المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الشارح الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، - شرح العقيدة الواسطية - الهراس

[محمد خليل هراس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌[عن ملحق الواسطية:]

- ‌عملي في الملحق:

- ‌المقدمة

- ‌أهميَّة العقيدة السلفية بين العقائد الأخرى:

- ‌أهميَّة ((العقيدة الواسطية)) بين العقائد السّلفيّة:

- ‌ لماذا سُمِّيَت بـ ((العقيدة الواسطية))

- ‌أهميّة شرح الشيخ هرّاس لـ ((العقيدة الواسطيّة)) بين شروحها:

- ‌((العقيدة الواسطيَّة)) وشروحها:

- ‌وصف النسخة الخطيّة للمتن:

- ‌عملي في الكتاب:

- ‌ترجمة موجزة للشيخ محمد خليل هرَّاس

- ‌متن العقيدة الواسطية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌ قِيَاسُ الأوْلى

- ‌ قَاعِدَةُ الْكَمَالِ

- ‌ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مجملٌ ومفصَّلٌ

- ‌إِثْبَاتَ صِفَتَيِ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ

- ‌ صِفَاتِ السُّلُوبِ

- ‌مباحث عامَّة حول آيات الصفات

- ‌الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ

- ‌ الْعَرْشِ وَالْقَلَمِ؛ أَيُّهُمَا خُلَقَ أَوَّلًا

- ‌خُلَاصَةُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْقَدَرِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ

- ‌مِنْ أُصُولِ [أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ]

- ‌ملحق العقيدة الواسطيَّة

- ‌فصل في أنواع التوحيد

- ‌فصل في الجماعة والفرقة

- ‌فصل في الموالاة والمعاداة

- ‌فصل في الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌فصل في عدم الخروج على الأئمة

- ‌فصل في الميثاق

- ‌فصل في الإسراء والمعراج

- ‌فصل في أشراط الساعة

- ‌فصل في الجنة والنار

- ‌فصل في ذم الكلامووجوب التسليم لنصوص الكتاب والسنة

الفصل: ‌ ‌مقدمة الشارح الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ،

‌مقدمة الشارح

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا محمَّد، عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ومَن تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَلَمَّا كَانَتِ ((الْعَقِيدَةُ الْوَاسِطِيَّةُ)) لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رحمه الله مِنْ أَجْمَعِ مَا كُتِبَ فِي عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مَعَ اختصارٍ فِي اللَّفْظَةِ، ودقَّة فِي الْعِبَارَةِ، وَكَانَتْ تَحْتَاجُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَاضِعِهَا إِلَى شَرْحٍ يجلِّي غَوَامِضَهَا، وَيُزِيحُ السِّتَارَ عَنْ مَكْنُونِ جَوَاهِرِهَا، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ شَرْحًا بَعِيدًا عَنِ الْإِسْهَابِ وَالتَّطْوِيلِ وَالْإِمْلَالِ بِكَثْرَةِ النُّقول، حَتَّى يُلَائِمَ مَدَارِكَ النَّاشِئِينَ، وَيُعْطِيَهُمْ زُبْدَةَ الْمَوْضُوعِ فِي سُهُولَةٍ وَيُسْرٍ؛ فَقَدِ استخرتُ اللَّهَ تبارك وتعالى، وأقدمتُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ؛ رَغْمَ كَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ، وَزَحْمَةِ الصَّوَارِفِ؛ سائلاً الله عز وجل أَنْ يَنْفَعَ بِهِ كُلَّ مَنْ قَرَأَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ؛ إِنَّهُ قريبٌ مجيبٌ.

مُحَمَّد خَلِيل هَرَّاس

ص: 43

ـ[ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ]ـ

/ش/ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْبَسْمَلَةِ؛ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ افتُتِحت بِهَا؟ أَوْ هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أُنزلت لِلْفَصْلِ بِهَا بَيْنَ السُّوَرِ وللتبرُّك بِالِابْتِدَاءِ بِهَا (1) ؟

وَالْمُخْتَارُ: الْقَوْلُ الثَّانِي.

واتَّفقوا عَلَى أَنَّهَا جُزْءُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَعَلَى تَرْكِهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَت هِيَ وَالْأَنْفَالُ كَسُورَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَالْبَاءُ فِي ((بِسْمِ)) لِلِاسْتِعَانَةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، قدَّره بَعْضُهُمْ فِعْلًا، وقدَّره بَعْضُهُمُ اسْمًا، وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وبكلٍّ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ تَعَالَى:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (2) .

وَقَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (3) .

(1) حرَّر هذه المسألة الشيخ أحمد شاكر تحريرًا مطولاً في ((الجامع الصحيح للترمذي)) (2/16-25) ؛ خلص فيه إلى أن البسملة آية من كل سورة سوى براءة.

(2)

العلق: (1) .

(3)

هود: (41) .

ص: 45

وَيَحْسُنُ جَعْلُ المقدَّر مُتَأَخِّرًا؛ ((لِأَنَّ الِاسْمَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ بِكَوْنِهِ متَبرَّكًا بِهِ، وَالِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى تَعْيِينًا لَهُ أَوْ تَمْيِيزًا)) .

واختُلِفَ فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ السِّمَةِ؛ بِمَعْنَى: الْعَلَامَةِ. وَقِيلَ: مِنَ السُّمُوِّ. وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَهَمْزَتُهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ.

وَلَيْسَ الِاسْمُ نَفْسُ المسمَّى؛ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ، والمسمَّى هُوَ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ.

وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ نَفْسَ التَّسْمِيَةِ؛ فَإِنَّهَا فِعْلُ المسمِّي؛ يُقَالُ: سميتُ وَلَدِي مُحَمَّدًا؛ مَثَلًا.

وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ لَفْظَ الِاسْمِ هُنَا مُقْحَمٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاللَّهِ عز وجل لَا بِاسْمِهِ. لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ الِاسْمِ الْكَرِيمِ بِاللِّسَانِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (1) .

أَيْ: سبِّحْهُ نَاطِقًا بِاسْمِ رَبِّكَ، متكلِّمًا بِهِ، فَالْمُرَادُ التبرُّك بِالِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى.

وَاسْمُ الْجَلَالَةِ؛ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ جامدٌ غَيْرُ مشتقٍّ؛ لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَسْتَلْزِمُ مَادَّةً يُشْتَقُّ مِنْهَا، وَاسْمُهُ تَعَالَى قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا مادَّة لَهُ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَعْلَامِ المَحْضَة، الَّتِي لَا تتضمَّن صفاتٍ تَقُومُ بمسمَّياتِها.

(1) الأعلى: 1.

ص: 46

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مشتقٌّ.

