الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مباحث عامَّة حول آيات الصفات
إِنَّ النَّاظِرَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ الَّتِي سَاقَهَا المؤلِّف رحمه الله يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْهَا قواعدَ وَأُصُولًا هامَّة يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ:
الْأَصْلُ الأوَّل: اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمَا دلَّت عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأَفْعَالِ.
مِثَالُ ذَلِكَ الْقُدْرَةُ مَثَلًا، يَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالْإِيمَانُ بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَالْإِيمَانُ بِأَنَّ قُدْرَتَهُ نَشَأَتْ عَنْهَا جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ..
وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى هَذَا النَّمَطِ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَاقَهَا المصنِّف مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى؛ فَإِنَّهَا داخلةٌ فِي الْإِيمَانِ بِالِاسْمِ.
وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الصِّفَاتِ؛ مِثْلِ: عزَّة اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِالصِّفَاتِ.
وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْأَفْعَالِ الْمُطَلَقَةِ والمقيَّدة، مِثْلِ: يَعْلَمُ كَذَا، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَيَرَى، وَيَسْمَعُ، وَيُنَادِي، وَيُنَاجِي، وكلَّم، ويكلِّم؛ فَإِنَّهَا داخلةٌ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَفْعَالِ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: دلَّت هَذِهِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي قِسْمَانِ:
1-
صِفَاتٌ ذاتيَّة لَا تنفكُّ عَنْهَا الذَّاتُ، بَلْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهَا أَزَلًا وَأَبَدًا، وَلَا تتعلَّق بِهَا مَشِيئَتُهُ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ، وَذَلِكَ كَصِفَاتِ: الْحَيَاةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْقُوَّةِ، والعزَّة، وَالْمُلْكِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْمَجْدِ، وَالْجَلَالِ إلخ.
2-
صِفَاتٌ فعليَّة تَتَعَلَّقُ بِهَا مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ كُلَّ وَقْتٍ وَآنٍ، وَتَحْدُثُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ آحَادُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ نَوْعَهَا قَدِيمٌ، وَأَفْرَادَهَا حَادِثَةٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ، وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ ويتكلَّم وَيَخْلُقُ ويدبِّر الْأُمُورَ، وَأَفْعَالُهُ تَقَعُ شَيْئًا فَشَيْئًا، تَبَعًا لِحِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ.
فَعَلَى الْمُؤْمِنِ الإيمان بكل مانسبه اللَّهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ المتعلِّقة بِذَاتِهِ؛ كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَالْمَجِيءِ، وَالْإِتْيَانِ، وَالنُّزُولِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَالضَّحِكِ، وَالرِّضَى، وَالْغَضَبِ، وَالْكَرَاهِيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ. والمتعلِّقة بِخَلْقِهِ؛ كَالْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ، وَالْإِمَاتَةِ، وَأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ الْمُخْتَلِفَةِ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ تفرُّد الربِّ جلَّ شَأْنُهُ بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ مثيلٌ فِي شيءٍ مِنْهَا.
وَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لَهُ وَحْدَهُ، وَنَفْيِ النِّدِّ وَالْمِثْلِ وَالْكُفْءِ وَالسَّمِيِّ وَالشَّرِيكِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ منزَّه عَنْ كُلِّ نقصٍ وعيبٍ وآفةٍ.
الْأَصْلُ الرَّابِعُ: إِثْبَاتُ جَمِيعِ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّاتِيَّةِ مِنْهَا؛ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنْحَوِهَا، وَالْفِعْلِيَّةِ؛ كَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَبَيْنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالنُّزُولِ، فَكُلُّهَا مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى إِثْبَاتِهِ بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَبِلَا تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ.
وَالْمُخَالِفُ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَرِيقَانِ:
1-
الجهميَّة: يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا.
2-
الْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ، وَيُثْبِتُونَ الْأَسْمَاءَ وَالْأَحْكَامَ، فَيَقُولُونَ: عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ، وَقَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ، وحيٌّ بِلَا حَيَاةٍ
…
إلخ.
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ فَإِنَّ إِثْبَاتَ مَوْصُوفٍ بِلَا صِفَةٍ، وَإِثْبَاتَ مَا لِلصِّفَةِ لِلذَّاتِ المجرَّدة محالٌ فِي الْعَقْلِ؛ كَمَا هُوَ باطلٌ فِي الشَّرْعِ.
أَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ ومَن تَبِعَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ سَبْعِ صِفَاتٍ يُسَمُّونَهَا صِفَاتِ الْمَعَانِي، ويدَّعون ثُبُوتَهَا بِالْعَقْلِ، وَهِيَ: الْحَيَاةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ.
وَلَكِنَّهُمْ وَافَقُوا الْمُعَتَزِلَةَ فِي نَفْيِ مَا عَدَا هَذِهِ السَّبْعَ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي صحَّ بِهَا الْخَبَرُ.
وَالْكُلُّ مَحْجُوجُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْقُرُونِ المفضَّلة عَلَى الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ.
ـ[ (فَصْلٌ: ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عز وجل مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ)) عطفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا تقدَّم (1) : ((وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ
…
إلخ)) ؛ يَعْنِى: وَدَخَلَ فِيهَا مَا وَصَفَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ربَّه فِيمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ.
(1)(ص112) .
والسنَّة هِيَ الْأَصْلُ الثَّانِي الَّذِي يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، والتَّعويل عَلَيْهِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل؛ قَالَ تَعَالَى:
{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ: السُّنَّةُ.
وَقَالَ: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (2) .
وَقَالَ آمِرًا لِنِسَاءِ نبيِّه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (3) .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (4) .
وَقَالَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عليهِ وَآلِهِ: ((أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)) (5) .
وَحُكْمُ السُّنَّةِ حُكْمُ الْقُرْآنِ فِي ثُبُوتِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ تَوْضِيحٌ لِلْقُرْآنِ، وبيانٌ لِلْمُرَادِ مِنْهُ: تفصِّل مُجْمَلَهُ، وتقيِّد مُطْلَقَهُ، وتخصِّص عُمُومَهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (6) .
(1) النساء: (113) .
(2)
البقرة: (129) .
(3)
الأحزاب: (34) .
(4)
الحشر: (7) .
(5)
(صحيح) . رواه أبو داود في ((السنة)) (باب: في لزوم السنة)(12/355-عون) ، وأحمد في ((المسند)) (4/131)(1/191-ساعاتي) .
انظر: ((المشكاة)) (163) ، و ((جامع الأصول)) (1/281) .
(6)
النحل: (44) .
وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ بِإِزَاءِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَرِيقَانِ:
1-
فريقٌ لَا يتورَّع عَنْ رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا إِذَا وَرَدَتْ بِمَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ؛ بِدَعْوَى أَنَّهَا أَحَادِيثُ آحَادٍ لَا تُفِيدُ إلَاّ الظنَّ، وَالْوَاجِبُ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ الْيَقِينُ، وَهُؤَلَاءِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ.
2-
وَفَرِيقٌ يُثبتها وَيْعْتَقِدُ بِصِحَّةِ النَّقْلِ، وَلَكِنَّهُ يَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِهَا؛ كَمَا يَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِ آيَاتِ الْكِتَابِ، حَتَّى يخرِجَها عَنْ مَعَانِيهَا الظَّاهِرَةِ إِلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ معانٍ بِالْإِلْحَادِ وَالتَّحْرِيفِ، وهؤلاء هم متأخِّرو الْأَشْعَرِيَّةِ، وَأَكْثَرُهُمْ توسُّعًا فِي هَذَا الْبَابِ الْغَزَالِيُّ (1) ، والرَّازي (2) .
قَوْلُهُ: ((وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ
…
)) إلخ؛ يَعْنِي: أَنَّهُ كَمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ تحريفٍ وَلَا تعطيلٍ وَلَا تكييفٍ وَلَا تمثيلٍ؛ كَذَلِكَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَهُ بِهِ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَهُوَ رَسُولُهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ.
قَوْلُهُ: ((كَذَلِكَ)) ؛ أَيْ: إِيمَانًا مِثْلَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ، خَالِيًا مِنَ التَّحْرِيفِ
(1) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، المتكلم، المتصوِّف، الفقيه، الأصولي، تاه في متاهات علم الكلام والتصوف فضَّل وأضلَّ، وقيل: رجع قبل وفاته.
ولد بطوس سنة (450هـ)، ومن أشهر تصانيفه:((إحياء علوم الدين) .
(2)
هو فخر الدين محمد بن ضياء الدين عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني، ولد سنة (544هـ) ، أصولي، متكلم، مفسر، له تصانيف كثيرة مليئة بالضلالات والبدع والخرافات والسحر، منها ((التفسير الكبير)) أو ((مفاتيح الغيب)) ، مات سنة (606هـ) بعد أن رجع وتاب.
وَالتَّعْطِيلِ، وَمِنَ التَّكْيِيفِ وَالتَّمْثِيلِ بَلْ إِثْبَاتٌ لَهَا عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِعَظَمَةِ الرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ.
ـ[ (فَمِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((فَمِنْ ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
…
)) إلخ؛ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَتَيْنِ:
الْأُولَى: صحَّته مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ؛ وَقَدْ ذَكَرَ المؤلِّف رحمه الله أَنَّهُ متَّفق عَلَيْهِ. وَيَقُولُ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ ((الْعُلُوُّ للعليِّ الْغَفَّارِ)) (2) :
((إِنَّ أَحَادِيثَ النُّزُولِ مُتَوَاتِرَةٌ، تُفِيدُ الْقَطْعَ)) .
وَعَلَى هَذَا؛ فَلَا مَجَالَ لِإِنْكَارٍ أَوْ جُحُودٍ.
الثَّانِيَةُ: مَا يُفِيدُهُ هَذَا الْحَدِيثُ؛ وَهُوَ إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِنُزُولِ الربِّ تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ
…
إلخ.
(1) رواه البخاري في التوحيد، (باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه} ِ (13/464-فتح) ، وفي التهجُّد، (باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل) (3/29-فتح) ، وفي الدعوات، (باب: الدعاء نصف الليل) ، ومسلم في صلاة المسافرين، (باب: الترغيب في الدعاء) (6/282-نووي) ، كما رواه مالك في ((الموطأ)) ، والترمذي، وأبو داود.
(2)
انظر: ((العلو للعليِّ الغفَّار)) (ص73، 79) ، و ((مختصره)) (ص110، 116)، ونص عبارته:((وأحاديث نزول الباري متواترة)) ، وفي الموضع الآخر؛ قال:((وقد ألَّفتُ أحاديث النزول في جزء، وذلك متواترٌ أقطع به)) .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ النُّزُولَ صِفَةٌ لِلَّهِ عز وجل عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَهُوَ لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ الْخَلْقِ؛ كَمَا أَنَّ اسْتِوَاءَهُ لَا يُمَاثِلُ اسْتِوَاءَ الْخَلْقِ.
يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ:
((فالربُّ سُبْحَانَهُ إِذَا وَصَفَهُ رَسُولُهُ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَأَنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إِلَى الْحُجَّاجِ، وَأَنَّهُ كلَّم مُوسَى بِالْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دخانٌ، فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا؛ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مِنْ جِنْسِ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ حَتَّى يُقال: ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ)) (1) .
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِالنُّزُولِ صِفَةً حَقِيقِيَّةً لِلَّهِ عز وجل، عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَشَاءُ، فَيُثْبِتُونَ النُّزُولَ كَمَا يُثْبِتُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَقِفُونَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يكيِّفون وَلَا يمثِّلون وَلَا يَنْفُونَ وَلَا يعطِّلون، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ يَنْزِلُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْنَا كَيْفَ يَنْزِلُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ فعَّال لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَلِهَذَا تَرَى خواصَّ الْمُؤْمِنِينَ يتعرَّضون فِي هَذَا الْوَقْتِ الْجَلِيلِ لِأَلْطَافِ رَبِّهِمْ وَمَوَاهِبِهِ، فَيَقُومُونَ لِعُبُودِيَّتِهِ؛ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ، دَاعِينَ متضرِّعين، يَرْجُونَ مِنْهُ حُصُولَ مَطَالِبِهِمُ الَّتِي وَعَدَهُمْ بِهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ـ[ (وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ]ـ
(1) انظر: ((دقائق التفسير)) (6/424) .
