيحين، والترمذي، والنسائي، قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فيها، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم". فقد صرح الدليل الصحيح بأن هذا من الأشياء التي أحلت له وفعلها، وأجاب عن الرابع بأن عدم القسمة ليس دليلا مستقلا بل مقويا يقال عليه لا تلازم فلا تقوية فيه وزعمه إمكان أنه دليل لأنه الأصل في عدم القسمة مدفوع بقيام الدليل على خلافه وهو أمره بالقتال وأنه من خصائصه فتعين حمله على أنه منّ عليهم بالأرض والأنفس، كما قال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء". زعمه أن معناه الذين أطلقوا واسطة تركهم للقتال من أن يؤسروا أو يسترقوا فهو دليل الصلح لا العنوة، تعسف، إذ الطليق كما قاله في النهاية وتبعه في الفتح وغيره الأسير إذا أطلق، فتفسيره
قال: وأما قول النووي: واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". كما تقدم وكذا: "من دخل المسجد". كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال.
بما زعمه خلاف مدلوله بل يأباه الحديث، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"ماذا تقولون، ماذا تظنون ". قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال صلى الله عليه وسلم:"فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} اذهبوا، فأنتم الطلقاء".
رواه البخاري، وأحمد وغيرهما، يدل على العنوة إذ لو كان ثم صلح ما كان لقوله ذلك لهم معنى ولا لقولهم له: قد قدرت؛ لأنه لو وقع ذلك لم يكن عندهم خوف أصلا، وقد قال في الحديث بعد قوله:"فأنتم الطلقاء". فخرجوا كأنما نشروا من لقبور فدخلوا في الإسلام.
"قال" في فتح الباري عقب ما قدمت أن المصنف أسقطه من كلامه.
"وأما قول النووي: واحتج الشافعي، بالأحاديث المشهورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة، ففيه نظر لأن الذي أشار له إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". "كما تقدم" والأمان في معنى الصلح "وكذا": "من دخل المسجد فهو آمن". "كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير به بذلك الكف عن القتال".
"والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب" أجاب سميه بأن أكابرهم كفوا عن القتال، ولم يقع إلا من أخلاطهم في غير الجهة التي دخل منها صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بها ولا بمن بها لأنهم كانوا أخلاطا لا يعبأ بهم، كما أطبق عليه أئمة السير، كذا قال. وليت شعري من أئمة السير الذين زعمهم وأئمتهم ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، وغيرهم يقولون: إن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو دعوا إلى قتاله صلى الله عليه وسلم وجمعوا ناسا من قريش وغيرهم بالخندمة، وقاتلوا حتى هزمم الله أفما هؤلاء من أكابر قريش؟ أما سهيل كان صاحب الهدنة يوم الحديبية، ألم يأب من كتب البسملة ورسول الله ألم يمتنع من إجازة ابنه المسلم للمصطفى مع قوله:"أجزه لي". غير مرة.
أما عكرمة وصفوان من أجلاء يوم أحد والأحزاب، وقتال جيشه صلى الله عليه وسلم، وأن في غير الجهة التي دخل منها هو قتال له، ألم تر أن سبب الفتح هو نقضهم عهد الحديبية بقتال حلفائه خزاعة، وإنما دخل عليه من قوله:"انظروا إلى أوباش قريش وأتباعهم"، فظن أنه لم يكن فيهم أحد
والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عني إلا لاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة في كتيبته الخضراء.
من أكابرهم، "وإن كان مراده" أي النووي رحمه الله "بالصلح، وقوع عقده فهذا لم ينقل"، فلا ينبغي أن يكون مراد مثل النووي، "ولا أظنه عني إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته" من أنهم لم يلتزموا الأمان واستعدوا للحرب، وقد علمت أنه المنقول عند أصحاب السير وغيرهم وزعم سميه أنه بفرض تأهبهم للقتال فلا يقتضي رد الصلح؛ لأنه الخوف بادرة تقع من شواذ ذلك الجيش الحافل لا سيما قد سمعوا قول سعد: اليوم يوم الملحمة، كذا قال وإنه لعجيب قوله بفرض مع قول الأئمة، دعوا إلى القتال، ونفيه اقتضاءه لعلته الباردة مردود بما صرحوا به من أن الذين اجتمعوا بالخندمة أقسموا بالله لا يدخلها محمد عليهم عنوة أبدا، فقاتلوا حتى هزموا "انتهى" كلام فتح الباري، ثم قال بعد كلام طويل وجنحت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة، وقد رد ذلك الحاكم في الإكليل، والحق أن صورة فتحها عنوة، وعومل أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي، ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا.
أما الأول فالإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها.
وأما ثانيا فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار، لم يغنموا الأموال، وتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض لهم عموما كما قال تعالى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةً} الآية، وقال:{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} الآية. انتهى.
"ثم" كما قال ابن إسحاق وغيره لما ذهب أبو سفيان إلى مكة بعدما عاين جنود الله، وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينتظرونه صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس، فأقبل معتجرا بشقة برد حبرة حمراء "دخل صلى الله عليه وسلم" بهم "مكة" وهو يقرأ سورة الفتح يرجع صوته بالقراءة، كما أخرجه الشيخان "في كتيبته الخضراء" قال ابن هشاك: إنما قيل الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها قال حسان:
لما رأى بدرا تسير جلاهه
…
بكتيبة خضراء من بالخزرج
والعرب تكني بالخضرة عن السواد، وبه عنها كما مر، ولعله إيثار للون المحبوب لنفرة النفس من السواد، ولا يرد قول جابر أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، وقول عمرو بن حريث: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء حرقانية، قد
وهو على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال العباس: يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما. فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة. قال: نعم.
أرخى طرفها بين كتفيه.
رواهما مسلم لأن ذلك إشارة إلى أن هذا الدين لا يغير، كما أن السواد لا يقبل التغير بل جميع الألوان ترجع إليه ولا يرجع هو إلى لون منها، "وهو على ناقته القصواء" مردفا أسامة "بين أبي بكر" الصديق، "وأسيد بن حضير" بتصغيرهما، وفي كتيبته المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.
قاله ابن إسحاق، والواقدي وغيرهما، وتبعهم ابن سيد الناس، والشامي، الذين في يد الشارح فعجيب قوله: ذكر أبي بكر هنا لا ينافي أن كتيبته صلى الله عليه وسلم كانت من الأنصار؛ لأن المراد: أن معظمها كان من الأنصار، وكان ذلك دخل عليه من العبارة الثانية التي في ابن سيد الناس، وهي: فأقبل صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار، وغفل عن الأولى فوهم.
وأما ما رواه الطبراني، عن علي أنه صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح بين عتبة ومعتب ابني أبي لهب، يقول للناس:"هذان أخواي، وابنا عمي". فرحا بإسلامهما، "استوهبتهما من الله فوهبهما لي". فهذا لما دخل المسجد بعد ذلك في أيام إقامته بعد أن أسلما.
وقد روى ابن سعد عن العباس لما قدم صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح قال لي: "يا عباس أين ابنا أخيك عتبة ومعتب لا أراهما"؟. قلت: تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش. قال: "اذهب فائتني بهما". فركبت إلى عرفة فأتيتهما، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما فركبا معي مسرعين، فدعاهما فأسلما، وبايعا، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي".
قال في الإصابة: ويجمع بينه وبين حديث علي بأنه دخل المسجد بينهما بعد أن أحضرهما العباس "فرأى أبو سفيان ما لا قبل" بكسر ففتح: طاقة "له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا" لفظ ابن إسحاق الغداة بدل ملكا "عظيما، فقال العباس: ويحك" نصب وجوبا لإضافته، فإن لم يضف كويح لزيد جاز رفعه على الابتداء ونصبه بإضمار فعل.
وحكى ابن عصفور أنه استعمل من ويح فعل واح ويحا. "إنه ليس بملك ولكنه نبوة. قال: نعم".
قال السهيلي: قال شيخنا أبو بكر يعني ابن العربي إنما أنكر ذكر الملك مجردا عن النبوة، مع أنه كان أول دخوله في الإسلام، وإلا فجائز أن يسمى مثل هذا ملكا وإن كان لنبي، فقد قال الله تعالى لداود:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، وقال سليمان:{وَهَبْ لِي مُلْكًا} غير أن الكراهة
وروي أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
أظهر في تسمية حاله صلى الله عليه وسلم ملكا لأنه خير بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا، فالتفت إلى جبريل فأشار إليه، أن تواضع، فقال:"بل نبيا عبدا أشبع يوما وأجوع يوما". وإنكار العباس يقوي هذا المعنى، وأمر الخلفاء الأربعة بعده يكره أيضا أن يسمى ملكا لقوله صلى الله عليه وسلم:"تكون بعدي خلفاء، ثم تكون أمراء، ثم تكون ملوك، ثم جبابرة"، ويروى:"ثم تكون بزيزيا" وهو تصحيف. قال الخطابي: إنما هو فريرا أي: قتل وسلب. انتهى.
وروى الحافظ محمد بن يحيى الدهلي، بالذال واللام من مرسل سعيد بن المسيب، لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ ثم أصبح فقال له عليه السلام: "قلت لهند أترين هذا من الله؟ ". قال: "نعم هذا من الله". فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله والذي يحلف به ما سمع قولي هذا إلا الله وهند.
"وروي" عن ابن إسحاق من مرسل شيخه عبد الله بن أبي بكر "أنه صلى الله عليه وسلم" وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة أحمر، "وضع رأس تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن رأسه" لفظ ابن إسحاق عثنونه، وهو بضم المهملة والنون بينهما مثلثة ساكنة، أي لحيته "لتكاد تمس رحله" لفظه أيضا واسطة الرحل فكان المصنف عبر بالرأس، لأنه الظاهر للرائي غالبا عند الخفض وهو الذي يرفعه المتكبرون عادة دون بقية الأجزاء، وقد روى الحاكم، بسند جيد قوي عن أنس قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح استشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعا.
وروى الواقدي عن أبي هريرة دخل صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس، وأن عثنونه ليمس واسطة رحله أو يقرب منها تواضعا لله حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال:"اللهم إن العيش عيش الآخرة"، وجعلت الخيل تجمع بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت، حتى توسطهم صلى الله عليه وسلم فأفاد أن ابتداء فعله ذلك من ذي طوى واستمر حتى دخل مكة "شكرا وخضوعا لعظمته" أي لذاته المتصفة بالعظمة.
فالعظمة هي المجموع من الذات والصفات، فلا يرد أن الخضوع إنما هو للذات "أن أحل له بلده" أي القتال فيه ومع ذلك، فلا خلاف أنه لم يجر فيها قسمة غنيمة، ولا سبى من أهلها أحدا بل منّ عليهم بأموالهم وأنفسهم، كما في الروض وغيره وعند أبي داود، بإسناد حسن عن جابر، أنه سئل هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا "ولا يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده"، كما
وفي البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر -وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفي الحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:"اقتلوه".
وفي حديث سعيد بن يربوع.
أخبر عليه السلام.
وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري، قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:"هذا ما وعدني ربي"، ثم قرأ:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .
"وفي البخاري" في الحج، والجهاد والمغازي، واللباس، ومسلم، والسنن الأربعة كلهم. "من حديث" مالك عن ابن شهاب عن "أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المغفر" وفي رواية عن مالك خارج الموطأ: مغفر من حديد.
رواه الدارقطني من رواية عشرة عن مالك كذلك، وفي بعضها أنه قال:"من رأى منكم ابن خطل فليقتله". وفي بعضها: كان يهجوه بالشعر "وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة" وفتح الفاء بعدها "راء "زرد ينسج من" زرد "الدروع" المتصل بها جمع درع وهو ما يلبس من الحديد، كالثوب "على قدر الرأس وفي الحكم" لابن سيده "وهو ما يجعل من فضل" زيادة "درع الحديد" المتصل به "على الرأس مثل القلنسوة" والعبارتان بمعنى وإنما أتى بعبارة المحكم لزيادته فيها على الرأس لأن قوله في الأولى على قدر لا يلزم منه كونها عليه وأما مثل القلنسوة، فمفاد قول الأولى على قدره زاد المصنف في الحج أو رفرف البيضة، أو ما غطى الرأس من السلاح، كالبيضة "فلما نزعه جاء رجل" قال الحافظ: لم يسم، وتبعه المصنف في المغازي، وقال في الحج: هو أبو برزة الأسلمي كما جزم به الفاكهاني في شرح العمدة، والكرماني.
قال البراوي: وكذا ذكره ابن طاهر، وغيره وقيل: سعيد بن حريث. انتهى.
"فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" وذلك أنه خرج، كما ذكر الواقدي إلى الخندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة، فلما رأى خيل الله والقتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه وطرح سلاحه، ودخل تحت أستار الببيت فأخذ رجل من بني كعب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبر المصطفى. فقال:"اقتلوه ".
زاد الوليد بن مسلم عن مالك فقتل، أخرجه ابن عائذ، وصححه ابن حبان "وفي حديث سعيد بن يربوع" القرشي، المخزومي، صحابي كان اسمه الصرم، ويقال: أصرم فغيره عليه السلام.
عند الدارقطني والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح". قال: فأما هلال بن خطل قتله الزبير. الحديث.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزاز والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة". فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث.
وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان.
مات سنة أربع وخمسين وله مائة وعشرون سنة أو أزيد.
"عند الدارقطني والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا أؤمنهم في حل، ولا" في "حرم" إن استمروا على كفرهم فلا ينافي أنه أمن ابن أبي سرح، لإسلامه أو هو من سلب العموم لا عموم السلب أي لا أؤمن جملتهم والأول أظهر هنا "الحويرث وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح" وكأنه خصهم بالذكر لشدة ما وقع منهم، من أذى الإسلام وأهله فلا ينافي أنه أهدر دم غيرهم وهي نكتة للتخصيص وإلا فمعلوم أن مفهوم العدد لا يفيد الحصر ولا يصح أن معناه حتم قتلهم لعفوه عن ابن أبي سرح "قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير. الحديث" والغرض منه تسمية ابن خطل وقاتله.
"وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار، والحاكم، والبيهقي في الدلائل نحوه لكن" فيه مخالفات بينها بقوله "قال أربعة نفر" إضافة بيانية أي: هم نفر أي رجال "وامرأتان"، وقال:"اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" بدل قوله: "لا أؤمنهم في حل ولا حرم"، "فذكره لكن قال" سعد: في حديثه لي بيان الأربعة عن المصطفى "عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة" بن أبي جهل "بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين" وهما من الست أو الأربع السابقات.
"وقال" سعد "فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث" ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، المخزومي، الصحابي، "وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث".
"وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل بميم مثلثة، ولام ثقيلة
النهدي: أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله.
ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل الأخبار.
وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله.
وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار.
"النهدي" بفتح النون، وسكون الهاء، المخضرم الثقة، الثبت العابد، "أن أبا برزة" بفتح الباء، والزاي بينهما راء ساكنة، نضلة بن عبيد "الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله" وله شاهد عند ابن المبارك في كتاب البر والصلة من حديث أبي برزة نفسه.
"ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله" وقد رجحه الواقدي "وبه جزم" أحمد بن يحيى الحافظ الأخباري، العلامة "البلاذري" صاحب التاريخ "وغيره من أهل" العلم بـ"الأخبار وتحمل بقية الروايات" المخالفة له "على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر" بالنصب خبر كان "له منهم" واسمهما "أبو برزة ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه فقد جزم ابن هشام في" تهذيب "السيرة" لابن إسحاق عنه "بأن سعيد بن حريث، وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله" هكذا في الفتح هنا وزاد في المقدمة.
