المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصلاة الفصل الأول 564 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه] - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٣

[الطيبي]

الفصل: ‌ ‌كتاب الصلاة الفصل الأول 564 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]

‌كتاب الصلاة

الفصل الأول

564 -

عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلي الجمعة، ورمضان إلي رمضان؛ مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. رواه مسلم.

565 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)). متفق عليه.

ــ

كتاب الصلاة

قال شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي (قدس الله سره)): اشتقاق الصلاة، قيل: هي من الصلي، وهو النار، والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها تعرض علي النار، وفي العبد اعوجاج؛ لوجود نفسه الأمارة بالسوء، وسبحات وجه الله الكريم لو كشف حجابها أحرقت من أدركت، يصيب بها المصلي من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربإنية ما يزول به اعوجاجه بل يحقق به معراجه، فالمصلي المصطلي بالنار، ومن اصطلي بنار الصلاة وزال بها اعوجاجه لا يعرض علي النار إلا تحلة القسم.

الفصل الأول

الحديث الأول: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((والجمعة إلي الجمعة)) المضاف محذوف، أي صلاة الجمعة، و ((إلي)) متعلق بالمصدر أي صلاة الجمعة منتهية إلي الجمعة، وعلي هذا صوم رمضان منتهياً إلي صوم رمضان، و ((مكفرات)) خبر عن الكل، و ((لما بينهن)) معمول لاسم الفاعل، ولذا دخلت اللام فيه، و ((إذا اجتنبت)) شرط وجزاؤه ما دل عليه ما قبله؛ وإنما ذهبنا إلي أن الصلاة إلي الصلاة مكفرة ما بينهما دون خمس صلوات إلي خمس صلوات، لما يرد بعده من الحديث الآتي.

الحديث الثاني: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((لو أن نهراً)) لو الامتناعية تقتضي أن تدخل علي الفعل الماضي وأن يجاب، والتقدير: لو ثبت نهر بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً لما بقى من درنه شيء، فوضع الاستفهام موضعه تأكيداً وتقريراً، إذ هو في الحقيقة متعلق الاستخبار أي أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟ وفي رواية: ((ما تقول ذلك يبقى من

ص: 864

566 -

وعن ابن مسعود قال: إن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالي:{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذا؟ قال: ((لجميع أمتي كلهم)) وفي رواية: ((لمن عمل بها من أمتي)). متفق عليه.

ــ

درنه)) قال المالكي: فيه شاهد علي إجراء فعل القول مجرى فعل الظن، والشرط أن يكون فيه فعلاً مضارعاً مسنداً إلي المخاطب متصلا باستفهام. وقوله:((ذلك)) مفعول أول، و ((يبقى)) [ثإني]، و ((ما)) الاستفهامية نصب ((يبقى)) وقدم؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، والتقدير أي شيء تظن ذلك الاغتسال مبقياً من درنه، هذا التقدير علي اللغة المشهورة. وأما سليم فهم يجرون أفعال القول كلها مجرى الظن بلا شرط فيقولون: قلت زياداً منطلقاً ونحو ذلك، وعلي اللغة المشهورة قول النبي صلى الله عليه وسلم:((البر يقولون بهن)) أي البر يظنون ((البر)) مفعول أول، و ((بهن)) مفعول [ثإني]، وهما في الأصل مبتدأ وخبر، و ((من)) في قوله:((من درنه)) استغراقية زائدة لما دخل في حيز الاستفهام، و ((درنه)) فاعل ((يبقى)) وفيه مبالغة في نفي درن الذنوب ووسخ الآثام؛ ومن ثم ما اكتفوا في الجواب ((بلا)) بل زادوا فيه. والفاء في ((فذلك)) جواب شرط محذوف أي إذا أقررتم ذلك، وصح عندكم فهو مثل الصلوات إلي آخره، ومصداق ذلك قوله تعالي:{أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} قيل: صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف، وزلفا من الليل صلاة العشاء الثالث.