ـ[بِرَاحِلَتِهِ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا
…
)) إلخ؛ تَتِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ؛ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ:
((لَلَّهُ أشدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ دويَّة مَهْلَكَةٍ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا، فَنَامَ وَرَاحِلَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَذَهَبَ فِي طَلَبِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَرْجِعَنَّ فَلَأَمُوتَنَّ حَيْثُ كَانَ رَحْلِي، فَرَجَعَ، فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: اللهمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)) (2) .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْفَرَحِ لِلَّهِ عز وجل، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ: أَنَّهُ صِفَةٌ حَقِيقَةٌ لِلَّهِ عز وجل، عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ التَّابِعَةِ لِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، فيَحْدُث لَهُ هَذَا الْمَعْنَى المعبَّر عَنْهُ بِالْفَرَحِ عِنْدَمَا يُحدِثُ عبدُه التوبةَ والإنابةَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مستلزمٌ لِرِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ، وَقَبُولِهِ تَوْبَتَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْفَرَحُ فِي الْمَخْلُوقِ عَلَى أَنْوَاعٍ؛ فَقَدْ يَكُونُ فَرَحَ خِفَّةٍ وَسُرُورٍ وَطَرَبٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرَحَ أشرٍ وبطرٍ؛ فَاللَّهُ عز وجل منزَّه عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، ففرحهُ لَا يُشْبِهُ فَرَحَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي أَسْبَابِهِ، وَلَا فِي غَايَاتِهِ،
(1) رواه البخاري في الدعوات، (باب: التوبة) (11/102-فتح) ، ومسلم في التوبة، (باب: الحضِّ على التوبة) (17/65-نووي) ، والترمذي في صفة القيامة، (باب: المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه) ؛ بألفاظ مختلفة.
(2)
تقدم تخريجه آنفًا.
فَسَبَبُهُ كَمَالُ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانُهُ الَّتِي يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يتعرَّضوا لَهَا، وَغَايَتُهُ إِتْمَامُ نِعْمَتِهِ عَلَى التَّائِبِينَ الْمْنِيبِينَ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْفَرَحِ بِلَازِمِهِ، وَهُوَ الرِّضَا، وَتَفْسِيرُ الرِّضَا بِإِرَادَةِ الثَّوَابِ؛ فكلُّ ذَلِكَ نفيٌ وتعطيلٌ لِفَرَحِهِ وَرِضَاهُ سُبْحَانَهُ، أَوْجَبَهُ سوءُ ظنِّ هَؤُلَاءِ المعطِّلة بِرَبِّهِمْ، حَيْثُ توهَّموا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ تَكُونُ فِيهِ كَمَا هِيَ فِي الْمَخْلُوقِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ تَشْبِيهِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ.
ـ[ (وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ
…
)) إلخ؛ يُثْبِتُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الضَّحِكَ لِلَّهِ عز وجل كَمَا أَفَادَهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ ـ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَالَّذِي لَا يُشْبِهُهُ ضَحِكُ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَمَا يستخفُّهم الْفَرَحُ، أَوْ يستفزُّهم الطَّرَبُ؛ بَلْ هُوَ مَعْنًى يَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ عِنْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ فَإِنَّ الضَّحِكَ إِنَّمَا يَنْشَأُ فِي الْمَخْلُوقِ عِنْدَ إِدْرَاكِهِ لأمرٍ عجيبٍ يَخْرُجُ عَنْ نَظَائِرِهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَسْلِيطَ الْكَافِرِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ مَدعاةٌ فِي
(1) رواه البخاري في الجهاد، (باب: الكافر يقتل المسلم ثم يسلم) (6/39-فتح) ، ومسلم في الإمارة، (باب: بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة) (13/39-نووي) ، ومالك في ((الموطأ)) ، والنسائي في ((سننه)) ، وتتمة الحديث:((يقاتل هذا في سبيل الله، ثم يستشهد، فيتوب الله على القاتل، فيسلم، فيقاتل في سبيل الله، فيستشهد)) .
بَادِئِ الرَّأْيِ لِسَخَطِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْكَافِرِ، وَخِذْلَانِهِ، وَمُعَاقَبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا منَّ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْكَافِرِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ، وَهَدَاهُ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُسْتَشْهَدَ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ؛ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ حَقًّا.
وَهَذَا مِنْ كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ فَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُهُ الْكَافِرُ، فَيُكْرِمُ اللَّهُ الْمُسْلِمَ بِالشَّهَادَةِ، ثُمَّ يمنُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاتِلِ، فَيَهْدِيهِ لِلْإِسْلَامِ وَالِاسْتِشْهَادِ فِي سَبِيلِهِ، فَيَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ جميعا.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ ضَحِكِهِ سُبْحَانَهُ بِالرِّضَا أَوِ الْقَبُولِ أَوْ أَنَّ الشَّيْءَ حلَّ عِنْدَهُ بمحلِّ مَا يُضْحَكُ مِنْهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ ضَحِكٌ؛ فَهُوَ نفيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
ـ[ (وَقَوْلُهُ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ آزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)) (1) . حَدِيثٌ حَسَنٌ) .]ـ
(1)(ضعيف) . لم أجده بهذا اللفظ، ولكن بلفظ:((يضحك)) ، أو:((ضحك ربنا)) ، وبلفظ:((غَيَرِه)) ؛ بدل: ((خيره)) .
والحديث رواه ابن ماجة في المقدمة، (باب: فيما أنكرت الجهمية) ، وأحمد في ((المسند)) (4/11) ، والطبراني في ((الكبير)) (19/208) ، والآجري في ((الشريعة)) (ص279) ، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) ، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (3/426) ؛ كلهم من طريق وكيع بن حُدُس ـ وقيل: عُدُس ـ عن عمه أبي رزين.
ووكيعٌ؛ قال عنه الذهبي: ((لا يعرف)) .
وقال الحافظ:
((مقبول)) .
والحديث قال عنه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3585) :
((ضعيف جدًا)) .
وانظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/244) .
/ش/ قَوْلُهُ: ((عَجِبَ رَبُّنا
…
)) إلخ؛ هَذَا الْحَدِيثُ يُثْبِتُ لِلَّهِ عز وجل صِفَةَ العَجَب، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:
((عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ شابٍّ لَيْسَ لَهُ صَبْوَةٌ)) (1)(2) .
(1)(ضعيف) . رواه أحمد في ((المسند)) (4/151) ، وأبو يعلى في ((مسنده)) (3/288) ، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (1/336) ، والطبراني في ((الكبير)) ؛ كلهم من طريق ابن لهيعة عن أبي عَشَّانة، به.
وقال عنه السخاوي في ((المقاصد)) (ص123) :
((ضعَّفه شيخُنا ـ يعني: الحافظ ابن حجر ـ في فتاويه لأجل ابن لهيعة)) . اهـ
وضعَّفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (رقم1658) .
(2)
ليت المصنِّف والشارح اكتفيا بما رواه البخاري في الجهاد، (باب: الأسارى في السلاسل) (6/145-فتح) عن أبي هريرة مرفوعًا:
((عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)) .
أو ما رواه البخاري (رقم4889) عن أبي هريرة مرفوعًا:
((لقد عجب الله من فلان وفلانة)) .
وهو عند مسلم (2054) بلفظ:
((قد عجِبَ الله من صنيعكما بضيفِكما الليلة)) .
أو غيرها من الأحاديث الصحيحة التي تثبت صفة العَجَب لله تعالى.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} (1) ؛ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى أنَّها ضميرٌ للرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ.
وَلَيْسَ عَجَبُهُ سُبْحَانَهُ نَاشِئًا عَنْ خَفَاءٍ فِي الْأَسْبَابِ أَوْ جَهْلٍ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ؛ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي عَجَبِ الْمَخْلُوقِينَ؛ بَلْ هُوَ مَعْنًى يَحْدُثُ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِنْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ.
وَهَذَا العَجَب الَّذِي وَصَفَ بِهِ الرسولُ ربَّه هُنَّا مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ مِنْ كَمَالِهِ تَعَالَى، فَإِذَا تأخَّر الْغَيْثُ عَنِ الْعِبَادِ مَعَ فَقْرِهِمْ وشدَّة حَاجَتِهِمْ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ، وَصَارَ نَظَرُهُمْ قَاصِرًا عَلَى الْأَسْبَابِ الظاهرة، وحسبوا أن لا يَكُونَ وَرَاءَهَا فرجٌ مِنَ الْقَرِيبِ الْمُجِيبِ؛ فَيَعْجَبُ اللَّهُ مِنْهُمْ.
وَهَذَا محلٌّ عجيبٌ حَقًّا؛ إِذْ كَيْفَ يَقْنَطُونَ وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ، وَالْأَسْبَابُ لِحُصُولِهَا قَدْ توفَّرت؟! فَإِنَّ حَاجَةَ الْعِبَادِ وَضَرُورَتَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَتِهِ، وَكَذَا الدُّعَاءُ بِحُصُولِ الْغَيْثِ وَالرَّجَاءِ فِي اللَّهِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَقَدْ جَرَتْ عَادَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ الْيُسْرَ مَعَ الْعُسْرِ، وَأَنَّ الشِّدَّةَ لَا تَدُومُ، فَإِذَا انضمَّ إِلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الْتِجَاءٍ وَطَمَعٍ فِي فَضْلِ اللَّهِ، وَتَضَرُّعٌ إِلَيْهِ ودعاء؛ فتح اللهم عَلَيْهِمْ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ.
وَالْقُنُوطُ مَصْدَرُ (قَنَط)، وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ قَالَ تَعَالَى:
(1) الصافات: (12) . وقد ثبتت هذه القراءة عند الحاكم (2/430) بسند صحيح، ومن طريقه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/225) .
قال الحاكم:
((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي)) .
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّآلُّونَ} (1) .
قَوْلُهُ: ((وقُرب خَيْرِهِ)) ؛ أَيْ: فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ: ((غِيَرِه)) (*) . والغِيَر: اسْمٌ مِنْ قَوْلِكَ: غَيَّرَ الشَّيْءَ فتغيَّر.
وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ:
((مَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ يلقَ الغِيَر)) (2) ؛ أَيْ: تَغَيُّرَ الْحَالِ، وَانْتِقَالَهَا مِنَ الصَّلَاحِ إِلَى الْفَسَادِ.
قَوْلُهُ: ((آزِلِينَ قَنِطِينَ)) : حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي ((إِلَيْكُمْ)) .
وَ ((آزِلين)) : جَمْعُ آزِِل، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الأزْل؛ بِمَعْنَى الشِّدة وَالضِّيقِ. يُقَالُ: أَزِلَ الرَّجُلُ يأزَل أزَلاً، مِنْ بَابِ فَرِحَ؛ أَيْ: صَارَ فِي ضِيقٍ وَجَدْبٍ.
ـ[ (وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط)) (3) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((لَا تَزَالُ جهنَّم
…
)) إلخ؛ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الرِّجْلِ
(1) الحجر: (56) .
(2)
(ضعيف) . رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (25/244) ، وفي ((الدعاء)) (3/1775) ، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/141) من حديث أنس رضي الله عنه الطويل في الاستسقاء، وفيه أن رجلاً أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة آخرها:
فمن يشكر الله يلقى المزيد
…
ومن يكفر الله يلقَ الغير
وعلة إسنادهما: مسلم بن كيسان المُلائي؛ وهو ضعيف.
(3)
رواه البخاري في تفسير سورة ق، (باب قول الله تعالى:{وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (8/594-فتح) ، وفي الأيمان والنذور، والتوحيد، ومسلم في الجنة، (باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء) (17/189-نووي) ، ورواه الترمذي في تفسير سورة ق.
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ليس فيما تتبعته من المراجع سوى هذا اللفظ «غيره» بالغين. إسماعيل الأنصاري. [ص 115]
والقدَم لِلَّهِ عز وجل، وَهَذِهِ الصِّفَةُ تُجرى مَجْرَى بقيَّة الصِّفَاتِ، فتُثبت لِلَّهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِعَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْحِكْمَةُ مِنْ وَضْعِ رِجْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي النَّارِ أَنَّهُ قَدْ وَعَدَ أَنْ يَمْلَأَهَا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى رحمته وعدله أن لا يعذِّبَ أَحَدًا بِغَيْرِ ذنبٍ، وَكَانَتِ النَّارُ فِي غَايَةِ الْعُمْقِ وَالسَّعَةِ؛ حقَّق وَعْدَهُ تَعَالَى، فَوَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَحِينَئِذٍ يَتَلَاقَى طَرَفَاهَا، وَلَا يَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ عَنْ أَهْلِهَا.
