المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ النفي والإثبات في الأسماء والصفات مجمل ومفصل - شرح العقيدة الواسطية - الهراس

[محمد خليل هراس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌[عن ملحق الواسطية:]

- ‌عملي في الملحق:

- ‌المقدمة

- ‌أهميَّة العقيدة السلفية بين العقائد الأخرى:

- ‌أهميَّة ((العقيدة الواسطية)) بين العقائد السّلفيّة:

- ‌ لماذا سُمِّيَت بـ ((العقيدة الواسطية))

- ‌أهميّة شرح الشيخ هرّاس لـ ((العقيدة الواسطيّة)) بين شروحها:

- ‌((العقيدة الواسطيَّة)) وشروحها:

- ‌وصف النسخة الخطيّة للمتن:

- ‌عملي في الكتاب:

- ‌ترجمة موجزة للشيخ محمد خليل هرَّاس

- ‌متن العقيدة الواسطية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌ قِيَاسُ الأوْلى

- ‌ قَاعِدَةُ الْكَمَالِ

- ‌ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مجملٌ ومفصَّلٌ

- ‌إِثْبَاتَ صِفَتَيِ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ

- ‌ صِفَاتِ السُّلُوبِ

- ‌مباحث عامَّة حول آيات الصفات

- ‌الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ

- ‌ الْعَرْشِ وَالْقَلَمِ؛ أَيُّهُمَا خُلَقَ أَوَّلًا

- ‌خُلَاصَةُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْقَدَرِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ

- ‌مِنْ أُصُولِ [أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ]

- ‌ملحق العقيدة الواسطيَّة

- ‌فصل في أنواع التوحيد

- ‌فصل في الجماعة والفرقة

- ‌فصل في الموالاة والمعاداة

- ‌فصل في الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌فصل في عدم الخروج على الأئمة

- ‌فصل في الميثاق

- ‌فصل في الإسراء والمعراج

- ‌فصل في أشراط الساعة

- ‌فصل في الجنة والنار

- ‌فصل في ذم الكلامووجوب التسليم لنصوص الكتاب والسنة

الفصل: ‌ النفي والإثبات في الأسماء والصفات مجمل ومفصل

ـ[وَالإِثْبَاتِ) .]ـ

/ش/ لمَّا بيَّن فِيمَا سَبَقَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَصِفُونَ اللَّهَ عز وجل بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِثْبَاتًا وَلَا كُلُّهُ نَفْيًا؛ نبَّه عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ((وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ

إِلَخْ)) .

وَاعْلَمْ أنَّ كُلًّا مِنَ‌

‌ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مجملٌ ومفصَّلٌ

.

أَمَّا الْإِجْمَالُ فِي النَّفْيِ؛ فَهُوَ أَنْ يُنفَى عَنِ اللَّهِ عز وجل كلُّ مَا يضادُّ كَمَالَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (2) ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (3) .

وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فِي النَّفْيِ؛ فَهُوَ أَنْ يُنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ بِخُصُوصِهِ، فينَزَّهُ عَنِ الْوَالِدِ، وَالْوَلَدِ، وَالشَّرِيكِ، وَالصَّاحِبَةِ، وَالنِّدِّ، وَالضِّدِّ، وَالْجَهْلِ، وَالْعَجْزِ، وَالضَّلَالِ، وَالنِّسْيَانِ، والسِّنة، وَالنَّوْمِ، وَالْعَبَثِ، وَالْبَاطِلِ

إِلَخْ.

وَلَكِنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي السُّنَّةِ نفيٌ محضٌ؛ فَإِنَّ النَّفْيَ الصِّرْفَ لَا مَدْحَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُراد بِكُلِّ نفيٍ فِيهِمَا إِثْبَاتُ مَا يُضَادُّهُ مِنَ الْكَمَالِ: فَنَفْيُ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ؛ لِإِثْبَاتِ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وتفرُّده بِصِفَاتِ

(1) الشورى: (11) .

(2)

مريم: (65) .

(3)

الصافات: (159) ، المؤمنون (91) .

ص: 77

الْكَمَالِ، وَنَفْيُ الْعَجْزِ؛ لِإِثْبَاتِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَنَفْيُ الْجَهْلِ؛ لِإِثْبَاتِ سَعَةِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، وَنَفْيُ الظُّلْمِ؛ لِإِثْبَاتِ كَمَالِ عَدْلِهِ، وَنَفْيُ الْعَبَثِ؛ لِإِثْبَاتِ كَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَنَفْيُ السِّنة وَالنَّوْمِ وَالْمَوْتِ؛ لِإِثْبَاتِ كَمَالِ حَيَاتِهِ وقيُّومِيَّتِه.. وَهَكَذَا.

وَلِهَذَا كَانَ النَّفي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا يَأْتِي مُجْمَلًا فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ؛ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ التَّفْصِيلَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِجْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ.

وَأَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَمِثْلُ إِثْبَاتِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَالْحَمْدِ الْمُطْلَقِ، وَالْمَجْدِ الْمُطْلَقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) ، {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} (2) .

وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَهُوَ متناوِلٌ لِكُلِّ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْصِيَهُ؛ فَإِنَّ مِنْهَا مَا اخْتَصَّ اللَّهُ عز وجل بِعِلْمِهِ؛ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:

((سُبْحَانَكَ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عليكَ أَنْتَ كَمَا أثنيتَ عَلَى نَفْسِكَ)) (3) .

وَفِي حَدِيثِ دُعَاءِ الْمَكْرُوبِ:

(1) الفاتحة: (2) .

(2)

النحل: (60) .

(3)

رواه مسلم في الصلاة، 0باب: ما يُقال في الركوع والسجود) (4/450-نووي) عن عائشة مرفوعًا:

((اللهُمَّ إني أعوذ برضاك من سَخَطِكَ، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك)) .

والحديث رواه الأربعة والإمام أحمد.

ص: 78

((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ؛ سميتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ علَّمته أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ)) (1) .

ـ[ (فَلَا عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: ((فَلَا عُدولَ

إلخ)) ؛ هَذَا مترتِّبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اتِّباعه، وَلَا يصحُّ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَقَدْ عُلِّلَ بِأَنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، يَعْنِي الطَّرِيقَ السَّوِيَّ الْقَاصِدَ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ.

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا؛ مَنْ زَاغَ عَنْهُ أَوِ انْحَرَفَ وَقَعَ فِي طريقٍ مِنْ طُرُقِ الضَّلَالِ والجَور؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (2) .