الحديث الثالث: عن ابن مسعود: قوله: ((إن رجلا أصاب)) وهو أبو اليسر، روى الترمذي عنه أنه قال:((أتتني امرأة تبتاع تمراً، فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه، فدخلت معي البيت فأهويتها فقبلتها)). و ((هذا)) مبتدأ))، و ((لي)) خبر مقدم، و ((ألي)) حرف الاستفهام لإرادة التخصيص، أي: أختص لي هذا الحكم أو عام لجميع المسلمين، فأجاب بقوله:((لجميع الأمة كلهم)) أي هذا لهم وأنت منهم، فلا يقدر المبتدأ مؤخراً في الجواب؛ لئلا يختل المعنى، إذ يصير التقدير أمختص لجميع المسلمين فهو خلف من القول؛ لأنه لا يقال: مختص بهم، بل يقال: عام فيهم. فإن قلت: أي فرق بين الروايتين؟ قلت: الأولي عامة مخصصة بالدليل، فدلالتها علي المقصورة ظاهرة، والثانية منصوصة فيه، والفاء في ((فأنزل الله)) معطوف علي مقدر أي فأخبره، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلي الرجل، فأنزل الله تعالي يدل علي الحديث الآتي.

ص: 865

567 -

وعن أنس، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فأقمه علي. قال: ولم يسأله عنه. وحضرت الصلاة فصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، قام الرجل، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً، فأقم في كتاب الله. قال:((أليس قد صليت معنا؟)) قال: نعم. قال: ((فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك- أو حدك-)). متفق عليه.

568 -

وعن ابن مسعود، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أحب إلي الله تعالي؟ قال:((الصلاة لوقتها)). قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)). قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)). قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني. متفق عليه.

ــ

الحديث الرابع: عن أنس: قوله: ((أصبت حداً)) أي فعلت شيء يوجب الحد، ((ولم يسأله عنه)) أي لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل عن موجب الحد ما هو أصغيرة أم كبيرة؟. فإن قلت: ما الفرق بين معنى ((علي)) في قوله: ((أقمه علي)) و ((في)) في قوله: ((فأقم في))؟ قلت: الضمير في قوله: ((فأقمه)) راجع إلي الحد، فحسن لذلك معنى الاستعلاء، ((وكتاب الله)) في قوله:((فأقم في كتاب الله)) يراد به الحكم، فهو يوجب ((في)) بمعنى الاستقرار فيه، وكونه ظرفاً يستقر فيه أحكام الله تعالي. هذا أبلغ لدلالته علي غاية انقياده وإذعانه له، والعدول من الحكم إلي كتاب الله لمزيد الإشعار بالعلية، يعني كتاب الله يوجب أن يذعن له وينقاد.

((قض)): صغائر الذنوب تقع مكفرات بما يتبعها من الحسنات، وكذا ما خفي من الكبائر؛ لعموم قوله تعالي:{إن الحسنات يذهبن السيئات} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أتبع الحسنة السيئة تمحها)) فأما ما ظهر منها وتحقق عند الحاكم لم يسقط حدها إلا بالتوبة، وفي سقوطه بها خلاف، وخطيئة هذا الرجل في حكم المخفي لأنه ما بينها، فلذلك سقط حدها بالصلاة، لاسيما وقد انضم إليها ما أشعر بإنابته عنها وندامته عليها، والترديد من شك الراوي.

الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((لوقتها)) اللام فيه مثلها في قوله تعالي: {فطلقوهن لعدتهن} أي مستقبلات لعدتهن، وقولك: لقيته لثلث بقين من الشهر. تريد مستقبل الثلث، وليس كما في قوله تعالي:{أقم الصلاة لدلوك الشمس} و {قدمت

ص: 866

569 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)). رواه مسلم.

ــ

لحياتي} بمعنى الوقت؛ لئلا يتكرر الوقت. ((وحدثني بهن)) أي قص الحديث علي الثلاثة المذكورة، بدليل قوله:((ولو استزدته لزادني)) و ((ثم)) في قوله: ((ثم أي)) مرتين، للدلالة علي تراخي المرتبة لا لتراخي الزمان.