وَأَمَّا الْجَنَّةُ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا فضلٌ عَنْ أَهْلِهَا مَعَ كَثْرَةِ مَا أَعْطَاهُمْ وَأَوْسَعَ لَهُمْ، فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرِينَ؛ كَمَا ثَبَتَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ (1) .
ـ[ (وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ)) . مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (2) . وَقَوْلُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَاّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ]ـ
(1) يشير إلى ما رواه الشيخان:
((لا تزال جهنم يُلقى فيها
…
)) ، وقد تقدَّم تخريجه.
وتتمة الحديث:
((
…
ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقًا، فيسكنهم فضل الجنة)) .
(2)
تتمة الحديث:
((
…
قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} )) .
فشق ذلك عى الناس حتى تغيَّرت وجوههم، قالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأجوج ومأجوج تسع مئة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد)) .
وللحديث روايات أخرى.
رواه البخاري في ((الأنبياء)) ، (باب: قصة يأجوج ومأجوج)) (6/382-فتح) ، وفي الرقاق والتوحيد، ومسلم في الإيمان، (باب: قوله: ((يقول الله لآدم: أخرج بعث النار)) ) (3/97-نووي) .
ـ[تَرْجُمَانٌ)) (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ
…
)) إلخ؛ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ إثباتُ الْقَوْلِ وَالنِّدَاءِ وَالتَّكْلِيمِ لِلَّهِ عز وجل، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ بيَّنَّا مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ أَفْعَالٍ لَهُ سُبْحَانَهُ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَهُوَ قَالَ، وَيَقُولُ، وَنَادَى، وَيُنَادِي، وكلَّم، ويكلِّم، وَأَنَّ قَوْلَهُ وَنِدَاءَهُ وَتَكْلِيمَهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ يَسْمَعُهَا مَنْ يُنَادِيهِ ويكلِّمه، وَفِي هَذَا ردٌّ عَلَى الْأَشَاعِرَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ، وَإِنَّهُ بِلَا حرفٍ وَلَا صوتٍ.
وَقَدْ دلَّ الْحَدِيثُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ سيكلِّم جَمِيعَ عِبَادِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَهَذَا تكليمٌ عامٌّ؛ لِأَنَّهُ تكليمُ محاسبةٍ، فَهُوَ يشملُ المؤمنَ والكافرَ وَالْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} (2) ؛ لِأَنَّ المنفيَّ هُنَا هُوَ التَّكْلِيمُ بِمَا يسرُّ المكلَّم، وَهُوَ تكليمٌ خاصٌّ، وَيُقَابِلُهُ تَكْلِيمُهُ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ تكليمَ مَحَبَّةٍ وَرِضْوَانٍ وَإِحْسَانٍ.
(1)(صحيح) . سبق تخريجه (ص185) .
(2)
البقرة: (174)، وآل عمران:(77) .
ـ[ (وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: ((رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ [فَيَبْرَأَ](1)) ) (2)
[حَدِيثٌ حَسَنٌ](3) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [وَغَيرُهُ](4) .
وَقَوْلُهُ: ((أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) (5) . [حَدِيثٌ صَحِيحٌ](6) .
وَقَوْلُهُ:]ـ
(1) ليست في المخطوط.
(2)
(ضعيف، أو ضعيف جدًا) . رواه أبو داود في الطب، (باب: كيف الرقى) (10/385-عون) من حديث أبي الدرداء.
وفيه زيادة بن محمد الأنصاري..
قال عنه البخاري والنسائي: ((منكر الحديث)) . انظر: ((الميزان)) (2/98) .
وقال الذهبي فيه: ((وقد انفرد بحديث الرقية: ربنا الله الذي في السماء)) .
وقد رواه الحاكم من هذا الوجه.
انظر: ((ضعيف الجامع)) (5422) ـ وفيه قال الألباني: ((ضعيف جدًا)) ، و ((مشكاة المصابيح)) (1555) ، و ((جامع الأصول)) (5717) .
ورواه الإمام أحمد في ((المسند)) (6/21) من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري، وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم الغساني، وهو ضعيف. انظر:((زاد المعاد)) (4/175) .
وهو في ((الكامل)) لابن عدي (3/1054) من طريق فضالة عن أبي الدرداء به.
والحديث أورده ابن القيسراني في ((معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة)) (ص202) .
(3)
ليست في المخطوطة.
(4)
ليست في المخطوطة.
(5)
رواه البخاري في المغازي، (باب: بعث علي وخالد إلى اليمن) (8/67-فتح) ، ومسلم في الزكاة، (باب: ذكر الخوارج وصفاتهم) (7/168-نووي) .
(6)
في المخطوط: [رواه البخاري وغيره] ؛ بدل: [حديث صحيح] .
ـ[ ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ [الْمَاءِ](1) ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) (2)[حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ](3) .]ـ
ـ[وَقَوْلُهُ لِلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)) . قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)) . قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) (4) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .]ـ
/ش/قَوْلُهُ: ((رَبَّنَا اللَّهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
…
)) إلخ؛ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ [وَالثَّانِي](5) صريحٌ فِي علوِّه تَعَالَى وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (6) .
(1) في المخطوط: [ذلك] ؛ بدل: [الماء] .
(2)
(صحيح موقوفًا) . لم أجده مرفوعًا بهذا اللفظ؛ بل موقوفًا على ابن مسعود، وله حكم الرفع، بلفظ:
((العرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم)) .
قال الذهبي في ((العلو)) : ((إسناده صحيح)) .
ووافقه الألباني.
انظر: ((مختصر العلو)) (ص103) ، و ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/243) ، و ((الرد على الجهمي)) للدارمي، تحقيق: بدر البدر، (ص46) .
والذي في ((سنن أبي داود)) (13/14-عون) بلفظ: ((إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته)) .
(3)
في المخطوط: [رواه أبو داود والترمذي وغيرهما]، وليس فيه:[حديث حسن] .
(4)
رواه مسلم في المساجد، (باب: تحريم الكلام في الصلاة) (5/25-نووي) ، ورواه مالك، وأبو داود، والنسائي.
(5)
زيادة يقتضيها السياق.
(6)
الملك: (16) .
وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَيْسَ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ السَّمَاءَ ظرفٌ حاوٍ لَهُ سُبْحَانَهُ؛ بَلْ (فِي) إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (عَلَى) ؛ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاللُّغَةِ، وَ (فِي) تَكُونُ بِمَعْنَى (عَلَى) فِي مَوَاضِعَ كثيرةٍ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (1) ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السَّمَاءِ جِهَةَ الْعُلُوِّ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهِيَ نصٌّ فِي علوِّه تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ.
وَفِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ الْمَذْكُورِ توسُّلٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بربوبيَّته وإلاهيَّته وَتَقْدِيسِ اسْمِهِ وعلوِّه عَلَى خَلْقِهِ وَعُمُومِ أَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ وَأَمْرِهِ الْقَدَرِيِّ، ثُمَّ توسلٌ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي شَمَلَتْ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ جَمِيعًا أَنْ يَجْعَلَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ نَصِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ توسلٌ إِلَيْهِ بِسُؤُالِ مَغْفِرَةِ الحُوب ـ وَهُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ ـ، ثُمَّ الْخَطَايَا الَّتِي هِيَ دُونَهُ، ثُمَّ توسلٌ إِلَيْهِ بِرُبُوبِيَّتِهِ الخاصَّة للطَّيِّبين مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمُ، الَّتِي كَانَ مِنْ آثَارِهَا أَنْ غَمَرَهُمْ بِنَعِمِ الدِّين والدُّنيا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
فَهَذِهِ الْوَسَائِلُ المتنوِّعة إِلَى اللَّهِ لَا يَكَادُ يُرَدُّ دُعَاءُ مَن توسَّل بِهَا، وَلِهَذَا دَعَا اللَّهَ بَعْدَهَا بِالشِّفَاءِ الَّذِي هُوَ شفاءُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَدَعُ مَرَضًا إِلَّا أَزَالَهُ، وَلَا تعلُّق فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
فَهَلْ يَفْقَهُ هَذَا عُبَّاد الْقُبُورِ مِنَ المتوسِّلين بِالذَّوَاتِ وَالْأَشَخْاصِ وَالْحَقِّ وَالْجَاهِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟!
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ
…
)) (2) إلخ؛ فَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ
(1) طه: (71) .
(2)
هذا هو الحديث الثالث.
الْإِيمَانِ بعلوِّه تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ، وَبِإِحَاطَةِ (*) عِلْمِهِ بِالْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا.
فَسُبْحَانَ مَن هُوَ عليٌّ فِي دنوِّه، قريبٌ فِي علوِّه.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الرَّابِعُ (1) ؛ فَقَدْ تضمَّن شَهَادَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْإِيمَانِ لِلْجَارِيَةِ الَّتِي اعْتَرَفَتْ بِعُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ، فدلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَصْفَ العلوِّ مِنْ أَعْظَمِ أَوْصَافِ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ، حَيْثُ خصَّه بِالسُّؤَالِ عَنْهُ دُونَ بقيَّة الْأَوْصَافِ، ودلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بعلوِّه الْمُطْلَقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، فمَن أَنْكَرَهُ؛ فَقَدْ حُرِم الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ.
وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى مِنَ المعطِّلة النُّفَاةِ زَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ رَسُولِهِ، فَيَنْفُونَ عَنْهُ الْأَيْنَ بَعْدَمَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ مِنَ الرَّسُولِ مَرَّةً سَائِلًا غَيْرَهُ ـ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ـ، وَمَرَّةً مُجِيبًا لِمَنْ سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا؟
ـ[ (وَقَوْلُهُ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)) (2) .]ـ
(1) في المطبوعة: ((الثاني)) ، والصواب ما أثبتُّه، وفيها تقديم شرح الحديث الرابع على الثالث، وجعلناه هنا مرتَّبًا حسب ما في المتن.
(2)
(ضعيف) . قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/60) : ((روا الطبراني في الأوسط والكبير، وقال: تفرد به عثمان بن كثير. قلت: ولم أرَ مَن ذكره بثقة ولا جرح)) . اهـ
وهو في ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص541) من رواية عثمان بن كثير أيضًا، ولكنه في ((مسند الشاميين)) للطبراني (1/305) من رواية عثمان بن سعيد بن كثير؛ قال عنه في ((التقريب)) :((ثقة عابد)) .
وفي سنده أيضًا نعيم بن حماد الراوي عنه. انظر ((الحلية)) (6/124) ؛ قال عنه الذهبي في ((الميزان)) : ((من الأئمة الأعلام، على لينٍ في حديثه)) ، وقال الحافظ في ((التقريب)) :((صدوق يخطئ كثيرًا)) .
والحديث ضعَّفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1002) .
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
كذا في الأصل، والصواب «وبين الإيمان بإحاطة» ، إسماعيل الأنصاري. [ص 119]
ـ[حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)) (1) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ [وَالأَرْضِ](2) وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ](3) كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ)) (4) . [رِوَايَةُ](5) مُسْلِمٌ.]ـ
(1) رواه بألفاظ مختلفة: البخاري في الصلاة، (باب: حك البزاق باليد من المسجد) (1/507-فتح) ، وفي صفة الصلاة، وفي الأدب، ومسلم في المساجد، (باب: النهي عن البصاق في المسجد) (5/-41نووي) ، ومالك في ((الموطأ)) ، وأبو داود، والنسائي.
(2)
ليست في المخطوط ولا ((الفتاوى)) .
(3)
ليست في المخطوط ولا ((الفتاوى)) .
(4)
(صحيح) . سبق تخريجه (121) .
(5)
في المخطوط: [رواه] ، وكذا في ((الفتاوى)) .