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ طَرِيقُ الْأُمَّةِ الْوَسَطُ، الْوَاقِعُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ عز وجل وعلَّمنا أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ؛ أَيْ: يُلْهِمَنَا وَيُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِهِ وَاتِّبَاعِهِ،

(1)(صحيح) . رواه أحمد في ((المسند)) (1/391 و452)(14/262-ساعاتي) ، والحاكم في ((المستدرك (1/509) ، وابن حبان في ((صحيحه)) ، وصححه أحمد شاكر في ((المسند)) (5/266) ، والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (198) .

وانظر: ((جامع الأصول)) (2300) .

(2)

الأنعام: (153) .

ص: 79

فَإِنَّهُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ وَالصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئك رَفِيقًا.

ـ[ (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ الله بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: ((وَقَدْ دَخَلَ

إلخ)) ؛ شروعٌ فِي إِيرَادِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ المتضمِّنة لِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

وَابْتَدَأَ بِتِلْكَ السُّورَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ سُورة الْإِخْلَاصِ؛ لِتَجْرِيدِهَا التَّوْحِيدَ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} إِلَخِ السُّورَةِ (1) .

(1)(حسن) . رواه الترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة الإخلاص) (تحفة 9/299) ، وأحمد في ((المسند)) (5/133) ، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/297) .

وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2680) .

وانظر كتاب ((العظمة)) لأبي الشيخ (1/375) ، وكتاب ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/276) .

ص: 80

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ (1) .

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ؛ أَقْرَبُهَا [مَا نَقَلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ](2)، وَحَاصِلُهُ (*) أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَقَاصِدَ أَسَاسِيَّةٍ:

أَوَّلُهَا: الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي المتضمِّنة لِلْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ عِلْمِ الْفِقْهِ وَالْأَخْلَاقِ.

ثَانِيهَا: الْقِصَصُ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِأَحْوَالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ الَّتِي حَاقَتْ بالمكذِّبين لَهُمْ، وَأَحْوَالِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَفاصِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

ثَالِثُهَا: عِلْمُ التَّوْحِيدِ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ أَشْرَفُ الثَّلَاثَةِ.

وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ قَدْ تضمَّنَت أُصول هَذَا الْعِلْمِ، وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ إِجْمَالًا؛ صحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا كيف اشتملت هذا السُّورَةُ عَلَى عُلُومِ التَّوْحِيدِ كُلِّهَا، وتضمَّنت الْأُصُولَ الَّتِي هِيَ مَجَامِعُ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ؟ فَنَقُولُ:

إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ أَحَدٌ} دلَّت عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ مِنْ كُلِّ وجهٍ: فِي الذَّاتِ، وَفِي الصِّفَاتِ، وَفِي الْأَفْعَالِ؛ كَمَا دلَّت عَلَى تفرُّده سُبْحَانَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْمَجْدِ وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَلِهَذَا لَا يُطلَق لَفْظُ {أَحَدٌ}

(1)((البخاري)) في التوحيد، (باب: ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى التوحيد) قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده؛ إنها لَتَعدِل ثلث القرآن)) .

(2)

في طبعة الجامعة الإسلامية: [ما نقله شيخ الإسلام أبو العباس] . والصواب ما هو مثبت هنا، وكذا في طبعة ((الإفتاء)) ، وأبو العباس هو أبو العباس بن سريج.

انظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/103) .

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

نص عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي ذكر المؤلف أن هذا حاصلها: " قد قيل فيه - أي في توجيه كون سورة " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن - وجوه أحسنها والله أعلم الجواب منقول عن الإمام أبي العباس بن سريج عن أبي الوليد القرشي أنه سأل أبا العباس بن سريج عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن؟ ! فقال: معناه أنزل القرآن على ثلاثة أقسام، ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات ". أهـ إسماعيل الأنصاري. [ص 63]

ص: 81

فِي الْإِثْبَاتِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ وَاحِدٍ.

وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الصَّمَد} قَدْ فسَّرها ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ:

((السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدَدِه، وَالشَّرِيفُ الَّذِي كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كمُل فِي حِلْمِهِ، وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، والجبَّار الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كمُل فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدَدِ، وَهُوَ اللَّهُ عز وجل، هَذِهِ صِفَتُهُ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، لَيْسَ لَهُ كفءٌ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) (1)(*) .

وَقَدْ فُسِّر الصَّمَدُ أَيْضًا بِأَنَّهُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ (2) ، وَبِأَنَّهُ الَّذِي تَصْمُدُ إِلَيْهِ الْخَلِيقَةُ كُلُّهَا وَتَقْصِدُهُ فِي جَمِيعِ حَاجَاتِهَا ومهمَّاتها (3) .

(1) رواه ابن جرير في تفسير سورة الإخلاص بسنده، فقال:

((حدثنا علي: حدثنا أبو صالح: حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس، به)) .

وعلي (الراوي عن ابن عباس) : هو ابن أبي طلحة؛ كما في ((تفسير ابن كثير)) ، وهو صدوق، ولم يَلقَ ابن عباس، وإنما أخذ تفسيره من مجاهد، فروايته عنه منقطعة.

والحديث أخرجه أبو الشيخ في ((العظمة)) (1/383) بالسند نفسه، وقد ضعَّفه محققه المباركفوري.

ولكن قال الحافظ ابن حجر في ((التهذيب)) : ((بعد أن عُرفت الواسطة، وهو ثقة ـ يعني مجاهدًا ـ فلا ضير في ذلك)) . انظر: ((تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة)) (1/25) .

(2)

صحَّ ذلك عن: مجاهد، والحسن، والضحاك، وورد مرفوعًا، ولكن لا يصحّ.

انظر: ((العظمة)) لأبي الشيخ (1/379) ، و ((السنة)) لابن أبي عاصم، ومعه ((ظلال الجنة)) للألباني (رقم673، 674، 675، 680، 688، 689) .

(3)

صحَّ ذلك عن إبراهيم النخعي. انظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (رقم687) .

وورد عن ابن عباس بإسناد ضعيف. انظر ((العظمة)) (1/380) .

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

تمام قول ابن العباس عند ابن كثير: " سبحان الله الواحد القهار " وليس فيما ذكره ابن كثير قوله: الغني الذي قد كمل في غناه، والجبار قد كمل في جبروته " وعند ابن كثير، لفظ " قد " قبل لفظ " كمل " في جميع المواضع التي ورد فيها لفظ " كمل " في قول ابن عباس. أ. هـ إسماعيل الأنصاري [ص 65]

ص: 82

فَإِثْبَاتُ الْأَحَدِيَّةِ لِلَّهِ تضمَّن نَفْيَ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ.

