المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(7) باب المساجد ومواضع الصلاة - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٣

[الطيبي]

الفصل: ‌(7) باب المساجد ومواضع الصلاة

هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها، ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها))، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أبي بكر الصديق، فقل:((إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه، ثم لم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام)). ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا، فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. رواه مالك مرسلاً.

688 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صيامهم وصلاتهم)) رواه ابن ماجه. [688]

(7) باب المساجد ومواضع الصلاة

الفصل الأول

689 -

عن ابن عباس، قال: لما دخل! النبي صلى الله عليه وسلم البيت، دعا في نواحيه كلها

ــ

السكون عن الحركات من المشي والاختلاف في الطرق، وفي الحديث إظهار المعجزة، ولذلك صدقه الصديق بالشهادة.

الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((معلقتان)) صفة لـ ((خصلتان))، و ((المسملين)) خبر للمبتدأ الموصوف، و ((صيامهم وصلاتهم)) بيان للخصلتين أو بدل منهما، شبهت حالة المؤذنين وإناطة الخصلتين للمسلمين [بهم] بحالة الأسير الذي في عنقه ربقة الرق وقد لا يخلصه منها إلا المن والفداء، والوجه الأمر الذي لزم الشخص ولا تفصى له عنه إلا بالخروج عن عهدته وبهذا الاعتبار قيل في حقهم: إنهم أمناء.

باب المساجد ومواضع الصلاة

الفصل الأول

الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قبل الكعبة)) بضم الباء وسكونها، والقبل نقيض الدبر، والقبلة الجهة، سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، ((تو)): المراد منها الجهة التي فيها الباب. ((خط)): معنى قوله: ((هذه القبلة)) أن أمر القبلة قد استقر علي هذا

ص: 926

ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال:((هذه القبلة)) رواه البخاري.

690 -

ورواه مسلم عنه، عن أسامة بن زيد.

ــ

البيت، ولا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إلي الكعبة أبداً فهي قبلتكم، قال: ويحتمل وجهاً آخر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم علمهم السنة في مقام الإمام واستقباله القبلة، من وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها الثلاثة، وإن كان الصلاة في جميع جهاتها مجزية.

((قض)): ذهب عامة العلماء إلي جواز النفل داخل الكعبة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو الذي يليه، واختلف في الفرض، فذهب الجمهور إلي جوازه. ومنع منه مالك، وأحمد وحكي عن محمد بن جرير أنه قال: لا يجوز فيها الإتيان بالفرض ولا بالنفل متمسكاً بهذا الحديث، وهو مع ضعف دلالته لا يعارض حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه حكاية دخوله يوم الفتح، فلو كان ابن عباس رضي الله عنهما يحكي غيره فلا يعارضه، وإن كان يحكيه- والظاهر ذلك- فالحديث مرسل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما دخل أغلق عليه الباب، ولم يكن ابن عباس معه، فلا يقاوم المسند.

أقول- والعلم عند الله-: في قوله: ((فالحديث مرسل)) بحيث؛ لأنه من رواية مسلم متصل قطعاً، فإنه قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن ابن بكر، قال أنبا محمد ابن بكر، أنبا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أسمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله؟ قال: لم يكن ينهي عن دخوله ولكن سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت

الحديث، ومن رواية البخاري. قال: حدثنا إسحاق بن نصر نا عبد الرزاق أنبا ابن جريج عن عطاء سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت

الحديث؛ فابن عباس علي رواية مسلم ليس براو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يوهم الإرسال في رواية البخاري، وهو مشكل، لأن المرسل ضعيف، وشرط الصحيح اتصال السند، ولعل العذر أن يقال باختلاف الزمان وتعدد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن الكاتب سقط منه راوي ابن عباس أو يقال: كان ابن عباس مع من دخل، لكن لم يشعر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقريب منه ما ذكر الشيخ محيي الدين في شرح صحيح مسلم بإسناده عن بلال رضي الله عنه:((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وصلي فيها بني العمودين)) وبإسناده عن أسامة: ((أنه صلى الله عليه وسلم دعا في نواحيها ولم يصل)).

وأجمع أهل الحديث علي الأخذ براوية بلال،؛ لأنه مثبت، ومعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. والمراد الصلاة المعهودة، ويؤيده قول ابن عمر:((نسيت أن أسأله كم صلي)) وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء، فرأي أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم

ص: 927

691 -

وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي، وبلال بن رباح، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالا حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يؤمئذ علي ستة أعمدة ثم صلي. متفق عليه.

692 -

وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)) متفق عليه.

693 -

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) متفق عليه.