ـ[وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا رَفَعَ [الصَّحَابَةُ](1) أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا [بَصِيرًا] (2) قَرِيبًا. إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) (3) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ
…
)) إلخ؛ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وهو أن العبدُ ربَّه كأنَّه يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، فَلَا يتكلَّم وَلَا يَفْعَلُ وَلَا يَخُوضُ فِي أمرٍ إِلَّا وَاللَّهُ رقيبٌ مطَّلع عَلَيْهِ؛
قَالَ تَعَالَى:
وَلَا شكَّ أَنَّ هَذِهِ المعيَّة إِذَا اسْتَحْضَرَهَا الْعَبْدُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ عز وجل أَنْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ، أَوْ أَنْ يَفْتَقِدَهُ حَيْثُ أَمَرَهُ، فَتَكُونُ عَوْنًا لَهُ عَلَى اجْتِنَابِ مَا حرَّم اللَّهُ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ صِلَةٍ وَمُنَاجَاةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، فَيَخْشَعُ قَلْبُهُ، وَيَسْتَحْضِرُ عَظَمَةَ اللَّهِ
(1) في المخطوط: [أصحابه] ، وكذا في [الفتاوى] .
(2)
ليست في المخطوط ـ كما هي رواية مسلم ـ، والذي في المطبوع رواية البخاري.
(3)
(صحيح) . سبق تخريجه (ص153) .
(4)
يونس: (61) .
وَجَلَالَهُ، فتقلُّ حَرَكَاتِهِ، وَلَا يُسِيءُ الْأَدَبَ مَعَ رَبِّهِ بِالْبَصْقِ أَمَامَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ.
قَوْلُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
…
)) إلخ؛ دلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل يكونُ قِبَلَ وَجهِ المُصلِّي.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي ((الْعَقِيدَةِ الْحَمَوِيَّةِ)) (1) .
((إِنَّ الْحَدِيثَ حقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ قِبَل وَجْهِ الْمُصَلِّي، بَلْ هَذَا الْوَصْفُ يثبُتُ لِلْمَخْلُوقَاتِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ أَنَّهُ يُنَاجِي السَّمَاءَ أَوْ يُنَاجِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؛ لَكَانَتِ السَّمَاءُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَوْقَهُ، وَكَانَتْ أَيْضًا قِبل وَجْهِهِ)) . اهـ
قَوْلُهُ: ((اللهُمَّ ربَّ السموات
…
)) إلخ؛ تضمَّن الْحَدِيثُ إِثْبَاتَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْأَوَّلِ، وَالْآخِرِ، وَالظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ، وَهِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَقَدْ فَسَّرَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَا يدعُ مَجَالًا لقائلٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ جَمِيعًا بِأَسْمَاءِ رَبِّهِ وَبِالْمَعَانِي الَّتِي تدلُّ عَلَيْهَا، فَلَا يصحُّ أَنْ يُلْتَفَت إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ أَيًّا كَانَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا يعلِّمنا نبيُّنا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَيْفَ نُثْنِي عَلَى ربِّنا عز وجل قَبْلَ السُّؤَالِ، فَهُوَ يُثْنِي عَلَيْهِ بربوبيَّته الْعَامَّةِ الَّتِي انْتَظَمَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ بربوبيَّتِه الْخَاصَّةِ الممثَّلة فِي إِنْزَالِهِ هَذِهِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ تَحْمِلُ الْهُدَى وَالنُّورَ إِلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ يَعُوذُ وَيْعَتَصِمُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ فِي آخِرِ
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/107) .
الْحَدِيثِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنَهُ، وَأَنْ يُغْنِيَهُ مِنْ فقرٍ.
قَوْلُهُ: ((أيُّها النَّاس! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
…
)) إلخ؛ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ قُرْبَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَصْوَاتَهُمْ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السرَّ والنَّجوى، وَهَذَا الْقُرْبُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ قُرْبُ إِحَاطَةٍ، وَعِلْمٍ، وَسَمْعٍ، وَرُؤْيَةٍ، فَلَا يُنَافِي علوَّه عَلَى خَلْقِهِ.
ـ[ (قَوْلُهُ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لَاّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا)) (1) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .]ـ
/ش/ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُتَوَاتِرُ يَشْهَدُ لِمَا دلَّت عَلَيْهِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عز وجل فِي الْجَنَّةِ، وتمتُّعهم بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
وَهَذِهِ النُّصُوصُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ تدلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: علوُّه تعالى علىخلقه؛ لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ.
وَقَوْلُهُ: ((كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ)) ؛ الْمُرَادُ تَشْبِيهُ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ، لَا تَشْبِيهُ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ؛ يَعْنِي: أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ لِرَبِّهِمْ تَكُونُ مِنَ الظُّهُورِ
(1) رواه البخاري في مواقيت الصلاة، (باب: فضل صلاة العصر) (2/33-فتح) ، وفي تفسير سورة ق، وفي التوحيد، ومسلم في المساجد، (باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما) (5/138-نووي) ، ورواه أبو داود والترمذي.
وَالْوُضُوحِ كَرُؤْيَةِ الْقَمَرِ فِي أَكْمَلِ حَالَاتِهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ بَدْرًا، وَلَا يَحْجُبُهُ سَحَابٌ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:((لَا تُضامون فِي رُؤْيَتِهِ)) ؛ رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنَ التَّضامِّ؛ بِمَعْنَى: التَّزَاحُمِ والتَّلَاصُقِ، وَالتَّاءُ يَجُوزُ فِيهَا الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ تتضامُّون، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا، وَرُوِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنَ الضَّيْمِ؛ بِمَعْنَى: الظُّلْمِ؛ يَعْنِي: لَا يَلْحَقُكُمْ فِي رُؤْيَتِهِ ضيمٌ وَلَا غبنٌ.
وَفِي حثِّه صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ خَاصَّةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَن حَافَظَ عَلَيْهِمَا فِي جَمَاعَةٍ نَالَ هَذَا النَّعِيمَ الْكَامِلَ، الَّذِي يضمحلُّ بِإِزَائِهِ كُلُّ نَعِيمٍ، وَهُوَ يدلُّ عَلَى تَأْكِيدِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا دلَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ:
((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائكةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ)) (1) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ـ[ (
…
إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ) .]ـ
(1)(صحيح) . جزء من حديث تقدّم تخريجه (ص177) .
/ش/ قَوْلُهُ: ((إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
…
)) إلخ. لَمَّا كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ هُوَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي بَابِ الصِّفَاتِ مِنَ الْأَخْبَارِ؛ نبَّه عَلَى أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا ممَّا يُخْبِرُ فِيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِمَا يتضمَّنه مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.
ثُمَّ عَادَ فأكَّد مُعْتَقَدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَهُوَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ صِفَاتٍ؛ كَإِيمَانِهِمْ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِأَنَّهُمْ وسطٌ بَيْنَ فِرَق الضَّلَالِ والزَّيغ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ وسطٌ بَيْنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) .
وَمَعْنَى {وَسَطًا} : عُدولاً خِيَارًا؛ كَمَا وردَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ (2) .
(1) البقرة: (143) .
(2)
يشير إلى ما رواه البخاري في التفسير، (باب: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (8/171-فتح) ، وفي الأنبياء، وفي الاعتصام، والترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة البقرة) (8/297-تحفة) ؛ عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا:
((يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بَلَّغتَ؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله جلّ ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} )) .
قال الحافظ في ((الفتح)) (8/172) :
((قوله: ((والوسط: العدل)) هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة؛ كما وهم فيه بعضهم)) .
فَهَذِهِ الأمَّة وسطٌ بَيْنَ الْأُمَمِ الَّتِي تجنَحُ إِلَى الغلوِّ الضارِّ وَالْأُمَمِ الَّتِي تميلُ إِلَى التَّفريط المُهْلِكِ.
فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَن غَلَا فِي الْمَخْلُوقِينَ، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَحُقُوقِهِ مَا جَعَلَ؛ كَالنَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوا فِي الْمَسِيحِ والرُّهبان.
وَمِنْهُمْ مَن جَفَا الْأَنْبِيَاءَ وأتباعَهم، حَتَّى قتلهُم، وردَّ دَعْوَتَهُمْ؛ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَحَاوَلُوا قَتْلَ الْمَسِيحِ، ورَمَوْه بالبُهتان.
وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ؛ فَقَدْ آمَنَتْ بِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَاعْتَقَدَتْ رِسَالَتَهُمْ، وَعَرَفَتْ لَهُمْ مَقَامَاتِهِمُ الرَّفيعة الَّتِي فضَّلهم اللَّهُ بِهَا.
وَمِنَ الْأُمَمِ أَيْضًا مَن استحلَّت كلَّ خبيثٍ وطيِّبٍ.
وَمِنْهَا مَن حرَّم الطَّيِّبات غُلُوًّا وَمُجَاوَزَةً.
وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ؛ فَقَدْ أحَلَّ اللَّهُ لَهَا الطَّيِّبات، وحرَّم عَلَيْهَا الْخَبَائِثَ..
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْكَامِلَةِ بالتوسُّط فِيهَا.
فَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ متوسِّطون بَيْنَ فِرَقِ الْأُمَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ الَّتِي انحرفتْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
ـ[ (فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سبحانه وتعالى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ (1) ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ) (2) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((فهُم وسطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ
…
)) إلخ؛ يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وسَطٌ فِي بَابِ الصِّفَاتِ بَيْنَ مَن يَنْفِيهَا ويعطِّل الذَّاتَ العليَّة عَنْهَا، ويحرِّف مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَنْ مَعَانِيهَا الصَّحيحة إِلَى مَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ مِنْ معانٍ بِلَا دليلٍ صَحِيحٍ، وَلَا عقلٍ صَرِيحٍ؛ كَقَوْلِهِمْ: رَحْمَةُ اللَّهِ: إِرَادَتُهُ الْإِحْسَانَ، وَيَدُهُ: قدرتُه، وعينُه: حِفْظُهُ وَرِعَايَتُهُ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ: اسْتِيلَاؤُهُ
…
إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْيِ والتَّعطيل الَّتِي أَوْقَعَهُمْ فِيهَا سُوءُ ظنِّهم بربِّهم، وتوهُّمِهم أَنَّ قِيَامَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِهِ لَا يُعْقَل إِلَّا عَلَى النَّحْوِ الْمَوْجُودِ فِي قِيَامِهَا بِالْمَخْلُوقِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ حَيْثُ يَقُولُ:
وَقُصَارَى أَمْرِ مَنْ أَوَّلَ أَنْ ظَنُّوا الظُّنُونَا
…
فَيَقُولُونَ عَلَى الرَّحْمَنِ مَا لَا يَعْلَمُونَا
وَإِنَّمَا سُمِّي أَهْلُ التَّعْطِيلِ جَهْمِيَّةً نِسْبَةً إِلَى الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ التِّرْمِذِيِّ رَأْسِ الْفِتْنَةِ واَلضَّلَالِ، وَقَدْ تُوُسِّع فِي هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى أَصْبَحَ يُطلق عَلَى كُلِّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ فِرَقِ
(1) الجهميَّة: طائفة انتشرت في أواخر دولة بني أمية، تنتسب إلى الجهم بن صفوان الترمذي، ومذهبهم نفي الأسماء والصفات؛ كما أنهم من غُلاة المرجئة والجبرية.
(2)
المشبِّهة: ويسمَّوْن: المجسِّمة، وهم على النقيض من الجهمية في إثبات الأسماء والصفات، فقد قالوا: إن لله يدًا كيد المخلوقين، وسمعًا كسمعهم، وبصرًا كبصرهم، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
النُّفاة؛ مِنْ فَلَاسِفَةٍ، وَمُعْتَزِلَةٍ، وَأَشْعَرِيَّةٍ، وَقَرَامِطَةٍ بَاطِنِيَّةٍ (1) .
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ وَبَيْنَ أَهْلِ التَّمْثِيلِ المشبِّهة الَّذِينَ شَبَّهُوا اللَّهَ بِخَلْقِهِ، ومثَّلوه بِعِبَادِهِ.
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فَهَذَا يردُّ عَلَى المشبِّهة. وَقَوْلُهُ:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} يردُّ عَلَى المعطِّلة.
وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ؛ فَهُمُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيلٍ، وينزِّهُونه عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ تَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ، فَجَمَعُوا أَحْسَنَ مَا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ؛ أَعْنِي: التَّنْزِيهَ وَالْإِثْبَاتَ، وتركوا ما أخطؤوا وأساؤوا فِيهِ مِنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ.
ـ[ (وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ الله بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ (2) وَالْقَدَرِيَّةِ (3) (4)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَهُمْ وَسَطٌ
…
)) إلخ؛ قَالَ الشَّيْخُ العلَاّمة مُحَمُّدُ بْنُ
(1) يعني الشارح أن نقول عنهم: هم جهمية في الأسماء والصفات.
