الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَحْوَالِ وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ وَدَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا قَدْ أَمَرَ الْقَلَمُ بِكِتَابَتِهِ؛ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:
((قدَّر اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) (1) .
وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ:
((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ؛ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (2) .
وَ (أولَ) هُنَا بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ (قَالَ) ؛ أَيْ: قَالَ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْقَلَمُ.
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الْعَرْشِ وَالْقَلَمِ؛ أَيُّهُمَا خُلَقَ أَوَّلًا
(3) .
وَحَكَى الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَ أَنَّ الْعَرْشَ مخلوقٌ قَبْلَ الْقَلَمِ.
(1) رواه مسلم في القدر، (باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام (16/442-نووي) ؛ بلفظ: ((كتب الله مقادير..)) ، والترمذي في القدر أيضًا.
(2)
(صحيح) . رواه أبو داود في السنة، (باب: القدر) (12/468-عون) ، والترمذي في القدر (6/369-تحفة) ، وأحمد في ((المسند)) (5/317) .
انظر: ((جامع الأصول)) (7576) ، و ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/48) .
(3)
للشيخ الألباني تخريج لطيف للحديث السابق، رجَّح فيه زيادة (الفاء) أو (ثم) عند قوله:((قال له: اكتب)) ، وعليه فقد رجَّح أسبقية خلق القلم على العرش، وأسبقية خلق العرش على الكتابة، فراجِعْه إن شئت في ((الطحاوية)) (ص264) ، وانظر ((السلسلة الصحيحة)) (133) . وانظر كتاب ((القدر)) للقرشي (هامش صفحة122) .
قَالَ فِي ((النُّونِيَّةِ)) (1) :
((وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْقَلَمِ الَّذي
…
كُتِبَ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ
…
قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي الْعَلَا الْهَمَدَانِي
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلُ لأَنَّهُ
…
[وَقْتَ](2) الْكِتَابَةِ كَانَ ذَا أَرْكَانِ
وَكَتَابَةُ الْقَلَمِ الشَّرِيفِ تَعَقَّبَتْ
…
إِيجَادَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلِ زَمَانِ))
وَإِذَا كَانَ الْقَلَمُ قَدْ جَرَى بكلِّ مَا هُوَ كائنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ مَا يَقَعُ مِنْ كَائِنَاتٍ وَأَحْدَاثٍ؛ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا كُتِبَ فِيهِ، فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَغَيْرِهِ (3) .
وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِلْعِلْمِ الْقَدِيمِ تَارَةً يَكُونُ جُمْلَةً؛ كَمَا فِي اللَّوْحِ
(1) انظر: ((شرح النونية)) للهراس (1/165) ، ولابن عيسى (1/374) .
(2)
في المرجعين السابقين: [قبل] ؛ بدل: [وقت] .
(3)
(صحيح) . جزء من حديث رواه الترمذي في القدر، (باب: ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره) (6/356-تحفة) عن جابر بن عبد الله مرفوعًا: ((لا يؤمن عبد، حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)) . انظر: ((صحيح الجامع)) (7461) .
كما رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما؛ عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم مرفوعًا وموقوفًا. انظر:((جامع الأصول)) (7574، 7575، 7576) .
الْمَحْفُوظِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَكُونُ فِي مَوَاضِعَ تَفْصِيلًا يخصُّ كُلَّ فردٍ؛ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي يُؤْمَرُ الْمَلَكُ بِكِتَابَتِهَا عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ؛ يَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وشقيٌّ أَمْ سَعِيدٌ (1) .
فَهَذَا تقديرٌ خاصٌّ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ السَّابِقُ عَلَى وُجُودِ الْأَشْيَاءِ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا؛ مِثْلُ: مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ (2) ، وغَيلان الدِّمشقي (3)، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ.
وَمُنْكِرُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْقَدَرِ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
ـ[ (وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ،]ـ
(1) لما رواه البخاري في بدء الخلق، (باب: ذكر الملائكة) (6/303-فتح) ، ومسلم في القدر، (باب: كيفية الخلق الآدمي) (16/429-نووي) ، وأحمد في ((المسند)) (1/374) ، وأبو داود، والترمذي.
وهو جزء من حديث ابن مسعود المشهور:
((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه
…
)) الحديث.
(2)
هو معبد بن عبد الله بن عليم الجهني البصري، أول من قال بالقدر، نهى الحسن عن مجالسته، وقال:
((هو ضالٌّ مضلٌّ)) .
قتله الحجَّاج سنة (80هـ)، وقيل: صَلَبه عبد الملك بن مروان.
انظر: ((ميزان الاعتدال)) (4/141) ، و ((الأعلام)) (7/264) .
(3)
هو غيلان بن مسلم بن أبي غيلان، أبو مروان الدمشقي، كاتب بليغ، ثاني مَن تكلم في القدر، أخذه عن معبد الجهني، صَلَبه هشام بن عبد الملك بدمشق بعد عام (105هـ) .
انظر: ((الأعلام)) (5/124) .