وَإِثْبَاتُ الصمديَّة بِكُلِّ مَعَانِيهَا الْمُتَقَدِّمَةِ تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ جَمِيعِ تَفَاصِيلِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى. وَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ الْإِثْبَاتِ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي ـ وَهُوَ تَوْحِيدُ التَّنْزِيهِ ـ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ؛ كَمَا يُؤْخَذُ إِجْمَالًا مِنْ قَوْلِهِ: {اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ أَيْ: لَمْ يتفرَّع عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يتفرَّع هُوَ عَنْ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ مُكَافِئٌ وَلَا مُمَاثِلٌ وَلَا نَظِيرٌ.

فَانْظُرْ كَيْفَ تضمَّنت هَذِهِ السُّورَةُ تَوْحِيدَ الِاعْتِقَادِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَمَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ للرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الأَحَدِيَّة الْمُنَافِيَةِ لِمُطْلَقِ الْمُشَارَكَةِ، والصمَدِيَّةِ المُثْبِتَة لَهُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نقصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ غِنَاهُ وصمَدِيَّتِه وأَحدِيَّتِه، ثُمَّ نَفْيَ الْكُفْءِ الْمُتَضَمِّنَ لِنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالنَّظِيرِ (1) ؟

فحُقَّ لِسُورَةٍ تضمَّنت هَذِهِ الْمَعَارِفَ كُلَّهَا أَنْ تَعْدِلَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.

ـ[ (وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْم....ٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2)) (3) .]ـ

(1) كذا في المطبوع، والأولى أن يقال:((الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير)) .

(2)

البقرة: (255) .

(3)

زاد في المخطوط: ((ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة؛ لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)) ، وكذا في ((الفتاوى)) .

ص: 83

/ش/ رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) (1) عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ:

((أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟)) .

قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فردَّدها مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ أُبيٌّ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ.

فَوَضَعَ النَّبِيُّ يَدَهُ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ:((لِيَهْنِكَ هَذَا الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ)) .

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ:

((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تقدِّس الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ)) (2) .

وَلَا غَرْوَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الربِّ وَصِفَاتِهِ عَلَى مَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى.

فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِيهَا عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ المتوحِّد فِي إلهيَّتِه، الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَسَائِرِ صُوَرِهَا إِلَّا لَهُ.

ثُمَّ أَرْدَفَ قَضِيَّةَ التَّوْحِيدِ بِمَا يَشْهَدُ لَهَا مِنْ ذِكْرِ خَصَائِصِهِ وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَهُ كَمَالُ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَهِيَ أزليَّة أبديَّة، وَكَمَالُ حَيَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الذاتيَّة

(1) في صلاة المسافرين، (باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي) (6/341-نووي) ، ورواه أبو داود في الصلاة، (باب: ما جاء في آية الكرسي) (4/334-عون) .

(2)

(إسنادها صحيح) . روى هذه الزيادة عبد بن حميد في ((مسنده)) (1/199) من طريق مسلم نفسه، كما رواها أحمد في ((المسند)) (5/141)(18/92-ساعاتي) ، والبغوي في ((شرح السنة)) (4/459) ، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/323)، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (ص337) . وانظر:((موسوعة فضائل سور القرآن)) (1/141) .

ص: 84

لَهُ، مِنَ العزَّة وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَغَيْرِهَا؛ إِذْ لَا يَتَخَلَّفُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا لنقصِ فِي الْحَيَاةِ، فَالْكَمَالُ فِي الْحَيَاةِ يَتْبَعُهُ الْكَمَالُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْحَيِّ.

ثُمَّ قَرَنَ ذَلِكَ بِاسْمِهِ الْقَيُّومِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَغْنَى عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ غِنًى مُطْلَقًا لَا تشوبُه شائبةُ حاجةٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ غِنًى ذاتيٌّ، وَبِهِ قَامَتِ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا، فَهِيَ فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ فَقْرًا ذَاتِيًّا، بِحَيْثُ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ لَحْظَةً، فَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ إِيجَادَهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَهُوَ الَّذِي يدبِّر أُمُورَهَا، وَيُمِدُّهَا بِكُلِّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَقَائِهَا، وَفِي بُلُوغِ الْكَمَالِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهَا.

فَهَذَا الِاسْمُ متضمِّنٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الفعليَّة، كَمَا أَنَّ اسْمَهُ الْحَيَّ متضمِّن لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الذَّاتِيَّةِ، وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّ الْحَيَّ الْقَيُّومَ هُمَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعي بِهِ أَجَابَ.

ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يدلُّ عَلَى كَمَالِ حَيَاتِهِ وقيُّوميَّته، فَقَالَ:{لَا تَأْخُذُه ُ} ؛ أَيْ لَا تَغْلِبُهُ {سِنَةٌ} ؛ أَيْ نعاسٌ {وَلَا نَوْمٌ} ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقَيُّومِيَّةَ؛ إِذِ النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الجنَّة لَا يَنَامُونَ.

ثُمَّ ذَكَرَ عُمُومَ مِلْكِهِ لِجَمِيعِ العوالِم العُلْوية والسُّفلية، وَأَنَّهَا جَمِيعًا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَقَالَ: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض الثاني.

ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِمَا يدلُّ عَلَى تَمَامِ مُلْكِهِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لَهُ، فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أحدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

وَقَدْ تضمَّن هَذَا النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ أَنَّهَا تَقَعُ بِإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ

ص: 85

لِمَنْ يَرْضَى قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ.

وَالثَّانِي: إِبْطَالُ الشَّفَاعَةِ الشركيَّة الَّتِي كَانَ يَعْتَقِدُهَا الْمُشْرِكُونَ لِأَصْنَامِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ سَعَةَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالْمَاضِيَةِ.

وَأَمَّا الْخَلْقُ فَإِنَّهُمْ {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه} ؛ قِيلَ: يَعْنِي مِنْ مَعْلُومِهِ. وَقِيلَ: مِنْ عِلْمِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ {إِلَاّ بِمَا شَاء} اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِنْتَاجِ وَالتَّجْرِبَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ مُلْكِهِ، وَوَاسِعِ سُلْطَانِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كرسيَّه قَدْ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ جَمِيعًا.

وَالصَّحِيحُ فِي الْكُرْسِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَأَنَّهُ فِي الْعَرْشِ كحلْقة مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ.

وَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْكُرْسِيِّ بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يصحُّ (1)(*) ، وَيُفْضِي إِلَى التَّكْرَارِ فِي الْآيَةِ.

(1) لأنه من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قال الدارمي في رده على بشر المريسي (1/411، تحقيق الألمعي) : ((ليس جعفر ممن يُعتمد على روايته، إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون)) .

قال الذهبي في ((الميزان)) (1/417) :

((قال ابن مندة: ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير. وقال عن سند هذه الرواية: لم يُتابع عليه)) .