(2)
الجبريَّة: هم الجهمية ومن وافقهم؛ القائلون: إن العباد لا إرادة لهم ولا قدرة لهم على فعل الطاعات ولا ترك المنهيات، وهم مجبورون على فعل ذلك كله، وهم نقيض القدرية.
(3)
سبق التعريف بهم (ص127) .
(4)
في المطبوع زيادة: [وغيرهم] ، وهي ليست في المخطوط، ولا ((الفتاوى)) .
عَبْدِ الَعْزِيزِ بْنِ مَانِعٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا نَصُّهُ (1) :
((اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ هَلْ هِيَ مقدورةٌ لِلرَّبِّ أَمْ لَا؟
فَقَالَ جهمٌ وَأَتْبَاعُهُ ـ وَهُمُ الْجَبْرِيَّةُ ـ: إِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مقدورٌ للرَّب لَا لِلْعَبْدِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ: إِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْمَقْدُورِ قُدْرَةُ الرَّبِّ دُونَ (2) قُدْرَةِ الْعَبْدِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ ـ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ؛ أَيْ: نُفَاةُ الْقَدَرِ ـ: إِنَّ الرَّبَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى عَيْنِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِهِ؟ فَأَثْبَتَهُ الْبَصْرِيُّونَ؛ كَأَبِي عَلِيٍّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، ونَفَاهُ الكعبيُّ وَأَتْبَاعُهُ البغداديُّون.
وَقَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِهَا صَارُوا مُطِيعِينَ وَعُصَاةً، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ منفردٌ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا خَالِقَ لَهَا سِوَاهُ.
فَالْجَبْرِيَّةُ غلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، فنَفَوْا فِعْلَ الْعَبْدِ أَصْلًا.
وَالْمُعْتَزِلَةُ نُفَاةُ الْقَدَرِ جَعَلُوا الْعِبَادَ خَالِقِينَ مَعَ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صراطٍ مستقيمٍ، فَقَالُوا: الْعِبَادُ فَاعِلُونَ، وَاللَّهُ خَالِقُهُمْ
(1) انظر تعليقه على ((الواسطية)) (ص14) من طبعة سعد الراشد بالرياض.
(2)
في طبعة الراشد: ((لا)) ؛ بدل: ((دون)) .
وَخَالِقُ أَفْعَالِهِمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1)) ) اهـ
وَإِنَّمَا نَقَلْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِنَصِّهَا؛ لِأَنَّهَا تلخيصٌ جيِّدٌ لِمَذَاهِبِ المتكلِّمين فِي الْقَدَرِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ.
ـ[ (وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ (2) [و](3) الْوَعِيدِيَّةِ (4) مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللَّهِ
…
)) إلخ؛ يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ فِي بَابِ الْوَعِيدِ بَيْنَ المفرِّطين مِنَ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يضرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذنبٌ، كَمَا لَا تَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ. وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ مجرَّد التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وسُمُّوا بِذَلِكَ نِسْبَةً إِلَى الْإِرْجَاءِ؛ أَيِ التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَّرُوا الْأَعْمَالَ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَلَا شكَّ أَنَّ الْإِرْجَاءَ بِهَذَا الْمَعْنَى كفرٌ يخرجُ صاحِبَهُ عَنِ الملَّة؛ فإنه لابد فِي الْإِيمَانِ مِنْ قولٍ بِاللِّسَانِ، واعتقادٍ بالجَنَان، وعملٍ بِالْأَرْكَانِ، فَإِذَا اختلَّ واحدٌ مِنْهَا لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا.
(1) الصافات: (96) .
(2)
المرجئة: هم القائلون: الإيمان تصديق بالقلب، ونطق باللسان، والأعمال ليست من الإيمان. والكرّامية منهم يقولون: إن الإيمان هو مجرَّد النطق باللسان، وغلاتهم يقولون: هو تصديق بالقلب فقط، وإن لم ينطق بالشهادتين. وقالوا: لا يضرّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وانظر:(ص182) .
(3)
في المخطوط: [وبين] .
(4)
الوعيدية: هم قدرية يقولون بإنفاذ الوعيد، وأن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب؛ فهو مخلَّد في النار. وقالوا: إن الله توعَّد العاصين بالنار والعذاب، وهو لا يخلف الميعاد.
وَأَمَّا الْإِرْجَاءُ الَّذِي نُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُوَافِقُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يعذِّب مَن يعذِّب مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ نطقٍ بِاللِّسَانِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَفْرُوضَةَ وَاجِبَةٌ يستحقُّ تَارِكُهَا الذمَّ وَالْعِقَابَ؛ فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِرْجَاءِ لَيْسَ كُفْرًا، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا بَاطِلًا مبتَدعًا؛ لِإِخْرَاجِهِمُ الْأَعْمَالَ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَأَمَّا الْوَعِيدِيَّةُ؛ فَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ عَقْلًا أَنْ يعذِّب الْعَاصِيَ؛ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُثيب الْمُطِيعَ، فَمَنْ مَاتَ عَلَى كَبِيرَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَذْهَبُهُمْ باطلٌ مخالفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (1) .
وَقَدِ اسْتَفَاضَتِ الْأَحَادِيثُ فِي خُرُوجِ عُصَاةِ الموحِّدين مِنَ النَّارِ وَدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ.
فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وسطٌ بَيْنَ نُفَاةِ الْوَعِيدِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ وَبَيْنَ مُوجِبِيهِ مِنَ القدريَّة، فمَن مَاتَ عَلَى كبيرةٍ عِنْدَهُمْ؛ فَأَمْرُهُ مفوَّضٌ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ؛ كَمَا دلَّت عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ.
وَإِذَا عَاقَبَهُ بِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُدُ خُلُودَ الْكُفَّارِ، بَلْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
(1) النساء: (48، و116) .
ـ[ (وَفِي بَابِ [أَسْمَاءِ](1) الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ (2) وَالْمُعْتَزِلَةِ (3) ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ (4)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الْإِيمَانِ
…
)) إلخ؛ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ من أول ماوقع فِيهِ النِّزَاعُ فِي الْإِسْلَامِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَانَ لِلْأَحْدَاثِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحُرُوبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ عليٍّ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما فِي ذَلِكَ الْحِينِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ والقدريَّة أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ النِّزَاعِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ هُنَا أَسْمَاءُ الدِّينِ، مِثْلُ: مُؤْمِنٍ، وَمُسْلِمٍ، وَكَافِرٍ، وَفَاسِقٍ
…
إلخ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ أَحْكَامُ أَصْحَابِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَالْخَوَارِجُ الْحَرُورِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يستحقُّ اسمَ الْإِيمَانِ إِلَّا مَن صدَّق بجَنانه، وأقرَّ بِلِسَانِهِ، وَقَامَ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتَنَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ. فَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: هَلْ يسمَّى كَافِرًا أَوْ لَا؟
فَالْخَوَارِجُ يُسَمُّونَهُ كَافِرًا، ويستحلِّون دَمَهُ وَمَالَهُ، وَلِهَذَا كفَّروا عَلِيًّا
(1) ليست في المخطوط.
(2)
الحرورية: هم الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه حينما قَبِل التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه، فنزلوا، واجتمعوا بحروراء ـ وهي بلد قرب الكوفة على ميلين منها ـ، وسُمُّوا بذلك نسبة إليها. وانظر:(ص225) .
(3)
سبق التعريف بهم (ص125) .
(4)
سبق التعريف بهم (ص218) .
وَمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُمَا، واستحلُّوا مِنْهُمْ مَا يستحلُّون مِنَ الْكُفَّارِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ؛ فَقَالُوا: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْكُفْرِ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَهَذَا أَحَدُ الْأُصُولِ الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ.
واتَّفق الْفَرِيقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَن مَاتَ عَلَى كَبِيرَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَهُوَ مخلَّد فِي النَّارِ.
فَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا فِي أَمْرَيْنِ:
1-
نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْ مُرْتِكِبِ الْكَبِيرَةِ.
2-
خُلُودُهُ فِي النَّارِ مَعَ الْكُفَّارِ.
وَوَقَعَ الْخِلَافُ أَيْضًا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَتُهُ كَافِرًا.
وَالثَّانِي: اسْتِحْلَالُ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الدُّنْيَوِيُّ.
وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ؛ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ؛ فَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ مؤمنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، وَلَا يستحقُّ دُخُولَ النَّارِ.
فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وسطٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ؛ فَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ مؤمنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، قَدْ نَقَصَ مِنْ إِيمَانِهِ بِقَدْرِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ الْإِيمَانَ أَصْلًا؛ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ؛ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ. وَحُكْمُهُ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ يَعْفُو اللَّهُ عز وجل عَنْهُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ابْتِدَاءً، أَوْ يعذِّبه بِقَدْرِ مَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا الْحُكْمُ أَيْضًا وَسَطٌ بَيْنَ مَن يَقُولُ
بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَبَيْنَ مَن يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِقَابًا.
ـ[ (وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ [الرَّافِضَةِ](1)[و](2) الْخَوَارِجِ) (3) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
…
)) إلخ. الْمَعْرُوفُ أَنَّ الرَّافِضَةَ ـ قبَّحهم اللَّهُ ـ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم، وَيَلْعَنُونَهُمْ، وَرُبَّمَا كفَّروهم أَوْ كفَّروا بَعْضَهُمْ، وَالْغَالِبِيَّةُ مِنْهُمْ ـ مَعَ سَبِّهِمْ لِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْخُلَفَاءِ ـ يَغْلُونَ فِي عليٍّ وَأَوْلَادِهِ، وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ.
وَقَدْ ظَهَرَ هَؤُلَاءِ فِي حَيَاةِ عليٍّ رضي الله عنه بِزِعَامَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا وَأَسْلَمَ وَأَرَادَ أَنْ يَكِيدَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ كَمَا كَادَ الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ لِلنَّصْرَانِيَّةِ وَأَفْسَدُوهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَقَدْ حرَّقهم عَلِيٌّ بِالنَّارِ لِإِطْفَاءِ فِتْنَتِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا
…
أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرًا (4)
(1) في المخطوط: [الروافض] ، وكذا في ((الفتاوى)) .
(2)
في المخطوط: [وبين] .
(3)
الرَّافضة: هم غلاة فرق الشيعة الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما تولَّى أبا بكر وعمر، فخذلوه بالكوفة كما خذلوا جده من قبل.
وأما الخوارج فهم الحرورية، وقد سبق التعريف بهم (ص223) .
(4)
ورد هذا الخبر بسند حسَّنه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (12/270) ، وخبر الإحراق ثابت في ((صحيح البخاري)) عن عكرمة، قال:((أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة، فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس؛ فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُعَذِّبوا بعذاب الله)) ، ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من بدَّل دينه فاقتلوه)) . ((الفتح)) (12/267)، (كتاب: استتابة المرتدين/باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم)) .
وممن روى ذلك: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم.
وانظر في ذلك بحثًا قيِّمًا في كتاب ((عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام)) (ص214) لسليمان العودة.
وَأَمَّا الْخَوَارِجُ؛ فَقَدْ قَابَلُوا هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضَ، فكفَّروا عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ ومَن مَعَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَاتَلُوهُمْ واستحلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَكَانُوا وَسَطًا بَيْنَ غلوِّ هَؤُلَاءِ وَتَقْصِيرِ أُولَئِكَ، وَهَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِ أَصْحَابِ نبيِّهم، وَأَنَّهُمْ أَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا فِيهِمْ، وَلَمْ يَعْتَقِدُوا عِصْمَتَهُمْ؛ بَلْ قَامُوا بِحُقُوقِهِمْ، وأحبُّوهم لِعَظِيمِ سَابِقَتِهِمْ وَحُسْنِ بَلَائِهِمْ فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَجِهَادِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ـ[ (فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ (1) عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ]ـ
(1) هذه اللفظة هي التي أثبتها الأنصاري في طبعة الإفتاء [ص 255]، وقال: إنه وجدها في عدة نسخ من العقيدة الواسطية، وأثبتها كذلك زهير الشاويش في طبعته (ص35) ؛ وهي المثبتة في ((الفتاوى)) ، بدل كلمة ((بائن)) المثبتة في طبعة الجامعة الإسلامية، والإفتاء، وطبعة دار طيبة بتعليق: عبد الله الشريف، وقد سقطت من المخطوط.