واختُلِفَ فِي مَبْدَأِ اشْتِقَاقِهِ، فَقِيلَ: مِنْ أَلَهَ يَأْلَهُ أُلوهَةً وإِلاهَةً وأُلوهِيةً؛ بِمَعْنَى: عبدَ عِبَادةً.

وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ - بِكَسْرِ اللَّامِ - يَأْلَهُ - بِفَتْحِهَا - أَلَهًا؛ إِذَا تحيَّر.

وَالصَّحِيحُ الأوَّل، فَهُوَ إلهٌ؛ بِمَعْنَى مأْلوهٍ؛ أَيْ: مَعْبُودٍ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:

((اللهُ ذُو الإلهيةِ والعُبوديةُ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ)) (1) .

وَعَلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِقَاقِ يَكُونُ وَصْفًا فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ العَلَمِيَّة، فَتَجْرِي عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَسْمَاءِ أَخْبَارًا وَأَوْصَافًا؛ يُقَالُ: اللَّهُ رحمنٌ رحيمٌ سميعٌ عليمٌ؛ كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ الرَّحمن الرَّحيم

إِلَخْ.

وَ ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) : اسْمَانِ كَرِيمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، دالَاّن عَلَى اتِّصافه تَعَالَى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ حقيقيَّة لَهُ سُبْحَانَهُ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا لَازِمُهَا؛ كَإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ وَنَحْوِهِ؛ كَمَا يَزْعُمُ الْمُعَطِّلَةُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

واختُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا:

فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِـ (الرَّحْمَنِ) الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ (فَعْلان) تدلُّ عَلَى الِامْتِلَاءِ وَالْكَثْرَةِ، وَ (الرَّحِيمِ) الَّذِي يختصُّ بِرَحْمَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ.

(1) روى هذا الأثر ابن جرير في تفسير البسملة، وقال الشيخ أحمد شاكر:((إسناد هذا الخبر ضعيف)) .

انظر: ((تفسير الطبري)) ، تحقيق: أحمد شاكر (1/123) .

ص: 47

وَقِيلَ الْعَكْسُ.

وَقَدْ ذَهَبَ العلَاّمة ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله إِلَى أَنَّ (الرَّحْمَنِ) دالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِالذَّاتِ، وَ (الرَّحِيمِ) دالٌّ عَلَى تعلُّقها بِالْمَرْحُومِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ الِاسْمُ الرَّحْمَنُ متعدِّيًا فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ تَعَالَى:

{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (1) .

وَلَمْ يَقُلْ: رَحْمَانًا.

وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:

((هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ؛ أَحَدُهُمَا أرقُّ مِنَ الْآخَرِ)) (2) .

(1) الأحزاب: (43) : {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} .

(2)

(موضوع) . رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص71) ، وهو مسلسَلٌ بالكذابين، فقد رواه محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به.

قال السيوطي في ((الإتقان)) (2/242) :

((وأوهى طرقه ـ يعني: تفسير ابن عباس ـ طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فإذا انضمّ إلى ذلك رواية محمد بن مروان السُّدِّي الصغير؛ فهي سلسلة الكذب)) .

وانظر: ((تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة)) (1/26) .

وروى البيهقي في ((الجامع لشعب الإيمان)) (5/299) عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا:

((فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال الله عز وجل: عبدي دعاني باسمين رقيقين؛ أحدهما أرقّ من الآخر، فالرحيم أرق من الرحمن، وكلاهما رقيقان)) .

قال البيهقي:

((وقوله: (رقيقان) ؛ قيل: هذا تصحيف وقع في الأصل، وإنما هما:(رفيقان) ، والرفيق من أسماء الله تعالى)) .

قال محققه عبد العلي حامد: ((إسناده ضعيف، وفيه جهالة، ومقاتل بن سليمان متهم، والضحاك لم يسمع من ابن عباس)) .

ص: 48

وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ (الرَّحْمَنِ) فِي الْبَسْمَلَةِ نَعْتًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَمٌ آخَرُ لَا يُطلق عَلَى غَيْرِهِ، وَالْأَعْلَامُ لَا يُنْعَتُ بِهَا.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نعتٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ، فَـ (الرَّحْمَنِ) اسْمُهُ تَعَالَى وَوَصْفُهُ، وَلَا تُنافي اسميَّتُهُ وصفيَّتَهُ، فَمِنْ حَيْثُ هُوَ صفةٌ جَرَى تَابِعًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَمِنْ حيثُ هُوَ اسمٌ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ تَابِعٍ، بَلْ وُرُودُ الِاسْمِ الْعَلَمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) .

ـ[ (الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) .]ـ

/ش/ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) : رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

((كلُّ كلامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عليَّ؛ فَهُوَ أَقْطَعُ، أَبْتَرُ، مَمْحُوقُ الْبَرَكَةِ)) (2) . (*)

(1) طه: (5) .

(2)

(ضعيف) . رواه أبو داود في الأدب (باب: الهدي في الكلام)(13/184-عون) ، وابن ماجه، والإمام أحمد.. وغيرهم.

وحسنه النووي في ((الأذكار)) رقم (339) .

وأورده الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) رقم (902)، بلفظ:((كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ؛ فهو أقطع، أبتر، مسحوق من كل بركة)) ، وقال عنه:((موضوع)) .

وأورده أيضًا في ((ضعيف الجامع)) (4216-4218) بألفاظ مختلفة، وقال عنه:((ضعيف)) .

وانظر: ((الإرواء)) رقم (1، 2) ؛ فقد أطال في تخريجه هناك، وبيَّن سبب ضعفه.

وقال الأرناؤوط في ((جامع الأصول)) (3980) : ((في سنده قرة بن عبد الرحمن، وهو صدوق، له مناكير)) .

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

عزاه الحافظ السخاوي في «القول البديع من الصلاة على الحبيب الشفيع» ، إلى فوائد ابن عمرو بن منده بلفظ:«كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله ثم الصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة،» ثم قال السخاوي: والحديث مشهور لكن بغير هذا اللفظ «وذكر أنه صحيح. اهـ إسماعيل الأنصاري [ص 7] .

ص: 49

وَوَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَسْمَلَةِ.

وَلِهَذَا جَمَعَ الْمُؤَلِّفُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا تعارُض بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ، وَالْحَمْدُ ضدُّ الذَّمِّ. يُقال: حمدتُ الرَّجُلَ أحْمَدُهُ حَمْدًا ومَحْمَدًا ومَحْمَدَةً، فَهُوَ محمودٌ وحميدٌ.

وَيُقَالُ: حمَّد اللَّهَ ـ بِالتَّشْدِيدِ ـ: أَثْنَى عَلَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَالْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الاختياريِّ، نِعْمَةً كانَ أَوْ غَيْرَهَا؛ يُقَالُ: حمدتُ الرجلَ عَلَى إِنْعَامِهِ، وحمدتُه عَلَى شَجَاعَتِهِ.