وروى الحاكم: أن قاتله سعيد بن زيد، وروى البزار: أنه سعد بن أبي وقاص، وقيل: عمار بن ياسر، قال: ويجمع بينه بأنهم ابتدروا، أي: قتله، والذي باشر قتله منهم هو سعيد بن حريث. انتهى. وما جمع به في الفتح أحسن، وقيل: قتله شريك بن عبدة العجلاني، حكاه الواقدي، وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال:"لا يقتل قرشي، بعد هذا صبرا". قال الحافظ: رجال ثقات، إلا أن في أبي معشر مقالا "وإنما أمر بقتل ابن خطل" كما قاله ابن إسحاق وغيره "لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا" بضم الميم وفتح الصاد، وكسر الدال مشددة، ويجوز إسكان الصاد، وتخفيف الدال المكسورة كما قاله البرهان، وتبعه الشامي، أي: آخذا لصدقات النعم "وبعث معه رجلا من الأنصار" كذا في رواية ابن إسحاق ونقله اليعمري،
وكان معه مولى يخدمه -وكان مسلما- فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكانت له فتاتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال.
وفي أبي داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وغيره. قال البرهان: ولا أعرف اسمه.
ووقع عند الواقدي، وتبعه الشامي، من خزاعة، ولا شك في تقديم ابن إسحاق على الواقدي، فلا يتم لنا تجويز العقل أنه أطلق عليه أنصاريا لكونه حليفا لهم "وكان معه مولى يخدمه" قال البرهان هذا المولى لا أعرف اسمه أيضا "وكان مسلما" فرواية ابن إسحاق هذه ظاهرها أنهما اثنان، وعليه جرى كما ترى البرهان.
وأما الواقدي فلم يذكر إلا الرجل الخزاعي وتبعه الشامي واعتمده الشارح فجعل ضمير كان للأنصاري أي: وكان الأنصاري مع ابن خطل خادما له فسمي مولى تجوزا، ومن ثم عبر الكلاعي بأنه كان معه رجل مسلم يخدمه. انتهى.
وهو واضح لو كان الذي اقتصر على واحد نفي الثاني وأيضا، فالذي ذكر الاثنين أوثق ممن ذكر الواحد بل هو متروك فلا يرد له كلام الثقة، فإن زيادة الثقة مقبولة وابن إسحاق صدوق، وقد أقر كلامه اليعمري والعسقلاني وغيرهما غير معرجين على غيره "فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام" نصف النهار، "فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا" بعين مهملة من العدوان "عليه فقتله ثم ارتد مشركا" أتى به؛ لأن الردة تكون بغير الشرك الذي هو عبادة الأوثان كالتهود، "و" لأنه "كانت له فتاتان" أمتان "تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهذا سبب إهدار دمه، واختلاف الروايات في قتله فأما الجمع بينه فهو ما علمته "وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه" فهو عطف على مقدر وما موصولة، صفة لمحذوف أي الروايات التي اختلفت، في تعيين اسمه "فإنه" بالفاء جواب أما وفي نسخة بحذفها على تقدير فأقول: إنه "كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله" المسمي له النبي صلى الله عليه وسلم كما في المقدمة وغيرها.
"وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال وفي أبي داود" والحاكم "من حديث مصعب" بن سعد بن أبي وقاص، الزهري المدني الثقة، أي عن أبيه لأنه الواقع في أبي داود، لا أنه من مرسل مصعب كما أوهمه المصنف "لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه مليا ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال:"أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت عن بيعته فيقتله"؟. فقالوا: يا رسول الله ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا؟ فقال:"إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". الحديث.
الناس إلا أربعة نفر فذكرهم" فقال: عكرمة وابن خطل ومقيس وابن أبي سرح، "ثم قال وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه" وكان أخاه من الرضاعة كما عند ابن إسحاق.
"فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به" عثمان "حتى أوقفه" لغة قليلة والكثير وقفه "على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال" عثمان: "يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه مليا" طويلا "ثلاثا كل ذلك يأبى" أن يبايعه، "فبايعه بعد ثلاث ثم" لما انصرف عثمان به كما عند ابن إسحاق "أقبل على أصحابه"، فقال:"أما" فهمزة الاستفهام مقدرة "كان فيكم رجل رشيد" يفهم مرادي "يقوم إلى هذا حين كففت عن بيعته فيقتله" فالاستفهام للوم على عدم قتله وعند ابن إسحاق لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه "قالوا": وعند ابن إسحاق: ورواه الدراقطني عن أنس وعن سعيد بن يربوع، وابن عساكر عن عثمان فقال رجل من الأنصار. قال في الإصابة وأفاد سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: أنه عباد بن بشر الأنصاري وقيل: عمر. انتهى.
وتسمي عمر أنصاريا بالمعنى الأعم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ} "يا رسول الله ما ندري ما في نفسك ألا أومأت إلينا" أشرت بحاجب أو بيد أو غيرهما، فقال:"إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" هي الإيماء إلى مباح من نحو ضرب أو قتل على خلاف ما يظهر.
سمي بذلك لشبهه بالخيانة لإخفائه كما لو أومأ لقتله حين طلب عثمان مبايعته فإنه خلاف الظاهر من سكوته وتجوز لغيره إلا في محظور، وعليه قوله:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، فإن فيه ذم النظر إلى ما لا يجوز كما فسره به ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وفسره السدي والضحاك، بالرمز بالعين "الحديث" وعند ابن إسحاق، قال: فهلا أومأت إليّ، قال: إن
قال مالك -كما رواية البخاري: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى يومئذ محرما. انتهى.
وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به. أخرجه الدارقطني في الغرائب.
ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة.
وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟
النبي لا يقتل بالإشارة وكان عبد الله بعد ذلك ممن حسن إسلامه ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وكانت له المواقف المحمودة في الفتوح، والولاية المحمودة، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان فارس بني عامر بن لؤي المقدم فيهم. وولاه عمر ثم عثمان وتقدم مزيد لذلك "قال مالك" الإمام الأعظم "كما في رواية البخاري، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى" بضم النون، وفتح الراء أي: نظن، والله أعلم.
"يومئذ محرما" أي لم يرو أحد أنه تحلل يومئذ من إحرامه "انتهى، وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي" بن حسان العنبري، مولاهم البصري الثقة الثبت الحافظ العارف بالرجال والحديث.
روى له الستة "عن مالك جازما به" فأسقط قوله فيما نرى، والله أعلم.
"أخرجه الدارقطني في الغرائب" أي غرائب الرواة، عن مالك "ويشهد له ما رواه مسلم" والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة "من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام" فصرح بما جزم به مالك أو ظنه، "و" ما "روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس" بن كيسان اليماني الثقة الفقيه، المتوفى سنة ستين ومائة أو بعدها، روى له الجماعة "قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة" وستر الرأس بالمغفر يدل على ذلك أيضا.
وقول ابن دقيق العيد يحتمل أنه محرم وغطاه لعذر تعقب بتصريح جابر وغيره بأنه لم يكن محرما.
"وقد اختلف العلماء، هل يجب على من دخل مكة" ولم يقصد النسك "الإحرام أم لا؟
فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا. وفي قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب.
والمشهور عند الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، والله أعلم.
وقد زعم الحاكم في الإكليل: أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة.
وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه.
ويؤيده: أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء. أخرج مسلم أيضا: وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضي عياض.
فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا" سواء تكرر دخوله أم لا، "وفي قول" للشافعي: "يجب مطلقا وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب" مفرع على القولين "وهو أولى بعدم الوجوب، والمشهور عند الأئمة الثلاثة الوجوب" ودخوله بلا إحرام من خصائصه.
"وفي رواية عن كل منهم لا يجب وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة" كحطاب وصياد "واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، والله أعلم" بحكمه.
"وقد زعم الحاكم في الإكليل أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء، معارضة وتعقبوه" بأن التعارض إنما يتحقق إذا لم يمكن الجمع، وهنا يمكن "باحتمال أن يكون دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة، بعد ذلك، فحكى كل منهما، ما رآه ويؤيده" أي: التعقب "أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء".
"أخرجه مسلم أيضا وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول وهذا الجمع للقاضي عياض" ولا يرد عليه ما ذكره ابن إسحاق والواقدي، أنه لما وصل لذي طوى كان معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وعند الثاني وعليه عمامة سوداء لأنه بفرض صحته يحتمل أنه لما وصل لذي طوى نزعها ولبس المغفر، ثم دخل به مكة ثم بعد أن استقر نزع المغفر ولبس
وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وفي البخاري عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله! أين تنزل غدا؟
العمامة السوداء، "وقال غيره يجمع بأن العمامة السوداء، كانت ملفوفة فوق المغفر" إشارة للسؤدد وثبات دينه وأنه لا يغير، "أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد" بالهمز، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم،" وهذا أوفق بما مر من أنه وصل إلى ذي طوى وعلى رأسه العمامة وقد زعم ابن الصلاح وغيره، تفرد مالك عن الزهري بذكر المغفر وتعقبه الحافظ العراقي بأنه ورد من عدة طرق عن ابن شهاب غير طريق مالك، فذكر أربعة تابعوا مالكا، ثم قال: وروى ابن مسدي، أن أبا بكر بن العربي، قال لأبي جعفر بن المرخي حين ذكر أن مالكا تفرد به قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، فقالوا له: أفدنا هذه الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا، وقال الحافظ بن حجر في نكته: استبعد أهل إشبيلية قول ابن العرجي حتى قال قائلهم:
يا أهل حمص ومن بها أوصيكم
…
بالبر والتقوى وصية مشفق
فخذوا عن العربي أسمار الدجى
…
وخذوا الرواية عن إمام متقي
إن الفتى ذرب اللسان مهذب
…
إن ل يجد خبرا صحيحا يخلق
وأراد بأهل حمص أهل إشبيلية، قال الحافظ: وقد تتبعت طرقه فوجدته، كما قال ابن العربي، بل أزيد فعد ستة عشر نفسا غير مالك رووه عن الزهري، وعزاها لمخرجيها، قال: ولم ينفرد الزهري به بل تابعه سعد بن أبي وقاص، وأبو برزة الأسلمي في سنن الدارقطني وعلي بن أبي طالب في المشيخة الكبرى لأبي محمد الجوهري، وسعيد بن يربوع، والسائب بن يزيد في مستدرك الحاكم. قال: فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري، عن أنس فكيف يحل لأحد أن يتهم إماما من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع. انتهى.
ونحوه في الفتح وزاد لكن ليس في شيء من طرقه على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقربها طريق ابن أخي الزهري عند البزار ويليها رواية أبي أويس عند ابن سعد، وابن عدي فيحمل قول من قال تفرد به مالك أي بشرط الصحة وقول من قال توبع أي في الجملة.
"وفي البخاري" في الحج والجهاد، والمغازي ومسلم في الحج "عن أسامة بن زيد" الحب بن الحب، "أنه قال زمن الفتح" قبل أن يدخلها بيوم "يا رسول الله أين تنزل غدا؟ " زاد في
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من منزل"؟. وفي رواية: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور"؟.
وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين، فكان.
الحج: في دارك بمكة.
قال الحافظ: حذفت أداة الاستفهام من قوله في دارك بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي، والجوزي بلفظ: أتنزل في دارك؟ فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهم عن ذلك "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل" بفتح العين وكسر القاف "من منزل" هذا لفظ رواية المغازي.
"وفي رواية" للبخاري في الحج، عن أسامة:"وهل ترك لنا عقيل من رباع" جمع ربع بفتح الراء، وسكون الموحدة، وهو المنزل المشتمل على أبيات وقيل: الدار فعليه قوله: "أو دور" إما للتأكيد أو من شك الراوي، قاله الحافظ، وجمع النكرة، وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري تفيد العموم، للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة، شيئا ومن للتبعيض قاله الكرماني.
قال الحافظ: وأخرج هذا الحديث الفاكهي، وقال في آخره: ويقال: إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم، ثم صارت لابنه عبد المطلب، فقسمها بين ولده حين عمي، ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حظ أبيه، قال المصنف: وظاهره أنها كانت ملكه، فأضافها إلى نفسه، فيحتمل أن عقيلا تصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين، ويحتمل غير ذلك، وقد فسر الراوي ولعله أسامة، المراد بما أدرجه هنا حيث قال:"وكان عقيل، ورث أبا طالب هو و" أخوه "طالب" المكنى به "ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين".
قال الحافظ: هذا يدل على تقدم هذا الحكم من أوائل الإسلام لموت أبي طالب قبل الهجرة، فلما هجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه، وباعتبار تركه صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها، واختلف في تقريره عليه الصلاة والسلام عقيلا على ما يخصه، فقيل: ترك له ذلك تفضلا عليه وقيل: استمالة وتأليفا وقيل: تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم قال الخطابي: إنما لم ينزل فيها لأنها دور هجروها لله فلم يرجعوا فيما تركوه، وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها ومفهومه أنه لو تكرها بغير بيع لنزلها. وحكى الفاكهي: أن الدار لم تزل بيد أولاد عقيل حتى باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار وكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب، أي: حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب "فكان".
عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر.
وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: "منزلنا إن شاء الله تعالى -إذا فتح الله- الخيف حيث تقاسموا على الكفر". يعني به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة.
وعند الإسماعيلي فمن أجل ذلك كان "عمر بن الخطاب، يقول: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر"، قال الحافظ: هذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد عند البخاري في المغازي، من طريق ابن جريج عنه، ويختلج في خاطري أن قائل: فكان عمر
…
إلخ، هو ابن شهاب، فيكون منقطعا عن عمر. انتهى.
وقد رفعه البخاري، هنا في نفس حديث أسامة، هذا ولفظه فقال صلى الله عليه وسلم:"وهل ترك لنا عقيل من منزل" ثم قال: "لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن".
وروى الواقدي عن أبي رافع قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزل منزلك من الشعب فقال: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"؟، وكان عقيل قد باع منزله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل له: فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك فأبى، وقال:"لا أدخل البيوت". ولم يزل بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون وكان أبو رافع ضرب له به قبة من أدم ومعه أم سلمة، وميمونة.
"وفي رواية أخرى" للبخاري، في مواضع من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال عليه الصلاة والسلام:"منزلنا إن شاء الله تعالى". أتى بها تبركا وامتثالا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، ولعلامات الفتح الظاهرة عبر بقوله:"إذا فتح الله" مكة "الخيف" بفتح المعجمة وسكون التحتية وبالفاء.
قال الحافظ: والرفع مبتدأ خبره منزلنا، وليس هو مفعول فتح، والخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء. انتهى.
واقتصر على هذا الإعراب لأنه المشهور، في المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين فإن المعلوم للمخاطب، هو المبتدأ، وهو هنا الخيف ومنزلنا خبر لأنه المجهول فما صدر به المصنف من أن منزلنا والخيف خبره خلاف المشهور وهو جواز الابتداء منهما.
وفي رواية للبخاري: "بخيف بني كنانة". "حيث تقاسموا" تحالفوا "على الكفر" حال من فاعل تقاسموا أي في حال كفرهم أن لا يبايعوا بني هاشم، ولا يناكحوهم وحصروهم في الشعب "يعني به المحصب" بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددة المهملتين، "وذلك" أي تقاسمهم على الكفر "أن قريشا وكنانة".
تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم.
وفي رواية أخرى له: أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بيت أم هانئ.....
قال الحافظ: فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا إذ العطف يقتضي المغايرة فيترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة نعم، لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر فلذا وقعت المغايرة "تحالفت" بحاء مهملة والقياس تحالفوا لكن أتى بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة "على بني هاشم، وبني المطلب أن لا يناكحوهم" فلا تتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم، "ولا يبايعوهم" لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، ولأحمد: ولا يخالطوهم.