ثم قال الذهبي:

((فقد روى عمارٌ الدُّهني عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس؛ قال: كرسيُّه: موضع قدمه.. والعرش لا يقدر قدره)) . اهـ

وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/162) :

((إسناده جيد، ولكنه شاذٌّ بمرة، مخالفٌ للثابت الصحيح عن ابن عباس)) .

ثمّ علَّق على رواية ابن عباس في تفسيره بأنه موضع القدمين، وقال:

((وهذا هو الصحيح الثابت عن ابن عباس، وأما الرواية السابقة عنه بتأويل الكرسي بالعلم؛ فهي رواية شاذَّّة، لا يقوم عليها دليلٌ من كلام العرب، ولذلك رجَّح أبو منصور الأزهريُّ الرواية الصحيحة عن ابن عباس، وقال: ((وهذه رواية اتَّفق أهل العلم على صحتها، ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم؛ فقد أبطل)) ) . اهـ

[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]

لأنه من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقد قال في روايته لهذا الأثر لم يتابع عليها، أفاد ذلك الحافظ الذهبي من ترجمة جعفر المذكور من " الميزان " أ. هـ إسماعيل الأنصاري [ص 73]

ص: 86

ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ قُوَّتِهِ بقوله: {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} ؛ أَيِ: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا.

وَفَسَّرَ الشَّيْخُ رحمه الله {يَؤُودُه} بـ: (يُثْقِلُهُ ويُكْرِثُه)، وَهُوَ مِنْ آدَهُ الْأَمْرُ: إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ.

ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ فِي خِتَامِ تِلْكَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ؛ وَهُمَا: {الْعَلِيُّ} ، وَ {الْعَظِيمُ} .

فالعَلِيُّ: هُوَ الَّذِي لَهُ العلوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ:

عُلُوِّ الذَات: وَكَوْنِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ.

وَعُلُوِّ القَدْر: إِذْ كَانَ لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ أَعْلَاهَا وَغَايَتُهَا.

وَعُلُوِّ القَهْر: إِذْ كَانَ هُوَ الْقَاهِرَ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

ص: 87

وَأَمَّا الْعَظِيمُ؛ فَمَعْنَاهُ الْمَوْصُوفُ بِالْعَظَمَةِ، الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَلَا أَجَلُّ، وَلَا أَكْبَرُ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ التَّعْظِيمُ الْكَامِلُ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَصْفِيَائِهِ.

ـ[ (وَقَوْله سُبْحَانَهُ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: {هُوَ الأَوَّلُ} ؛ الْجُمْلَةُ هُنَا جَاءَتْ مُعَرَّفَةَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَهِيَ تُفِيدُ اخْتِصَاصَهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَمَعَانِيهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَلَا يُثْبَت لِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.

وَقَدِ اضْطَرَبَتْ عِبَارَاتُ المتكلِّمين فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَا دَاعِيَ لِهَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ بَعْدَمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ:

((اللهمَّ ربَّ السماواتِ السَّبْعِ، وربَّ الأرضِ، ربَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقضِ عَنِّي الدَّيْنَ وأغْنِني مِنَ الْفَقْرِ)) (2) .

(1) الحديد: (3) .

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، (باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع) (17-39-نووي) ، ورواه أيضًا أبو داود والترمذي بألفاظ متقاربة.

ص: 88

فَهَذَا تَفْسِيرٌ واضحٌ جامعٌ يدلُّ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ محيطٌ بِالْأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

فَالْأَوَّلُ وَالْآخِرُ: بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ الزَّمَانِيَّةِ.

وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ: بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ الْمَكَانِيَّةِ.

كَمَا أَنَّ اسْمَهُ الظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْعَالِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَلَا شَيْءَ مِنْهَا فَوْقَهُ.

فَمَدَارُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْإِحَاطَةِ، فَأَحَاطَتْ أوَّليَّتُهُ وآخريَّتُهُ بِالْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ، وَأَحَاطَتْ ظاهريَّتُه وباطنيَّتُهُ بِكُلِّ ظاهرٍ وباطنٍ.

فَاسْمُهُ الْأَوَّلُ: دالٌّ عَلَى قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ.

وَاسْمُهُ الْآخِرُ: دالٌّ عَلَى بقائِهِ وأبديَّتِه.

وَاسْمُهُ الظَّاهِرُ: دالٌّ عَلَى علوِّه وَعَظَمَتِهِ.

وَاسْمُهُ الْبَاطِنُ: دالٌّ عَلَى قربِه ومعيَّتِه.

ثُمَّ خُتِمَت الْآيَةُ بِمَا يُفِيدُ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمِنَ الْعَالَمِ العُلوي والسُّفلي، وَمِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْجَائِزَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، فَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذرَّة فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

فَالْآيَةُ كُلُّهَا [فِي](1) شَأْنِ إِحَاطَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّ الْعَوَالِمَ كُلَّهَا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ؛ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ الْعَبْدِ، لَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَتَى بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؛ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ وَتَقْرِيرَهُ، وَحَسُنَ

(1) ليست في الأصل، ولكن يقتضيها السياق.

ص: 89

ذَلِكَ لِمَجِيئِهَا بَيْنَ أَوْصَافٍ مُتَقَابِلَةٍ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ اسْتِبْعَادُ الِاتِّصَالِ بِهَا جَمِيعًا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلِيَّةَ تُنَافِي الْآخِرِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ، فَانْدَفَعَ توهُّم الْإِنْكَارِ بِذَلِكَ التَّأْكِيدِ.

ـ[ (وَقَوْله سُبْحَانَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (1)) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ}

إلخ؛ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْآيَاتِ سَاقَهَا الْمُؤَلِّفُ لِإِثْبَاتِ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فَالْآيَةُ الْأُولَى فِيهَا إِثْبَاتُ اسْمِهِ الحيِّ، كَمَا تضمَّنت سَلْبَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَيَاةِ عَنْهُ، وَقَدْ قدَّمنا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حيٌّ بِحَيَاةٍ هِيَ صِفَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهَا مَوْتٌ وَلَا زَوَالٌ أَصْلًا، وَأَنَّ حَيَاتَهُ أَكْمَلُ حَيَاةٍ وَأَتَمَّهَا، فَيَسْتَلْزِمُ ثبوتُها لَهُ ثبوتَ كلِّ كَمَالٍ يضادُّ نفيُه كمالَ الْحَيَاةِ.

وَأَمَّا الْآيَاتُ الْبَاقِيَةُ؛ فَفِيهَا إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعِلْمِ وَمَا اشتُقَّ مِنْهَا؛ كَكَوْنِهِ عَلِيمًا، وَيَعْلَمُ وَأَحَاطَ بِكُلِّ شيءٍ عِلْمًا

إِلَخْ.