وَأَمَّا الشُّكْرُ؛ فَعَلَى النِّعْمَةِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً

يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيْرَ الْمُحَجَّبا

وَعَلَى هَذَا؛ فَبَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عمومٌ وخصوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى النِّعْمَةِ، وينفردُ الْحَمْدُ فِي الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى مَا لَيْسَ

ص: 50

بِنِعْمَةٍ مِنَ الْجَمِيلِ الاختياريِّ، وينفردُ الشُّكْرُ بِالثَّنَاءِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى خُصُوصِ النِّعْمَةِ.

فَالْحَمْدُ أعمُّ متعلَّقًا، وأخصُّ آلَةً، وَالشُّكْرُ بِالْعَكْسِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ؛ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:

((إِنَّ الْحَمْدَ إِخْبَارٌ عَنْ مَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ، مَعَ حُبِّهِ، وَتَعْظِيمِهِ، فَلَا بدَّ فِيهِ مِنِ اقْتِرَانِ الْإِرَادَةِ بِالْخَيْرِ؛ بِخِلَافِ الْمَدْحِ؛ فَإِنَّهُ إِخْبَارٌ مجرَّدٌ)) (1) .

وَلِذَلِكَ كَانَ المدحُ أوسَعَ تَنَاوُلًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ للحيِّ والميِّت وَلِلْجَمَادِ أَيْضًا.

وَ (أَلْ) فِي الْحَمْدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ؛ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ أَفْرَادِ الْحَمْدِ المُحَقَّقَة والمُقَدَّرَة، وَقِيلَ: لِلْجِنْسِ، وَمَعْنَاهُ (2) :((أَنَّ الْحَمْدَ الْكَامِلَ ثابتٌ لِلَّهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي ثبوتَ كُلِّ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَمَالِهِ؛ إِذْ مَنْ عَدِمَ صِفات الْكَمَالِ؛ فَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ غَايَتُهُ [أَنَّهُ محمودٌ مِنْ وجهٍ دُونَ وجهٍ، وَلَا] (3) يَكُونُ مَحْمُودًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُّلِ اعْتِبَارٍ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ؛ إِلَّا مَن حَازَ صِفَاتِ الْكَمَالِ (*) جَمِيعَهَا، [فَلَوْ عَدِمَ مِنْهَا صِفَةً وَاحِدَةً؛ لَنَقَصَ مِنْ حَمْدِهِ بِسَبَبِهَا](4)) ) .

الرَّسُولُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَن بُعِثَ بِالرِّسَالَةِ؛ يُقَالُ: أَرْسَلَهُ بِكَذَا؛ إِذَا

(1)((بدائع الفوائد)) (2/93) .

(2)

الكلام من قوله: "ومعناه

" لابن القيم.

(3)

زيادة يقتضيها السياق، سقطت من نقل الشارح لها، وقد أشار لذلك الشيخ الأنصاري في طبعة الإفتاء.

(4)

تتمة كلام الحافظ ابن القيم، وانظر:((مدارج السالكين)) (1/64) .

َ

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

عبارة ابن القيم من مدارج السالكين: «وغايته أنه محمود من وجه دون وجه، ولا يكون محمودا بكل وجه، وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها» هذا نص عبارة ابن القيم، وقد حصل في نقل المؤلف لها خلل ظاهر، فليتنبه لذلك. اهـ إسماعيل الأنصاري. [ص 9]

ص: 51

طَلَبَ إِلَيْهِ تَأْدِيَتَهُ وَتَبْلِيغَهُ. وَجَمْعُهُ: رُسْل ـ بِسُكُونِ السِّينِ ـ ورُسُل ـ بِضَمِّهَا ـ.

وَفِي لِسَانِ الشَّرْعِ: إنسانٌ، ذكرٌ، حرٌّ، أُوحِيَ إِلَيْهِ بشرعٍ، وأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.

فَإِنْ أوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ؛ فَهُوَ نبيٌّ.

فَكُلُّ رَسُولٍ نبيٌّ، وَلَا عَكْسَ، فَقَدْ يَكُونُ نَبِيًّا غَيْرَ رَسُولٍ (1) .

والمُراد بِالرَّسُولِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ هُنَا مُحمد صلى الله عليه وسلم.

وَ ((الْهُدَى)) فِي اللُّغَةِ: الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (2) .

فَإِنَّ الْمَعْنَى: بَيَّنَّا لَهُمْ.

وَكَمَا فِي قَوْلِهِ:

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (3) .

(1) ذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه ((الرسل والرسالات)) (ص14) أن هذا القول هو الشائع عند العلماء، وأنه بعيد؛ لأن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء في قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي

} وأنه لا يمكن أن ينزِّل الله وحيًا لإنسان واحدٍ فقط، ولا يبلغه أحدًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((عُرِضَتْ عليَّ الأمم، فرأيتُ النبيِّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد

)) رواه البخاري ومسلم.

والذي رجَّحه في الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول من أُوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرعِ مَن قبله، وأكثر أنبياء بني إسرائيل كذلك، وهو الأقرب للصواب، والله أعلم.

(2)

فصلت: (17) .

(3)

الإنسان: (3) .

ص: 52

والهُدى بِهَذَا الْمَعْنَى عامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَلِهَذَا يوصَفُ بِهِ الْقُرْآنُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) .

وَيُوصَفُ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ٍ} (2) .

وَقَدْ يَأْتِي الهُدى بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، فَيَكُونُ خَاصًّا بمَن يَشَاءُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ؛ قَالَ تَعَالَى:

{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَام ِ} (3) .

وَلِهَذَا نفاهُ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ؛ قَالَ تَعَالَى:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (4) .

وَالْمُرَادُ بالهُدى هُنَا: كلُّ مَا جَاءَ بِهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

والدِّين يَأْتِي لِعِدَّةِ معانٍ:

مِنْهَا: الْجَزَاءُ؛ كَمَا فِي قوله تعالى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (5) .

ومنهُ قولُهم: كَما يَدِينُ الفَتى يُدَانُ (6) .

(1) الإسراء: (9) .

(2)

الشورى: (52) .

(3)

الأنعام: (125) .

(4)

القصص: (56) .

(5)

الفاتحة: (4) .

(6)

روى البيهقي في ((الزهد)) (ص297)، وابن عدي في ((الكامل)) (2/2168) ؛ من حديث ابن عمر مرفوعًا:((البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والدَّيَّان لا ينام، فكن كما شئت كما تدين تُدان)) ؛ بإسناد ضعيف.