((تو)): هذا الحديث مشكل لما يعارضه من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال وأحبها إلي الله تعالي، ثم الاختلاف الذي يقع في الترتيب بين تفصيلها، ففي هذا الحديث ما ذكر فيه، وفي حديث أبي ذر ((قال: يا رسول الله، أي العمل خير؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله))، وفي حديث أبي سعيد ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله)) إلي غير ذلك من الأحاديث في هذا المعنى، ووجه التوفيق أنه صلى الله عليه وسلم أجاب لكل بما يوافق غرضه، وما يرغب فيه، أو أجاب علي حسب ما عرف من حاله بما هو يليق به وأصلح له؛ توفيقاً له علي خفي عليه، وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا، ولا يريد تفضيله في نفسه علي جميع الأشياء ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال، ولواحد دون آخر، وذلك مثل قولك في موضع يحمد فيه السكوت: لا شيء أفضل من السكوت، وقولك حيث يحمد الكلام: لا شيء أفضل من الكلام. ولقد تعاضدت النصوص علي فضل الصلاة علي الصدقة، ثم إن تجددت حال تقتضي مواساة مضطر، أو إصلاح ذات بين فتكون الصدقة حينئذ أفضل، وعلي هذا فضل الجهاد علي غيره؛ لأنه السبب الداعي إلي الإيمان، والخلة المظهرة لكلمات الله العليا، لاسيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حينئذ من أجل القربات، وأعظم المثوبات؛ لاشتماله علي إظهار الدين، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أقول: ويعضده حديث الأنمارية حيث وصفت أبناءها الكملة: ولدت لزيادة العبسي ربيعاً الكامل، وعمارة الوهاب، وقس الحفاظ، [وأسد] الفوارس، حين سئلت أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، لا بل فلان، ثم قالت: لكنهم إن كنت أعلم أيهم أفضلهم، كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفها. والأسلوب من باب الرجوع من التفصيل إلي الإجمال تنبيهاً علي نفاد الوصف دون كمالهم.

الحديث السادس عن جابر: قوله: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) ترك الصلاة مبتدأ، والظرف خبره، ومتعلقه محذوف قدم ليفيد الاختصاص، ويؤيده الحديث الخامس في الفصل الثالث من الباب، وهو قوله: ((كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير

ص: 867

ــ

الصلاة)) وظاهر الحديث نظير قوله تعالي: {ومن بيننا وبينك حجاب} وقوله: {وجعل بين البحرين حاجزا} فإذا ذهب إلي هذا المعنى يوجب خلاف المقصود؛ ولذلك قيل فيه وجوه:

أحدها: أن ترك الصلاة معبر عن فعل ضده؛ لأن فعل الصلاة هو الحاجز بين الإيمان والكفر، فإذا ارتفع ارتفع المانع، وعليه كلام التوربشتي حيث قال: إن العبد إذا ترك الصلاة لم يبق بينه وبين الكفر فاصلة فعليه [يؤيس] منه، لأن إقامة الصلاة هي الخصلة المفارقة بين الفئتين والحكم الحاجز بين الأمرين، ولما لم يكن بين المنزلتين منزلة أخرى، والتهاون بحفظ حد الشرع كاد يفضي بصاحبه إلي حد الكفر، عبر عنه بارتفاع البينونة.

وثإنيها: قول القاضي: يحتمل أن يؤول ترك الصلاة بالحد الواقع بينهما، فمن تركها دخل الحد، وحام حول الكفر ودنا منه. وثالثها: قوله أيضاً متعلق الظرف محذوف تقديره ترك الصلاة وصلة بين العبد والكفر، والمعنى يوصله إليه.