ـ[ (وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (3) ، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا]ـ

(1) الفرقان: (58) .

(2)

التحريم: (2) .

(3)

سبأ: (1، 2) .

ص: 90

ـ[رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (1) وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِه} (2) ،وَقَوْلُهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (3) .]ـ

/ش/ وَالْعِلْمُ صِفَةٌ لِلَّهِ عز وجل، بِهَا يُدْرَكُ جَمِيعُ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى مَا هِيَ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ؛ كَمَا قَدَّمْنَا.

وَفِيهَا إِثْبَاتُ اسْمِهِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مأخوذٌ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَمَعْنَاهُ: الَّذِي لَا يَقُولُ وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ، فَلَا يَقَعُ مِنْهُ عبثٌ وَلَا باطلٌ، بَلْ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ فَهُوَ تابعٌ لِحِكْمَتِهِ.

وَقِيلَ: هُوَ مِنْ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُفْعِل، وَمَعْنَاهُ: المُحْكِم لِلْأَشْيَاءِ، مِنَ الْإِحْكَامِ: وَهُوَ الْإِتْقَانُ، فَلَا يَقَعُ فِي خَلْقِهِ تفاوتٌ وَلَا فطورٌ، وَلَا يَقَعُ فِي تَدْبِيرِهِ خللٌ أَوِ اضطرابٌ.

وَفِيهَا كَذَلِكَ إِثْبَاتُ اسْمِهِ الْخَبِيرِ، وَهُوَ مِنَ الْخِبْرَةِ؛ بِمَعْنَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَوُثُوقِهِ، وَالْإِحَاطَةِ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَوُصُولِ عِلْمِهِ إِلَى مَا خَفِيَ ودقَّ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ.

وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ مَا يتعلَّق بِهِ علمُه؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُلُومُ خَلْقِهِ:

فَذَكَرَ أَنَّهُ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} ؛ أَيْ: يَدْخُلُ {فِي الأَرْض} مِنْ حبٍّ

(1) الأنعام: (59) .

(2)

فصلت: (47) .

(3)

الطلاق: (12) .

ص: 91

وبذرٍ وَمِيَاهٍ وَحَشَرَاتٍ وَمَعَادِنَ، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِنْ زرعٍ وأشجارٍ وعيونٍ جاريةٍ وَمَعَادِنَ نَافِعَةٍ كَذَلِكَ، {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء} مِنْ ثلجٍ وَأَمْطَارٍ وصواعقَ وملائكةٍ، {وَمَا يَعْرُجُ} ؛ أَيْ: يَصْعَدُ {فِيهَا} كَذَلِكَ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَأَعْمَالٍ وَطَيْرٍ صوافَّ

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ جَلَّ شَأْنُهُ.

وَذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ {عِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} ، وَمَفَاتِحُ الْغَيْبِ؛ قِيلَ: خَزَائِنُهُ. وَقِيلَ: طُرُقُهُ وَأَسْبَابُهُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ، جَمْعُ مِفتح؛ بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَوْ مِفْتَاحٍ؛ بِحَذْفِ يَاءِ مَفَاعِيلَ.

وَقَدْ فَسَّرَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:

((مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)) ، ثُمَّ تلَا قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) .

وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ، قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ (2) الَّذِينَ نَفَوْا صِفَاتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَالِمٌ

(1) رواه البخاري في تفسير سورة الأنعام، (باب:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (8/91- فتح) ، وفي تفسير سورة لقمان، والرعد، وفي التوحيد (13/361- فتح) .

والآية في سورة لقمان، رقم 34.

(2)

المعتزلة: هم في الصفات جهمية ينفونها، وفي القدر قدريَّة يقولون: أعمال العباد مخلوقةٌ لهم، وينكِرون رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ويوجبون على الله الثواب والعقاب والصلاح والأصلح، ويقولون بالعدل، والمنزلة بين المنزلتين، ويقدمون العقل على النقل، وهم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وهم عشرون فرقة، وأصل معتقدهم باقٍ إلى اليوم، متمثل بوجه أو بآخر في كل من الشيعة والزيدية والإباضية، وفيمن يُسمَّوْن بالعقلانيين أو العصرانيين، ويلحق بهم من سُمُّوا زورًا بالتنويريين أو المستنيرين.

ص: 92

بِذَاتِهِ، وَقَادِرٌ بِذَاتِهِ.. إلخ، وَمِنْهُمْ مَن فَسَّرَ أَسْمَاءَهُ بمعانٍ سَلْبِيَّةٍ، فَقَالَ: عَلِيمٌ؛ مَعْنَاهُ: لَا يَجْهَلُ. وقادرٌ؛ مَعْنَاهُ: لَا يَعْجِزُ.. إلخ.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَخْبَرَ فِيهَا سُبْحَانَهُ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِحَمْلِ كُلِّ أُنْثَى وَوَضْعِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْكَيْفِ؛ كَمَا أَخْبَر عَنْ عُمُومِ قُدْرَتِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَعَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ (1) فِي كِتَابِهِ ((الْحِيدَةِ)) لِبِشْرٍ المَرِيسِيِّ (2) الْمُعْتَزِلِيِّ وَهُوَ يُنَاظِرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ:

((إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَمْدَحْ فِي كِتَابِهِ [مَلَكًا مقرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا] (3) وَلَا مُؤْمِنًا تَقِيًّا بِنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْهُ؛ لِيَدُلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُ، وَإِنَّمَا مَدَحَهُمْ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُمْ، فَنَفَى بِذَلِكَ الْجَهْلَ عَنْهُمْ

فمَن أَثْبَتَ الْعِلْمَ نَفَى الْجَهْلَ، ومَن نَفَى الْجَهْلَ لَمْ يُثْبِتِ الْعِلْمَ)) (4) .

وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إِيْجَادُهُ الْأَشْيَاءَ مَعَ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ إِيجَادَهُ الْأَشْيَاءَ بِإِرَادَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بالمُراد، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:

(1) هو عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي الفقيه، كان من أهل العلم والفضل، تفقَّه على الشافعي وصاحبه، توفي سنة (240هـ) .

(2)

متكلِّم مناظر من موالي آل زيد بن الخطاب، من الداعين بخلق القرآن، وكان عالم الجهمية في عصره، مات سنة (218هـ) .

(3)

كذا في طبعة الجامعة الإسلامية، وكتاب ((الحيدة)) نشر عبد العزيز آل الشيخ (ص32) ، وفي طبعة الإفتاء بدون [مقربًا]، وفي كتاب ((الحيدة)) تحقيق الدكتور علي الفقيهي (ص46) :[ملكًا ولا نبيًا] .