ورواه أحمد في ((الزهد)) (ص176) موقوفًا على أبي الدَّرداء؛ بإسناد ضعيف أيضًا.

انظر: ((ضعيف الجامع)) (4274) ، و ((الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة)) للسيوطي، تحقيق: الصباغ، رقم (328) .

ص: 53

وَمِنْهَا: الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ؛ يُقَالُ: دَانَ لَهُ؛ بِمَعْنَى: ذلَّ وَخَضَعَ، وَيُقَالُ: دانَ اللهَ بِكَذَا، أَوْ كَذَا؛ بِمَعْنَى اتَّخذه دِينًا يَعْبُدُهُ بِهِ.

وَالْمُرَادُ بالدِّين هُنَا: جَمِيعُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ؛ اعْتِقَادِيَّةً كَانَتْ، أَمْ قَوْلِيَّةً، أَمْ فِعْلِيَّةً.

وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ؛ أَيِ: الدِّينُ الْحَقُّ.

والحقُّ: مصدرُ حَقَّ يَحِقُّ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ. فَالْمُرَادُ بِهِ: الثَّابِتُ، الْوَاقِعُ. وَيُقَابِلُهُ: الْبَاطِلُ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ((لِيُظْهِرَهُ)) لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (أَرْسَلَ)، وَهُوَ مِنَ الظُّهُورِ؛ بِمَعْنَى: العلوِّ وَالْغَلَبَةِ؛ أَيْ: لِيَجْعَلَهُ عَالِيًا عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ.

وَ (أَلْ) فِي ((الدِّينِ)) لِلْجِنْسِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ دِينٍ بَاطِلٍ، وَهُوَ مَا عَدَا الْإِسْلَامَ.

وَالشَّهِيدُ: فعيلٌ، وَهُوَ مبالغةٌ مِنْ شَهِدَ، وَهُوَ إِمَّا مِنَ الشَّهَادَةِ؛ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ، أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ بِمَعْنَى الْحُضُورِ. وَالْمَعْنَى: وكَفَى باللهِ شَهِيدًا مُخْبِرًا بِصِدْقِ رَسُولِهِ، أَوْ حَاضِرًا مطَّلِعًا لَا يَغِيبُ عَنْهُ شيءٌ.

وَالْمَعْنَى الْإِجْمَالِيُّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ثابتةٌ لِلَّهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وأتمِّها.

ص: 54

وَمِمَّا يُحْمَدُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ نِعَمُهُ عَلَى عِبَادِهِ، الَّتِي لَا يُحْصِي أحدٌ مِنَ الْخَلْقِ عدَّها، وَأَعْظَمُهَا إِرْسَالُهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَبُشْرَى للمتَّقين؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ وَالسُّلْطَانِ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ، وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ.

وَشَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَكُونُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَتَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالْبَرَاهِينِ المتنوِّعة عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.

ـ[ (وأَشْهَدُ أَن لَاّ إلَهَ إلَاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا) .]ـ

/ش/ ((الشَّهَادَةُ)) : الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ عِلْمٍ بِهِ، وَاعْتِقَادٍ لِصِحَّتِهِ وَثُبُوتِهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الشَّهَادَةُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَصْحُوبَةً بِالْإِقْرَارِ وَالْإِذْعَانِ، وَوَاطَأَ القلبُ عَلَيْهَا اللِّسَانَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَذَّب الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ (1) .

و ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) : هِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، الَّتِي اتَّفقت عَلَيْهَا كَلِمَةُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ؛ بَلْ هِيَ خُلَاصَةُ دَعَوَاتِهِمْ وَزُبْدَةُ رِسَالَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَسُولٍ مِنْهُمْ إِلَّا جَعَلَهَا مُفْتَتَحَ أَمْرِهِ، وَقُطْبَ رَحَاهُ؛ كَمَا قَالَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم:

((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا؛ فَقَدْ

ص: 55

عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل) (1) .

وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُقْتَضِي لِلْحَصْرِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِثْبَاتِ المجرَّد؛ كَقَوْلِنَا: اللَّهُ وَاحِدٌ. مَثَلًا فَهِيَ تدلُّ بِصَدْرِهَا عَلَى نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وتدلُّ بِعَجُزِهَا عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ.

وَلَا بدَّ فِيهَا مِنْ إِضْمَارِ خبرٍ تَقْدِيرُهُ: لَا معبودَ بحقٍّ - موجودٌ (2) - إلَّا اللَّهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)) ؛ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا دلَّت عَلَيْهِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ.

وَقَوْلُهُ: ((إِقْرَارًا بِهِ)) مصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَعْنَى الْفِعْلِ: ((أَشْهَدُ)) ، وَالْمُرَادُ: إِقْرَارُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.

وَقَوْلُهُ: ((تَوْحِيدًا)) ؛ أَيْ: إِخْلَاصًا لِلَّهِ عز وجل فِي الْعِبَادَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ.

ـ[ (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا) .]ـ

/ش/ وَجَعَلَ الشَّهَادَةَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ مَقْرُونًا بِالشَّهَادَةِ لِلَّهِ

(1) رواه بألفاظ مختلفة: البخاري في أول الزكاة (3/262-فتح) ، وفي استتابة المرتدين، ومسلم في الإيمان، (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله) (1/314-نووي) ، والترمذي، والنسائي، وأبو داود.

انظر: ((جامع الأصول)) رقم (35-42) .

(2)

يعني المؤلِّف أن هذه الكلمة تقدير لخبر مستتر؛ للا النافية للجنس.

ص: 56

بِالتَّوْحِيدِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كلٍّ مِنْهُمَا، فَلَا تُغني إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَذَانِ، وَفِي التَّشَهُّدِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (1) :

((يَعْنِي: لَا أُذْكَرُ إلَاّ ذُكِرتَ مَعِي)) (2)(*) .

وَإِنَّمَا جَمَعَ لَهُ بَيْنَ وَصْفَيِ الرِّسَالَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْلَى مَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ.

وَالْعِبَادَةُ: هِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ لِأَجْلِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (3) .

فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ تِلْكَ الْغَايَةِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ؛ ازْدَادَ كَمَالُهُ، وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ.

وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ نبيَّه بِلَقَبِ الْعَبْدِ فِي أَسْمَى أَحْوَالِهِ وَأَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ؛ كَالْإِسْرَاءِ بِهِ، وَقِيَامِهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِيحَاءِ إِلَيْهِ، والتحدِّي بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.

(1) الشرح: (4) .

(2)

صح عن مجاهد أنه قال في تفسير هذه الآية: ((لا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي: أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله)) . وقال الألباني في ((فضل الصلاة على النبي)) لابن إسحاق القاضي (ص86) : ((إسناده مرسل صحيح، فهو حديث قدسي مرسلٌ)) .