وللإسماعيلي: ولا يكون بينهم وبينهم شيء وهي أعم "حتى يسلموا" بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام الخفيفة "إليهم النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ: يختلج في خاطري، أن من قوله يغني المحصب إلى هنا من قول الزهري، أدرجه في الخبر، فقد رواه البخاري في الحج أيضا وفي السيرة والتوحيد، مقتصرا على الموصول منه إلى قوله: على الكفر. ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك، قيل: إنما اختار صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم وتمكنه من دخول مكة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا، ومقابلتهم بالمن والإحسان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "كما تقدم" زيادة من المصنف على ما في البخاري لإفادة أنه ذكر القصة أول الكتاب "وفي رواية أخرى له" أي للبخاري، في مواضع عن أم هانئ، "أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بت أم هانئ" بنت أبي طالب الهاشمية، فاختة وقيل: هند، وقيل: فاطمة، أسلمت عام الفتح، وصحبت ولها أحاديث. ماتت في خلافة معاوية.
روى لها الستة وفي حديثها عند مسلم: أنها ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل وفاطمة تستره، وجمع بأن ذلك تكرر منه بدليل أن في رواية ابن خزيمة عنها أن أبا ذر ستره لما اغتسل ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بها فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان، وأما الستر فيحتمل أن يكون أحدهما، ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه.
وروى الحاكم في الإكليل عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان نازلا عليها يوم الفتح ولا يغاير حديث
ثم صلى الضحى ثمان ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود.
وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة.
نزوله بالخيف لأنه لم يقم في بيتها، وإنما نزل به حتى اغتسل، "ثم صلى الضحى ثمان ركعات" ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته. "قالت" أم هانئ:"لم أره صلى الله عليه وسلم صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود" وصريح الحديث، أن الصلاة هي صلاة الضحى المشروعة المعهودة، وقال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا.
قال ابن جرير الطبري: صلاها سعد بن أبي وقاص حين افتتح المدائن ثمان ركعات في إيوان كسرى، قال وهي ثمان ركعات لا يفصل بينها ولا تصلى بإمام.
قال السهيلي: ومن سنتها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. انتهى.
وروى الطبراني عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم هانئ يوم الفتح:"هل عندك من طعام نأكله"؟. قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة وإني لأستحي أن أقدمها إليك. فقال: "هلمي بهن". فكسرهن في ماء وجاءت بملح، فقال:"هل من أدم"؟. قالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال:"هلميه". فصبه على الطعام وأكل منه، ثم حمد الله تعالى، ثم قال:"نعم الأدم الخل، يا أم هانئ لا يقفر بيت فيه خل". "وأجارت أم هانئ" بهمزة منونة "حموين لها" أي رجلين من أقارب زوجها، كما رواه أحمد، ومسلم، وابن إسحاق ويرهم.
عن أم هانئ قالت: لما كان يوم الفتح فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل عليَّ عليٌّ فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلما رآني، قال:"مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك"؟. فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" زاد في رواية ابن إسحاق: "وأمنا من أمنت فلا يقتلهما"، "والرجلان الحارث بن هشام" بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، أبو عبد الرحمن المكي، شقيق أبي جهل من مسلمة الفتح استشهد في خلافة عمر.
روى له ابن ماجه وله ذكر في الصحيحين أنه سأل عن كيفية الوحي، "وزهير بن أبي أمية بن المغيرة" بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي، أخو أم سلمة، أم المؤمنين ذكره هشام الكلبي في المؤلفة.
كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الغد من يوم الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: "أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض
قال ابن إسحاق: كان ممن قام في نقض الصحيفة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه "كما قاله ابن هشام" عبد الملك، وقيل: الثاني عبد الله بن أبي ربيعة.
روى الأزرقي، بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما الحارث وهبيرة بن أبي وهب.
قال الحافظ: وليس بشيء لأن هبيرة هرب عند الفتح إلى نحران فلم يزل بها مشركا حتى مات كما جزم به ابن إسحاق وغيره، فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم هانئ، وقيل: إن الثاني جعدة بن هبيرة وفيه أنه كان صغير السن، فلا يكون مقاتلا عام الفتح حتى يحتاج إلى الأمان، ولا يهم علي بقتله، وجوز ابن عبد البر أن جعدة ابن لهبيرة من غير أم هانئ مع نقله عن أهل النسب أنهم لم يذكروا له ولدا من غيرها، "وقد كان أخوها علي بن أبي طالب" شقيقها "أراد أن يقتلهما".
قال الحافظ: لأنهما كانا فيمن قاتل خالد بن الوليد، ولم يقبلا الأمان فأجارتهما أم هانئ. انتهى.
فليس لكونهما ممن أهدر دمه كما ظنه من وهم وقد تقدم، "فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فرحب بها وأمضى جوارها. قال السهيلي: وتأمين المرأة جائز عند جماعة الفقهاء إلا سحنونا وابن الماجشون، فقالا: موقوف على إجازة الإمام. انتهى.
"ولما كان الغد من يوم الفتح" أي ثاني يوم فتح مكة في العشرين من رمضان "قام النبي صلى الله عليه وسلم" على باب البيت، بعدما خرج منه "خطيبا في الناس،" بخطبة طويلة مشتملة على أحكام وحكم ومواعظ "فحمد الله" تعالى فقال كما في رواية أحمد والواقدي: "الحمد لله الذي صدق وعده". "وأثنى عليه ومجده" عطف عام على خاص لأن الثناء والتمجيد أعم من لفظ الحمد لله "بما هو أهله".
وفي رواية: أنه قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم قال: "أيها الناس إن الله حرم مكة" ابتدأ تحريمها بأن أظهره للملائكة "يوم خلق السموات والأرض" وذاتها وإن لم توجد حينئذ لكن أرضها موجودة إذ هي أول ما
فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها الآن كحرمتها بالأمس
وجد من الأرض.
ودحيت الأرض من تحتها كما مر أول الكتاب "فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة" يعني أن تحريمها أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة ليس مما أحدثه أو اختص بشرعه، ولا ينافيه قوله في حديث جابر عند مسلم أن إبراهيم حرم مكة لأن إسناد التحريم إليه حيث أنه بلغه، فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إليه تعالى من حيث إنه الحاكم بها تضاف إلى رسوله لأنها تسمع منهم وتظهر على لسانهم والحاصل أنه أظهر تحريمها بعد أن كان مهجورا، لا أنه ابتدأه أو أنه حرمها بإذن الله يعني أن الله كتب في اللوح المحفوظ يومئذ أن إبراهيم سيحرم مكة بإذنه تعالى.
وفي رواية للشيخين، أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، "فلا يحل لامرئ" بكسر الهمزة والراء "يؤمن بالله واليوم الآخر" القيامة إشارة للمبدأ والمعاد، وقيد به لأنه الذي ينقاد للأحكام وينزجر فلا ينافي خطاب الكافر أيضا بفروع الشريعة "أن يسفك بها دما" بكسر الفاء وقد تضم، وهما لغتان حكاهما الصغاني وغيره.
والسفك صب الدم، وأن مصدرية أي: فلا يحل سفك دم بها "أو يعضد" بفتح التحتية، وسكون المهملة، وكسر المعجمة فدال مهملة، أي قطع بالمعضد وهو آلة كالفأس "بها شجرة" ذات ساق، "فإن أحد ترخص فيها" برفع أحد بفعل مقدر يفسره ما بعده لا بالابتداء، لأن إن من عوامل الفعل وحذف الفعل وجوبا لئلا يجتمع المفسر والمفسر والمعنى إن قال أحد ترك القتال عزيمة والقتال رخصة يتعاطى عند الحاجة "لقتال" أي: لأجل قتال "رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيها مستدلا بذلك "فقولوا" له: ليس الأمر كما ذكرت.
"إن الله قد أذن لرسوله" تخصيصا له "ولم يأذن لكم" ففيه إثبات خصائص لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" فكانت في حقه تلك الساعة، بمنزلة الحل، قال الحافظ: والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر.
وفي رواية ابن إسحاق ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها "وقد عادت حرمتها الآن".
وفي رواية اليوم أي: الذي هو ثاني يوم الفتح "كحرمتها بالأمس" الذي قبل يوم الفتح.
فليبلغ الشاهد الغائب".
ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟.
قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
أي: الذي أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التي أحلت له عليه الصلاة والسلام ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله في فتح الباري.
وقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسي حيث يقول في قصيدته المشهورة:
كما قاله المصنف، تبعا لغيره فلا حاجة للتعسف "فليبلغ" بكسر اللام وسكونها "الشاهد" الحاضر "الغائب" بالنصب مفعول فالتبليغ عنه صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، ثم قال:"يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟، وعند ابن إسحاق وغيره ماذا تقولون ماذا تظنون؟ "قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم" وقد قدرت، "قال" صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بضم الطاء المهملة وفتح اللام وقاف جمع طليق، "أي الذين أطلقوا" منا عليهم "لم يسترقوا ولم يؤسروا والطليق الأسير إذا أطلق، والمراد بالساعة التي أحلت له عليه الصلاة والسلام ما بين أول النهار"، أي من طلوع الشمس "ودخول وقت العصر، كذا قاله في فتح الباري" بمعناه ولفظه في كتاب العلم وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر ونحوه قوله هنا عند أحمد من حديث عمرو، عن أبيه عن جده إنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر. انتهى.
وحديث الخطبة رواه الشيخان، وغيرهما، وعند كل ما ليس عند الآخر وهي طويلة اقتصر المصنف على ما ذكره فتبعته قال الزهري، ثم نزل صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح فجلس عند السقاية، وذكر الواقدي عن شيوخه أنه كان قد قبض مفتاح السقاية من العباس ومفتاح البيت عن عثمان.
وروى ابن أبي شيبة أنه أتى بدلو من زمزم فغسل منها وجهه ما تقع منه قطرة إلا في يد إنسان إن كانت قدر ما يحسوها حساها وإلا مسح جلده، والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكا قط أعظم من اليوم ولا قوما أحمق من القوم، "وقد أجاد العلامة أبو محمد" عبد الله بن أبي زكريا يحيى بن علي "الشقراطسي" نسبة إلى شقراطسة ذكر لي أنها بلدة من بلاد الجريد بإفريقية، قاله أبو شامة "حيث يقول في قصيدته المشهورة" بعدما ساق قصة بدر أتبعها بثمانية
ويوم مكة إذ أشرفت في أمم
…
تضيق عنها فجاج الوعث والسهل
خوافق ضاق ذراع الخافقين بها
…
في...........................
وعشرين بيتا في قصة الفتح، لأنهما كانتا عظيمتين فبدر أول مشهد نصر الله رسوله فيه وهذه يوم استيلائه على مكة التي هي من أشرف البقاع وعزه في بلاده التي أوذي فيها، ودخل الناس في دين الله أفواجا "ويوم مكة" مبتدأ حذف خبره أي كان عظيما والنصب مفعول به ذكرا أمرا أو مضارعا أو ظرف لهما أو لنصرت، أو قوله الآتي خشعت والخفض عطفا على لفظ بدر السابق "إذ" ظرف زمان بدل بعض من كل من يوم "أشرفت" علوت عليها، وظهرت على أخذها "في أمم" طوائف وجماعات كثيرة "تضيق عنها" بالتاء والياء؛ لأن تأنيث "فجاج" غير حقيقي جمع فج طريق واسع بين جبلين "الوعث" بفتح الواو، وسكون المهملة، ومثلثة، المكان الواسع الدهش بمهملة فهاء، مفتوحتين فمهملة، تغيب فيه الأقدام ويشق المشي فيه كما في القاموس وغيره.
وفي المصباح الطريق الشاق المسلك ويقال: رمل رقيق تغيب فيه الأقدام ثم استعير لكل أمر شاق من تعب وإثم غير ذلك منه وعثاء السفر وكآبة المنقلب أي شدة النصب والتعب، وسوء الانقلاب.
"والسهل" بسكون الهاء، وفتحها ضرورة وفي بعض النسخ، بضمتين جمع سهل ما لأن من الأرض ولم يبلغ، أن يكون وعثا.
والمعنى أن جميع الطرق تضيق عن ذلك الجيش، فالإضافة بيانية وخصا بالذكر لأنهما الغالب في الطرق المسلوكة لا للاحتراز "خوافق" بالجر بدل من أمم بدل بعض من كل بتقدير الضمير، أي منها وصرف للضرورة، أو هو لغة حكاها الخفش قائلا كأنها لغة الشعراء، لأنهم اضطروا إليه في الشعر فجرى، على ألسنتهم في غيره جمع خافق أو خافقة من خفقت الراية تحقق بكسر الفاء وضمها أو صفة لأمم بالمفرد يعد الجملة من خفق الأرض بنعله وهو صوت النعل وخفق في البلاد ذهب، والبرق لمع والريح جرى، والطائر طار فوصفها بسرعة السير ولمعان الحديد، وصوت وقع حوافر الخيل ونحوه.
وبالرع مبتدأ قال الشامي: على تقدير لها خوافق، أي رايات أو خبر أي: هي خوافق، يعني الأمم، ويجوز أن التقدير على جر خوافق ذوي خوافق فمهما قدرنا حذف مضاف أو قلنا هي مبتدأ أو جررنا على البدل فالمراد الرايات، وإن خفضنا صفة لأمم أو قلنا هي خوافق فالخوافق الأمم لا الرايات. انتهى.
وفي نسخ حوافر بالراء قال أبو شامة، وهو تصحيف "ضاق" ضعف "ذراع" أي وسع "الخافقين" المشرق، والمغرب؛ لأن الليل والنهار يخفقان فيهما "بها" الرايات أو الأمم "في
........................
…
... قاتم من عجاج الخيل والإبل
وجحفل قذف الأرجاء ذي لجب
…
عرمرم كزهاء الليل منسحل
وأنت صلى عليك الله تقدمهم
…
في بهو إشراق نور منك مكتمل
ينير فوق أغر الوجه منتجب
…
متوج بعزيز النصر مقتبل
يسمو أمام جنود الله مرتديا
…
ثوب الوقار لأمر الله ممتثل
خشعت تحت بهاء العز حين سمت
…
بك المهابة فعل الخاضع الوجل
قاتم" مغبر "من عجاج" بمهملة وجيمين غبار "الخيل والإبل" لكثرتهما في ذلك الجيش، "وجعفل" بالجر على أمم أو خوافق أو قاتم "قذف" بفتح القاف والذال المعجمة، وبضمهما أي متباعد "الأرجاء" بالفتح النواحي والأطراف.
"ذي لجب" صوت "عرمرم" كثير "كزهاء" بضم الزاي "السيل" أي قدره وعلى صفته كثرة وسرعة، وفي نسخة كزهاء الليل وأخرى كجناح الليل شبهه بالليل، في سده الأفق وتطبيقه الأرض واسوداده بكثرة السلاح "منسحل" بضم الميم وسكون النون وفتح السين وكسر الحاء المهملتين اسم فاعل أي ماض في سيره ومسرع فيه، كأنه جار "وأنت" مبتدأ "صلى عليك الله" جملة معترضة للاهتمام والخبر "تقدمهم" التقدم المعنوي أي المتقدم عليهم الآمر المطاع فيهم لا الحسنى لأنه قدم الكتائب إمامة ولا يصح ولا باعتبار كتيبته صلى الله عليه وسلم لأن الأنصار، كانوا في مقدمة كتيبته، كما مر "في بهو" حال من فاعل تقدمهم "إشراق نور منك مكتمل" بضم الميم الأولى وكسر الثانية، أي تام "ينير" بضم التحتية أي يضيء النور المذكور "فوق أغر الوجه" أبيضه "منتجب" مختار من أصل نجيب كريم.