ـ[مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) . وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ (2) ، اللُّغَةُ (3) ، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ [عَلَيْهِم](4)
…
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ. وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ ـ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا ـ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَا يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ]ـ
(1) الحديد: (4) .
(2)
في طبعة الجامعة الإسلامية: ((لا توجهه)) .
(3)
زاد في المخطوط: [وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، وهي مثبتة أيضًا في الفتاوى] . وفي طبعتي الشاويش والشريف، ولكنها ليست في الطبعة المشروحة.
(4)
في المخطوط: [إليهم] ، وكذا في ((الفتاوى)) .
ـ[الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: {في السَّمَاء} ؛ أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلَاّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ
…
)) إلخ. صرَّح المؤلِّف هُنَا بِمَسْأَلَةِ علوِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَكَمَا تَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِهِ، وَكَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُهَا عِلْمًا وَإِيمَانًا، مؤكِّدًا بِذَلِكَ مَا سَبَقَ أَنْ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الصَّدَدِ، ومشدِّدًا النَّكِيرَ عَلَى مَن أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ومَن تَبِعَهُمْ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ لَا يُنَافِي معيَّته وَقُرْبَهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَإِنَّ المعيَّة لَيْسَ مَعْنَاهَا الِاخْتِلَاطَ وَالْمُجَاوَرَةَ الحسيَّة.
وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِالْقَمَرِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ أَيْنَمَا كَانَ؛ بِظُهُورِهِ وَاتِّصَالِ نُورِهِ، فَإِذَا جَازَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْقَمَرِ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ؛ أَفَلَا يَجُوزُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِبَادِهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً، وَالَّذِي هُوَ شهيدٌ مطَّلع عَلَيْهِمْ، يَسْمَعُهُمْ، وَيَرَاهُمْ، وَيَعْلَمُ سرَّهم وَنَجْوَاهُمْ، بَلِ الْعَالَمُ كُلُّهُ سَمَاوَاتُهُ وَأَرْضُهُ مِنَ الْعَرْشِ
إِلَى الْفَرْشِ كُلُّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ؛ كَأَنَّهُ بندقةٌ (1) فِي يَدِ أَحَدِنَا؛ أفلَا يَجُوزُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِيًا عَلَيْهِمْ بَائِنًا مِنْهُمْ فَوْقَ عَرْشِهِ؟!
بَلَى؛ يَجِبُ الْإِيمَانُ بكلٍّ مِنْ علوِّه تَعَالَى ومعيِّته، وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُساء فَهْمُ ذَلِكَ، أَوْ يُحمل عَلَى معانٍ فَاسِدَةٍ؛ كَأَنْ يُفْهَمَ مِنْ قَوْلِهِ:{وَهُوَ مَعَكُمْ} معيَّةَ الِاخْتِلَاطِ وَالِامْتِزَاجِ؛ كَمَا يَزْعُمُهُ الْحُلُولِيَّةُ (2) ! أَوْ يُفْهَمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فِي السَّمَاء} أَنَّ السَّمَاءَ ظرفٌ حاوٍ لَهُ محيطٌ بِهِ! كَيْفَ وَقَدْ وسع كرسيُّه السموات وَالْأَرْضَ جَمِيعًا؟! وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟!
فَسُبْحَانَ مَن لَا يَبْلُغُهُ وَهْمُ الْوَاهِمِينَ، وَلَا تُدْرِكُهُ أَفْهَامُ الْعَالِمِينَ.
ـ[ (فَصْلٌ: وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ (3) مُجِيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلُِهُِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
…
} الآيَة (4)، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى]ـ
(1) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ((ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)) . انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص281) .
(2)
الحلولية: هم الذين قالوا: إن الله تعالى حلَّ في أشخاص بأعيانهم ـ تعالى الله عمّا يقولون ـ وهم من غلاة المشبهة.
(3)
في المخطوط والفتاوى: [قريبٌ من خلقه] .
(4)
البقرة: (186)، وتتمة الآية:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
ـ[أَحَدِكُم مِّن عُنقِ رَاحِلَتِهِ)) (1) . وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ (2) الْإِيمَانُ
…
)) إلخ. يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ أَنَّهُ قريبٌ مجيبٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قريبٌ ممَّن يَدْعُوهُ وَيُنَاجِيهِ، يَسْمَعُ دُعَاءَهُ وَنَجْوَاهُ، وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ مَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، فَهُوَ تَعَالَى قريبٌ قربَ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَبِهَذَا يتبيَّن أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ أَصْلًا بَيْنَ مَا ذُكر فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ تَعَالَى ومعيَّته وَبْيَنْ مَا فِيهِمَا مِنْ علوِّه تَعَالَى وفوقيَّته.
فَهَذِهِ كُلُّهَا نعوتٌ لَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ فِي شيءٍ مِنْهَا.
ـ[ (وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ،]ـ
(1)(صحيح) . سبق تخريجه (ص153) .
(2)
أي: الإيمان بالله.
(3)
ق: (16) .
ـ[مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً، لَا كَلامَ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللهِ، أَوْ عِبَارَةٌ، بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا. وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُرُوفُهُ، ومَعَانِيهِ، لَيْسَ كَلامُ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَمِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ
…
)) إلخ. جَعَلَ المصنِّف الْإِيمَانَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّهُ صفةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، فَلَا يتمُّ الْإِيمَانُ بِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِهَا، إِذِ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا صِفَةً للمتكلِّم، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ موصوفٌ بِأَنَّهُ متكلِّم بِمَا شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يتكلَّم؛ بِمَعْنَى أَنَّ نَوْعَ كَلَامِهِ قديمٌ وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهُ لَا تَزَالُ تَقَعُ شَيْئًا بَعْدَ شيءٍ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ.
وَقَدْ قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِنَا: القْرُآنُ كَلَامُ اللَّهِ؛ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، فَتُفِيدُ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ
بِهِ حَقِيقَةً بِأَلْفَاظِهِ وَمَعاِنيهِ، بِصَوْتِ نَفْسِهِ.
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مخلوقٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرية عَلَى اللَّهِ، وَنَفَى كَلَامَ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ وَصْفًا، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِمَخْلُوقٍ، وَكَانَ أَيْضًا متجنِّيًا عَلَى اللُّغَةِ، فَلَيْسَ فِيهَا متكلِّم بِمَعْنَى خَالِقٍ لِلْكَلَامِ.
ومَن زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَوْجُودَ بَيْنَنَا حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ؛ كَمَا تَقُولُهُ الكُلَاّبية، أَوْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ؛ فَقَدْ قَالَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ حَيْثُ فرَّق بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، فَجَعَلَ الْأَلْفَاظَ مَخْلُوقَةً، وَالْمَعَانِيَ عِبَارَةً عَنِ الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ؛ كَمَا أَنَّهُ ضَاهَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ بِحُلُولِ اللَّاهُوتِ ـ وَهُوَ الْكَلِمَةُ ـ فِي النَّاسُوتِ ـ وَهُوَ جَسَدُ عِيسَى عليه السلام؛ إِذْ قَالَ بِحُلُولِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمَخْلُوقَةِ، فَجَعَلَ الْأَلْفَاظَ نَاسُوتًا لَهَا.
وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ؛ حَيْثُ تصرَّف، فَمَهْمَا كَتَبْنَاهُ فِي الْمَصَاحِفِ، أَوْ تَلَوْنَاهُ بِالْأَلْسِنَةِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ ـ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ـ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى مَن قَالَهُ مُبْتَدِئًا؛ لَا إِلَى مَن قَالَهُ مبلِّغًا مؤدِّيًا.
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: ((مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ)) ؛ فَهُوَ مِنَ الْبَدْءِ؛ يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي تكلَّم بِهِ ابْتِدَاءً، لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ البُدُو؛ بِمَعْنَى الظُّهُورِ؛ يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تكلَّم بِهِ وَظَهَرَ مِنْهُ، لَمْ يَظْهَرْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَمَعْنَى: ((إِلَيْهِ يَعُودُ)) ؛ أَيْ: يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَصْفًا؛ لِأَنَّهُ وَصْفُهُ الْقَائِمُ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَعُودُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِينَ يُرْفَعُ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ؛
كَمَا وَرَدَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ (1) .
وَأَمَّا كَوْنُ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا إِيمَانًا صَحِيحًا يَقْتَضِي إِيمَانَ الْعَبْدِ بِأَنَّ اللَّهَ تكلَّم بِهَا بِأَلْفَاظِهَا وَمَعانِيهَا، وَأَنَّهَا جَمِيعًا كَلَامُهُ هُوَ؛ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، فَهُوَ الَّذِي تكلَّم بِالتَّوْرَاةِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَبِالْإِنْجِيلِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَبِالْقُرْآنِ بِلِسَانٍ عربيٍّ مُبِينٍ.
ـ[ (وَقَد دَّخَلَ أيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلَائِكَتَهِ وَبِرُسُلِهِ: الإيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ [بِهَا](2) سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ.]ـ
(1) يشير إلى ما رواه ابن ماجه (2/1344)، والحاكم في ((المستدرك)) (4/473 و5450) ؛ عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا:
((يَدْرُس الإسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب؛ حتى لا يُدْرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ولَيُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله) ؛ فنحن نقولها)) ؛ صححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
انظر: ((السلسلة الصحيحة)) (87) .
ويدرس؛ يعني: ينقرض. ووشي الثوب: نقشه.
قال الألباني تعليقًا على الحديث:
((وذلك لا يكون قطعًا إلا بعد أن يسيطر الإسلام على الكرة الأرضية جميعها، وتكون كلمته هي العليا)) .
(2)
في المخطوط: [دونها] ، وكذا في ((الفتاوى)) .
ـ[يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهَ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ كَمَا يَشَاءُ اللهُ تَعَالَى) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَقَدْ دَخَلَ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ
…
)) إلخ؛ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لربِّهم عز وجل فِي الْجَنَّةِ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِعَادَةِ الْكَلَامِ فِيهَا.
غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: ((يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ)) قَدْ يُوهِمُ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهَا عامَّة لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ؛ حِينَ يَجِيءُ الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ (1) ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} (2) الْآيَةَ.
والعَرَصَات: جَمْعُ عَرَصة، وَهِيَ كُلُّ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ لَا بِنَاءَ فِيهِ.
ـ[ (فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ. فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ [يُمْتَحَنُونَ](3) فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ]ـ
(1) انظر: رسالة شيخ الإسلام لأهل البحرين في رؤية الكفار ربهم من ((المجموع)) (6/485-507) ، فقد فصَّل فيها الشيخ رحمه الله، وفي الرسالة فوائد تربوية عظيمة.
وانظر الفصل الثالث من كتاب ((دلالة القرآن والأثر على رؤية الله تعالى بالبصر)) للأستاذ عبد العزيز الرومي.
(2)
البقرة: (210) .
(3)
في المخطوط: [يفتنون] ، وكذا في ((الفتاوى)) .
ـ[للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَ [مَن](1) نَّبِيُّك؟ فيُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ:[رَبِّيَ اللهُ](2) ، وَالإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّي. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لَا أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلَاّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصَعِقَ (3) . ثُمَّ بَعْدَ هّذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
…
)) إلخ؛ إِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أَحَدَ الْأَرْكَانِ السِّتَّةِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الْإِيمَانُ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ إِيمَانًا تَامًّا كَامِلًا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا آمَنَ الْعَبْدُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
(1) في طبعة الإفتاء والجامعة الإسلامية: [ما] ، والذي أثبتُّه هو الصحيح، وهو المثبت في المخطوط و ((الفتاوى)) .
(2)
في المخطوط: [الله ربي] ، وكذا في ((الفتاوى)) .