(4)

((الحيدة)) (ص30) طبعة الجامعة الإسلامية، و (ص46) بتحقيق الفقيهي.

ص: 93

{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) .

وَلِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ وَعَجِيبِ الصَّنْعَةِ وَدَقِيقِ الْخِلْقَةِ مَا يَشْهَدُ بِعِلْمِ الْفَاعِلِ لَهَا؛ لِامْتِنَاعِ صُدُورِ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ.

وَلِأَنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ هُوَ عالِمٌ، وَالْعِلْمُ صِفَةُ كَمَالٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ عَالِمًا؛ لَكَانَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَن هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ.

وَكُلُّ عِلْمٍ فِي الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ خَالِقِهِ، وَوَاهِبُ الْكَمالِ أَحَقُّ بِهِ، وَفَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ.

وَأَنْكَرَتِ الْفَلَاسِفَةُ (2) عِلْمَهُ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهٍ كليٍّ ثابتٍ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْخَارِجِ هُوَ جُزْئِيٌّ.

كَمَا أَنْكَرَ الغُلاة مِنَ القدَرِيَّة (3) عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ حَتَّى يَعْمَلُوهَا؛ توهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يُفْضِي إِلَى الْجَبْرِ، وَقَوْلُهُمْ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ.

(1) الملك: (14) .

(2)

الفلاسفة: هم الذين ينكرون علم الله تعالى، وينكرون حشر الأجساد، ومذهبهم أن العالم قديم، وعلته مؤثرة بالإيجاب، وليست فاعلة بالاختيار.

وانظر: (ص254) .

(3)

القدرية: هم أتباع معبدٍ الجُهَنِيّ، وغيلان الدمشقي، المنكرون للقدر، المكذبون بتقدير الله تعالى لأفعال العباد، الذين قالوا: إن علم الله مستأنفٌ ليس بقديم، وإن العباد هم الموجِدون لأعمالهم. وبقولهم قالت المعتزلة.

ص: 94

ـ[ (وَقَوْله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1)) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ

} إِلَخْ؛ تضمَّنَتْ إِثْبَاتَ اسْمِهِ الرَّزَّاق، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الرِّزْقِ، وَمَعْنَاهُ: الَّذِي يَرْزُقُ عِبَادَهُ رِزْقًا بَعْدَ رِزْقٍ فِي إِكْثَارٍ وَسَعَةٍ.

وَكُلُّ مَا وَصَلَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ مِنْ نفعٍ إِلَى عِبَادِهِ فَهُوَ رزقٌ؛ مُبَاحًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ لَهُمْ قُوتًا وَمَعَاشًا؛ قَالَ تَعَالَى:

{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَاد} (2) .

وَقَالَ: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} (3) .

إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي تَنَاوُلِهِ؛ فَهُوَ حلالٌ حُكْمًا، وَإِلَّا كَانَ حَرَامًا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ رزقٌ.

وَتَعْرِيفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْإِتْيَانُ فِيهَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ؛ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ بِإِيصَالِ الرِّزْقِ إِلَى عِبَادِهِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:

((أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) (4) .

(1) الذاريات: (58) .

(2)

ق: (10) .

(3)

الذاريات: (22) .

(4)

(حسن) . رواه الترمذي في القراءات (8/261- تحفة)، وقال:

((حديث حسن صحيح)) .

ورواه أبو داود في القراءات أيضًا.

انظر. ((جامع الأصول)) (965) .

وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2343) :

((صحيح المتن، وهذه قراءه شاذّة)) .

ص: 95

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ذُو الْقُوَّة} ؛ أَيْ صَاحِبُ الْقُوَّةِ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِهِ الْقَوِيِّ؛ إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ يدلُّ عَلَى أَنَّ قُوَّتَهُ سُبْحَانَهُ [لَا تَتَنَاقَصُ فيَهِنُ أَوْ يَفتُرُ](1) .

وأما {الْمَتِينُ الثاني؛ فَهُوَ اسْمٌ لَهُ مِنَ الْمَتَانَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِـ:((الشَّدِيدِ)) (2) .

ـ[ (وَقَوْله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ?} (3) . وَقَوْله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (4)) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

} إِلَخْ؛ دلَّ إثباتُ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لَهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ نَفْيِ الْمِثْلِ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الْمِثْلِ نَفْيَ الصِّفَاتِ؛ كَمَا يدَّعي ذَلِكَ المعطِّلة، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ بَاطِلًا، بَلِ الْمُرَادُ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَتِهَا لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.

قَالَ العلَاّمة ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله:

((قَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

} إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شريكٌ أَوْ معبودٌ يستحقُّ الْعِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُشَبِّهُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ

(1) علّق الشيخ عبد الرزاق عفيفي في طبعة الجامعة الإسلامية [ص 44] بقوله:

((هكذا بالأصل، والصواب أن يقال: [لا نقص فيها ولا فتور] )) . اهـ

(2)

رواه ابن جرير بسنده في تفسير الآية (58) من سورة الذاريات، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقد تقدم الكلام (ص114) عن رواية علي عن ابن عباس.

(3)

الشورى: (11) .

(4)

النساء: (58) .

ص: 96

يَقْصِدْ بِهِ نَفْيَ صِفَاتِ: كَمَالِهِ، وعلوِّه عَلَى خَلْقِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وَتَكَلُّمِهِ لِرُسُلِهِ، وَرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ جَهْرَةً بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي الصَّحْوِ

)) اهـ.

وَمَعْنَى {السَّمِيعُ} : الْمُدْرِكُ لِجَميعِ الْأَصْوَاتِ مَهْمَا خَفَتَتْ، فَهُوَ يَسْمَعُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى بِسَمْعٍ هُوَ صِفَةٌ لَا يُمَاثِلُ أَسْمَاعَ خَلْقِهِ.

وَمَعْنَى {البَصِيرُ?} : الْمُدْرِكُ لِجَمِيعِ الْمَرْئِيَّاتِ مِنَ الْأَشْخَاصِ وَالْأَلْوَانِ مَهْمَا لَطُفَتْ أَوْ بَعُدَتْ، فَلَا تُؤَثِّرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ الْحَوَاجِزُ وَالْأَسْتَارُ، وَهُوَ مِنْ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مُفْعِل، وَهُوَ دالٌّ عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْبَصَرِ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ.

رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) ، فَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنَيْهِ (2) .

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَيَرَى بِعَيْنٍ، فَهُوَ حُجَّةٌ

(1) النساء: (58) .

