الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الجنة والنار
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ، وَكُلُّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ)(1) .
الشرح: أما قوله: ((إن الجنة والنار مخلوقتان)) ؛ فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك.
فمن نصوص الكتاب: قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2) ، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} (3)، وعن النار:
{أُعِدَّتْ
(1) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص420-432) ، و ((مجموع الفتاوى)) (18/307) .
(2)
آل عمران: (133) .
(3)
الحديد: (21) .
لِلْكَافِرِينَ} (1) ، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادً - لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) } (2)، وقال تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (3) .
وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سِدْرَةَ المُنتهى، ورأى عندها جنّة المأوى؛ كما في ((الصحيحين)) من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره:((ثم انطلقَ بي جبرائيل، حتى أتى سِدْرَةَ المنتهى، فغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي)) . قال: ((ثم دخلت الجنّة؛ فإذا هي جنابِذُ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) (4) .
وقوله: ((لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان)) : هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف.
فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد؛ فهذا مِمّا يُعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر به.
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (5) ؛ أي: إلاّ مدَّة مقامهم في القبور والموقف.
(1) آل عمران: (131) .
(2)
النبأ: (21، 22) .
(3)
النجم: (13-15) .
(4)
رواه البخاري في (الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء) ، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات) .
(5)
هود: (108) .
وقال ابنُ جرير الطبري: إنّ الله تعالى لا خُلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله:{عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ؛ أي غير مقطوع، وعلى كل تقدير؛ فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله:{عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ ٍ} ؛ محكم، فنأخذ بالمُحْكم، وندع المتشابه إلى عالِمه.
وقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} (1) .
وقوله تعالى: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (2) .
وقد أكّدَ اللهُ خلود أهل الجنّة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنّهم:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} (3) ، وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممتَهُ إلى الاستثناء في قوله تعالى:{إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ} ؛ تبيَّنَ أنَّ المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنّة من مدَّة الخلود؛ كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت؛ فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.
والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَن يدخلُ الجنة ينعَمُ ولا يبأس، ويخلدُ ولا يموتُ)) (4)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يُنادِ مُنادٍ: يا أهل الجنة! إنّ لكم أن
(1) الرعد: (35) .
(2)
الحجر: (48) .
(3)
الدخان: (56) .
(4)
(صحيح) . رواه: أحمد في ((المسند)) (15/190/رقم8030 شاكر) ، ومسلم في (الجنة، باب في دوام نعيم أهل الجنة) ؛ بلفظ: ((من يدخل الجنة؛ ينعم ولا يبأس؛ لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)) .
تصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وأن تشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وأن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا)) (1)، وفي حديث ذبح الموت بين الجنة والنار:((ويقال: يا أهل الجنة! خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار! خلودٌ فلا موتٌ)) (2) .
وأما أبديَّة النار ودوامُها؛ فإن الله تعالى يُخرج منها من شاء؛ كما ورد في السنة، ويُبقي فيها الكفار بقاءً لا انقضاء له.
ومن أدلَّة بقائها وعدم فنائها: قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (3){لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (4) ، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً} (5){وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} (6) ، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} (7) .
وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله، وأحاديثُ الشفاعة صريحة في خروج عُصاة الموحِّدين من النار، وأنّ هذا حكمٌ مختصٌّ بهم؛ فلو خرج الكفار منها؛ لكانوا بمنزلتهم، ولم
(1) رواه مسلم في (الجنة، باب في دوام نعيم أهل الجنة) بنحوه، وأحمد في ((المسند)) (16/113/رقم8241-شاكر) .
(2)
رواه البخاري في (الرقاق، باب {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ) ومسلم في (الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء) .
(3)
المائدة: (37) .
(4)
الزخرف: (75) .
(5)
النساء: (169)، والبينة:(8) .
(6)
البقرة: (167) .
(7)
فاطر: (36) .
يختصَّ الخروج بأهل الإيمان.
وبقاءُ الجنَّة والنار ليسَ لذاتهما؛ بل بإبقاء الله لهما.
وقوله: ((وخلقَ لهما أهلاً)) : قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنس} (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:((إن الله خلق للجنّة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) (2) ، رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وقوله: ((فمن شاء منهم إلى الجنَّة فضلاً منه، ومَن شاء منهم إلى النار عدلاً منه
…
)) إلى آخره: مِمَّا يجب أن يُعلم أنّ الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح؛ فإنّه:{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (3)، كذلك لا يعاقب أحدًا إلا بعد حصول سبب العقاب؛ فإن الله تعالى يقول:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير} (4) ، وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، لكن إذا مَنَّ على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح؛ فلا يمنعه موجب ذلك أصلاً؛ بل يُعطيه من الثواب والقُرب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر، وحيث منعه ذلك؛ فلانتفاءِ سببه، وهو العمل الصالح.
(1) الأعراف: (179) .
(2)
رواه مسلم في (القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة) ، وأحمد في ((المسند))
(6/41) .
(3)
طه: (112) .
(4)
الشورى: (30) .
ولا ريب أنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لكن ذلك حكمةٌ منه وعدلٌ؛ فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله، وأما المسببات بعد وجود أسبابها؛ فلا يمنعها بحال، إذا لم تكن أسبابًا غير صالحة: إما لفساد في العمل، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه، فيكون ذلك لعدم المقتضي، أو لوجود المانع.
وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح، وهو لم يعطِ ذلك ابتلاءً وابتداءً إلا حكمةً منه وعدلاً؛ فله الحمد في الحالين، وهو المحمود على كل حالٍ، كل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل؛ فإن الله تعالى حكيم، يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها؛ كما قال تعالى:{وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1)، وكما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (2) ، ونحو ذلك. اهـ
- - - - - -
(1) الأنعام: (124) .
(2)
الأنعام: (53) .