"متوج" لابس التاج، وهو الإكليل الذي تلبسه الملوك شبه عصابة تزين بالجوهر، والمعنى أنه مجمل "بعزيز النصر" أي النصر العزيز الذي وعده به ربه. "مقتبل" بكسر الموحدة أي مستأنف للخير مستقبل له وفتحها أي مقابل بذلك "يسمو" بتحتية يعلو "أمام" قدام "جنود الله" جمع جند "مرتديا" حال من ضمير يسمو "ثوب الوقار" العظمة مفعول بإسقاط الخافض، والإضافة بيانية أي تجمل بالوقار بحيث أحاط به كما يشمل الثوب لابسه أو من إضافة المشبه به للمشبه أي مرتديا بالوقار الذي هو كالثوب في ستر ما تحته والإحاطة به "لأمر الله" متعلق بقوله "متمثل" أي عامل به جار في فعله، "على مثاله "خشعت" خضعت حسا ومعنى "تحت بهاء" حسن "العز حين سمت" ارتفعت "بك المهابة" الهيبة أي الإجلال والمخافة، "فعل الخاضع" نصب يخشع على أنه مفعول مطلق، والعامل فيه من معناه "الوجل" الخائف تواضعا لربك وشكرا لنعمائه، فقابلت تلك المهابة بما يفعل الخاشع الخائف.
وقد تباشر أملاك السماء بما
…
ملكت إذ نلت منه غاية الأمل
والأرض ترجف من زهو ومن فرق
…
والجو يزهو إشراقا من الجذل
والخيل تختال زهوا في أعنتها
…
والعيس تنثال رهوا في ثنى الجدل
لولا الذي خطت الأقلام من قدر
…
وسابق من قضاء غير ذي حول
أهل ثهلان بالتهليل من طرب
…
..........................
وفي نسخة الخائف الوجل جمع بينهما لاختلاف اللفظ تأكيدا للمعنى قال أبو شامة: وهي أحسن، أي: فعلت في زمان نهاية عزك ما يفعله الخائف الوجل، وأما الخضوع فبمعنى الخشوع فالمعنى عليه خشعت خشوعا كخشوع الخاشع ولا يخفى ما فيه "وقد تباشر أملاك السماء" جمع ملك بشر بعضهم بعضا "بما ملكت" بضم الميم، وكسر اللام مشددة، وبفتحهما وخفة اللام "إذا نلت" حيت أعطيت "منه" العز أو الفتح أو الله "غاية الأمل" نهاية المطلوب.
"والأرض ترجف" بضم الجيم تهتز "من زهو" سرور بهذا الجيش، لإزالته ما كان بها من الفساد، "ومن فرق" فزع من صولته ""والجو" ما تحت السماء من الهواء "يزهر" بفتح الهاء يضيء "إشراقا" مصدر، مؤكد من معنى يزهر أو حال من ضميره فمعناه ذا إشراق "من الجذل" بفتح الجيم، والذال المعجمة السرور والفرح متعلق بإشراقا أو بيزهر.
"والخيل تختال" تتبختر في مشيها "زهوا" كبرا وإعجابا فهو غير معنى الزهو في سابقه، فلا تكرار "في أعنتها" جمع عنان بالكسر سير اللجام.
"والعيس" بكسر فسكون الإبل البيض يخالط بياضها شقرة "تنثال" بفتح الفوقية وسكون النون فمثلثة، فلام تنصب من كل جهة "رهوا" بالراء، كما قال أبو شامة والشامي، في النسخ الصحيحة، أي ذات رهو وهو السير السهل كما فسراه، وقال الطرابلسي أي ساكنة أو متتابعة أو سريعة. انتهى.
وكان المراد بسكونها أنها انصبرت مطمئنة بلا فزع وهو بمعنى السير السهل "في ثنى" بكسر المثلثة وفتح النون كأنه جمع ثني بكسر المثلثة وسكون النون، لأن كل جديل له ثني، إلا أنه جمع لم يسمع فكأنه أجرى المذكر مجرى المؤنث.
وفي بعض النسخ بضم المثلثة وكسرها كحلية وحلي "الجدل" بضمتين جمع جديل وهو الزمام المجدول أي المغفور.
ثني الجدل ما انثنى منها على أعناق الإبل أي انعطف والتوى "لولا الذي خطت" أي خطته "الأقلام" فالعائد محذوف كخبر المبتدأ "من قدر" بيان لها "و" من "ساق من قضاء" بيان لسابق "غير ذي حول" بكسر ففتح انتقال، وتغير لقضاء "أهل" بفتحات واللام ثقيلة أي رفع صوته "ثهلان" بمثلثة "بالتهليل" مصدر هلل إذا قال لا إله إلا الله "من طرب" خفة لشدة سروره.
........................
…
وذاب يذبل تهليلا من الذبل
الملك لله هذا عز من عقدت
…
له النبوة فوق العرش في الأزل
شعبت صدع قريش بعد ما قذفت
…
بهم شعوب شعاب السهل والقلل
قالوا محمد قد زادت كتائبه
…
كالأسد تزأر في أنيابها العصل
فويل......................
…
..........................
"وذاب" سال "يذبل" بفتح التحتية وسكون المعجمة وضم الموحدة واللام "تهليلا" جبنا "من الذبل" بضم المعجمة والموحدة الرماح والمعنى لولا ما سبق من قضاء الله وقدره أن الجماد لا ينطق إلا خرقا للعادة، كتسبيح الحصى في يد المصطفى لرفع ثهلان صوته فهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل جزعا وفرقا من الذوابل "الملك لله" ابتداء كلام من الناظم أو منصوب بقول مقدر، حال من ثهلان "أي قائلا الملك لله "هذا" النصر" المبين.
"عز من عقدت" بالبناء للمفعول أي أظهرت "له النبوة" وأفرغت عليه بالفعل "فوق العرش في الأزل" بفتحتين. القدم متعلق بعقدت وفوق العرش حال منه والمراد به مجرد التعظيم لحديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: "لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". لا أن النبوة موجودة حقيقة فوقه فلا يرد أن الجمع بين وجودها في الأزل الذي هو القدم قبل وجود الأشياء فلا عرش، ثم وبين كونها فوقه تناقض "شعبت" بفتح المعجمة والمهملة وسكون الموحدة، جمعت وأصلحت "صدع" شق "قريش بعدما قذفت" رمت "بهم شعوب" بفتح المعجمة وضم المهملة علم للمنية لا ينصرف من شعب إذا تفرق، لأنها تفرق الجماعات فشعب من الأضداد بمعنى جمع وفرق "شعاب" بالنصب جمع شعب بالكسر الطريق في الجبل ظرف لقذفت، على أن الباء في بهم زائدة أي قذفهم خوف المنية في الشعاب أو مفعول به على معنى أن شعوب قذفت الشعاب بهم كأنهم في يدها كالحجارة في يد القاذف، فرمت بهم شعاب "السهل والقلل،" أي رءوس الجبال جمع قلة، وهي من كل شيء أعلاه إشارة إلى ما حصل لهم بمنه صلى الله عليه وسلم عليهم وعفوه عنهم من الأمن والاجتماع بعدما تفرق بعضهم من بعض، وانهزموا إلى رءوس الجبال وبطون الدور وكثر القتل فيهم بحيث قال أبو سفيان أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم "قالوا" أهل مكة وغيرهم. "محمد" بترك التنوين للضرورة "قد زادت" كثرت كتائبه".
"كالأسد تزأر" بالهمز تصوت "في أنيابها" حال من فاعل تزأر "العصل" بضم العين والصاد المهملتين جمع أعصل كحمر وأحمر فحركت الصاد اتباعا أو ضرورة وهو الناب الشديد المعوج، فشبه الصحابة في الشدة والصولة بالأسد في حال تصويتها "فويل" يعبر بها عن المكروه
..... مكة من آثار وطأته
…
وويل أم قريش من جوى الهبل
فجدت عفو بفضل العفو منك ولم
…
تلمم ولا بأليم اللوم والعذل
أضربت بالصفح صفحا عن طوائلهم
…
طولا أطال مقيل النوم في المقل
رحمت واشج أرحام أتيح لها
…
تحت الوشيج نشيج الروع والوجل
ويدعي بها فيه "مكة" أي فيا ويل أهلها "من آثار وطأته" أرضهم ونكايته فيهم بالقتل والإثخان.
"وويل أم قريش من جوى" بفتح الجيم والواو حرقة وحزن "الهبل" بفتح الهاء، والموحدة، الثكل، أي فقدهم "فجدت عفوا" أي سهلا من غير عناء ولا كد في السؤال "بفضل العفو" أي ترك العقوبة والتجاوز عن الذنب مع قدرتك عليها تركا تاما صدر "منك" بسهولة من غير إكراه ولا مشير به، فمعنى العفو فيهما مختلف "ولم تلمم" من ألممت بالشيء إذا دنوت منه أو نلت منه يسيرا، "ولا بأليم" موجع "اللوم والعذل" بفتح المعجمة وسكونها متقاربان فلما اختلف اللفظ حسم التكرير.
يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يقابل أهل مكة ولا باللوم بل عفا عنهم وصفح.
"أضربت" أعرضت. وتركت "بالصفح" هو ترك المؤاخذة بالذنب مع القدرة عليها، فهو بمعنى العفو "صفحا" مصدر مؤكد لأعرضت معناه أي إعراضا أو حال من فاعل أعرضت بمعنى صافحا "عن" نتائج "طوائلهم" جمع طائلة أي عداوة، ونتائجها الجايات الصادرة منهم "طولا" بفتح الطاء منا وإنعاما وتفضلا. "أطال" هو أي الطول أو الصفح أو الإضراب الدال عليه أضربت "مقيل النوم في المقل" جمع مقلة وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض استعار المقيل وهو النوم أو الاستراحة في الظهيرة للنوم، فشبه حصوله في أعينهم واستقراره بالمقيل بمعنى الاستراحة، وكنى بذلك عن لبثه واستقراره بسبب الصفح والعفو عنهم، وكان قبل ذلك نافرا عنهم بسبب الخوف من القتل والغم من الطرد. "رحمت واشج" بمعجمة وجيم مختلط "أرحام" من أضافة الصفة للموصوف أي: أرحاما مختلطة ومتصلا بعضها ببعض.
"أتيح" بضم أوله وكسر الفوقية وسكون التحتية وبالمهملة قدر وقيض "لها تحت الوشيج" بفتح الواو وكسر المعجمة وبالجيم، ما نبت من القنا والقصب ملتفا. قيل: سميت بذلك؛ لأن عروقها تنبت تحت الأرض وقيل: هي عامة الرماح.
"نشيج" بفتح النون وكسر المعجمة وسكون التحتية وبالجيم بكاء يخالطه شهيق "الروع" الفزع "والوجل" الخوف وهما متقاربان، أو مترادفان، فعطف لاختلاف اللفظ والمعنى أن الذين رحمتهم فأمنتهم قرابتهم شديدة الاتصال بك فراعيت القرابة وأزلت عنهم البكاء والحزن لخوفهم من سطوة جيشك الذي نزل بهم فاشتد روعهم ووجلهم.
عاذوا بظل كريم العفو ذي لطف
…
مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل
أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها
…
وأكرم الناس صفحا عن ذوي الزلل
وطفت بالبيت محبورا وطاف به
…
من كان عنه قبيل الفتح في شغل
والجحفل: الجيش العظيم.
وقذف الأرجاء: أي متباعدها.
واللجب: بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات.
"عاذوا" بمعجمة لجئوا "بظل" ستر نبي "كريم العفو ذي لطف" بفتح اللام، والطاء المهملة، وبالفاء اسم لما يبر به "مبارك الوجه" الذات "بالتوفيق مشتمل" أي حاصل له من جميع جوانبه أي حركاته كلها موفقة.
"أزكى" أكثر وأوسع، وأطهر "الخليقة" الخلائق "أخلاقا" جمع خلق السجية "وأطهرها" عطف مساو وسوغه اختلاف اللفظ، أو هو من زكا الزرع نما أو الرجل تنعم فالعطف مغاير "وأكرم الناس صفحا عن ذوي الزلل" بفتحتين التنحي عن الحق، وفي هذا الوصف زيادة على ما فهم من قوله قبل كريم العفو، لأن هذا اسم تفضيل وبعد هذا البيت في القصيد.
زان الخشوع وقار منه في خفر
…
أرق من خفر العذراء في الكلل
زان من الزينة، والخفر بفتح المعجمة والفاء شدة الحياء والكلل بكسر الكاف جمع كلة بالكسر هي ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البق "وطفت بالبيت" عطف على شعبت "محبورا" مسرورا منعما، "وطاف به من كان عنه قبيل الفتح في شغل" بضم المعجمتين ممنوع من الوصول إليه، وبعد هذا البيت مما يتعلق بالفتح في القصيدة:
والكفر في ظلمات الرجس مرتكس
…
ثاو بمنزلة البهموت من زحل
حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا
…
وملت بالخوف عن خيف وعن ملل
وحل أمن ويمن منك في يمن
…
لما أجابت إلى الإيمان عن عجل
وأصبح الدين قد حفت جوانبه
…
بعزة النصر واستولى على الملل
قد طاع منحرف منهم لمعترف
…
وانقاد منعدل منهم لمعتدل
أحبب بخلة أهل الحق في الخلل
…
وعز دولته الغراء في الدول
"والجحفل الجيش العظيم" الزائد على أربعة آلاف قال في المحكم إن كان فيه خيل، "وقذف الأرجاء أي متباعدها" جمع رجا بالقصر كسبب وأسباب "واللجب بالجيم المفتوحة"، كما في القاموس وغيره فما في نسخة المضمومة خطأ "الضجة من كثرة الأصوات".
والعرمرم: الضخم الكثير العدد.
وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل في سده الأفق، واسوداده بالسلاح.
والمنسحل: بالحاء المهملة الماضي في سيره يتبع بعضه بعضا.
وقوله: في بهو إشراق: شبه النور الذي يغشاه عليه الصلاة والسلام ببهو أحاط به.
والبهو: البناء العالي كالإيوان ونحوه.
والمنتجب: المتخير من أصل نجيب، أي كريم.
والمقتبل: المستقبل الخير.
ولفظ القاموس اللجب محركة الجلبة والصياح "والعرمرم" بفتح العين، والراء المهملتين، وسكون الميم الأولى، والراء المفتوحة "الضخم الكثير العدد، وقوله كزهاء الليل شبهه بالليل في سده الأفق واسوداده بالسلاح" الكثير، "والمنسحل بالحاء المهملة" المكسورة اسم فاعل "الماضي في سيره يتبع بعضه بعضا" يقال انسحلت الناقة انسحالا، أسرعت في سيرها وفي نسخة بدله منسدل ومنسحل أجود في المعنى قاله أبو شامة، "وقوله في بهو إشراق" نور منك مكتمل "شبه النور الذي يغشاه عليه الصلاة والسلام ببهو أحاط به، والبهو البناء العالي كالإيوان ونحوه" فيه أن النور أضيف إليه الإشراق، وللإشراق البهو والمضاف إليه لا يصح أن يشبه بالمضاف مرادا به معناه.
فالمناسب أن يقل شبه جسده الشريف بالبناء المرتفع واستعار له اسمه وأضافه إلى إشراق النور المحيط به ويمكن أنه شبه المحيط به ببناء مرتفع واستعار له اسمه، وأضافه إلى إشراق نور أصحابه الذين حوله، فنوره كالقمر، ونور أصحابه كالنجوم المشرقة مع القمر ويجوز أنه استعار البهو للجيش، وأراد بالنون ما علا ما علاه من البهاء، وإضافة الإشراق إليه من إضافة الصفة للموصوف، والمعنى على هذا وأنت تقدمهم في جيش عظيم كالبناء المرتفع في عدم الوصول إليه وذلك البناء ذو نور مشرق، قاله شيخنا:"والمنتخب المتخير من أصل نجيب أي كريم" والنجيب الكريم ذو الحسب إذا خرج كأبيه في الكرم، ونسبه صلى الله عليه وسلم أزكى الأنساب وأشرفها وفاق هو صلوات الله وسلامه عليه أصوله وغيرهم فوصل إلى ما لا يدانيه غيره فيه.