ــ

صلي النبي صلى الله عليه وسلم ورآه بلال لقربه، ولم ير أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، فجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها، وقال أيضاً: إنما أغلقها صلى الله عليه وسلم ليكون أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، ولئلا يجتمع الناس فيزدحموا فينالهم ضرر أو يشوش عليه الحال بسبب لغطهم. تم كلامه.

وأما قوله أولاً: ((وهو مع ضعفه لا يعارض)) فضعيف أيضاً، وبيان قوة دلالة الحديث علي المطلوب أن قول ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم:((لم يصل حتى خرج)) يؤذن بأن فعله صلى الله عليه وسلم بيان؛ لأن موضع الصلاة ليس بداخل البيت بل خارجه، ثم قوله بعد الصلاة:((هذه القبلة)) علي سبيل الحصر حيث عرف الخبر شاهد صدق عند العلماء النظم وترتيب الكلام أن هذه الجملة واردة علي بيان الموجب، يعني لا ينبغي أن يتوجه إلي القبلة إلا من خارج؛ لأن القبلة ليست إلا المشار إليها من الخارج. بقى أن يقال: إن الحديثين تعارضا فحمل أحدهما علي النسخ، والله أعلم.

الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((علي ستة أعمدة)) وذلك قبل أن بناها الحجاج في فتنة ابن الزبير وهدم الكعبة.

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلاة في مسجدي هذا)) قال الشيخ ابن عبد السلام في قواعده: يحتمل الاستثناء أن يراد به أن الصلاة في مسجدي لا يفضله بألف بل بدونها، ويحتمل أن يراد أن الصلاة في المسجد الحرام تفضل علي الصلاة في مسجدي بألف. أقول: ويحتمل المساواة أيضاً.

الحديث الرابع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: ((لا تشد الرحال)) كناية عن

ص: 928

694 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري علي حوضي)) متفق عليه.

ــ

النهي عن المسافرة إلي غيرها من المساجد، وهو أبلغ مما لو قيل: لا تسافر؛ لأنه صور حالة المسافرة وتهيئة أسبابها وعدتها من المراكب والأدوات والتزود وفعل الشد، ثم أخرج النهي مخرج الإخبار، أي لا ينبغي ولا يستقيم أن يقصد بالزيارة وبالرحلة إلا هذه البقاع الشريفة؛ لاختصاصها بالمزايا والفضائل؛ لأن إحداها بيت الله، وحج الناس وقبلتهم، رفع قواعدها الخليل عليه السلام، والثانية قبلة الأمم السالفة، عمرها سليمان عليه السلام، والثالثة أسست علي التقوى، وأشادها خير البرية، فكان المسافرة إليها وفادة إلي بإنيها.

((حس)): لو نذر أن يصلي في مسجد من هذه المساجد الثلاثة يلزمه أن يأتيه فيصلي فيه، فإن صلي في غيرها من المساجد لا يخرج عن نذره، ولو نذر أن يصلي في مسجد سواها لا يتعين، وعليه أن يصلي حيث شاء. ((شف)): لو نذر أن يصلي أو يعتكف في المسجد الحرام يتعين هو ولو عين مسجد المدينة للصلاة أو للاعتكاف تعين أحد هذين المسجدين، ولا يقوم غيرهما مقامهما، ولو نذر أن يصلي في مسجد سوى هذه الثلاثة ولو عين المسجد الأقصى للصلاة أو الاعتكاف تعين أحد هذه المساجد الثلاثة، ول يقوم غيرها مقامها. ولو نذر أن يصلي في مسجد سوى هذه المساجد الثلاثة لا يتعين، وعليه أن يصلي حيث شاء.

الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما بين بيتي ومنبري)) ((حس)): قيل: معنى الحديث أن الصلاة في ذلك الموضع والذكر فيه يؤدي إلي روضة من رياض الجنة، ومن لزم العبادة عن المنبر يسقى يوم القيامة من لحوض، وهذا كما قال:((عائد المريض علي مخارف الجنة)) يعني عيادة المريض تؤديه إليها، وكما جاء في الحديث:((الجنة تحت ظلال السيوف)) يريد أن الجهاد يؤديه إلي الجنة.

((تو)): إنما سمي تلك البقعة المباركة روضة لأن زوار قبره وعمار مسجده من الملائكة والجن والإنس لم يزالوا مكبين فيها علي ذكر الله وعبادته، إذا صدر منها فريق وردها آخرون، كما جاء:((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: ((حلق الذكر)) وقال: ((منبري علي حوضي)) أي علي حافته وعقره، فمن شهده مستمعاً إلي أو متبركاً بذلك الأثر شهد الحوض. ونبه صلى الله عليه وسلم علي أن المنبر مورد القلوب الصادية في بيداء الجهالة، كما أن الحوض مورد الأكباد الظامئة في حر القيامة، وهما متلازمان، لا مطمع لأحد في الآخر دون الشفاعة بالأول. هذا، ونحن لا نقطع بالقول في المناسبة بشيء، بل نذهب فيها إلي الاستنباط والتأويل، ونعتقد أن المراد منه ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق وإن لم تهتد إليه أفهامنا وعقولنا.