(2)

(صحيح) . رواه أبو داود في السنة، (باب: في الجهمية) (13/37-عون) ، وصحح إسناده الألباني والأرناؤوط.

انظر: ((صحيح سنن أبي داود)) (3/895) .

و ((جامع الأصول)) (5020) .

وقال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (13/373) .

((أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم)) .

ثم ذكر حديث عقبة بن عامر عند البيهقي: ((سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ((إن ربنا سميع بصير)) ، وأشار بيده إلى عينه)) .

وقال الحافظ: ((سنده حسن)) .

ص: 97

عَلَى بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ (1) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ سَمْعَهُ عِلْمَهُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَبَصَرَهُ عِلْمَهُ بِالْمُبْصَرَاتِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ خَاطِئٌ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَى يَعْلَمُ بِوُجُودِ السَّمَاءِ وَلَا يَرَاهَا، وَالْأَصَمَّ يَعْلَمُ بِوُجُودِ الْأَصْوَاتِ وَلَا يَسْمَعُهَا.

ـ[ (وَقَوْله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللَّهِ} (2) ، وَقَوْله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (3) ، وَقَوْله: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (4) ، وَقَوْله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (5)) (6) .]ـ

/ش/ قَوْلُهُ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ

} إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَاتُ دلَّت عَلَى إِثْبَاتِ

(1) الأشاعرة: هم أتباع أبي الحسن الأشعري؛ الذي كان معتزليًّا، ثم ترك الاعتزال، واتَّخذ له مذهبًا بين الاعتزال ومذهب أهل السنة والجماعة، ثم رجع وتاب، ووافق الإمام أحمد وأهل السنة والجماعة في معتقداتهم، وبقي بعض أتباعه إلى اليوم يحملون معتقده الثاني، وهم مرجئة في الإيمان، مؤوِّلة في الصفات، أقرب فرق البدع والضلال لأهل السنة والجماعة، وليسو منهم.

(2)

الكهف: (39) .

(3)

البقرة: (253) .

(4)

المائدة: (1) .

(5)

الأنعام: (125) .

(6)

وردت الآية في المخطوط بدءًا من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ} [البقرة: 253] ، وكذا في ((الفتاوى)) .

ص: 98

صِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً.

وَالْأَشَاعِرَةُ يُثْبِتُونَ إِرَادَةً وَاحِدَةً قَدِيمَةً تعلَّقت فِي الْأَزَلِ بِكُلِّ الْمُرَادَاتِ، فَيَلْزَمُهُمْ تخلُّف الْمُرَادِ عَنِ الْإِرَادَةِ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ؛ فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ لَا يُثْبِتُونَ صِفَةَ الْإِرَادَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِإِرَادَةٍ حَادِثَةٍ لَا فِي مَحَلٍّ، فَيَلْزَمُهُمْ قِيَامُ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا، وَهُوَ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ؛ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْإِرَادَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ:

1-

إِرَادَةٌ كَوْنِيَّةٌ تُرَادِفُهَا الْمَشِيئَةُ، وَهُمَا تتعلَّقان بِكُلِّ مَا يَشَاءُ اللَّهُ فِعْلَهُ وَإِحْدَاثَهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا وَشَاءَهُ؛ كَانَ عَقِبَ إِرَادَتِهِ لَهُ؛

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) .

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:

((مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ)) (2) .

2-

وَإِرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

(1) يس: (82) .

(2)

هذا جزء من حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، في الأدب، (باب: ما يقول إذا أصبح) (13/415-عون) ، والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (ص140 رقم12) ، وابن السني من طريقه في ((عمل اليوم والليلة)) (ص25 رقم46)، قال الحافظ:

((حديث غريب)) .

انظر: ((الفتوحات الربانية)) (2/121) ، و ((الأذكار)) للنووي، تخريج بشير عيون (رقم232) ، و ((ضعيف الجامع)) ) (4121) .

لكنّ معناه صحيح حتمًا.

ص: 99

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .

وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ؛ بَلْ قَدْ تتعلَّق كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأُخْرَى، فَبَيْنَهُمَا عمومٌ وخصوصٌ مِنْ وَجْهٍ.

فَالْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ أعمُّ مِنْ جِهَةِ تعلُّقها بِمَا لَا يحبُّه اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وأخصُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ إِيمَانِ الْكَافِرِ وَطَاعَةِ الْفَاسِقِ.

وَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ أعمُّ مِنْ جِهَةِ تعلُّقها بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَاقِعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَاقِعٍ، وأخصُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَاقِعَ بِالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِرَادَتَيْنِ قَدْ تَجْتَمِعَانِ مَعًا فِي مِثْلِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ، وَطَاعَةِ الْمُطِيعِ.

وَتَنْفَرِدُ الْكَوْنِيَّةُ فِي مِثْلِ كُفْرِ الْكَافِرِ، وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِي.

وَتَنْفَرِدُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مِثْلِ إِيمَانِ الْكَافِرِ، وَطَاعَةِ الْعَاصِي.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ

} الْآيَةَ؛ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ لِزَمِيلِهِ الْكَافِرِ صَاحِبِ الجنَّتين؛ يَعِظُهُ بِهِ أَنْ يَشْكُرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، ويردَّها إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَيَبْرَأَ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ

} الْآيَةَ؛ إخبارٌ عَمَّا وَقَعَ بَيْنَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِهِمْ: مِنَ التَّنَازُعِ، وَالتَّعَادِي بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَحَسَدًا، وأنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عز وجل، وَلَوْ شَاءَ عَدَمَ حُصُولِهِ مَا حَصَلَ، وَلَكِنَّهُ

(1) البقرة: (185) .

ص: 100

شَاءَهُ فَوَقَعَ.

وَقَوْلُهُ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ

} إِلَخْ؛ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ بِخَلْقِ اللَّهِ عز وجل، فَمَنْ يُرِدْ هِدَايَتَهُ أَيْ: إِلْهَامَهُ وَتَوْفِيقَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، بِأَنْ يَقْذِفَ فِي قَلْبِهِ نُورًا، فَيَتَّسِعَ لَهُ، وَيَنْبَسِطَ؛ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَمَنْ يُرِدْ إِضْلَالَهُ وَخِذْلَانَهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ فِي غَايَةِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ نُورُ الْإِيمَانِ، وشبَّه ذَلِكَ بِمَنْ يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ.

ـ[ (وَقَوْلُهُ: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) ، {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (3) ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (4) ، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (5) ، وَقَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (6) ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (7)) .]ـ

(1) البقرة: (195) .

(2)

الحجرات: (9) .

(3)

التوبة: (7) .

(4)

البقرة: (222) .

(5)

آل عمران: (31) .

(6)

المائدة: (54) .

(7)

الصفّ: (4) .