وأقول: أمتن الوجوه وأقواها الثاني، ثم الوجوه الثلاثة من باب التغليظ أي المؤمن لا يتركها، نحو قوله تعالي:{ولله علي الناس حج البيت ن استطاع إليه سبيلا ومن كفر} ويمكن أن يقال: إن الكلام مصبوب علي غي مقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر أن يقال: بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، أو بين المؤمن والكافر تركها، فوضع موضع المؤمن العبد، وموضع الكافر الكفر، فجعله نفس الكفر مبالغة، وإشعاراً بأن حقيقة العبودة أن يخضع لمعبوده، ويشكر نعمه الظاهرة والباطنة، وحقيقة من اتصف بالكفر أن يستنكف عن عبوديته، ويستر حق نعمته وعظمته. وأظهر الشكر وأكمله، وقوامه وعموده أداء الصلاة وإقامتها، كأنه قيل: الفرق بين المؤمن والكافر ترك أداء شكر النعم الحقيقي، فمن أقامها فهو مؤمن، ومن تركها فهو كافر، فعلي هذا المعنى الكفر بمعنى كفران النعمة.

((غب)): العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها غلا من له غاية الإفضال، وهو الله سبحانه وتعالي. ((حس)): اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمداً، فذهب جماعة إلي تكفيره، قال عمر:((لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) وقال ابن مسعود: ((تركها كفر))، وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وذهب الآخرون: إلي أنه لا يكفر، وحملوا الحديث علي من تركه جاحداً، أو علي الزجر والوعيد. وقال حماد بن زيد، ومكحول، والشافعي: تارك الصلاة يقتل كالمرتد، ولا يخرج عن الدين، وقال أصحاب الرأي: لا يقتل بل يحبس ويضرب حتى يصلي، وبه قال الزهري.

ص: 868

الفصل الثاني

570 -

عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات افترضهن الله تعالي، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له علي الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له علي الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) رواه أحمد، وأبو داود. وروى مالك، والنسائي نحوه [570]

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول عن عبادة بن الصامت: قوله: ((لوقتهن)) أي قبل أوقاتهن وأولها، وسبق مجازه في الحديث الخامس من الفصل. وفي عطف ((وخشوعهن)) علي ((ركوعهن)) وجهان: أحدهما: أن يكون ذكره للتكرير والتقرير. ((الكشاف)) في قوله تعالي: {واركعوا مع الراكعين} الركوع: الخضوع والانقياد، فيكون العنى فأتم خضوعهن بعد حضوع، أي خضوع مضاعف، كقوله:{إنما أشكو بثي وحزني إلي الله} كررهما لشدة الخطب النازل. ((غب)): ليس من شرط الخطاب أن يقصر في الأوصاف علي وصف دون آخر، وإن ذكر لا يكون لغواً. وثإنيهما: أن يراد بالركوع الأركان، أي أتم أركانها، وخص بالذكر دون غيره من الأركان تغليباً، كما سميت الركعة ركعة.

قوله: ((كان له علي الله عهد)) ((قض)): شبه وعد الله بإثابته المؤمنين علي أعمالهم بالعهد الموثوق به، الذي لا يخلف، ووكل أمر التارك إلي مشيئته تجويزاً لعفوه، وأنه لا يجب علي الله شيء، ومن ديدن الكرام محافظة الوعد، والمسامحة في الوعيد.

أقول: أراد أن العهد هنا مستعار للوعد علي سبيل التبعية؛ ولذلك علق به قوله: ((أن يغفر)) بحذف الباء، كما يقال: وعد بكذا، وفائدة الاستعارة المبالغة في إيجاز الوعد وإيفائه؛ فإن خلف الوعد كنقض العهد فلا يجوز ذلك لاسيما من الكرام. هذه المبالغة في جانب الوعد، وأما في جانب الوعيد فجيء بـ ((إن)) مقارنة بها المشيئة ليؤذن بالمسامحة والتساهل في الوعيد. ((ومن لم يفعل)) كناية عن الأفعال الثلاثة- وهي (أحسن) و (صلي) و (أتم) - مع متعلقاتها عبر به عنها وجازة، واختصاراً. ((الكشاف)): ألا ترى أن الرجل يقول: ضربت زيداً في موضع كذا علي

ص: 869

571 -

وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) رواه أحمد والترمذي. [571]

572 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أبو داود، وكذا رواه في ((شرح السنة)) عنه. [572]

ــ

صفة كذا، وشتمته وتكلمت به، ويعد كيفيات وأفعالاً، فيقول له: بئسما فعلت، ولو ذكرت ما أنبئت عنه، لطال عليك. و ((خمس صلوات)) مبتدأ، ((افترضهن)) صفة له، والجملة الشرطية بعده جزاؤه.