وروى أبو يعلى (2/522) بإسناد ضعيف، من حديث أبي سعيد الخدري رفعه:((إذا ذُكرتُ ذكرتَ معي)) .

وانظر: ((الدُّر المنثور)) (8/549) .

(3)

الذاريات: (56) .

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

رواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهد قال: حدثنا ابن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد «ورفعنا لك ذكرك» قال: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله «اهـ. إسماعيل الأنصاري. [ص 13]

ص: 57

ونبَّه بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا إِلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْغُلُوِّ الَّذين قَدْ يَتَجَاوَزُونَ بِالرَّسُولِ قَدْرَهُ، وَيَرْفَعُونَهُ إِلَى مَرْتَبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ كَمَا يَفْعَلُ ضُلَّالُ الصُّوفِيَّةِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ صحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا أَنَا عبدٌ، فَقُولُوا عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)) (1) . (*)

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ، وَكَمَالِ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ فَاقَ جميعَ البشرِ فِي كلِّ خصلةٍ كمالُه.

وَلَا تَتِمُّ هَذِهِ الشَّهَادَةُ حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَنْتَهِيَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ.

الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ؛ قَالَ تَعَالَى:

{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (2) .

وأصحُّ مَا قِيلَ فِي صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ؛ قَالَ:

((صَلَاةُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ)) (3) .

وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ

(1) رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحدود، (باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت) (12/144-فتح) ، وفي الأنبياء، (باب: قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} ) (6/478-فتح) .

(2)

التوبة: (103) .

(3)

رواه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم في التفسير، (باب:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ) (8/532-فتح) ، ووصله ابن إسحاق القاضي في كتابه ((فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)) (ص82)، وقال الألباني:((إسناده موقوف حسن)) .

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

أخرجه البخاري ومسلم. [كما في ط الإفتاء ص 14]

ص: 58

الصَّحِيحِ:

((وَالْمَلَائِكَةُ يصلُّون عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صلَّى فِيهِ؛ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)) (1) .

وَمِنَ الْآدَمِيِّينَ: التضرُّع والدُّعاء.

وَآلُ الشَّخْصِ هُمْ مَنْ يمتُّون إله بِصِلَةٍ وَثِيقَةٍ مِنْ قَرَابَةٍ وَنَحْوِهَا.

وَآلُهُ صلى الله عليه وسلم يُراد بِهِمْ أَحْيَانًا مَن حَرُمَت عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو المطَّلب، وَيُرَادُ بِهِمْ أَحْيَانًا كُلُّ مَن تَبِعَهُ عَلَى دِينِهِ.

وَأَصْلُ (آلٍ) : أَهْلٌ، أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً، فَتَوَالَتْ هَمْزَتَانِ، فقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا أَلِفًا، وَيُصَغَّرُ عَلَى أُهَيل أَوْ أُوَيْل، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا شَرُفَ غَالِبًا، فَلَا يُقَالُ: آلُ الْإِسْكَافِ وَآلُ الْحَجَّامِ.

وَالْمُرَادُ بِالصَّحْبِ أَصْحَابُهُ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ كُلُّ مَنْ لَقِيَهُ حَالَ حَيَاتِهِ مُؤْمِنًا، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ.

وَالسَّلَامُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ سلَّم تَسْلِيمًا عَلَيْهِ؛ بِمَعْنَى طَلَبَ لَهُ السَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَهُو اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالىَ، وَمَعْنَاهُ: الْبَرَاءَةُ وَالْخَلَاصُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، أَوِ الَّذِي يسلِّم عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ.

(1) جزء من حديث رواه البخاري في الأذان، (باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة) (2/142-فتح) ، وفي المساجد، وفي بدء الخلق، ومسلم في المساجد، (باب: فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة) (5/171-نووي)، ورواه أيضًا: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد في ((المسند)) ، ومالك في ((الموطأ)) ؛ بألفاظ متقاربة.

ص: 59

وَ ((مَزِيدًا)) صفةٌ لِـ (تَسْلِيمًا) ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ (زَادَ) المتعدِّي، وَالتَّقْدِيرُ: مَزِيدًا فِيهِ.

ـ[ ( [أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ](1) الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) (2) .]ـ

/ش/ ((أَمَّا بَعْدُ)) : كَلِمَةٌ يُؤتَى بِهَا للدِّلالة عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعْمِلُهُا كَثِيرًا فِي خُطَبِهِ وَكُتُبِهِ، وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَ النحويِّين: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ.

والْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ((هَذَا)) إِلَى مَا تضمَّنه هذَا المُؤلَّفُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْإِيمَانِيَّةِ الَّتِي أَجْمَلَهَا فِي قَوْلِهِ: ((وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ

)) .

وَالِاعْتِقَادُ: مَصْدَرُ اعْتَقَدَ كَذَا؛ إِذَا اتَّخَذه عَقِيدَةً لَهُ؛ بِمَعْنَى عَقَدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ وَالْقَلْبُ، وَدَانَ لِلَّهِ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ (عَقَدَ الْحَبْلَ) ، ثُمَّ استُعْمل فِي التَّصْمِيمِ وَالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ.

((الْفِرْقَةِ)) ـ بِكَسْرِ الْفَاءِ ـ الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ.

وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا ((النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ)) أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام:

((لَا تزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتي عَلَى الحقِّ مَنْصُورَةٌ، لَا يضرُّهم مَنْ خَذلهم، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ)) (3) .

(1) سقطت من المخطوط.

(2)

قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لـ ((الواسطية)) (1/53) : ((عُلِمَ من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلاً والماتريدية لا يُعَدُّون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيُّون، وأشعريُّون، وماتريديُّون، فهذا خطأ؛ نقول: كيف يكون الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنَّةٍ وكلُّ واحدٍ منهُم يردُّ على الآخر، هذا لا يمكن؛ إلا إذا أمكن الجمع بين الضِّدين؛ فنعم! وإلا؛ فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية أم الماتريدية أم السلفية؟ نقول مَن وافق السنَّة؛ فهو صاحب السنة، ومَن خالف السنة؛ فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا، والكلمات تعتبر بمعانيها، لننظر كيف نسمي من خالف السنة أهل سنة؟ لا يمكن! وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة، إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقدًا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإنه سلفي)) . اهـ

(3)

رواه البخاري في الاعتصام بالسنة، (باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة..)) ) (13/293- فتح) ، ومسلم في الإمارة، (باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة..)) ) (13/70- نووي) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد.. وغيرهم.

ص: 60

وَمِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:

((سَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً: كُلُّهُمْ في النّار إلى وَاحِدَةً، وَهِيَ مَن كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) (1) .