"والمقتبل المستقبل الخير" على كسر الباء من اقتبل أمره استأنفه واستقبله وبفتحها المقابل بالخير من قولهم رجل قبل الشباب، أي مستأنفه لم ير فيه أثر أكبر لأنه مقابل بالتوجه إليه
وترجف: تهتز. والزهو: الخفة من الطرب، يعني: أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أي كادت تهتز، قال الله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] أي كادت تبلغ.
والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المضفور.
وثني الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أي انعطف.
وثهلان: اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا.
والذبل: الرماح والذوابل وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست.
وتهليلا: أي صياحا، جبنا وفزعا. يعني: لولا ما سبق من تقدير الله تعالى أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق.
لم يتكامل وجوده بعد.
"وترجف تهتز" هز طرب وفرح، "والزهو" في قوله والأرض ترجف من زهو ومن فرق "الخفة من الطرب".
قال الجوهري: الطرب خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور، والمراد هنا الثاني "يعني أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش وفرقا" خوفا وفزعا "من صولته" حملته، وليس المراد اهتزت بالفعل، بل قاربت، "أي كادت تهتز" ولا يعد المتكلم بالمجاز مبالغة كاذبا لوروده في أفصح الكلام "قال الله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي كادت تبلغ لشدة الخوف إذ لو بلغت الفعل لماتوا.
"والجدل" بضم الجيم، والدال المهملة، "جمع جديل وهو الزمام المضفور" الذي أحكم فتله، والزمام ما كان في الأنف والخطام وغيره، "وثني الجدل، ما انثنى على أعناق الإبل، أي انعطف وثهلان" بمثلثة مفتوحة وهاء ساكنة "اسم جبل معروف وأهل رفع صوته" إذ الإهلال رافع الصوت ومنه الإهلال بالحج واستهلال الصبي.
"ويذبل" بوزن ينصر "اسم جبل أيضا والذبل الرماح الذوابل وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت" بفتحات من باب قعد، "أي جفت ويبست" وإذا قطعت كذلك كانت أجود وأصلب، "وتهليلا أي صياحا جبنا وفزعا يعني لولا ما سبق من تقدير الله تعالى أن الجبال لا تنطق" ولا تعقل، "لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق،
وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت.
وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب.
وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أي فرقت، وهو من الأضداد.
والشعاب: الطرق في الجبال.
والسهل: خلاف الجبل.
والقلل: رءوس الجبال. يعني أنه صلى الله عليه وسلم أعفا عنهم بعدما تصدعوا، وتفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل.
وقوله: كالأسد تزأر في أنيابها العصل: أي المعوجة.
ولما فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟
وكان عليه الصلاة والسلام يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال:
وقوله شعبت جمعت وأصلحت وقذفت بهم أي فرقتهم مخافة وشعوب" بوزن رسول "اسم للمنية، لأنها تفرق الجماعات من شعبت أي فرقت، وهو من الأضداد" حيث يستعمل في الجمع والتفريق.
والشعاب" جمع شعب بالكسر فيهما "الطرق في الجبل" وقيل الطريق مطلقا وقدمه المصباح.
"والسهل خلاف الجبل" وهو ما سهل ولان من الأرض.
"والقلل" جمع قلة "رءوس الجبال" أي أعاليها وقلة كل شيء أعلاه "يعني" الناظم بهذا البيت "أنه صلى الله عليه وسلم أغضى عنهم" لأن دأب الحليم الإغضاء "بعدما تصدعوا وتفرقوا، وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل، وقوله كالأسد تزأر في أنيابها العصل أي المعوجة" تفسير للعصل.
"ولما فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار" كما ذكر ابن هشام من مرسل يحيى بن سعيد أنه قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا:"فيما بينهم أترون بهمزة الاستفهام وضم التاء، أي تظنون "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده" إذ ظرفية أو تعليلة أي لفتحها عليه "يقيم بها" أم يرجع إلينا؟ "وكان عليه الصلاة والسلام يدعو" جملة حالية، أي: قالت ذلك في حال دعائه "على الصفا رافعا يديه فلما فرغ من دعائه قال
"ماذا قلتم"؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم:"معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم".
وهم فضالة بن عمير.
"ماذا قلتم"، وكأنه علم أنهم قالوا: بالوحي. "قالوا: لا شيء" قلنا: يؤذيك "يا رسول الله" فإنا لم نلمك على فعل شيء ولا نقصنا قومك "فلم يزل" يتلطف "بهم حتى أخبروه" بما قالوا، فقال صلى الله عليه وسلم:"معاذ الله" " نصب على المصدر حذف فعل وأضيف إلى المفعول أي أعوذ بالله أن أفعل غير ما وعدتكم به من الإقامة عندكم.
"المحيا محياكم"، أي حياتي حياتكم "والممات مماتكم" والإضافة لأدنى ملابسة أي حياتي وموتي لا يكون إلا عندكم، فكلاهما مصدر ميمي، ويجوز جعلهما زمانين أو مكانين، أي مكان حياتي، ومماتي أو زمانهما عندكم، وهذا أوفق بالسياق وهذا المرسل صح بأتم منه في مسلم، وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويذكره ويدعو بما شاء الله أن يدعو والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه فلما قضي الوحي قال: "يا معشر الأنصار"، قالوا: لبيك يا رسول الله. قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته". قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله. قال: "فما اسمي إذًا كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون يقولون: والله يا رسول الله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم:"فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم". الضن: بكسر الضاد المعجمة، وشد النون أي البخل والشح به أن يشركنا فيه أحد غيرنا كما ضبطه الشامي.
ولعله الرواية وإلا ففتحها لغة أيضا، وكان ذلك وقع لطائفتين فبادر بإخبار إحداهما لجزمها وتلطف في سؤال الأخرى لكونها لم تجزم، بل قالت: أترى إلخ.
ويعذرانكم بكسر الذال المعجمة يقبلان عذركم "وهم" بالفتح والتشديد، كما رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم "فضالة" بفتح الفاء "ابن عمير بن الملوح" بضم الميم وفتح اللام والواو المشددة، ثم حاء مهملة، الليثي، الصحابي.
ذكره ابن عبد البر في كتاب الدرر في السير له بهذه القصة ولم يذكره في الاستيعاب وهو على شرطه.
أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضالة"، قال: نعم يا رسول الله! قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك"؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه.
وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت.
وذكر عياض في الشفاء بنحوه كما في الإصابة "أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت" عام الفتح، "فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضالة" قال: نعم" فضالة "يا رسول الله" هكذا ثبت فضالة بن نعم عند ابن هشام راوي هذا الخبر، وهو يفيد أن الهمز للاستفهام لا النداء هكذا نقله عنه اليعمري. وأما الشامي فنقله عنه بلفظ: يا فضالة وهو الذي قوى الشارح على جعلها للنداء. "قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك". قال: لا شيء" أكرهه "كنت أذكر الله فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: "استغفر الله" مما حدثت نفسك به وقولك لا شيء، "ثم وضع يده" المباركة الميمونة "على صدره فسكن قلبه" اطمأن، وثبت فيه الإسلام وحب خير الأنام، "فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري، حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه" هكذا لفظه عند ابن هشام، ونقله عنه كذلك اليعمري، والشامي في نسخة صحيحة يقع في بضع نسخه حتى ما خلق شيء وهو بمعناه إلا أن الكلام في العزو وبقية الخبر عند ابن هشام.
قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا
…
يأبى على الله والإسلم
لو ما رأيت محمدا وقبيله
…
بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا
…
والشرك يغشى وجهه الأظلام
وأنشده بعضهم كما في الإصابة لو ما شهدت بدل رأيت وجنوده بدل قبيله وساطعا بدل بينا، "وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت" بعد أن استقر في خيمته ساعة، واغتسل وعاد للبس السلاح، والمغفر ودعا بالقصواء فأدنيت إلى باب الخيمة، وقد حف به الناس فركبها وسار وأبو بكر معه يحادثه فمر ببنات أبي أحيحة بالبطحاء، وقد نشرن شعورهن يلطمن وجوه الخيب بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر واستنشده قول حسان الماضي يلطمهن بالخمر النساء إلى أن انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، ورجعوا التكبير حتى ارتجت
يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول:"جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقي.
وفي رواية أبي نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.
مكة تكبيرا حتى جعل صلى الله عليه وسلم يشير إليهم أن اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، فطاف بالبيت ومحمد بن مسلمة آخذ بزمام الناقة سبعا يستلم الحجر الأسود كل طرف "يوم الجمعة" على المعروف خلافا لما قدمه المصنف في المولد النبوي أنه يوم الاثنين، وإن جزم به بعض المتأخرين هنا فلا عاضد له "لعشر بقين من رمضان، وكان حول البيت" أي في الجهات المحيطة به وحرف من قال وعلى الكعبة لاقتضائه أنها على سطحها ولفظ الصحيحين وغيرهما وحول البيت "ثلاثمائة وستون صنما".
وفي رواية البخاري، نصب قال الحافظ: بضم النون والمهملة، وقد تسكن فموحدة ما نصب للعادة من دون الله، ويطلق ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام، وليست مرادة هنا، وعلى أعلام الطريق وليست مرادة هنا ولا في الآية، "فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيبه" فعيل بمعنى مفعول وهو الغصن المقضوب أي المقطوع.
وفي البخاري بعود في يده وفي مسلم بسية القوس بكسر المهملة وفتح التحتية المخففة ما عطف من طرفه، وهو يقول:"جاء الحق" الإسلام "وزهق الباطل" بطل الكفر "إن الباطل كان زهوقا" مضمحلا زائلا من زهق روحه إذا خرج وفيه استحباب هذا القول عند إزالة المنكر، كما قال السيوطي "فيقع الصنم لوجهه" أي عليه.
وعند الفاكهي، وصححه ابن حبان، في حديث ابن عمر فيسقط الصنم، ولا يمسه وللفاكهي والطبراني، من حديث ابن عباس لم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة بالأرض قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص.
"رواه البيهقي" عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت فذكره، "و" كذا هو "في رواية أبي نعيم" عنه وزاد "قد ألزقها الشيطان بالرصاص" بفتح الراء. "والنحاس" بضم النون أي حملهم على ذلك فنسب إليه لكونه سببا فيه، وإلا فمعلوم أن الشيطان لم يفعل ذلك، كذا قال شيخنا، وحمله على الحقيقة أولى وإنما أبعد المصنف النجعة لقوله فيقع الصنم لوجهه.
ولزيادة أبي نعيم هذه وإلا فقد روى الشيخان عن ابن مسعود، قال: دخل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل، وما يعيد".
وفي تفسير العلامة ابن النقيب المقدسي: إن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتحه مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول:"وقل جاء الحق وزهق الباطل"، فصار صلى الله عليه وسلم يطعن الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه ويقول:"جاء الحق وزهق الباطل"، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة.
قال: وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال:
"وفي تفسير العلامة" الإمام المفسر "ابن النقيب" جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم "المقدسي" الحنفي قدم مصر وأقام مدة بالجامع الأزهر وصنف بها تفسيرا كبيرا إلى الغاية وكان عابدا زاهدًا أمارا بالمعروف ويتبرك بدعائه وبزيارته. مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة ذكره في العبر "أن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه وفتحه مكة وإعلاء كلمة دينه أمره إذا دخل مكة أن يقول:"وقل جاء الحق" الإسلام أو القرآن "وزهق" اضمحل وتلاشى "الباطل" الكفر، أو الأصنام، أو إبليس "فصار صلى الله عليه وسلم يطعن".
قال الحافظ: بضم العين وفتحها، والأول أشهر "الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الجيم، فنون عصا محنية الرأس وهذا موافق لرواية الصحيحين، فجعل يطعنها بعود في يده.
وظاهر قوله في رواية البيهقي، وأبي نعيم السابقة أشار إليه بقضيبه أنه مجرد إشارة بلا طعن حقيقي، فيمكن التجوز في قوله أشار عن الطعن بالعود دون أن يمسها بيده الشريفة بأن سمى الطعن إشارة لخفته حتى كأنه ليس بطعن حقيقي، ويقول:"جاء الحق وزهق الباطل" ، ولم يأت بلفظ وقل مع أنها من جملة ما أمر بقوله على صلة أما، لأن المراد أن يتلو وقل
…
إلخ.
بدليل ما سيتلى عليك قريبا أنها نزلت يومئذ، وأما لأنها معطوفة على شيء قبله في كلام جبريل كأن يقال أمره أن يقول كذا وكذا ولم يسمعه، وعطف عليه قوله وقل ففهم أن المأمور به جاء الحق دون لفظ، وقل "فيخر" بكسر الخاء يسقط فقوله "ساقطا" تأكيدا أو لدفع توهم أن يراد غير السقوط، لأن خر يستعل لصوت الماء والنائم والمخنق كما في اللغة، "مع أنها كلها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة".
قال الحافظ وغيره: وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئا.
"قال" ابن النقيب: "وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال" في المراد بهما في
قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريج: جاء الجهاد وذهب الشرك وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان.
وقال ابن عباس: وجد صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى فقال: أي رب! حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إليه إني سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ.
الآية، وإلا فالحق كما قال التفتازاني هو الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل "قال قتادة: جاء" الحق، أي "القرآن" وزهق "ذهب" الباطل "الشيطان" إبليس اللعين؛ لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك، "وقال ابن جريج" عبد الملك "جاء الجهاد" أي الأمر به، أو حصل من المسلمين امتثالا للأمر به. "وذهب الشرك" الكفر وتسويلات الشيطان.
"وقال مقاتل: جاءت عبادة الله" في البلد الحرم بإسلام غالب أهله في الفتح، ثم لم يبق قرشي بعد حجة الوداع إلا أسلم كما في الإصابة "وذهبت عبادة الشيطان" وقد روى أبو يعلى، وأبو نعيم، عن ابن عباس لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة فجمعت إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم، ولكن افشوا فيها يعني مكة النوح والشعر.
"وقال ابن عباس وجد "صلى الله عليه وسلم" يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما كانت لقبائل العرب يحجون" يقصدون أي يأتون "إليها وينحرون لها" لتعظيمها.
وعند ابن إسحاق في غير هذا الموضع مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها، "فشكا البيت" بلسان القال على المتبادر الظاهر بأن خلقت له قوة النطق بالشكاية، كنطق الجذع وغيره "إلى الله تعالى، فقال: أي رب حتى متى" إلى أي وقت "تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى الله تعالى إليه" وحي إلهام، كما أوحى إلى النحل "إني سأحدث لك نوبة جديدة" بالنون جماعة، أي دولة من الناس، "يدفون" بضم الدال، يسرعون "إليك دفيف النسور" أي مثل إسراعها فشبه قدوم الناس له بدفيفها بفاءين وهو تحريك جناحيها للطيران، "ويحنون" بكسر الحاء، يشتاقون "إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج" رفع صوت "حولك بالتلبية" الخالصة إلى الله تعالى.
"قال" ابن عباس: "ولما نزلت الآية يوم الفتح، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ
بمخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتي لها صنما صنما ويطعن في عينه أو بطنه بمخصرته ويقول:"جاء الحق وزهق الباطل"، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر. فقال يا علي:"ارم به". فحمله عليه الصلاة والسلام حتى صعد ورمى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى.
بمخصرتك" بكسر الميم قضيبك، كما عبر به في رواية البيهقي المارة، وهو المراد من المحجن والعود "ثم ألقها" أي الأصنام، ولعله أشار إليها حين قال له ذلك إذ هي غير مذكورة في ذي الرواية، "فجعل يأتي لها صنما صنما" أي بعد صنم "ويطعن في عينه أو بطنه" تنويع لا شك وهو حقيقي.