الحديث الثاني عن أبي أمامة قوله: ((صلوا حمسكم)) إنما أضاف الصلاة، والصوم والزكاة والطاعة إليهم؛ ليقابل العمل بالثواب في قوله:((جنة ربكم)) ولينعقد البيع بين الرب والعبد، كما في قوله تعالي:{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} . قوله: ((وأطيعوا ذا أمركم)). ((مظ)) أي الخليفة والسلطان وغيرهما من الأمراء. أقول: إنما عدل من قوله: أميركم؛ ليكون أبلغ وأشمل، كما في قوله تعالي:{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فإن قلت: لم صرح بالمضاف في قوله: ((زكاة أموالكم)) وأضمر في قوله ((خمسكم)) أي صلواتكم، وأبهم في قوله:((شهركم)) أي: رمضانكم. قلت: للدلالة علي أن الإنفاق من المال أمر أشق وأصعب علي النفس، أي أنفقوا مما تحبون، وما هو شقيقة أنفسكم، ومنه قوله تعالي:{ولا تؤتوا السفاء أموالكم} والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معاشهم، أي لا تؤتوا السفهاء ما تقومون بها، وتتعيشون منها.

الحديث الثالث عن عمرو بن شعيب: قوله: ((مروا)) مروا أمر حذفت همزته تخفيفاً، فلما حذفت فاء الفعل لم يحتج إلي همزة الوصل لتحريك الميم، يعني إذا بلغ أولادكم سبع سنين فأمروهم بأداء الصلاة؛ ليعتادوها ويستأنسوا بها. فإذا بلغوا عشراً ضربوا علي تركها، وفرقوا بين

ص: 870

573 -

وفي ((المصابيح)) عن سبرة بن معبد.

574 -

وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر)). رواه أحمد والترمذي، والنسائي، وابن ماجه [574].

الفصل الثالث

575 -

عن عبد الله بن مسعود، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا

ــ

الأخ والأخت مثلا في المضاجع؛ لئلا يقعوا فيما لا ينبغي؛ لأن بلوغ العشر مظنة الشهوة وإن كن أخوات. أقول: إنما جمع بين الأمر بالصلاة، والفرق بينهم في المضاجع في الطفولية تأديباً ومحافظة لأمر الله كله؛ لأن الصلاة أصلها وأسبقها، وتعليماً لهم بين الخلق، وأن لا يقفوا مواقف التهم، فيتجنبوا محارم الله كلها.

الحديث الرابع عن بريدة: قوله: ((بيننا وبينهم)) ((قض)): الضمير الغائب للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دمائهم بالعهد المقتضي إبقاء المعاهد والكف عنه، والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عيهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم وسائر الكفار سواء. ((تو)): ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لما استؤذن في قتل المنافقين: ((ألا إني نهيت عن قتل المصلين)).

وأقول: يمكن أن يكون الضمير عاماً في من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان منافقاً أم لا، يدل عليه الحديث الآخر من هذا الباب. وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء:((ولا تترك صلاة مكتوبة معتمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة)).