وَقَوْلُهُ: ((أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)) ؛ بَدَلٌ مِنَ الْفِرْقَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ: الطَّرِيقَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصَحْابُهُ قَبْلَ ظُهُورِ الْبِدَعِ وَالْمَقَالَاتِ.

وَالْجَمَاعَةُ فِي الْأَصْلِ: الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، الَّذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

ـ[ (وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ) .]ـ

/ش/ هَذِهِ الْأُمُورُ السِّتَّةُ هِيَ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ، فَلَا يتمُّ إيمانُ أحدٍ إِلَّا إِذَا آمَنَ

(1)(حسن) . رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الإيمان، (باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة) (7/397-تحفة) .

قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/230) : ((حديث افتراق الأمة أسانيدها جياد)) .اهـ

وحسن إسنادها الحافظ في ((تخريج الكشاف)) (ص63 رقم 17) .

وعن حديث الافتراق انظر كتاب: ((حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة)) للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني)) تحقيق سعد بن عبد الله السعدان.

ص: 61

بِهَا جَمِيعًا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي دلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فمَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ آمَنَ بِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ؛ فَقَدْ كَفَرَ.

وَقَدْ ذُكِرَت كُلُّهَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورِ، حِينَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ؟ فَقَالَ:

((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) (1) ؛ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْمَلَائِكَةُ: جَمْعُ مَلَك، وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ؛ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، وَهُمْ نوعٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عز وجل، أَسْكَنَهُمْ سماواته، ووكلهم بشؤون خَلْقِهِ، وَوَصَفَهُمْ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَأَنَّهُمْ يسبِّحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا يَفْتُرُونَ.

فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِمَا وَرَدَ فِي حَقِّهِمْ مِنْ صِفَاتٍ وَأَعْمَالٍ فِي الْكِتَابِ والسنَّة، وَالْإِمْسَاكُ عمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هذا من شؤون الْغَيْبِ الَّتِي لَا نَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا علَّمنا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

وَالْكُتُبُ: جَمْعُ كِتَابٍ، وَهُوَ مِن الكَتْب؛ بِمَعْنَى: الْجَمْعِ وَالضَّمِّ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْكُتُبُ المنزَّلة مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

(1) هذا جزءٌ من حديث جبريل المشهور؛ رواه مسلم، وهو أول حديث يفتتح به الصحيح (1/259-نووي) ، ورواه أبو داود في السنة، (باب: القدر) (12/459-عون) ، والترمذي في الإيمان، والنسائي فيه أيضًا، (باب: نعت الإسلام) ؛ كلهم من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.

كما رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما.

ص: 62

وَالْمَعْلُومُ لَنَا مِنْهَا: صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي أُنزلت عَلَى مُوسَى فِي الْأَلْوَاحِ، وَالْإِنْجِيلُ الَّذِي أُنزل عَلَى عِيسَى، والزَّبور الَّذِي أُنزل عَلَى دَاوُدَ، وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الَّذِي هُوَ آخِرُهَا نُزُولًا، وَهُوَ المصدِّق لَهَا، وَالْمُهَيْمِنُ عَلَيْهَا، وَمَا عَدَاها يَجْبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِجْمَالًا.

وَالرُّسُلُ: جَمْعُ رَسُولٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ.

وَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ تَفْصِيلًا بمَن سمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْهُمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، ذَكَرَهُمُ الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:

فِي {َتِلْكَ حُجَّتُنَا} (1) مِنْهُمْ ثَمَانِيَة

مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ ويَبْقَى سَبْعَةٌ وهُمُ

إدْرِيسُ هُودُ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وكَذا

ذُو الكِفْلِ آدَمُ بالمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا

وَأَمَّا مَن عَدَا هَؤُلَاءِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ؛ فَنُؤْمِنُ بِهِمْ إِجْمَالًا عَلَى مَعْنَى الِاعْتِقَادِ بنبوَّتِهم وَرِسَالَتِهِمْ، دُونَ أَنْ نكلِّف أَنْفُسَنَا الْبَحْثَ عَنْ عِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا اختصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهِ؛ قَالَ تَعَالَى:

ص: 63

{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (1) .

وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُمْ بلَّغوا جميعَ مَا أُرسلوا بِهِ عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عز وجل، وبيَّنوه بَيَانًا لَا يَسَعُ أَحَدًا ممَّن أُرسلوا إِلَيْهِ جَهْلُهُ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَالْكِتْمَانِ وَالْبَلَادَةِ.

وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ: مُحَمَّدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَنُوحٌ؛ لِأَنَّهُمْ ذُكروا مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (2) .

وَقَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} (3) .

وَ ((الْبَعْثِ)) فِي الْأَصْلِ: الْإِثَارَةُ وَالتَّحْرِيكُ، وَالْمُرادُ بِهِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ: إِخْرَاجُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذرَّة خَيْرًا يَرَهُ، ومَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي بيَّنها اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جمعُ مَا تحلَّل مِنْ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْشَاؤُهَا خَلْقًا جَدِيدًا، وإعادةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا.

وَمُنْكِرُ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ ـ كَالْفَلَاسِفَةِ وَالنَّصَارَى ـ كَافِرٌ، وَأَمَّا مَن أقرَّ

(1) النساء: (164) .

(2)

الأحزاب: (7) .

(3)

الشورى: (13) .

ص: 64

بِهِ وَلَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَرْوَاحَ فِي أجسامٍ غَيْرِ الْأَجْسَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا؛ فَهُوَ مبتدعٌ وفاسقٌ.

وَأَمَّا ((الْقَدَرِ)) ؛ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ، مَصْدَرٌ تَقُولُ: قدرتُ الشَّيْءَ - بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِهَا - أقْدِرُهُ - بِكَسْرِهَا - قَدْرًا وقَدَرًا؛ إِذَا أحطتَ بِمِقْدَارِهِ.

وَالْمُرَادُ بِهِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ أَنَّ اللَّهَ عز وجل عَلِمَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ وَأَزْمَانَهَا أَزَلًا، ثُمَّ أَوْجَدَهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَهُ مِنْهَا، وَأَنَّهُ كَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ قَبْلَ إِحْدَاثِهَا؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ:

((أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ)) (1) .

وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} (2) .

ـ[ (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ) (3) .]ـ

/ش/ وَقَوْلُهُ: ((وَمِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ

إلخ)) : هَذَا شروعٌ فِي التَّفْصِيلِ بَعْدَ

(1)(صحيح) . سيأتي تخريجه (ص254) .

(2)

الحديد: (22) .

(3)

قال الشيخُ ابن عثيمين في شرحه للواسطية: عُلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلا والماتريدية لا يعدون من =

ص: 65

الْإِجْمَالِ، وَ (مِنْ) هُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى وَمِنْ جُمْلَةِ إِيمَانِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْأَصْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأُصُولِ وَأَسَاسُهَا، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ: أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ

إلخ.