(3)
يشير لما رواه البخاري في الجنائز، (باب: ما جاء في عذاب القبر) (3/232-فتح) ، ومسلم في الجنة، (باب: عرض مقعد الميت من الجنة والنار) (17/208-نووي) ، والنسائي في الجنائز، (باب: مسألة الكافر) (4/197-أبو غدة) ، والإمام أحمد؛ بألفاظ مختلفة.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا أمورٌ ممكنةٌ أَخْبَرَ بِهَا الصَّادِقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وآلِه، وَكُلُّ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِوُقُوعِهِ كَمَا أَخْبَرَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْمُرُوقِ وَالْإِلْحَادِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ فَيُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ؛ مِنْ سُؤَالِ الْقَبْرِ، وَمِنْ نَعِيمِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِهِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْمِيزَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ بِدَعْوَى أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِالْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَاكِمُ الأوَّل الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِيمَانُ بِشَيْءٍ إلَاّ عَنْ طَرِيقِهِ، وَهُمْ يردُّون الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بِدَعْوَى أَنَّهَا أَحَادِيثُ آحَادٍ لَا تُقبل فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ، فيؤوِّلونها بِمَا يَصْرِفُهَا عَنْ مَعَانِيهَا.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: ((بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ)) عَلَى مَعْنَى فِي؛ أَيْ: بِالْفِتْنَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقَبْرِ.
وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ وَضْعُ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ عَلَى النَّارِ لِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْأَوْضَارِ وَالْعَنَاصِرِ الْغَرِيبَةِ، ثُمَّ استُعْمِلَتْ فِي الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ.
وَأَمَّا عَذَابُ الْقَبْرِ وَنَعِيمُهُ؛ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حقِّ آلِ فِرْعَوْنَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} (1)، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (2)، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:((الْقَبْرُ إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ)) (3) .
(1) غافر: (46) .
(2)
نوح: (25) .
(3)
(ضعيف) . رواه الترمذي في صفة القيامة (7/160-تحفة)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/46) :((رواه الطبراني في ((الأوسط)) ، وفيه محمد بن أيوب بن سويد، وهو ضعيف)) . اهـ
وقال ابن حجر في ((تخريج الكشاف)) (ص35)(رقم291) : ((رواه الترمذي من حديث أبي سعيد، وهو ضعيف)) . اهـ
وقد ضعّفه من قبله شيخ العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/302) .
وضعّف إسناده كلٌّ من السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (ص302 رقم758) ، والهندي في ((تذكرة الموضوعات)) (ص216) .
والحديث ضعَّفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1231) ، والأرناؤوط في ((جامع الأصول)) (8696) .
والمِرْزَبَة ـ بِالتَّخْفِيفِ ـ: الْمِطْرَقَةُ الْكَبِيرَةُ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: إِرْزَبَّة؛ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ.
ـ[ (وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ. فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (1) . وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ]ـ
(1) المؤمنون: (102، 103) .
ـ[إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ..)) إلخ؛ يَعْنِي: الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى، وَهَذَا الْوَصْفُ لِلتَّخْصِيصِ، احْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ كَمَا فِي الْخَبَرِ:
((مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ)) (2) .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل إِذَا أَذِنَ بِانْقِضَاءِ هَذِهِ الدُّنْيَا؛ أَمَرَ إِسْرَافِيلَ عليه السلام أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الْأُولَى، فيَصْعَقُ كُلُّ من في السموات ومن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ، وَتُصْبِحُ الْأَرْضُ صَعِيدًا جُرُزًا، وَالْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا، وَيَحْدُثُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا سِيَّمَا فِي سُورَتَيِ التَّكْوِيرِ وَالِانْفِطَارِ، وَهَذَا هُوَ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ، فَتُمْطِرُ مَطَرًا كمنيِّ الرِّجَالِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَنْبُتُ
(1) الإسراء: (13، 14) .
(2)
(ضعيف مرفوعًا) . ضعّفه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/64) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب ((الموت)) ؛ من حديث انس.
ووافقه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1166) .
وقال مؤلف ((تبييض الصحيفة)) (ص128) :
((روى الدولابي في الكنى والأسماء)) (2/89) عن المغيرة؛ قال: ((يقولون القيامة، القيامة، وإنما قيامة أحدكم موته)) ، وإسناده حسن)) . اهـ.
ثم ذكر رواية عن عمر بن عبد العزيز في ((الحلية)) (5/325) أنه قال:
((فإنه مَن وافته منيته؛ فقد قامت قيامته)) .
وصحَّح إسناده.
مِنْهُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ مِنْ عَجْبِ أَذْنَابِهِمْ، وَكُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إلَاّ عَجْبَ الذَّنَبِ (1) .
حَتَّى إِذَا تمَّ خلقُهُم وتركيبُهم؛ أَمَرَ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِأَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَقُومُ النَّاسُ مِنَ الْأَجْدَاثِ أَحْيَاءً، فَيَقُولُ الْكُفَّارُ والمنافقون حينئذ:{يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ، وَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (2) . (*)
ثُمَّ تَحْشُرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْمَوْقْفِ حُفَاةً غَيْرَ مُنْتَعلين، عُراةً غَيْرَ مُكْتَسِينَ، غُرلاً غَيْرَ مُخْتَتِنِينَ؛ جَمْعُ أَغْرَلَ، وَهُوَ الْأَقْلَفُ، والغُرلة: القَلَفة.
وَأَوَّلُ مَنْ يَكْتَسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (3) .
(1) يشير لما رواه البخاري في ((التفسير)) (باب: {وَنُفِخَ فِي الصُّور} ِ)(8/551-فتح) ، ومسلم في الفتن، (باب: ما بين النفختين) (18/303-نووي) ، وأبو داود، والنسائي؛ من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة.
و (العَجْب) ـ بفتح العين ـ: هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع.
وتشبيه المطر بمني الرجال ورد في حديث ضعيف. انظر: ((الطحاوية)) (ص410-تخريج الألباني) . وتقييده بأربعين يومًا ورد في حديث ضعيف أيضًا. انظر: ((البعث)) لابن أبي داود - تخريج الحُوَيني (ص79) .
والذي ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ((ما بين النفختين أربعون)) ، وأبَى أبوهريرة أن يحدِّدها بيوم أو شهر أو سنة. والله أعلم.
(2)
يس: (52) .
(3)
يشير إلى حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل)) .
رواه البخاري في الرقاق، (باب: الحشر) (11/377-فتح) .
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: علّق الشيخ عبد الرزاق عفيفي في طبعة الجامعة الإسلامية [ص 131] بقوله: ((ويؤيد ذلك قوله تعالى من الآية 56 سورة الروم: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} الآية.))
وَهُنَاكَ فِي الْمَوْقِفِ تَدْنُو الشمس من رؤوس الْخَلَائِقِ، ويُلْجِمُهم الْعَرَقُ، فَمِنْهُمْ مَن يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَن يَبْلُغُ ثَدْيَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ تَرْقُوَتَهُ؛ كلٌّ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، وَيَكُونُ أناسٌ فِي ظلِّ اللَّهِ عز وجل.
فَإِذَا اشتدَّ بِهِمُ الْأَمْرُ، وعظُمَ الْكَرْبُ؛ اسْتَشْفَعُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل بِالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وكلُّ رسولٍ يُحِيلُهُمْ عَلَى مَن بَعْدَهُ؛ حَتَّى يَأْتُوا نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ:((أَنَا لَهَا)) ، وَيَشْفَعُ فِيهِمْ، فَيَنْصَرِفُونَ إِلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ.
وَهُنَاكَ تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فتوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَهِيَ مَوَازِينُ حَقِيقِيَّةٌ، كُلُّ مِيزَانٍ مِنْهَا لَهُ لسانٌ وكفَّتان، ويقلِبُ اللَّهُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ـ وَهِيَ أعراضٌ ـ أَجْسَامًا؛ لَهَا ثقلٌ، فَتُوضَعُ الْحَسَنَاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
ثُمَّ تُنْشَر الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، فَأَمَّا مَن أُوتي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ؛ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، [وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ (*) مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ](2) ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا،
(1) الأنبياء: (47) .
(2)
الأولى أن يقول: ((وأما مَن أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره] ؛ كما قال ابن كثير وغيره؛ أنه يُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره، تُثنَى يده إلى ورائه، ويُعطى بها.
انظر: ((تفسير ابن كثير)) ، سورة الانشقاق، آية (10) .
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
دعوى «أن الذي يؤتى كتابه من وراء ظهره غير الذي يؤتاه بشماله تنافي ما قرره ابن كثير من تفسيره حيث قال:» وأما من أوتي كتابه وراء ظهره «أي بشماله من وراء ظهره يثني يده إلى وراءه، ويعطى كتابه بها وكذلك، ولو أتى المؤلف بالآيات على ترتيبها في المصحف لأصاب ولسلم مما وقع فيه. إسماعيل الأنصاري. [ص 144]
وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أدرِ مَا حِسَابِيَهْ؛ قَالَ تَعَالَى:
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ؛ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ:
((أَيْ: عَمَلَهُ الَّذِي طَارَ عَنْهُ مِنْ خيرٍ وشرٍّ)) (2) .
وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ هُنَا نَصِيبُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَمَا كُتِب لَهُ فِيهَا مِنْ رِزْقٍ وَعَمَلٍ (3) ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} (4) .
يَعْنِي: مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ فِيهِ.
ـ[ (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ]ـ
(1) الكهف: (49) .
(2)
وهذا الذي رجحه ابن كثير في تفسير الآية.
(3)
انظر: ((زاد المسير)) (5/15) ، وقد ذكر لمعنى الآية أربعة أقوال، وهذا الذي رجَّحه الشارح هنا نسبه ابن الجوزي لأبي عبيدة وابن قتيبة.
(4)
الأعراف: (37) .
ـ[عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَيُحَاسِبُ اللَّهُ الخلائقَ
…
)) إلخ؛ الْمُرَادُ بِتِلْكَ الْمُحَاسَبَةِ تَذْكِيرُهُمْ وَإِنْبَاؤُهُمْ بِمَا قدَّموه مِنْ خَيْرٍ وشرٍّ أحصَاه اللَّهُ وَنَسُوهُ؛ قَالَ تَعَالَى:
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
((مَن نوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّب)) .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟
فَقَالَ: ((إنَّما ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَن نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ)) (3) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ)) ؛ فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُدني مِنْهُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَه، وَيُحَاسِبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، ويقرِّره بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: أَلَمْ تَفْعَلْ كَذَا يَوْمَ كَذَا؟ أَلَمْ تَفْعَلْ كَذَا يَوْمَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قرَّره بِذُنُوبِهِ، وَأَيَقْنَ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ؛ قَالَ لَهُ: سترتُها عَلَيْكَ فِي الدِّنيا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ (4) .
(1) زاد في المخطوط، و ((الفتاوى)) :[وَيُخْزَونَ بها]، وفي طبعة الشاويش:[ويُجْزَوْنَ بها] ؛ بالجيم.
(2)
الأنعام: (108) .
(3)
رواه البخاري في العلم، (باب: من سمع شيئًا فراجعه حتى يعرفه) (1/197-فتح) ، وفي التفسير، وفي الرقاق، ومسلم في الجنة، (باب: إثبات الحساب) (17/213-نووي) ، وأبوداود، والترمذي.
(4)
رواه البخاري في المظالم، (باب: قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ) (5/96-فتح) ، وفي تفسير سورة هود، وفي الأدب، وفي التوحيد، ومسلم في التوبة، (باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله) (17/93-نووي) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((فَإِنَّهُ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ)) ؛ يَعْنِي: الْكُفَّارَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} (1) ،
وَقَوْلِهِ: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَاّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ} (2) .
وَالصَّحِيحُ [أَنَّ](3) أَعْمَالَ الْخَيْرِ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْكَافِرُ يُجَازَى بِهَا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، حَتَّى إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَدَ صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ بَيْضَاءَ.
وَقِيلَ: يخفَّف بِهَا عَنْهُ مِنْ عَذَابِ غَيْرِ الْكُفْرِ.
ـ[ (وَفِي [عَرَصَاتِ](4) الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا (5)) .]ـ
/ش/ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((فِي عَرَصَات الْقِيَامَةِ
…
)) ؛ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ تَبْلُغُ حدَّ التَّوَاتُرِ، رَوَاهَا مِنَ الصَّحَابَةِ بضعٌ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا (6) ،
(1) الفرقان: (23) .
(2)
إبراهيم: (18) .
(3)
لفظة يقتضيها السياق، ليست في الأصل؛ كما ذكر ذلك الأنصاري في طبعة الإفتاء [ص 146] .
(4)
في المخطوط و ((الفتاوى)) : [عَرَصَة] ؛ بالإفراد.
(5)
يشير إلى ما رواه البخاري في الرقاق، (باب: في الحوض) (11/463-فتح) ، ومسلم في الفضائل، (باب: إثبات حوض نبيّنا صلى الله عليه وسلم) (15/60، 67، 68-نووي) .