وأما قوله في حديث ابن عمر فيسقط الصنم ولا يمسه فالضمير للمصطفى بدليل رواية من غير أن يمسه بيده لا للعود إذ لا يدله "بمخصرته، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا".
وفي رواية ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس، فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أسد الخزاعي:
وفي الأصنام معتبر وعلم
…
لمن يرجو الثواب أو العقابا
وأفاد في روايته أن ذلك كان وهو طائف، فلما فرغ من طوافه نزل عن راحلته، وعند ابن أبي شيبة عن عمر فما وجدنا مناخا في المسجد حتى أنزل على أيدي الرجال، فأخرج الراحلة فأناخها بالوادي، ثم انتهى صلى الله عليه وسلم إلى المقام وهو لاصق بالكعبة، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم، وقال:"لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوا". فنزع له العباس دلوا، فشرب منه، وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون ويعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط أبلغ من هذا، ولا سمعنا به وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير لأبي سفيان: قد كسر هبل أما إنك قد كنت يوم أحد في غرور حين تزعم أنه أنعم، فقال أبو سفيان: دع عنك هذا يابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان، ثم جلس صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد والناس حوله.
وروى البزار عن أبي هريرة كان صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قاعد وأبو بكر قائم على رأسه بالسيف "وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر" بضم الصاد وكسرها لغة نحاس على شكل القوارير جمع بعضها إلى بعض.
وفي حديث علي وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال:"يا علي ارم به"، "فحمله عليه الصلاة والسلام حتى صعد ورمى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى" كلام ابن النقيب وفي سياقه في هذه القصة الأخيرة اختصار، فقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم
وعن ابن عباس: لما قدم صلى الله عليه وسلم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام، يعني: الأقداح التي كانوا يستقسمون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله، أما والله
عن علي قال: انطلق صلى الله عليه وسلم حتى أتى بي الكعبة، فقال:"اجلس". فجلست إلى جنب الكعبة فصعد على منكبي، ثم قال:"انهض". فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال: "اجلس". فجلست ثم قال: "يا علي اصعد على منكبي". ففعلت، فلما نهض بي خيل لي لو شئت نلت أفق السماء فصعدت فوق الكعبة وتنحى صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألق صنمهم الأكبر"، وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض فقال عليه السلام:"عالجه". ويقول لي: "إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه، وقد أجاد القائل:
يا رب بالقدم التي أوطأتها
…
من قاب قوسين المحل الأعظما
وبحرمة القدم التي جعلت لها
…
كتف المؤيد بالرسالة سلما
ثبت على متن الصراط تكرما
…
قدمي وكن لي منقذا ومسلما
واجعلهما ذخري فمن كانا له
…
ذخرا فليس يخاف قط جهنما
"وعن ابن عباس: لما قدم صلى الله عليه وسلم" مكة "أبى" امتنع "أن يدخل البيت" الحرام "وفيه الآلهة،" أي الأصنام، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهته وكانت تماثيل على صور شتى فامتنع من دخول البيت وهي فيه؛ لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة، وهي لا تدخل بيتا فيه صورة "فأمر بها فأخرجت".
في حديث جابر عند ابن سعد وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلا حتى محيت الصور، فكان عمر هو الذي أخرجها والذي يظهر أنه محا ما كان من الصور مدهونا مثلا وأخرج ما كان مخروطا ذكره في الفتح، "فأخرجوا صورة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام" جمع زلم بضم الزاي، ويقال: بفتحها واللام مفتوحة فيهما وهو السهم، "يعني الأقداح" جمع قدح بالكسر سهم صغير لا ريش له ولا نصل "التي كانوا يستقسمون" يطلبون القسم والحكم "بها" في الخير والشر مكتوب عليها افعل لا تفعل، فإذا أراد أحدهم فعل شيء أخرج واحدا منها، فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قاتلهم الله" أي لعنهم، كما في القاموس وغيره. "أما" بفتح الهمزة، وخفة الميم بعدها ألف حرف استفتاح.
قال الحافظ: كذا رواية بعضهم وللأكثر أم "والله" قال المصنف بحذف الألف للتخفيف
لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط". فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل. رواه الترمذي.
"لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما قط" قال الحافظ: قيل وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون أول من أحدث الاستقسام بها وهو عمرو بن لحي، فكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده ذلك افتراء عليهما. انتهى.
قال الزركشي معنى قط هنا أبدا، ورده الدماميني بأن قط مخصوص باستغراق الماضي من الزمان، وأما أبدا، فيستعمل في المستقبل نحو، لا أفعل أبدًا، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} "فدخل البيت" وظاهر هذا أنها أخرجت قبل دخوله كظاهر قول جابر لم يدخلها حتى محيت الصور.
ووقع عند الواقدي في حديث جابر، وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل صلى الله عليه وسلم رآها فقال:"يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم، فقال:"امسحوا ما فيها من الصور، قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون".
قال في الفتح وفي حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورا فدعا بماء فجعل يمحوها وهو محمول على أنه بقيت بقية خفيت على من محاها أولا.
وقد حكى ابن عائذ عن سعيد بن عبد العزيز أن صورة عيسى وأمه بقيتا حتى رآهما بعض من أسلم من نصارى غسان، فقال: إنكما لبلاد عربية، فلما هدم ابن الزبير البيت ذهبا فلم يبق لهما أثر، وقال عمر بن شبة حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج سأل سليمان بن موسى عطاء أدركت في الكعبة تماثيل؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم في حجرها ابنها عيسى مزوقا وكان ذلك في العمود الأوسط الذي يلي الباب، قال: متى ذهب ذلك، قال: في الحريق، وبه عن ابن جريج أخبرني ابن دينار أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطلس الصورة التي كانت في لبيت، وهذا سند صحيح ومن طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فأمرني فأتيته بماء في دلو، فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصورة، ويقول:"قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". انتهى.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أن المسلمون تجردوا في الأزر وأخذوا الدلاء، وانجروا على زمزم يغسلون الكعبة ظهرها وبطنها فلم يدعو أثرا من المشركين إلا محوه وغسلوه. انتهى، فلعل صورة مريم كان لا يذهبها الغسل "وكبر في نواحيه ولم يصل" وفي حديث بلال أنه صلى ويأتي قريبا الجمع بوجهين في كلام المصنف.
"رواه الترمذي" كذا في النسخ، وما أظنه إلا سبق قلم أراد أن يكتب البخاري فطغى عليه
وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال:"ائتني بالمفتاح"، فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، فأعطته إياه، فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب. رواه مسلم.
وروى الفاكهي من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده.
القلم. فإن البخاري في يد المصنف وقد رواه في مواضع منها وهنا وفي الحج "و" صح "عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح" وللبخاري في الجهاد يوم الفتح من أعلى مكة "على ناقته القصواء" وهو يقرأ سورة الفتح يرجع صوته بالقراءة كما عند الشيخين، وهو مردف أسامة" بن زيد، وللبخاري في الجهاد والمغازي، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، "حتى أناخ بفناء الكعبة ثم" بعدما دخل هو والثلاثة الكعبة وخرجوا كما في رواية الشيخين "دعا عثمان بن طلحة، فقال:"ائتني بالمفتاح". "فذهب إلى أمه" وهي سلافة كما يأتي.
وعند الواقدي أن عثمان أخبر المصطفى أنه عند أمه فبعث إليها فأبت. فقال عثمان: أرسلني أخلصه لك منها فقال: يا أمه ادفعي إليّ المفتاح فإنه صلى الله عليه وسلم أمرني أن آتيه به "فأبت أن تعطيه".
وعند الواقدي، قالت: لا واللات والعزى، لا أدفعه إليك أبدا "فقال": لا لات ولا عزى قد جاء أمر غير ما كنا فيه "والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي".
وفي رواية الواقدي: وإنك إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي فأنت قتلتينا ووالله لتدفعنه أو ليأتين غيري فيأخذه منك؟ فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده هنا؟
وروى عبد الرزاق، والطبراني من جهته من مرسل الزهري فأبطأ عثمان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق ويقول:"ما يحبسه فيسعى إليه رجل"، أي: أفيسعى، وجعلت تقول: إن أخذه منكم لا يعطيكموه أبدا، فلم يزل بها، "فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه ففتح الباب، رواه مسلم" والبخاري، بنحوه لكن قوله فذهب إلى أمه
…
إلخ. من زيادة مسلم فلذا لم يعزه لهما.
قال الحافظ: وظهر من رواية البخاري في المغازي بلفظ: وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل أن فاعل فتح في رواية في مسلم هو عثمان المذكور.
"و" لكن "روى الفاكهي من طريق ضعيفة عن ابن عمر أيضا، قال: كانت بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده"
وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبي، بفتح الحاء المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية.
واسم أم عثمان: سلافة -بضم السين المهملة والتخفيف والفاء.
وفي الطبقات لابن سعد:
ويحتمل الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم لما فتح الضبة بالمفتاح عاونه عثمان، فدفع الباب ففتحه له "وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة" واسمه عبد الله قتل طلحة كافرا يوم أحد.
قاله ابن إسحاق وغيره "ابن عبد العزى" ابن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب العبدري ومن قال كالبيضاوي عثمان بن طلحة ابن عبد الدار نسبه لجده الأعلى للتمييز بين أولاد قصي على عادة أهل النسب فلا يفهم منه أن اسم أبي طلحة عبد الدار كما ظنه من وهم فإنه لم يقله أحد.
وفي التقريب تبعا لغيره واسم جده أي عثمان عبد الله "ويقال له الحجبي بفتح الحاء المهملة والجيم" زاد في الفتح ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة. "ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة" المكي من مسلمة الفتح له صحبة وأحاديث.
روى له البخاري، وأبو داود، وابن ماجه ومات سنة تسع وخمسين "وهو" أي شيبة "ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة" وهجرة.
"ورواية" في مسلم وأبي داود وغيرهما مات سنة اثنتين وأربعين "واسم أم عثمان سلافة بضم السين المهملة والتخفيف" للام "والفاء".
قال في الإصابة: وقال ابن الأثير بالميم، وإنما هي بالفاء بنت سعيد الأنصارية الأوسية، أسلمت بعده ثم هذه العبارة جزم بها المصنف تبعا للفتح في كتاب الحج من أول قوله وعثمان المذكور إلى هنا بلفظه وكأه لم يصح عنده ما حكي أن ولد عثمان لما قدموا من المدينة منعهم ولد شيبة، فشكوا إلى الخليفة المنصور ببغداد فكتب إلى ابن جريج يسأله، فكتب إليه أنه عليه الصلاة والسلام دفع المفتاح إلى عثمان فأدفعه إلى ولده فدفعه فمنعوا ولد شيبة عن الحجابة، فركبوا إلى منصور وأعلموه أن ابن جريج يشهد أنه عليه السلام قال:"خذوها يا بني طلحة". فكتب إلى عامله أن شهد ابن جريج بذلك فأدخلهم، فشهد عند العامل بذلك فجعلها إليهم كلهم.
"وفي الطبقات لابن سعد" الحافظ محمد المشهور قال الخطيب: كان من أهل العلم
عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عني ثم قال:"يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال:"بل عمرت وعزت يومئذ"، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال، فلما كان يوم الفتح قال:"يا عثمان ائتني بالمفتاح". فأتيته به فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ.
والفضل صنف كتابا كبيرا في طبقات الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى وقته فأجاد فيه وأحسن. مات سنة ثلاثين ومائتين، فروى فيها من طريق إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه "عن عثمان بن طلحة" الصحابي المذكور "قال" زاد في رواية الواقدي: لقيني صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام، فقلت: يا محمد العجب لك حيث تطمع أن أتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث، "وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية" أراد بها قبل الفتح لأنه أفاد أن ذلك بعد البعثة وقبل الهجرة، كقول ابن عباس في الصحيح سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسا دهاقا. وابن عباس إنما ولد في الشعب.
"يوم الاثنين، والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس" وذلك بعد بعثته لقوله: "فأغلظت له" عنفته بالكلام.
وفي نقل العيون عن ابن سعد المذكور فغلظت عليه وهو مستعار من التغليظ في اليمين أي شددت عليه القول "ونلت منه فحلم" بضم اللام صفح "عني، ثم قال: "يا عثمان لعل سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". فقلت: لقد هلكت قريش، يومئذ وذلت" يعني أن هذا محال، فإن قريشا ما دامت لا تقدر عليه، قال:"بل عمرت" بفتح الميم وكسرها، ففي القاموس عمر كفرح ونصر وضرب، عمرا وعمارة بقي زمانا، المعنى أن هذا الأمر يحصل وبه حياة قريش في الدارين الحياة الطيبة، "وعزت يومئذ" بدخولها في دين الله، ومجاهدتها في سبيله الملوك الأكاسرة، وتلقيها كتاب الله وأحاديث رسوله بعد ذلها بمزيد الجهل وعبادة حجارة تنحتها بأيديها إذا خلي المرء وعقله لا يرتضيها وفيه علم من أعلام النبوة باهر.
"ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال"؛ لأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة، فإنهم لا يكذبونه، وأسقط من هذا الخبر ما لفظه: فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا "قال فلما كان يوم الفتح"، قال:"يا عثمان ائتني بالمفتاح". فأتيته به من عند أمي بعد امتناعها، على ما مر "فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ".
وقال: "خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف". قال: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه فقال:"ألم يكن الذي قلت لك"؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". قلت:.
وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: "غيبه".
قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح وفي هذه الأحاديث كلها أن الذي طلب منه المفتاح، وأتى به عثمان ودفع إليه ووقع عند ابن أبي شيبة بسند جيد عن أبي السفر لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة دعا شيبة بن عثمان بالمفتاح مفتاح الكعبة فتلكأ، فقال لعمر:"قم فاذهب معه فإن جاء به وإلا فأخله رأسه". فجاء به فوضعه في حجره، ويمكن الجمع بأن أم عثمان لما امتنعت من دفعه حين أرسل يطلبه المصطفى منها فذهب لها ابنها عثمان وأبطأت عليه دعا شيبة فطلبه منه حتى لا يساعد المرأة في المنع فأرسله مع عمرو، قال له هذه المقالة لتذهب عنه حمية الجاهلية فسلمته لعثمان وهو الذي أتى به، ثم دفع إليه ونسب إليه المجيء به في هذه الرواية، لمجيئه مع ابن عمه، وسكوته على ذلك وإلا فما في الصحيح من أن عثمان هو الآتي به أصح، وقال:"خذوها" أي سدنة الكعبة "خالدة تالدة" معنى كل منها مقيمة، كما في القاموس وغيره فالثاني تأكيد للأول حسنه اختلافا للفظ، وقال المحب الطبري لعل تالدة من التالد وهو المال القديم، أي هي لكم من أول الأمر وآخره، واتباعها لخالدة بمعناها "لا ينزعها منكم إلا ظالم".
وفي رواية: "لا يظلمكموها إلا كافر". أي كافر نعمة الفتح العظيم عليه ويحتمل الحقيقة، أي إن استحل. "يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت"، أي: بسبب خدمته على سبيل التبرع والبر "بالمعروف".
قال المحب الطبري: ربما تعلق به الجهال في جواز أخذ الأجر على دخول الكعبة، ولا خلاف في تحريمه وأنه من أشنع البدع، وهذا إن صح احتمل أن معناه ما يأخذونه من بيت المال على خدمته والقيام بمصالحه ولا يحل لهم إلا قدر ما يستحقونه أو ما يقصدون به من البر والصلة، على وجه التبرر فلهم أخذه وذلك أكل بالمعروف، قال الشمس الحطاب المالكي: والمحرم إنما هو نزع المفتاح منهم لا منعهم من انتهاك حرمة البيت وما فيه قلة أدب.