وَقَوْلُهُ: ((مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ)) متعلِّقٌ بِالْإِيمَانِ قَبْلَهُ؛ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْخَالِي مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ؛ إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ.

وَالتَّحْرِيفُ فِي الْأَصْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حرفتُ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ حَرْفًا، مِنْ بَابِ ضَرَبَ؛ إِذَا أَمَلْتَهُ وَغَيَّرْتَهُ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ.

وَتَحْرِيفُ الْكَلَامِ: إِمَالَتُهُ عَنِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ لَا يدلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ إِلَّا بِاحْتِمَالٍ مرجوحٍ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قرينةٍ تبيِّن أَنَّهُ الْمُرَادُ (1) .

= أهل السنة والجماعة في هذا الباب، لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يمكن الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلاّ، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ نقول: من وافق السنة، فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبداً والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمى من خالف السنة أهل سنة؟ لا يمكن وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقداً، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه سلفي.

(1)

والتحريف يكون في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ؛ فمثاله نصب اسم الجلالة بدل رفعه في قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً} ، وأما في المعنى؛ فمثاله قولهم:{اسْتَوَى} ؛ أي: استولى، ويده؛ أي: قدرته.

ص: 66

وَأَمَّا التَّعْطِيلُ؛ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَطَلِ، الَّذِي هُوَ الخلوُّ وَالْفَرَاغُ وَالتَّرْكُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

{وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَة} (1) .

أَيْ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا، وَتَرَكُوا وِرْدها.

وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا نَفْيُ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْكَارُ قِيَامِهَا بِذَاتِهِ تَعَالَى (2) .

فَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ: أَنَّ التَّعْطِيلَ نفيٌ لِلْمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي دلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَأَمَّا التَّحْرِيفُ؛ فَهُوَ تَفْسِيرُ النُّصُوصِ بِالْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تدلُّ عَلَيْهَا.

وَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَإِنَّ التَّعْطِيلَ أعمُّ مُطْلَقًا مِنَ التَّحْرِيفِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ التَّحْرِيفُ؛ وُجِدَ التَّعْطِيلُ؛ دُونَ الْعَكْسِ، وَبِذَلِكَ يُوجَدَانِ مَعًا فِيمَنْ أَثْبَتَ الْمَعْنَى الْبَاطِلَ وَنَفَى الْمَعْنَى الْحَقَّ، وَيُوجَدُ التَّعْطِيلُ بِدُونِ التَّحْرِيفِ فِيمَنْ نَفَى الصِّفَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّن لَهَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ بِالتَّفْوِيضِ.

وَمِنَ الْخَطَأِ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلف؛ كَمَا نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمُ

(1) الحج: (45) .

(2)

التعطيل قسمان: كلي؛ كما فعل نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، وجزئي كما فعل الأشاعرة الذين يثبتون سبع صفات فقط، وينفون الباقي.

ص: 67

الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ (1) وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا يفوِّضون فِي عِلْمِ الْمَعْنَى، ولا كانوا يقرؤون كَلَامًا لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُثْبِتُونَهَا لِلَّهِ عز وجل، ثُمَّ يفوِّضون فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ كُنْهِ الصِّفَاتِ أَوْ كيفيَّاتها (2) ؛ كَمَا قَالَ مَالِكٌ حِينَ سُئِلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ اسْتِوَائِهِ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ:

((الِاسْتِوَاءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ)) (3) .

(1) سيأتي التعريف بهم (ص130) .

(2)

المفوِّضة: هم الذين يُثْبِتُون الصفات، ويفوِّضون علم معانيها إلى الله.

وأهل السنّة والجماعة يُثْبِتُون الصفات وعلم معانيها، ويفوِّضون علم كيفيتها إلى الله تعالى.

ومَن قال: أنا أثبت الصفات وأفوِّضُ علمها إلى الله؛ قلنا له: ماذا تعني بعلمها؟ علم المعنى؟ أم علم الكيفية؟

(3)

ذكره البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (515) عن الإمام مالك بإسناد جوَّده الحافظ في ((الفتح)) (13/407) .

وورد عن ربيعة الرأي، شيخ مالك. ذكره: البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص516) ، واللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (3/398) .

وورد أيضًا عن أم سلمة مرفوعًا وموقوفًا.

ولكن قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/365) :

((وقد رُوِيَ هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يُعْتَمَدُ عليه)) .

وقال الألباني عن المرفوع في ((شرح الطحاوية)) (ص281) :

((لا يصح)) .

ثم قال:

((والصواب عن مالك أو أم سلمة، والأول أشهر)) .

ص: 68

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ)) ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّكْيِيفَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى عَلَى كَيْفِيَّةِ كَذَا، أَوْ يَسْأَلُ عَنْهَا بِكَيْفَ.

وَأَمَّا التَّمْثِيلُ؛ فَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّهَا مِثْلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ((مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ)) أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْكَيْفَ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ عِلْمَهُمْ بِالْكَيْفِ؛ إِذْ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ.

ـ[ (بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1)) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِه} ؛ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل هِيَ دُسْتُورُ (2) أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ الْمِثْلَ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ سَمْعًا وَبَصَرًا، فدلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ الْحَقَّ لَيْسَ هُوَ نَفْيَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا؛ كَمَا هُوَ شَأْنُ المعطِّلة، وَلَا إِثْبَاتُهَا مُطْلَقًا؛ كَمَا هُوَ شَأْنُ الممثِّلة؛ بَلْ إِثْبَاتُهَا بِلَا تَمْثِيلٍ.

وَقَدِ اختُلِفَ فِي إِعْرَابِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عَلَى وُجُوهٍ؛ أصحُّها: أَنَّ الكافَ صلةٌ زيدَت لِلتَّأْكِيدِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ

خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ

(1) الشورى: (11) .

(2)

كلمة فارسية بمعنى قانون أو أساس، وفي ((التاج)) :((النسخة المعمولة للجماعات)) .

ص: 69

ـ[ (فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلَا يُكَيِّفُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ) .]ـ

/ش/وَقَوْلُهُ: ((فلَا يَنْفونَ عَنْهُ..إلخ)) تفريعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ فَلَا يَنْفُونَ وَلَا يحرِّفونَ، وَلَا يكيِّفون وَلَا يمثِّلُون.

