المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سرية القرطاء وحديث ثمامة - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌سرية القرطاء وحديث ثمامة

وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى ذلك وفد عبد القيس في المقصد الثاني وفي ذكر حجه عليه الصلاة والسلام من مقصد عباداته.

أميرا على الحج تلك السنة، وهو أول أمراء الحج، وقيل: سنة تسع، وقيل: عشر، "وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في ذكر وفد عبد القيس من المقصد الثاني" والكلام الذي ذكره فيه في تعلق الحج قليل؛ لأنه قوع استطرادا، "وفي ذكر حجه عليه الصلاة والسلام من مقصد عباداته" وهو التاسع وأشبع ثم الكلام عليه.

ص: 101

"‌

‌سرية القرطاء وحديث ثمامة

":

ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرمطاء، بطن من بني بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضرية بالبكرات

سرية القرطاء وحديث ثمامة:

"ثم سرية محمد بن مسلمة" الأنصاري، الأشهلي أكبر من اسمه محمد من الصحابة، وكان من الفضلاء، مات بعد الأربعين "إلى القرمطاء" بضم القاف، وسكون الراء وبالطاء المهملة، أي: والمد على القياس، وهم قرط بضم فسكون، وقريط بفتح الراء، وقريط بكسرها بنو عبد بغير، إضافة كما ضبطه البرهان، وتبعه الشامي، فمن قال القرطاء بفتح القاف، كأنه اشتبه عليه، أو سبقه القلم، وكذا من ضبطه بضم القاف، وفتح الراء اشتبه عليه الجمع بالمفرد "بطن من بني بكر،" واسمه عبيد بن كلاب من قيس عيلان، بعين مهملة وسكون التحتية.

ذكره أبو محمد الرشاطي، وبطن بدل من القرمطاء، وكان الأولى أن يقول بطون؛ لأنهم إخوة كما علمت، وفي القاموس: القرط بالضم من بني كلاب، وهم أخوة قرط، كقفل وقريط، كزبير وقريط كأمير، فلعل المصنف أراد طائفة، "وهم" أي: القرطاء "ينزلون بناحية ضرية".

قال البرهان: بفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء، ثم تحتية مفتوحة مشددة، ثم تاء تأنيث.

قال في الصحاح: قرية لبني كلاب على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، "بالبكرات" بفتح الموحدة، وسكون القاف، فراء فألف ففوقية، جمع بكرة.

قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من كتب المغازي.

قال الصغاني: البكرة ماء لبني ذؤيب من الضباب، وعندها جبال شمخ يقال لها البكرات والبكران، يعني بلفظ التثنية موضع بناحية ضرية، وتبعه في المرصد.

قال في النور: ولعل ما في العيون بلفظ التثنية، وتصحف على الناسخ، فذكره بلفظ الجمع، ولم يذكر أبو عبيد البكري في معجمه بحي ضرية إلا بكرة بالأفراد، قلت: وهو بعيد

ص: 101

وبين ضرية والمدينة سبع ليال، لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة.

بعثه في ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم.

وعند الدمياطي: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة

جدا لتوارد ما وقفت عليه من كتب المغازي ا. هـ.

"وبين ضرية والمدينة" الشريفة "سبع ليال لعشر" متعلق بسرية، والمعنى خرج لعشر "ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس" أي: أول، "تسعة وخمسين شهرا من الهجرة"، من أول دخول المصطفى المدينة لا من أول المحرم حتى يوافق قوله سنة ست، وإلا فعدة الأشهر تفيد أنها سنة خمس فما بعد السنة الأولى من الهجرة معتبر بأول المحرم، والأولى من دخول المدينة والمحوج إلى هذا تلفيق المصنف بين القولين، فإن الحاكم ذكر أنها في المحرم سنة ست، ولم يعد الأشهر الماضية من الهجرة، وابن سعد عد الأشهر، ولم يقل إنها سنة ست كما في العيون.

"بعثه في ثلاثين راكبا" إبلا وخيلا كما في الصحيح، أنه بعث خيلا، وقول ثمامة: إن خيلك أخرتني، منهم عباد بن بشر، وسلامة بن وقش بفتح الواو، والقاف وبالشين المعجمة، والحارث بن خزمة بفتح المعجمة وسكون الزاي، وقيل بفتحها، وقيل: خزيمة بالتصغير، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يشن الغارة عليهم بفتح الياء، وضم المعجمة، وضم الياء، وكسر الشين ونون، أي: يفرق الخيل المغيرة على العدو، ففعل ما أمره.