فهذا واجب لا خلاف فيه، لا كما يعتقده الجهلة أنه لا ولاية لأحد عليهم وأنهم يفعلون في البيت ما شاءوا فهذا لا يقوله أحد من المسلمين "قال" عثمان:"فلما وليت نادناني فرجعت إليه، فقال: "ألم يكن الذي قلت لك". فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". قلت: بلى" جواب للنفي أي قد كان ذلك ولم يقل له
بلى أشهد أنك رسول الله.
وفي التفسير: أن هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي. أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية
ذلك ابتداء تأنيسا له وخشية أن يفهم عنه أنه يعنفه، فلما اطمأن بدفعه له وذهابه عاوده فقال: ذلك ليعلمه بالمعجزة الظاهرة ليزداد إيمانا إلى إيمانه، ومن ثم قال:"أشهد أنك رسول الله" فليس ابتداء إيمانه؛ لأنه أسلم وهاجر قبل الفتح كما أسلفه المصنف.
"وفي التفسير" للثعالبي بلا سند "إن هذه الآية" وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} ما ائتمن عليه {إِلَى أَهْلِهَا} خطاب يعم المكلفين، كما قاله ابن عباس عند ابن أبي حاتم وجميع الأمانات، ومن ثم استدل به المالكية على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل وجب رد وديعته وماله إلى أهله. وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب، ثم خرج يجب وفاؤه وعلى حرمة خيانة أسير ائتمن طائعا، واختار ابن جرير ما رواه عن علي وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه، فهي عامة وإن "نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي" نسبة إلى الحجابة، وهي سدانة البيت بسين مكسورة ودال مهملتين فألف فنون فتاء تأنيث خدمته وتولي أمره وفتح بابه وإغلاقه.
"أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فأبى عليه، وأغلق باب البيت، وصعد إلى السطح، وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه،" وهذا وهم كما يأتي، ولعله بفرض صحته
وقع من ابن عمه شيبة؛ لأنه لم يكن أسلم بعد، لكن بعده لا يخفى؛ لأنه لم يمكن من هو أجل منه منع شيء ولا قول شيء يومئذ.
"فلوى علي يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب".
وفي هذا السياق نكارة ومخالفة لما يفهم من حديث الصحيح، أن الذي فتحه عثمان، أو النبي صلى الله عليه وسلم على ما رواه الفاكهي وهو ظاهر رواية مسلم كما مر.
"فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية"
والسدانة، فأنزل الله هذه الآية. فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه، فقال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال علي: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان.
وهي أحواض من أدم، ويوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، وقد يطرح فيه التمر والزبيب.
فعل ذلك عبد المطلب لما حفر زمزم، وقام بها بعد العباس، فلما كان يوم الفتح، قال الواقدي عن شيوخه.
قبض الله صلى الله عليه وسلم السقاية منه، ومفتاح البيت من عثمان، فسأله العباس أن يجمع له بين السقاية. "والسدانة فأنزل الله هذه الآية".
وهكذا روى عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة، أن السائل العباس، وفي رواية ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، أنه علي ولفظه: ثم جلس، أي بعد الخطبة، صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي ومفتاح البيت في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، والجمع بينهما أنه سأل لعمه لا لنفسه، "فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان، ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه".
واعتذر صلى الله عليه وسلم كما روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة، أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي:"يومئذ إنما أعطيكم ما ترزءون، ولم أعطكم ما ترزءون" يقول: أعطيكم السقاية لأنكم تغرمون فيها، ولم أعطكم البيت.
قال عبد الرزاق أي أنهم يأخذون من هديته.
"فقال" عثمان لعلي "أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفق؟ فقال علي: لقد أنزل اله تعالى في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن محمدًا رسول الله".
قال في الإصابة كذا وقع في تفسير الثعلبي بلا سند، أنه أسلم يوم الفتح بعد أن دفع له المفتاح، وهو منكر، والمعروف أنه أسلم وهاجر مع عمرو بن العاصي وخالد بن الوليد، وبه جزم غير واحد. انتهى، وفيه نكارة أيضا من جهة أن الذي دفع له المفتاح علي، والذي تظافرت به الآثار أن الذي دفعه له المصطفى، وأصرحها حديث جبير بن مطعم، أنه صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له:"غيبه". وحديث الواقدي عن شيوخه، أنه أعطاه المفتاح ورسول الله مطبع بثوبه عليه، وقال:"غيبوه، إن الله تعالى رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام".
"فجاء جبريل عليه السلام، فقال ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان" بن أبي طلحة: لا عثمان بن طلحة، لما قدمه المصنف قريبا تبعا للفتح
فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولاده إلى يوم القيامة.
قال ابن ظفر في "ينبوع الحياة" قوله: "لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه" هذا وهم؛ لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا.
وعن الكلبي: لما طلب عليه الصلاة والسلام المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه فنزلت الآية.
أن عثمان هذا لا ولد له، "فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة،" مر أيضا أنه ابن عمه ويحتمل تصحيحه بما مر أنه قال لأمه: إن لم تدفعي المفتاح قتلت أنا وأخي.
لكن لم يسم، فيكون اسمه شيبة على ما يفيده هذا الخبر ويكون أعطاه له أخوه فمات ولم يعقب أيضا فأخذه ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، "فالمفتاح والسدانة في أولاده إلى يوم القيامة".
ولذا عرفوا بالشيبيين، ويحتمل أنه المراد الأخوة في سدانة البيت، وبالجملة فهذا الحديث منكر من جهات عديدة، ومن ثم "قال" محمد "بن ظفر"، بفتح الظاء المعجمة والفاء وبالراء " في ينبوع الحياة" اسم تفسيره، "قوله لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه، هذا وهم لأنه كان ممن أسلم" وهاجر قبل الفتح في صفر سنة ثمان، وقيل سنة سبع، وقيل سنة خمس، كما قدم المصنف وقدمت عن الإصابة أن الثالث وهم.
"فلو قال هذا كان مرتدا" إلا أن يقال: هذا وقع من غيره ممن لم يسلم حينئذ من أهله، فنسب إليه مجازا، وبعده لا يخفى.
"وعن الكلبي" محمد بن السائب، فيما رواه ابن مردويه عنه عن أبي صالح عن ابن عباس قال:"لما طلب عليه الصلاة والسلام المفتاح من عثمان، مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله، اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت يا عثمان تؤمن بالله واليوم الآخر فهاته". بكسر التاء فعل أمر وهذا صريح في أنه كان آمن كما هو المعروف؛ لأنه لو كان لم يؤمن لم يقل له ذلك.
"فقال: هاكه" اسم فعل بمعنى خذه "بالأمانة" أي ملتبسا بها، أي خذه أمانة على أن ترده إليّ، لأن كل شيء اليوم بعدك، وتحت قدمك، ولفظ ابن مردويه فقال: هاكه بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة "فأعطاه إياه فنزلت الآية".
قال بن ظفر: وهذا أولى بالقبول.
ولفظ ابن مردويه ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، حتى فرغ من الآية.
"قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقبول" من الخبر السابق.
وروى الأزرقي وغيره عن مجاهد: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ عليه الصلاة والسلام منه مفتاح الكعبة ودخلها يوم الفتح، فخرج وهو يتلوها، فدعا عثمان، فدفعه إليه، وقال:"خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينزعها منكم إلا ظالم".
قال: وقال عمر: لما خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة، خرج وهو يتلو هذه الآية، ما سمعته يتلوها قبل ذلك، قال السيوطي: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. انتهى.
وروى الأزرقي أيضا نحوه من مرسل بن المسيب وقال: في آخره: "خذوها خالدة تالدة، لا يظلمكموها إلا كافر".
وروى ابن عائذ وابن أبي شيبة من مرسل عبد الرحمن بن سابط، أنه صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إلى عثمان، فقال:"خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم ولا ينزعها منكم إلا ظالم".
وروى عبد الرزاق والطبراني من طريقه من مرسل الزهري: أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من البيت قال علي: إنا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة ما قوم بأعظم نصيبا منا، فكره صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه.
وعند ابن إسحاق عن بعض أهل العلم فقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء". وفي هذه الأخبار كلها دليل على بقاء عقبهم إلى الآن.
قال العلامة الشمس الحطاب المالكي: ولا التفات إلى قول بعض المؤرخين أن عقبهم انقطع في خلافة هشام بن عبد الملك، فإنه غلط لقول مالك: لا يشرك مع الحجبة في الخزانة أحد لأنها ولاية منه صلى الله عليه وسلم ومالك ولد بعد هشام بنحو عشرين سنة.
وذكر ابن حزم وابن عبد البر جماعة منهم في زمانهم، وعاشا إلى بعد نصف المائة الخامسة.
وكذا ذكر العلامة القلقشندي، وعاش إلى إحدى وعشرين وثمانمائة، ولا دلالة لزاعم انقراضه، في إخدام معاوية الكعبة عبيدا لأن إخدامها غير ولاية فتحها، كما هو معلوم، وكثيرا ما يقع في كلام المؤرخين كالأزرقي والفاكهي ذكر الحجبة، ثم الخدمة، بما يدل على التغاير بينهم. انتهى ملخصا.
وفي رواية لمسلم: دخل عليه الصلاة والسلام هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين، وذهب عني أسأله: كم صلى؟
"وفي رواية لمسلم" وكذا للبخاري، ولا وجه لقصر العز وكلاهما من حديث ابن عمر:"دخل عليه الصلاة والسلام" الكعبة عام الفتح، "هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي" زاد مسلم من طريق أخرى ولم يدخلها معهم أحد، ووقع عند النسائي وأحمد زيادة، والفضل بن عباس، "فأغلقوا عليهم الباب".
زاد أبو عوانة من داخل، وفي الموطأ فأغلقاها عليه، الضمير لعثمان وبلال ولمسلم، فأجاف عليهم الباب. والجمع أن عثمان هو المباشر لذلك، لأنه من وظيفته، ولعل بلالا ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل في الآمر بذلك والراضي به، وفي رواية فمكث نهارا طويلا، وأخرى زمانا بدل نهارا، وأخرى فأطال، وكلها في البخاري ولمسلم فمكث فيها مليا، وله أيضا فأجافوا عليهم الباب، وله أيضا فمكث فيها ساعة، "قال ابن عمر" راوي الحديث:"فلما فتحوا كنت أول من ولج".
"دخل" وفي رواية، ثم خرج فابتدر الناس الدخول، فسبقتهم.
وفي أخرى: وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس، فبدرتهم.
وأخرى: كنت أول الناس ولج على أثره.
وأخرى وأجد بلالا قائما بين البابين. وكلها في البخاري.
"فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم بين العمودين اليمانيين" بخفة الياء، لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النسب.
وجوز سيبويه التشديد، والمحفوظ أنه سأل بلالا كما رواه الجمهور، ولمسلم في رواية أنه سأل بلالا أو عثمان بالشك، ولأبي عوانة والبزار أنه سأل بلالا وأسامة، ولأحمد والطبراني عن ابن عمر أخبرني أسامة أنه صلى فيه ههنا، ولمسلم والطبراني فقلت: أين صلى؟ فقالوا، فإن كان محفوظا، حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل عثمان وأسامة أيضا.
ويؤيده رواية مسلم أيضا: ونسيت أن أسألهم كم صلى بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم رواية مسلم.
وكأنه لم يقف على بقية الروايات، "وذهب" غاب "عني أسأله: كم صلى؟ " أي نسيت
وفي إحدى روايات البخاري:
سؤاله عن عدد صلاته.
وللبخاري: فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة أي ركعة، ولذا استشكل الإسماعيلي وغيره ما وقع في الصحيح، من رواية مجاهد عن ابن عمر، فسألت بلالا: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين؛ لأن المشهور عن ابن عمر من رواية نافع وغيره: أنه نسي أن يسأل عن كمية الصلاة، والجواب باحتمال أن ابن عمر اعتمد على القدر المحقق؛ لأن بلالا أثبت له الصلاة، ولم ينقل تنفله عليه الصلاة والسلام نهارا بأقل من ركعتين، فتحقق فعل الركعتين لما استقرئ من عادته، فعلى هذا قوله ركعتين من كلام ابن عمر لا بلال، وقوله: نسيت أن أسأله كم صلى؟ أي لم يتحقق أزاد على الركعتين أم لا؟ ويؤيد هذا ويستفاد منه جمع آخر ما رواه عمر بن شبة من طريق آخر، عن ابن عمر بلفظ: فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع صلى الله عليه وسلم ههنا؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى، فعلى هذا يحمل على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا، وإنما استفاد منه صلاة ركعتين بإشارته، لا بنطقه.
ونقل عياض أن قوله: ركعتين غلط من يحيى بن سعيد لقول ابن عمر: نسيت إلى آخره، وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين مردود، والمغلط هو الغالط، فإنه ذكر الركعتين قبل وبعد، فلم يهم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بذلك حتى يغلط، بل تابعه أربعة من الحفاظ عن شيخه، وتابع شيخه اثنان عن مجاهد، ثم قد ورد ذلك عن عثمان بن طلحة عند أحمد والطبراني، بإسناد قوي، وعن أبي هريرة عند البزار، وعبد الرحمن بن صفوان في الطباني بإسناد صحيح، وعن شيبة بن عثمان عند الطبراني بإسناد جيد، قال: لقد صلى ركعتين عند العمودين.
وفي هذا الحديث من الفوائد رواية الصحابي عن الصحابي وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء، به والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضا خبر واحد، فكيف يحتج للشيء بنفسه، لأنا نقول: هو فرد ينضم إلى نظائر مثله توجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، والسؤال عن العلم والحرص فيه، وفضل ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثاره صلى الله عليه وسلم، ليعمل بها، وأن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عنه صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة، ويحضره من هو دونه، فيطلع على ما لم يطلع عليه؛ لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك. انتهى من فتح الباري كله ملخصا.
"وفي إحدى روايات البخاري" في كتاب الصلاة حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، فذكر الحديث، وفيه فسألت بلالا حين خرج: ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟
جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه.
وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله في الرواية الأخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل؛ لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخاري برواية إسماعيل بن أبي أويس التي قال فيها: عمودين عن يمينه.
ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار بعد ذلك، ويرشد إليه قوله: وكان البيت يومئذ. لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى.
ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث.
قال: "وجعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه" بإفراد عمود.
فيهما كما هو الثابت في البخاري، "وثلاثة أعمدة وراءه، وليس بين الروايتين" رواية مالك هذه ورواية جويرية عن نافع المروية في البخاري قبلها بلفظ: صلى بين العمودين المقدمين، وبمعناها الرواية التي ساقها المصنف فوقها: بين العمودين اليمانيين، وهي في البخاري من رواية الزهري عن سالم عن أبيه، "مخالفة" فإن معنى البينية جعل واحدا عن يساره وآخر عن يمينه.
"لكن قوله في الرواية الأخرى" التي هي رواية مالك، كان اللائق للمصنف أن يقول في بقية هذه الرواية:"وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره، كان اثنين" فينافي قوله: في أولها عمود عن يساره وعمود عن يمينه بإفراد عمود فيهما، "ولهذا عقبه البخاري برواية" شيخه "إسماعيل بن أبي أويس" عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك الأصبحي المدني الصدوق، المتوفى سنة ست وعشرين مائتين، "التي قال فيها" البخاري ما لفظه، وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك فقال: "عمودين عن يمينه" وعمودا عن يساره.
"ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك" حيث هدم وبني في زمن ابن الزبير، "ويرشد إليه" أي الجمع المذكور "قوله: وكان البيت يومئذ، لأن فيه إشعارًا بأنه تغير عن هيئته الأولى".
وقال الكرماني لفظ العمود جنس يحتمل الواحد الاثنين، فهو مجمل بينته رواية عمودين، "ويحتمل أن يقال لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث
على غير سمتهما، ولفظ "المقدمين" في إحدى روايات البخاري مشعر به.