(6)
ذكر ذلك الحافظ في ((الفتح)) (11/467) ،، وقال:((منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك)) .
فمَن أَنْكَرَهُ؛ فأَخْلِق بِهِ أَنْ يُحالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُرُودِهِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ:
((إِنَّ لِكُلِّ نبيٍّ حَوْضًا)) (1) .
وَلَكِنَّ حَوْضَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَكْثَرُهَا وَارِدًا.
جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.
ـ[ (وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ [عَلَيْهِ](2) عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِم ْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم]ـ
(1)(حسن أو صحيح) . روى الترمذي في صفة القيامة، (باب ما جاء في صفة الحوض) (7/133-تحفة) عن الحسن عن سمرة مرفوعًا:
((إن لكل نبيٍّ حوضًا، وإنهم يتباهَوْن أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة)) .
والحديث رواه الطبراني في ((الكبير)) (7/256) ، والبخاري في ((التاريخ)) (1/44) ، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (734) ؛ كلهم من طريق الحسن عن سمرة.
وفي سماع الحسن من سمرة خلاف، والحسن البصري مدلِّس، ولم يصرِّح هنا بالسماع.
إلا أن للحديث شواهد كثيرة؛ لذا قال الألباني في ((الصحيحة)) (1589) :
((وجملة القول: أن الحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح)) . أهـ
وانظر: ((الفتح)) (11/467) .
(فائدة) : عن سماع الحسن من سَمُرة. انظر: ((المعجم الكبير)) للطبراني (7/231-236-هامش) ؛ ففيه تفصيلٌ جيِّد.
(2)
زيادة من المخطوط مثبتة في ((الفتاوى)) ايضًا.
ـ[مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِم مِّن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ (1)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَالصِّرَاطُ منصوبٌ
…
)) إلخ. أَصْلُ الصِّرَاطِ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ؛ قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْتَرِطُ السَّابِلَةَ؛ أَيْ: يَبْتَلِعُهُمْ إِذَا سَلَكُوهُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (2) .
وَالصِّرَاطُ الْأُخْرَوِيُّ الَّذِي هُوَ الْجِسْرُ الْمَمْدُودُ عَلَى ظَهْرِ جهنَّم بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ (3) حقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ لِوُرُودِ خَبَرِ الصَّادِقِ بِهِ، ومَن اسْتَقَامَ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ دِينُهُ الْحَقُّ فِي الدُّنْيَا اسْتَقَامَ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ:((أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وأحدُّ مِنَ السَّيْفِ)) (4) .
(1) روى البخاري نحوه في الرقاق، (باب: الصراط جسر جهنم) (11/444-فتح) .
(2)
الأنعام: (153) .
(3)
لم أجد في السنة ما يثبت أنه بين الجنة والنار، والذي ثبت أنه بين ظهراني جهنم. انظر:((الفتح)) (13/419، 2/292) .
(4)
(لم يصحَّ مرفوعًا) . لذلك قال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/247) :
((وهذا اللفظ من الحديث لم أجده في الروايات الصحيحة)) . اهـ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولكن روى مسلم في ((صحيحه)) في الإيمان، (باب: معرفة طريق الرؤية) (3/36-نووي) عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال:
((قلنا: يا رسول الله! أنرى ربنا؟..)) .
إلى أن قال:
((قال أبو سعيد: بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعرة، وأحد من السيف)) .
ورواه ابن منده في ((كتاب الإيمان)) (2/802) بتمامه وبالسند نفسه، ولكن قال:((قال سعيد بن أبي هلال: بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف)) .
وقد وصله البيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/246) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه سعيد بن زربى ويزيد الرقاشي، وهما ضعيفان؛ لذا قال الحافظ في ((الفتح)) (11/454) :
((وفي سنده لين)) .
وروي ايضًا عن زياد النُّمَيْري عن أنس مرفوعًا.
وزياد ضعيف؛ لذا قال البيهقي في ((الشعب)) (2/248) :
((وهي أيضًا رواية ضعيفة (2/248) .
ومن عجائب التصحيف أنها تصحَّفت في ((كشف الخفاء)) (2/24-رقم1599) إلى: ((وهي أيضًا رواية صحيحة)) !!
وروي عن عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وكذا عن سعيد بن أبي هلال رواية أخرى مرسلة أو معضلة.
انظر: ((الفتح)) (11/454) .
ولكن صحَّ عن ابن مسعود موقوفًا عليه أنه قال:
((والصراط كحد السيف، دحضٌ مزلةٌِ)) .
أخرجه الحاكم (2/276) . انظر ((الطحاوية)) (ص415-تخريج الألباني) .
كما صحّ وصفه أنه كحد الموسى من حديث سلمان مرفوعًا:
((
…
ويوضع الصراط مثل حد الموسي)) .
أخرجه الحاكم (4/586) ، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (941) .
ـ[ (وَأَوَّلُ مَن يَّسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَن يَّدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم)) ؛ يَعْنِي: أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَهَا طَالِبًا أَنْ يُفْتَح لَهُ بَابُهَا؛ كَمَا قَالَ عليه السلام:
((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أوَّل مَن تنشقُّ عَنه الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أوَّل مَنْ يحرِّك حلَق الْجَنَّةِ، فَأَدْخُلُهَا وَيَدْخُلُهَا مَعِي فُقَرَاءُ أمَّتي)) (1) .
يَعْنِي: بَعْدَ دُخُولِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُونُ فُقَرَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ.
(1)(إسناده ضعيف) . رواه الترمذي في المناقب (10/84-تحفة) عن ابن عباس، وفي سنده زمعة بن صالح، وهو ضعيف. وقال الترمذي:((هذا حديث غريب)) . انظر: ((جامع الأصول)) (3624) ، و ((ضعيف الجامع)) (4077) .
لكن يشهد لأوله أحاديث أخرى: منها حديث: ((أنا أكثر الأنبياء تبعًا، وأنا أول مَن يقرع باب الجنة)) ، وحديث:((آتي باب الجنة يوم القيامة، فاستفتح، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرتُ، لا أفتح لأحد قبلك)) ؛ رواهما مسلم في الإيمان، (باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس يشفع في الجنة) (3/72-نووي) .
ويشهد لوسطه حديث أنس مرفوعًا: ((أنا أوّل مَن يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها)) ؛ رواه أحمد والترمذي والدارمي وغيرهم. انظر: ((السلسلة الصحيحة)) (4/97) .
ويشهد لآخره ما رواه أحمد وابن ماجه والترمذي واللفظ له من رواية أبي هريرة: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مئة عام)) . انظر: ((صحيح الترمذي)) (2/275) .
ـ[ (وَلَه صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَّدْخُلُوا الْجَنَّة. وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لَاّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَّخْرُجَ مِنْهَا. وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) (1) .]ـ
/ش/ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ)) ؛ فَأَصْلُ الشَّفَاعَةِ مِنْ قَوْلِنَا: شَفَعَ كَذَا بِكَذَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَيْهِ، وُسِمِّيَ الشَّافِعُ شَافِعًا لِأَنَّهُ يضمُّ طَلَبَهُ وَرَجَاءَهُ إِلَى طَلَبِ الْمَشْفُوعِ لَهُ.
وَالشَّفَاعَةُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَحَادِيثُهَا مُتَوَاتِرَةٌ؛
(1) عن الشفاعة انظر كتاب ((الشفاعة عند أهل السنة والرد على المخالفين فيها)) للدكتور ناصر الجديع، وكتاب ((القيامة الكبرى)) للشيخ عمر الأشقر (ص173-191) .
قَالَ تَعَالَى:
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ}
فَنَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِلَا إِذْنٍ إثباتٌ لِلشَّفَاعَةِ مِنْ بَعْدِ الْإِذْنِ.
قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ:
فبيَّن اللَّهُ الشَّفَاعَةَ الصَّحِيحَةَ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بِإِذْنِهِ، وَلِمَنْ يَرْتَضِي قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ.
وَأَمَّا مَا يتمسَّك بِهِ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (2) ، {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} (3) ، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} (4) .. إلخ؛ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ المنفيَّة هُنَا هِيَ الشَّفَاعَةُ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَذَلِكَ الشَّفَاعَةُ الشِّرْكِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُهَا الْمُشْرِكُونَ لِأَصْنَامِهِمْ، وَيُثْبِتُهَا النَّصَارَى لِلْمَسِيحِ وَالرُّهْبَانِ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بِغَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((أَمَّا الشَّفَاعَةُ الْأُولَى؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقضى بَيْنَهُمْ)) ؛ فَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى، وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ النبيُّون، وَالَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ:
(1) النجم: (26) .
(2)
المدثر: (48) .
(3)
البقرة: (123) .
(4)
الشعراء: (100) .
{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (1) .
يَعْنِي: يَحْمَدُهُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ جَمِيعًا.
وَقَدْ أَمَرَنَا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعْنَا النِّدَاءَ أَنْ نَقُولَ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ:
((اللَّهُمَّ ربَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّة، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وعدتَه)) (2) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)) ؛ يَعْنِي: أَنَّهُمْ ـ وَقَدِ استحقُّوا دُخُولَ الْجَنَّةِ ـ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ بِدُخُولِهَا إِلَّا بَعْدَ شَفَاعَتِهِ (3) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خاصَّتان لَهُ)) ؛ يَعْنِي: الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَالشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوهَا.
وتنضمُّ إِلَيْهِمَا ثَالِثَةٌ، وَهِيَ شَفَاعَتُهُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ؛ كَمَا فِي شَفَاعَتِهِ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَيَكُونُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ؛
(1) الإسراء: (79) .
(2)
رواه البخاري في الأذان، (باب: الدعاء عند النداء) (2/94-فتح) ، وفي تفسير سورة الإسراء، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
(3)
(صحيح) . لما رواه مسلم في الإيمان، (باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها) (3/70-نووي)، عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا:
((يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تُزْلَفَ لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا
…
)) .
ثم ذكر في الحديث إتيانَهم إبراهيم وموسى وعيسى
…
إلى أن قال:
((فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيؤذن له)) .
كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ (1) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ استحقَّ النَّارَ
…
)) إلخ. وَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ مَن استحقَّ النَّارَ؛ لَا بدَّ أَنْ يدخُلَها، وَمَنْ دَخَلَهَا؛ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا.
وَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ تردُّ عَلَى زَعْمِهِمْ وَتُبْطِلُهُ (2) .
ـ[ (وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ) .]ـ
/ش/ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَأَصْنَافُ مَا تضمَّنَتْهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ
…
)) إلخ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا ثابتٌ بِالْعَقْلِ كَمَا هُوَ ثابتٌ بِالسَّمْعِ، وَقَدْ نبَّه اللَّهُ الْعُقُولَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ؛
(1) من ذلك ما رواه البخاري في مناقب الأنصار، (باب: قصة أبي طالب) (7/193-فتح) ، وفي الرقاق، ومسلم في الإيمان، (باب: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب) (3/85-نووي) عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه أبو طالب ـ فقال:
((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة
…
)) الحديث.
(2)
منها ما رواه البخاري في الرقاق، (باب: صفة الجنة والنار) (11/418-فتح)، عن عمران بن حصين مرفوعًا:
((يخرج قومٌ من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنَّميين)) .
مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (1) ، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (2) .
فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ أَنْ يَتْرُكَ النَّاسَ سُدًى مهمَلين، وَلَا يُؤْمَرُونَ، وَلَا يُنْهَون، وَلَا يُثابون وَلَا يُعاقبون؛ كَمَا لَا يَلِيقُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَإِنَّ الْعُقُولَ الصَّحِيحَةَ تَأْبَى ذَلِكَ وَتُنْكِرُهُ أشدَّ الْإِنْكَارِ.
وَكَذَلِكَ نبَّههُم اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَوْقَعَهُ مِنْ أَيَّامِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِكْرَامِ الطَّائِعِينَ، وَخِذْلَانِ الطَّاغِينَ.
وَأَمَّا تَفَاصِيلُ الْأَجْزِيَةِ وَمَقادِيرُهَا؛ فَلَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالسَّمْعِ وَالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ.
ـ[ (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ) .]ـ
(1) المؤمنون: (115) .
(2)
القيامة: (36) .
(3)
ص: (28) .