"فلما أغار" هجم "عليهم" مسرعا "هرب سائرهم،" أي: باقيهم، بعد من قتل منهم، فلا يخالف قوله.

"وعند الدمياطي" تبعا للواقدي عن شيوخه: "فقتل منهم نفرا" هم لغة ما دون العشرة، لكن عند الواقدي فقتل منهم عشرة، "وهرب سائرهم" أي: باقيهم بعد قتل النفر، ولم نر أحدا. قال: لم يقتل منهم حتى نحمل قوله أولا سائرهم على الجميع، ويجعل ما بعده مقابلا له، على أن كونه بمعنى الجميع ضعيف، و"استاق نعما"، وكانت مائة وخمسين بعيرا "وشاء" وكانت ثلاثة آلاف، فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم، قاله ابن سعد القاموس النعم، وقد تسكن عينه الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، فعليه العطف مباين وعلى الأول من عطف الأخص على الأعم، "وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم" وغاب تسع عشرة ليلة، قاله ابن سعد، "ومعه ثمامة" بضم

ص: 102

ابن أثال الحنفي أسيرا.

فربط بأمره عليه الصلاة والسلام بسارية من سواري المسجد، ثم أطلق بأمره عليه الصلاة والسلام، فاغتسل وأسلم وقال:

المثلثة وميمين خفيفتين "ابن أثال" بضم الهمزة، وبمثلثة خفيفة ولام، مصروف ابن النعمان "الحنفي،" من فضلاء الصحابة، لم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة، ولا خرج عن الطاعة قط رضي الله عنه، ونفع الله به الإسلام كثيرا، وقام بعد وفاة المصطفى مقاما حميدا حين ارتدت اليمامة مع مسيلمة، فقال:{بسم الله الرحمن الرحيم} {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3] أين هذا من هذيان مسيلمة فأطاعه منهم ثلاثة آلاف، وانحازوا إلى المسلمين "أسيرا".

قال ابن إسحاق: بلغني عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، أن خيلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت رجلا، ولا يشعرون من هو، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أتدرون من أخذتم، هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا أساره"، ورجع فقال لأهله:" اجمعوا ما عندكم من طعام، فابعثوا به إليه"، وأمر بلقحته أن يغدى عليها، ويراح، فلا يقع من ثمامة موقعا وإساره بكسر الهمزة، أي: قيده، "فربطوه بأمره عليه الصلاة والسلام" كما في رواية ابن إسحاق "بسارية من سواري المسجد" لنيظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها ويرق قلبه، "ثم أطلق بأمره عليه الصلاة والسلام" منا عليه، أو تألفا، أو لما علم من إيمان قلبه، أو أنه سيظهره، أو أنه مر عليه فأسلم، كما رواه ابنا خزيمة وحبان من حديث أبي هريرة، كذا في شرح المصنف، "فاغتسل وأسلم" بعد اغتساله، كما في الصحيح، ففي حجة لمالك في صحة لمن أجمع على الإسلام.

قال في رواية ابن إسحاق: فلما أمسى جاؤوه بالطعام، فلم ينل منه إلا قليلا، وباللقحة، فلم يصب من حلابها إلا يسيرا، فعجب المسلمون، فقال صلى الله عليه وسلم:"مم تعجبون أمن رجل أكل أول النهار في معا كافر، وأكل آخر النهار في معا مسلم، إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معا واحد".

"وقال" كما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه صلى الله عليه وسلم فقال:"ماذا عندك يا ثمامة"؟، قال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال:"ما عندك يا ثمامة"، قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:"ما عندك يا ثمامة"؟ قال: عندي ما قلت لك، فقال:"أطلقوا ثمامة"،

ص: 103

يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.

فانطلق إلى نجل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله "يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلي" لفظ البخاري: أحب الدين إلي، ولفظ مسلم: أحب الدين كله إلي. "والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي" فيه تعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأنه أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة، لما أسداه صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن من غير مقابل، "وإن خيلك" قال المصنف: أي فرسان خيلك، وهو من ألطف المجازات وأبدعها، فهو على حذف مضاف، كقوله: يا خيل الله اركبي، "أخذتني" قبل دخول المدينة، كما هو المتبادر منه، كقول أبي هريرة أول الحديث: بعث خيلا قبل نجد، فجاءت بثمامة.