وفي رواية لمسلم: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعي، وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما.
وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث.
على غير سمتهما".
"ولفظ" رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر، فسألت بلالا: أين صلى؟ قال: صلى بين العمودين "المقدمين".
وللكشميهني: المتقدمين بتاء قبل القاف، وأيا ما كان فهو مثنى، صفة للعمودين لا جمع صفة للرجال كما توهم، "في إحدى روايات البخاري" التي علمتها "مشعر به"، قال الحافظ ويؤيده أيضا رواية مجاهد عن ابن عمر، عند البخاري أيضا بلفظ بين الساريتين اللتين عن يسار الداخل، وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه ثم عمود آخر على اليمين، لكنه بعيد، أو على غير سمت العمودين، فيصح قول من قال: جعل عن يمينه عمودين.
وقول من قال: جعل عمودا عن يمينه.
وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة، فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه.
ومن قال عمودين اعتبره "في رواية لمسلم" عن يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك به، وقال "جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه عكس رواية إسماعيل" المذكور.
"وكذلك قال" الإمام "الشافعي" في روايته عن مالك "وبشر بن عمر" بن الحكم الزهراني الأزدي، أبو محمد البصري، الثقة، الصدوق، الحافظ، أحد الرواة عن مالك، مات أول سنة سبع ومائتين "في إحدى الروايتين عنهما" عن مالك "وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج" بفتح الميم وسكون المعجمة، أي موضع خروج "الحديث" وهو ابن عمر.
وجزم البيهقي بترجيح روية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح الباري.
قال الحافظ: "و" قد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، "وجزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها" عبد الرحمن "بن القاسم" بن خالد بن جفادة العتقي، أبو عبد الله المصري، الثقة، الفقيه، المشهور.
"و" عبد الله بن مسلمة، بن قعنب "القعنبي"، بفتح القاف والنون بينهما مهملة ساكنة آخره موحدة، نسبة إلى جده المذكور البصري، المدني الأصل، وسكنها مدة، الثقة، العابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحدًا، أسمعه مالك نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي، مات بمكة سنة إحدى وعشرين ومائتين، "وأبو مصعب" أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، الحافظ، الصدوق، الفقيه، شيخ الجماعة، سوى النسائي، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وقد زاد على التسعين.
"ومحمد بن الحسن" الشيباني، مولاهم الكوفي، صاحب أبي حنيفة أحد رواة الموطأ وكان من بحور العلم والفقه، وسمع الثوري والأوزاعي ومالكا وغيرهم، ومات سنة تسع وثمانين ومائة.
"وأبو حذافة" أحمد بن إسماعيل بن محمد السهمي، سماعه للموطأ صحيح، وخلط في غيره، مات سنة تسع وخمسين ومائتين.
"وكذلك الشافعي" الإمام المعروف، حفظ الموطأ وهو ابن عشر، بمكة في تسع ليال، وقيل: في ثلاث، ثم رحل، فأخذه عن مالك، كما في ديباج ابن فرحون "و" عبد الرحمن "بن مهدي" بن حبان، أبو سعيد البصري، اللؤلؤي، الحافظ، روى عن شعبة ومالك والسفيانين والحمادين وخلق، وعنه خلائق منهم: ابن وهب وابن المبارك وابن المديني، وقال: كان أعلم الناس.
والإمام أحمد قال: إذا حدث ابن مهدي عن رجل، فهو حجة مات بالبصرة سنة ثمان وتسعين ومائة عن ثلاث وستين سنة.
"في إحدى الروايتين عنهما"، عن مالك "انتهى ملخصا من فتح الباري" في باب الصلاة، بين السواري من كتاب الصلاة "و" قال فيه: في كتاب الحج وقع في رواية للبخاري في
وقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدارقطني في الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وفي كتاب مكة للأزرقي، والفاكهي: أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه.
المغازي، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره، وقال: في آخره وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء، وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبنى في زمن ابن الزبير، فأما الآن فإنه، "قد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع" عن ابن عمر، عند البخاري "أن بين موقفه، صلى الله عليه وسلم، وبين الجدار الذي استقبله، قريبا من ثلاثة أذرع".
ولفظ البخاري عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا دخل الكعبة، مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر يمشي حتى يكون ما بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه، قريبا من ثلاثة أذرع، فيصلي متوخيا المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، "وجزم برفع هذه الزيادة" التي وقفها موسى بن عقبة، "مالك عن نافع" عن ابن عمر، "فيما أخرجه الدارقطني في الغرائب" من طريق ابن مهدي، وابن وهب وغيرهما، وأبو داود من طريق ابن مهدي كلهم عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، "ولفظه صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع"، وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن سعد، عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك، بلفظ نحو من ثلاثة أذرع وهي موافقة لرواية ابن عقبة، "وفي كتاب" تاريخ "مكة للأزرقي" نسبة إلى جده الأعلى، فهو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني أبو الوليد، "والفاكهي" من وجه آخر، "أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك" أي: موضع صلاة المصطفى في البيت، "أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه
صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من ثلاثة أذرع، والله أعلم.
وفي رواية عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت دعا في نواحيه كله ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين وقال:"هذه القبلة".
صلى الله عليه وسلم، إن كانت ثلاثة" أذرع، "سواء أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه، إن كان" المحل "أقل من ثلاثة أذرع، والله أعلم" بحقيقة الموضع الذي صلى فيه، وفيه استحباب الصلاة في الكعبة، وهو ظاهر في النفل وألحق الجمهور به الفرض إذ لا فرق وعن ابن عباس: لا تصح الصلاة داخله مطلقا، وعلله بلزوم واستدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها، وقال به بعض المالكية والظاهرية وابن جرير، وقال المازري والمشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة.
وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصححه ابن عبد البر وابن العربي، وأطلق الترمذي عن مالك جواز النقل وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب، ومن المشكل ما نقله النووي في زوائد الروضة، أن صلاة الفرض داخل الكعبة، إن لم يرج جماعة أفضل منها خارجها.
ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق عليه.
انتهى من الفتح جميعه بما ساقه المصنف، فلله در مالك ما أدق نظره حيث استحب النفل داخلها؛ لأنه الواقع منه، صلى الله عليه وسلم، ومنع الفرض لورود الأمر باستقبالها، فخص منه النفل بالسنة فلا يقاس عليه، "وفي رواية عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة، أنه عليه الصلاة والسلام، لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها" جمع ناحية وهي الجهة "ولم يصل فيه حتى خرج" منه، "فلما خرج ركع في قبل البيت".
قال الحافظ بضم القاف والموحدة وقد تسن أي مقابله أو ما استقبلك منه، وهو وجهه، وهذا موافق لقول ابن عمر عند الشيخين، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة "ركعتين، وقال: هذه القبلة" الإشارة إلى الكعبة، قيل: المراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزما بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أمرتكم باستقباله، ليس هو الحرم كله ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها، أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي هذا موقف الإمام ويؤيده ما رواه البزار من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول: "أيها الناس إن
رواه مسلم.
والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة كما رواه أحمد والطبراني. بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسؤال ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا.
قال النووي: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء.
الباب قبلة البيت، وهو محمول على البيت لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته" انتهى.
"رواه مسلم" ورواه البخاري عن ابن عباس، لما دخل البيت، ولم يقل: أخبرني أسامة، فلذا عزاه لمسلم، "والجمع بينه" أي بين حديث ابن عباس عن أسامة نفي الصلاة، "وبين حديث ابن عمر أن أسامة أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، كما رواه أحمد والطبراني"، وخبر الجمع قوله: "بأن أسامة حيث أثبتها" كما في رواية ابن عمر عنه، "اعتمد في ذلك على غيره" لا على رؤيته، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره حين صلى، و"الجمع بين رواية: أنه سأل بلالا، ورواية: أنه سأل أسامة، "بكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسؤل"، فأخبره، "ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا"، فلا معارضة بين الروايات.
"قال النووي: قد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال" الصلاة في الكعبة، "لأنه مثبت فمعه زيادة علم" لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى "فوجب ترجيحه" لهذين الوجهين على القاعدة، "وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، فاشتغل أسامة" بالداء "في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء".
وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى.
وتعقبوه بما يطول ذكره، وأقرب ما قيل في الجمع: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول:"قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". ورجاله ثقات.
زاد الحافظ، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة، مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة، "وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام خفيفة" جواب عما يقال اشتغاله لا يمنع "فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى" كلام النووي.
"وتعقبوه بما يطول ذكره" لكن قد أقره الحافظ وغيره، "وأقرب ما قيل في الجمع" قول المحب الطبري، يحتمل "أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة لأمر ندبه" حثه ووجه "إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبت بلال الصلاة لرؤيته لها، ونفاها أسامة لعدم رؤيته لها، ويؤيده" كما قال الحافظ: "ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد، قال: دخلت على رسول الله، في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به"، فظاهر هذا أنه حين دخوله، رآه غير مصل، فأرسله ليأتي بالماء فصلى إذ ذاك فلم يره، فجعل يمحوها ويقول:"قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون".
وظاهر هذا أنه محاها بيده، وعند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس، ثم أمر بثوب فبل ومحا به صورهما، أي إبراهيم وإسماعيل، ثم دعا بزعفران فلطخ تلك التماثيل، وقد مر عن الفتح حمل حديث أسامة هذا ونحوه على أنه بقيت منه بقية، خفيت عمن محاها أولا، فلا ينافي ما رواه أبو داود وغيره أنه، صلى الله عليه وسلم أمر عمر وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور ومر مزيد حسن لذلك قريبا، "ورجاله ثقات" نحوه، قول الحافظ: هذا إسناد جيد.
قال القرطبي: فلعل أسامة استصحب النفي بسرعة عوده، قال الحافظ: وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر ومنهم من جمع بين الحديثين من غير ترجيح أحدهما على
وأفاد الأزرقي -في تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه صلى الله عليه وسلم الناس.
الآخر، إما بحمل الصلاة المثتبة على اللغوية، والمنفية على الشرعية ويرده أن تعيين قدر الصلاة في بعض طرقه، يعين الشرعية، لا الدعاء، وإما بحمل الإثبات على التطوع، والنفي على الفرض، قال القرطبي على طريقه المشهور من مذهب مالك، أو أنه دخل البيت مرتين، صلى في إحداهما، ولم يصل في الأخرى، قاله المهلب.
وقال ابن حبان الأشبه أنه، لما دخل في الفتح صلى، ولما حج دخلها ولم يصل، ورده النووي بأنه لا خلاف أنه دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان، عن غير واحد من أهل العلم، أنه، صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أنه دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد، بالوحدة التي في خبر ابن عيينة، وحدة السفر لا الدخول، وعند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. انتهى ملخصا.
"وأفاد الأزرقي في تاريخ مكة، أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب" بضم المعجمة يمنع "عنه، صلى الله عليه وسلم الناس" وهو في داخل الكعبة، قال الحافظ: وكأن خالدا جاء بعدما دخل، صلى الله عليه وسلم انتهى.
قال الواقدي: ثم خرج والمفتاح في يده، ثم جعله في كمه، وخالد يذب الناس حتى خرج، فقال على باب البيت، فخطب.
وروى أبو يعلى عن ابن عباس، والبيهقي عن ابن إسحاق، وعروة وابن أبي شيبة عن أبي سلمة، وغيرهم أنه، صلى الله عليه وسلم لما حانت الظهر أمر بلالا أن يؤذن فوق الكعبة، ليغيظ المشركين وقريش فوق رؤوس الجبال، وقد فر جماعة من وجوههم وتغيبوا، وأبو سفيان وعتاب وخالد ابنا أسيد، والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة، وأسلموا بعد.
فقال عتاب وخالد: لقد كرم الله أسيدا أن لا يسمع هذا فيغيظه، وقال الحرث: أما والله لو أعلم أنه محق، لاتبعته، إن يكن الله يكره هذا، فسيغيره.
وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.
وقال بعض بني سعيد بن العاصي: لقد أكرم الله سعيدا أن قبضه، قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال الحكم بن أبي العاصي: هذا والل الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح على
وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمسة عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة. وفي رواية أبي داود: سبع عشرة. وعند الترمذي: ثمان عشرة.
بنية أبي طلحة، فأتى جبريل فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم فخرج عليهم وقال: قد علمت الذي قلتم وأخبرهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك.
وروى ابن سعد والحارث بن أبي أسامة وابن عساكر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: خرج صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال في نفسه: ما أدري بم يغلبنا محمد؟ فأتاه صلى الله عليه وسلم، فضرب صدره، وقال:"بالله نغلبك". فقال: أشهد أنك رسول الله.
وروى الحاكم وتلميذه البيهقي عن ابن عباس، وابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي قالا: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه، فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، وجمعت له جمعا، فجاء عليه السلام حتى ضرب في صدره فقال:"إذن يخزيك". فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله ما أيقنت أنك نبي إلا الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك.
"وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمس عشرة ليلة" هذا غلط فإنما وقع هذا في رواية لأبي داود، وضعفه النووي كما يأتي، فلو كانت في البخاري، ما وسعه تضعيفها والذي في البخاري هنا وقبله في أبواب التقصير من طريق عاصم عن عكرمة، عن ابن عباس: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين، قال المصنف: بتقديم الفوقية على السين.
"وفي رواية" له أيضا هنا عن ابن عباس: أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في سفره "تسع عشرة ليلة" نقصر الصلاة فأفادت أن الأيام في الرواية التي فوقها بلياليها، كما قاله في الفتح، "وفي رواية أبي داود" من هذا الوجه وغيره بلفظ "سبع عشرة" بتقديم السين قال أبو داود وقال عباد بن منصور عن عكرمة تسع عشرة كذا عقله وقد وصلها البيهقي.
"وعند الترمذي ثمان عشرة" ورواه أبو داود من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن
وفي الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة.
وقال الفاسي.
قال: سبع عشرة، حذفهما ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما، وأما رواية خمس عشرة، فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك، عن عبيد الله كذلك وإذا ثبت أنها صحيحة، فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى من فتح الباري.
"وفي الإكليل" للحاكم "أصحها بضع عشرة" لعله من حيث صدقها بالجميع، وإلا فأصحها إسنادا تسع عشرة، كما علم.
"يقصر الصلاة" بضم الصاد، وضبطه المنذري بضم الياء وشد الصاد من التقصير؛ لأنه عليه السلام لم ينو الإقامة، بل قصده متى تهيأ له فراغ حاجته رحل، وروى البخاري هنا في باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح قبل هذا الحديث عن أنس، أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا نقصر الصلاة، وكذا رواه في أبواب التقصير، قال الحافظ: ولا معارضة بينهما، فحديث ابن عباس في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، وقول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن عشرة داخلة في تسع عشرة، فيه نظر لأنه إنما يجيء على اتحاد القصتين، الحق أنهما مختلفتان.
انتهى باختصار منه في التقصير.
وقال في هذا الباب: ظاهر الحديثين التعارض، والذي أعتقده أن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع؛ لأنها السفرة التي أقام فيها بمكة عشرا، لدخوله يوم الرابع وخروجه يوم الرابع عشر، ولعل البخاري أدخله في هذا الباب، إشارة إلى ما ذكرت، ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان، ويؤيده رواية الإسماعيلي والبخاري في باب قصر الصلاة بلفظ: فأقام بها عشرا يقصر الصلاة حتى رجع إلى المدينة، فإن مدة إقامتهم في سفرة الفتح حتى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يوما. انتهى.
"وقال الفاسي" القاضي تقي الدين محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن المكي الشريف، أبو الطيب الحافظ، ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة، ورحل وبرع ودرس وأفتى