ص: 101

/ش/ تضمَّنت هَذِهِ الْآيَاتُ إِثْبَاتَ أفعالٍ لَهُ تَعَالَى نَاشِئَةٍ عَنْ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ عز وجل لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ يحبُّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ.

وَيَنْفِي الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ صِفَةَ الْمَحَبَّةِ؛ بِدَعْوَى أَنَّهَا تُوهِمُ نَقْصًا؛ إِذِ الْمَحَبَّةُ فِي الْمَخْلُوقِ مَعْنَاهَا مَيْلُهُ إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ أَوْ يستلذُّه.

فَأَمَّا الْأَشَاعِرَةُ؛ فيُرجعونها إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا إِرَادَتُهُ لِإِكْرَامِهِ وَمَثُوبَتِهِ.

وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي صِفَاتِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالسَّخَطِ؛ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى إِرَادَةِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ؛ فَلِأَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ إِرَادَةً قَائِمَةً بِهِ، فَيُفَسِّرُونَ الْمَحَبَّةَ بِأَنَّهَا نَفْسُ الثَّوَابِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ عَلَى اللَّهِ لِهَؤُلَاءِ؛ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي وُجُوبِ إِثَابَةِ الْمُطِيعِ وَعِقَابِ الْعَاصِي.

وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ؛ فَيُثْبِتُونَ الْمَحَبَّةَ صِفَةً حَقِيقِيَّةً لِلَّهِ عز وجل عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، فَلَا تَقْتَضِي عِنْدَهُمْ نَقْصًا وَلَا تَشْبِيهًا.

كَمَا يُثْبِتُونَ لَازِمَ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ، وَهِيَ إِرَادَتُهُ سُبْحَانَهُ إِكْرَامَ مَنْ يُحِبُّهُ وَإِثَابَتَهُ (1) .

وَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا يُجِيبُ النَّافُونَ للمحبَّة عَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ عليه السلام فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أحبَّ عَبْدًا؛ قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فأحبَّه. قَالَ: فَيَقُولُ جِبْرِيلُ عليه السلام لِأَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ رَبَّكُمْ عز وجل يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ

(1) الصواب أن يقال: ((كما يثبتون لازم تلك المحبة؛ وهي إكرام من يحبه وإثابته)) حتى لا تفسَّر الصفة بصفة أخرى، فالإرادة صفة والإكرام صفة فلا يقال إرادة الإكرام، بل لازم المحبة إكرام من يحبه.

ص: 102

الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَهُ فَمَثِيلُ ذَلِكَ)) (1) ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ؟!

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {وَأَحْسِنُواْ} أمرٌ بِالْإِحْسَانِ الْعَامِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لَا سِيَّمَا فِي النَّفَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْإِحْسَانُ فِيهَا يَكُونُ بِالْبَذْلِ وَعَدَمِ الْإِمْسَاكِ، أَوْ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ التَّقْتِيرِ وَالتَّبْذِيرِ، وَهُوَ الْقَوَامُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ (2) .

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وليحدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) (3) .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْإِحْسَانَ موجبٌ لمحبَّته؛ سَارَعُوا إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِهِ.

(1) رواه البخاري في التوحيد، (باب: كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة) (13/461-فتح) ، وفي الأدب، ومسلم في البر والصلة، (باب: إذا أحب الله عبدًا حبَّبه إلى عباده) (16/422-نووي) ، والترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة مريم) .

(2)

يشير إلى قوله تعالى في سورة الفرقان (67) :

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} .

(3)

رواه مسلم في الصيد، (باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل) (13/113- نووي) ، والترمذي في الديات، (باب: النهي عن المثلة) (4/664 - تحفة)، وأبو داود في الأضاحي (باب: النهي أن تُصْبَر البهائم، والرفق بالذبيحة) ، والنسائي في الضحايا، (باب: الأمر بإحداد الشفرة) .

ص: 103

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {وَأَقْسِطُوا} ؛ فَهُوَ أمرٌ بِالْإِقْسَاطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَنَازِعَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِنْ قَسَطَ؛ إِذَا جَارَ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: المُقْسِط.

وَفِي الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى الْعَدْلِ وَفَضْلُهُ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ عز وجل.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} ؛ فَمَعْنَاهُ: إِذَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أحدٍ عهدٌ كَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاهَدْتُمُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ مُدَّةَ اسْتِقَامَتِهِمْ لَكُمْ، فَـ (مَا) هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ.

ثُمَّ علَّل ذَلِكَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ؛ أَيْ: يحبُّ الَّذِينَ يتَّقون اللَّهَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ عَدَمُ نَقْضِ الْعُهُودِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ

} إِلَخْ؛ فَهُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى عَنْ مَحَبَّتِهِ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُمُ التَّوَّابون؛ أَيْ: الَّذِينَ يُكْثِرُونَ التَّوْبَةَ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ عز وجل بِالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا أَلَمُّوا بِهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ، فَهُمْ بِكَثْرَةِ التَّوْبَةِ قَدْ تطهَّروا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالنَّجَاسَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُمُ الْمُتَطَهِّرُونَ؛ الَّذِينَ يُبَالِغُونَ فِي التَّطَهُّرِ، وَهُوَ التَّنْظِيفُ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالنَّجَاسَاتِ الْحِسِّيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُتَطَهِّرِينَ هُنَا الَّذِينَ يَتَنَزَّهُونَ مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ أَوْ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى.

ص: 104

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا ادَّعوا أَنَّهُمْ يحبِّون اللَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِحْنَةً لَهُمْ (1) .

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ شَرَطَ اللَّهُ لمحبَّته اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَنَالُ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ؛ إِلَّا مَنْ أَحْسَنَ الِاتِّبَاعَ وَالِاسْتِمْسَاكَ بِهَدْيِهِ عليه السلام.

ـ[ (وَقَوْلهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (2) ، وَقَوْلهُ: {بسم الله الرحمن الرحيم} ، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (3) ، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (4) ، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (5) ، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (6) ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (7) ، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (8)) .]ـ

(1) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) رقم (379) ، وابن جرير موقوفًا على الحسن، وقال ابن جرير:

((وأما ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه؛ فلا خبر به عندنا يصح)) .

ثمّ رجَّح أنها نزلت في وفد نصارى نجران.

انظر ((تفسير الطبري)) ، تحقيق: شاكر، (6/322-324) .

(2)

البروج: (14) .

(3)

غافر: (7)

(4)

الأحزاب: (43) .

(5)

الأعراف: (156) .

(6)

الأنعام: (54) .

(7)

الأحقاف: (8)، ويونس:(107) .

(8)

يوسف: (64) .

ص: 105