قال الحافظ: وزعم سيف في كتاب الردة له أن الذي أسر ثمامة هو العباس، وفيه نظر؛ لأن العباس إنما قدم في الفتح، وقصة ثمامة قبله، بحيث اعتمر، ورجع إلى بلاده، ومنعهم أن يميروا أهل مكة حتى شكوا للمصطفى، فبعث يشفع لهم عند ثمامة ا. هـ.

وروى البيهقي عن ابن إسحاق: أن ثمامة كان رسول مسيلمة للمصطفى قبل ذلك، وأراد اغتياله، فدعا ربه أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا، وهو مشرك، فتحير في أزقتها، فأخذ وهو معضل فلا يعارض حديث الصحيحين، ثم لا يعارض هذا قوله أولا في ثلاثين راكبا، بناء على الأكثر لغة من أنه وصف لراكب الإبل؛ لأنه على الإطلاق الثاني.

ففي القاموس: الراكب للبعير خاصة، وقد يكون للخيل، ولا يحمل قوله: خيلك، على أنه أراد جماعته، أطلق عليهم خيلا للزومها للمقاتلين كثيرا؛ لأن فيه رد رواية الصحيحين إلى كلام أهل السيرة، مع إمكان الجمع بدون ذلك، "وأنا أريد العمرة، فماذ ترى" أأذهب إلى العمرة، أو أرجع، أو أقيم عندك، "فبشره النبي"، وفي رواية: رسول الله "صل الله عليه وسلم" قال الحافظ: أي بخير الدنيا والآخرة، أو الجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السالفة، وتبعه المصنف.

وقال شيخنا: لعل المراد بشره بالسلامة، وأنه لا يصيبه من أهل مكة ضرر إذا اعتمر، "وأمره أن يعتمر"

ص: 104

فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

"فلما قدم مكة قال له قائل:" قال المصنف: لم أعرف اسمه، "صبوت" أي: خرجت من دين إلى دين، "قال: لا" ما خرجت من دين؛ لأن عبادة الأوثان ليست دينا إذا تركته أكون خرجت من دين، "ولكن أسلمت" لله رب العالمين "مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: وافقته على دينه، فصرنا متصاحبين في الإسلام، أنا بالابتداء وهو بالاستدامة، وفي رواية ابن هشام: ولكني تبعت خير الدين دين محمد، قاله كله الفتح، وبسطه المصنف بقوله: وهذا من أسلوب الحكيم، كأنه قال: ما خرجت من الدين؛ لأنكم لستم على دين، فأخرج منه، بل استحدثت دين الله، وأسلمت مع رسول الله رب العالمين، فإن قلت مع تقتضي استحداث المصاحبة؛ لأنها معنى المعية وهي مفاعلة، وقد قيد بها الفعل، فيجب الاشتراك، كذا نص عليه الكشاف في الصافات، أجيب بأنه لا يبعد ذلك، فيكون منه صلى الله عليه وسلم استدامة ومنه استحداث ا. هـ.

"ولا والله" قال الحافظ: فيه حذف تقديره، والله لا أرجع إلى دينكم، ولا أرفق بكم، فأترك المسيرة "تأتيكم من اليمامة حبة حنطة" ويقع في بض نسخ المواهب المصحفة لفظ لما قبل قوله تأتيكم، وفي بعضه لا، ولا وجود لذلك في البخاري ولا مسلم، "حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم".

وعند ابن هشام: بلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى، وكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش، فقالوا: قد اجترأت علينا، فلما قدموه ليضربوا عنقه، قال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة فخلوه. فقال الحنفي:

ومنا الذي لبى بمكة معلنا

برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إليه صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، فكتب إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل.

وأخرج النسائي والحاكم، عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم قد أكلنا العلهز، يعني الوبر والدم، فأنزل الله:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ، رواه البيهقي في الدلائل بلفظ: إن ابن أثال الحنفي لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أسير خلى سبيله فأسلم فلحق بمكة، ثم رجع فجال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: "بلى"، قال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فنزلت العلهز بكسر العين المهملة، والهاء بينهما لام ساكنة وبزاي آخره، وكأنهم كتبوا

ص: 105