الفصل الثالث

الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((عالجت امرأة)) أي داعبتها وزاولت منها ما يكون بين الرجل والمرأة، غير إني ما جامعتها و ((ما)) في ((ما دون)) موصولة أي أصبت منها ما يجاوز المس أي المجامعة، و ((الفاء)) في قوله:((فاقض)) سببية أي أنا حاضر بين يديك، ومنقاد

ص: 871

هذا، فاقض في ما شئت. فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت علي نفسك. قال: ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئاً. فقام الرجل، فانطلق. فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه، وتلا عليه هذه الآية:{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} . فقال رجل من القوم: يانبي الله! هذا له خاصة؟ فقال: ((بل للناس كافة)). رواه مسلم.

576 -

وعن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج زمن الشتاء، والورق يتهافت، فأخذ بغصنين من شجرة. قال: فجعل ذلك الورق يتهافت. قال: فقال: ((يا أبا ذر!)) قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ((إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه، كما تهافت هذا الورق عن هذه الشجرة)). رواه أحمد. [576]

577 -

وعن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي سجدتين لا يسهو فيهما؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه)). رواه أحمد [577]

ــ

لحكمك غير مانع لما تريد مني، فاقض في ما أنت قاض و ((هذا)) مثلها اسم الإشارة في قوله تعالي:{ها أنتم هؤلاء} و ((فاقض)) مثله فيه ((حاججتم)) علي استئناف ((أنتم)) مبتدأ و ((هؤلاء)) خبره، و ((حاججتم)) جملة مستأنفة مبينة لها يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقاء! لأنكم جادلتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟

وقوله: ((فقال رجل من القوم)) قيل: هو عمر بن الخطاب، وقيل: معاذ، وقد سبق شرح الحديث في الحديث الثالث من الفصل الأول.

الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((ويتهافت)) التهافت السقوط المتواتر، و ((فجعل ذلك الورق)) أي طفق الأوراق من الغصنين تهافت تهاتفاً سريعاً، لأنهما عند القبض بهما ونفضهما أسرع سقوطاً من تركهما علي حالهما، و ((يريد بها وجه الله)) حال إما من الفاعل أو المفعول، أي خالصة له، وأصل ((تهافت)) تتهافت سقطت عنه إحدى التائين.

الحديث الثالث عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: قوله ((سجدتين)) أي ركعتين، غلبت السجدة علي سائر الأركان كما غلبت الركعة عليها. وقوله:((لا يسهو فيها)) أي يكون

ص: 872

578 -

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال:((من حافظ عليها، وكانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة. ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) روه أحمد، والدارمي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [578]

579 -

وعن عبد الله بن شقيق، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي. [579]

ــ

حاضر القلب يقظان النفس، يعلم من نياجي وبما يناجيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((اعبد الله كأنك تراه)) الحديث، ولهذا المعنى خصت السجدة في التغليب دون الركوع تلميحاً إلي قوله تعالي:{واسجد واقترب} .

الحديث الرابع عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قوله: ((ذكر الصلاة)) أي أراد أن يذكر فضلها وشرفها، فقال: إلي آخره، فالذكر بمعنى الشرف والفضل كما في قوله تعالي:{ص~ والقرآن ذي الذكر} و ((من حافظ عليها)) أي يحفظها من أن يفع زيغ في فرائضها وسننها، وآدابها، يداوم عليها ولا يفتر عنها. ومعنى البرهان والنور سبق في قوله صلى الله عليه وسلم ((الطهور شطر الإيمان)) الحديث. وفي قوله:((كان مع قارون، وهامان، وأبي بن خلف)) تعريض بأن من حافظ عليها كان مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. ((وأبي بن خلف)) هو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك.

الحديث الخامس بن عبد الله بن شقيق: قوله: ((لا يرون)) يرون من الرأي، و ((شيئاً)) مفعوله، و ((من الأعمال)) نعته، كذا الجملة- وهي: تركه الكفر- و ((غير)) استثناء والمستثنى منه الضمير الراجع إلي ((شيئاً)) ويجوز أن يكون ((غير)) صفة أخرى لـ ((شيئاً)) المعنى: ما كنوا معتقدين ترك شيء من الأعمال يوجب الكفر إلا الصلاة، ومعناه ما يجيء في الحديث من الفصل

ص: 873