ـ[وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ؛ إلَاّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، [لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ](1) ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إلَاّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) .]ـ
/ش/قَوْلُهُ: ((وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْقَدَرِ..)) إلخ؛ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ أَيْضًا:
أَوَّلُهُمَا: الْإِيمَانُ بِعُمُومِ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَاقِعَةٌ بِتِلْكَ الْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ عَنْهَا كائنٌ؛ سَوَاءٌ كَانَ
(1) في المخطوط: [ولا يكون في ملكه إلا ما يريد] ، وكذا في ((الفتاوى)) ، لكن بدون حرف العطف الواو.
مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ أَمْ لَا.
وَثَانِيهُمَا: الْإِيمَانُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ وَاقِعَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لَهُ؛ لَا خَالِقَ لَهَا سِوَاهُ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) .
ويجبُ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كلَّف الْعِبَادَ، فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَلَا مُنَافَاةَ أَصْلًا بَيْنَ مَا ثَبَتَ مِنْ عُمُومِ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ لجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ تَكْلِيفِهِ الْعِبَادَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرٍ ونهيٍ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ لَا تُنَافِي حُرِّيَّةَ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارَهُ لِلْفِعْلِ، وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ بِقَوْلِهِ:
كَمَا أَنَّهُ لَا تلازمَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ المتعلِّق بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، فَقَدْ يَشَاءُ اللَّهُ مَا لَا يحبُّه، ويحبُّ مَا لَا يَشَاءُ كَوْنَهُ:
فَالْأَوَّلُ: كَمَشِيئَتِهِ وُجُودَ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ.
وَالثَّانِي: كَمَحَبَّةِ إِيمَانِ الْكُفَّارِ، وَطَاعَاتِ الفجَّار، وَعَدْلِ الظَّالِمِينَ، وَتَوْبَةِ الْفَاسِقِينَ، وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ؛ لَوُجِدَ كُلُّهُ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
(1) الصافات: (96) .
(2)
التكوير: (28، 29) .
ـ[ (وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ [خَلَقَ](1) أَفْعَالَهُمْ. وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ. وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، [وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ](2) ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3)) .]ـ
/ش/ وَكَذَلِكَ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عُمُومِ خَلْقِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا لِفِعْلِهِ؛ فَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يوصَفُ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ، وَاللَّهُ خَالِقُهُ، وَخَالِقُ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ اللَّتَيْنِ بِهِمَا يَفْعَلُ.
يَقُولُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَاصِرٍ آلُ سَعْدِيٍّ (4) غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ:
((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صلَّى، وَصَامَ، وَفَعَلَ الْخَيْرَ، أَوْ عَمِلَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي؛ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وذلك العمل السيء،
(1) في المخطوط: [خالق] ، وكذا في ((الفتاوى)) وطبعة الجامعة الإسلامية.
(2)
في المخطوط: [وإرادتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم] .
(3)
التكوير: (28، 29) .
(4)
انظر: ((التنبيهات اللطيفة)) (ص47) ، مع تغييرات يسيرة فيما نقله الشارح هنا وفيما هو مثبت في الطبعة التي أشرف عليها الأستاذان عبد الرحمن بن رويشد وسليمان بن حماد.
وَفِعْلُهُ الْمَذْكُورُ بِلَا رَيْبٍ قَدْ وَقَعَ بِاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ يحسُّ ضَرُورَةً أَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْوَاقِعَ؛ فَهُوَ الَّذِي نصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، ونصَّ عَلَيْهِ رَسُولُهُ؛ حَيْثُ أَضَافَ الْأَعْمَالَ صَالِحَهَا وَسَيِّئَهَا إِلَى الْعِبَادِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمُ الْفَاعِلُونَ لَهَا، وَأَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ عَلَيْهَا ـ إِنْ كَانَتْ صَالِحَةً ـ وَمُثَابُونَ، وَمَلُومُونَ عَلَيْهَا ـ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً ـ وَمُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا.
فَقَدْ تبيَّن بِلَا رَيْبٍ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا شاؤوا فعلوا، وإذا شاؤوا تَرَكُوا، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ ثَابِتٌ عَقْلًا وَحِسًّا وَشَرْعًا وَمُشَاهَدَةً.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ وَاقَعِةً مِنْهُمْ كَيْفَ تَكُونُ دَاخِلَةً فِي الْقَدَرِ، وَكَيْفَ تَشْمَلُهَا الْمَشِيئَةُ؟! فَيُقَالُ: بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا؟ فَيُقَالُ: بِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ؛ هَذَا يَعْتَرِفُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ. فَيُقَالُ: وَمَنْ خَلَقَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ وَمَشِيئَتَهُمْ؟ فَالْجَوَابُ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ، وَالَّذِي خَلَقَ مَا بِهِ تَقَعُ الْأَفْعَالُ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَفْعَالِ.
فَهَذَا هُوَ الَّذِي يحلُّ الْإِشْكَالَ، ويتمكَّن الْعَبْدُ أَنْ يَعْقِلَ بِقَلْبِهِ اجْتِمَاعَ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ تَعَالَى أمدَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَسْبَابٍ وَأَلْطَافٍ وَإِعَانَاتٍ متنوِّعة وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْمَوَانِعَ؛ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:
((أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ؛ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ)) (1) .
وَكَذَلِكَ خَذَلَ الْفَاسِقِينَ، وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ،
(1) جزء من حديث ابن مسعود الذي تقدَّم تخريجه (ص
…
256) .