وَالْمَوَاضِعُ: جَمْعُ مَوْضِعٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيلُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَهُمْ لَا يعدِلون بِهِ عَنْهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَلَا يُلْحِدون فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ)) ؛ فَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ القيِّم رحمه الله:

((وَالْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ الْعُدُولُ بِهَا وَبِحَقَائِقِهَا وَمَعَانِيهَا عَنِ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهَا؛ مأخوذٌ مِنَ الْمَيْلِ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّةُ (ل ح د) ، فَمِنْهُ اللَّحْدُ، وَهُوَ الشَّقُّ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ، الَّذِي قَدْ مَالَ عَنِ الْوَسَطِ، وَمِنْهُ المُلْحِد فِي الدِّينِ: الْمَائِلُ عَنِ الْحَقِّ، المُدْخِل فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ)) . اهـ

فَالْإِلْحَادُ فِيهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجَحْدِهَا وَإِنْكَارِهَا بالكليَّة، وَإِمَّا بِجَحْدِ مَعَانِيهَا وَتَعْطِيلِهَا، وَإِمَّا بِتَحْرِيفِهَا عَنِ الصَّوَابِ وَإِخْرَاجِهَا عَنِ الْحَقِّ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَإِمَّا بِجَعْلِهَا أَسْمَاءً لِبَعْضِ المُبتَدَعات؛ كَإِلْحَادِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ.

وَخُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ:

أَنَّ السَّلَفَ رضي الله عنهم يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ

ص: 70

بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَبِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إِيمَانًا سَالِمًا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ، وَمِنَ التَّكْيِيفِ وَالتَّمْثِيلِ، وَيَجْعَلُونَ الْكَلَامَ فِي ذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ بَابًا وَاحِدًا؛ فَإِنَّ الكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فرعُ الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُه، فَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُ الذَّاتِ إثباتَ وجودٍ لَا إِثْبَاتَ تَكْيِيفٍ؛ فَكَذَلِكَ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ.

وَقَدْ يعبِّرون عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: ((تُمَرُّ كَما جَاءَتْ بِلَا تَأْوِيلٍ)) ، ومَن لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُمْ؛ ظنَّ أَنَّ غَرَضَهُمْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ هُوَ قِرَاءَةُ اللَّفْظِ دُونَ التعرُّض لِلْمَعْنَى، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَنْفِيِّ هُنَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى وَكُنْهُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ (1) .

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله:

((لَا يوصَفُ اللَّهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَلَا يُتَجَاوَزُ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ)) (2) .

وَقَالَ نُعيم بْنُ حمَّاد (شَيْخُ الْبُخَارِيِّ) :

((مَن شبَّه اللهَ بِخَلْقِهِ؛ كَفَرَ، ومَن جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ؛ كَفَرَ،

(1) ومما يؤيِّد ذلك أنهم كانوا يقولون أحيانًا: ((تُمَرُّ كما جاءت؛ بلا كيف)) ، وما كانوا يقولون:((تُمَرُّ كما جاءت بلا معنى)) ، فعُلِمَ من ذلك أنهم يُثْبِتُون المعنى، وينفون الكيف.

والشارح يعني بقوله: ((حقيقة المعنى)) ؛ أي: الكيفية؛ يفرق بين المعنى وحقيقة المعنى، فيثبتون المعنى وينفون حقيقته، وهي الكيفية.

(2)

انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/26) .

ص: 71

وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ تشبيهٌ وَلَا تمثيلٌ)) (1) .

ـ[ (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لَا سَمِيَّ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، وَلَا نِدَّ لهُ) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: ((لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ

إلخ)) ؛ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِخْبَارًا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: ((لَا يكيِّفون وَلَا يمثِّلون)) .

وَمَعْنَى: ((لَا سميَّ لَهُ)) أَيْ: لَا نَظِيرَ لَهُ يستحقُّ مِثْلَ اسْمِهِ (2) ، أَوْ لَا مسامِيَ لَهُ يُسَامِيهِ، وَقَدْ دلَّ عَلَى نَفْيِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ:

{ِهَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (3) .

فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا إنكاريٌّ، مَعْنَاهُ النَّفْيُ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ السميِّ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يسمَّى بِمِثْلِ أَسْمَائِهِ، فَإِنَّ هُنَاكَ أَسْمَاءً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، ولكنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إِذَا سمِّي اللَّهُ بِهَا؛ كَانَ مَعْنَاهَا مُخْتَصًّا بِهِ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ الكلِّي، وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ إلَاّ فِي الذِّهْنِ، وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ؛ فَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى إِلَّا جُزْئِيًّا مُخْتَصًّا، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُضَافُ

(1) أورده الذهبي بإسناده في كتاب ((العلو)) ، وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص184) :

((وهذا إسنادٌ صحيحٌ)) . اهـ

ونُعَيم بن حماد: هو أبو عبد لله نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخُزاعي المروزي، قال الخطيب:((يقال إنه أوَّل من جمع المسند في الحديث)) . وهو أعلم الناس بالفرائض، كان شديد الرد على الجهمية وأهل الأهواء، توفي سنة (228هـ) .

(2)

انظر: (ص163) .

(3)

مريم: (65) : {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} .

ص: 72

إِلَيْهِ، فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الرَّبِّ؛ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْعَبْدُ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْعَبْدِ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الرَّبُّ.

وَأَمَّا الْكُفْءُ؛ فَهُوَ الْمُكَافِئُ الْمُسَاوِي، وَقَدْ دلَّ عَلَى نَفْيِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1) .

وَأَمَّا النِّدُّ؛ فَمَعْنَاهُ الْمُسَاوِي الْمُنَاوِئُ؛ قَالَ تَعَالَى:

{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .

ـ[ (ولَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سبحانه وتعالى .]ـ

/ش/ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((يُقاسُ بِخَلْقِهِ)) ؛ فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شيءٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُسَاوَاةَ بَيْنَ المَقِيس والمَقِيس عليه في الشؤون الْإِلَهِيَّةِ.

وَذَلِكَ مِثْلُ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يعرِّفه عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِأَنَّهُ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي حكمٍ جَامِعٍ؛ كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَهِيَ الْإِسْكَارُ.

فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ مبنيٌّ عَلَى وُجُودِ مُمَاثَلَةٍ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَاللَّهُ عز وجل لَا يَجُوزُ أَنْ يمثِّل بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ.

وَمِثْلُ قِيَاسِ الشُّمُولِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ بِأَنَّهُ الِاسْتِدْلَالُ بكليٍّ عَلَى جزئيٍّ بِوَاسِطَةِ انْدِرَاجِ ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ مَعَ غَيْرِهِ تَحْتَ هَذَا الكُلِّي.

فَهَذَا الْقِيَاسُ مبنيٌّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَفْرَادِ المُنْدَرِجة تَحْتَ هَذَا الكُلِّي،

(1) الإخلاص: (4) .

(2)

البقرة: (22) .

ص: 73