ص: 929

695 -

وعن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، فيصلي فيه ركعتين. متفق عليه.

696 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب البلاد إلي الله مساجدها، وأبغض البلاد إلي الله أسواقها)) رواه مسلم.

ــ

أقول: ولما شبه المسافة التي بين البيت والمنبر بروضة الجنة لأنها مكان الطاعات والذكر ومواقع السجود والفكر، أتى بقوله:((ومنبري علي حوضي)) تنبيهاً علي أن استمدادها من البحر الزاخر النبوي، ومكانه المنبر الموضوع علي الكوثر، يفيض منه العلم الإلهي، فجعل فيضان العلم اللدني من المنبر إلي الروضة وتروي الناس به والعمل بموجبه سبباً لريهم م الحوض الكوثر، وحصولهم في رياض الجنة، ونظير ما بين البيت والمنبر الأرض الطيبة التي أنبتت الكلأ والعشب الكثير في الحديث الذي ورد في باب العلم، ونظير الحوض الموضوع عليه المنبر الأحاديث المذكورة فيه.

فإن قلت: الذي يفهم من كلام الشارحين أن الحديث وارد علي التسبب، فما يقتضيه علم البيان؟ قلت: كلتا الجملتين من باب التشبيه البليغ، فإن قوله:((ما بين بيتي ومنبري)) مبتدأ، حمل عليه ((روضة من رياض الجنة)) كما يقال: زيد بحر، شبه تلك البقعة الطيبة التي تفيض عليها بركات الوحي السماوي والعلم الإلهي فتثمر الأعمال الصالحة والأفكار الصائبة، من رياض الجنة التي فيها حلول رضوان الله، وحصول ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولذلك شبه صفة المنبر العجيبة الشأن بصفة الحوض الكوثر، فكما أنه صلى الله عليه وسلم يشفي غليل الجهل بماء علمه، ويشفي عليله بمواعظه ونصائحه، كذلك يروي صدى كرب يوم القيامة بماء الكوثر، فلما أريد المبالغة وتناهي التشبيه جعل المنبر الذي هو منصة العلم علي حافة الحوض، كما تقول: زيد كالبحر في العلم، ثم هو علي ساحر بحر العلم يغرف منه ويفيض علي الناس، فكأنه نظر إلي هذا المعنى من قال:

فاضت علي الدنيا وآخره من كوثر المصطفي طوبى لآلاء

الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مسجد قباء)) ((مظ)): فيه دليل علي أن التقرب بالمساجد ومواضع الصلحاء مستحب، وأن الزيارة يوم السبت سنة. وقباء (مقصور وممدود) مسجد خارج المدينة قريب منها.

الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أحب البلاد)) لعل تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصاً تلميح إلي قوله تعالي: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي

ص: 930

697 -

وعن عثمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بني لله مسجداً، بنى الله له بيتاً في الجنة)) متفق عليه.

698 -

وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غدا إلي المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) متفق عليه

ــ

خبث لا يخرج إلا نكدا}.

قال قتادة: المؤمن سمع كتاب الله بعقله فوعاه وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلافه، وذلك لأن زوار المسجد {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} الآية، وقصاد الأسواق شياطين الجن والإنس من الغفلة الذين غلبهم الحرص والشدة، وذلك لا يزيد إلا قرباً من الله تعالي ومن أوليائه، وهذا لا يورث إلا دنوا من الشيطان وحزبه، اللهم إلا من يعمد إلي طلب الحلا الذي يصون به دينه وعرضه، {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} . ويجوز أن يقدر مضاف، فيرجع الضمير في ((مساجدها)) و ((أسواقها)) إليه، أي أحب بقاع البلاد مساجدها، والله أعلم.

الحديث الثامن عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((بيتاً في الجنة)) وفي رواية: ((مثله)) ((مح)): يحتمل مثله في القدر والمساحة، ولكنه أنفس هيئة بزيادات كثيرة، ويحتمل مثله في مسمى البيت وإن كان أكبر مساحة وأشرف. أقول: والاحتمال الثاني هو الوجه لأن التنكير في قوله: ((مسجداً)) ينبغي أن يحمل علي التقليل، وفي ((بيتاً)) علي التكثير والتعظيم؛ ليوافق ما جاء: ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة

)) الحديث.

الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((له نزله)) النزل ما يهيأ للنزيل، و ((كلما غدا)) ظرف، وجوابه ما دل عليه ما قبله، وهو العامل فيه، المعنى كلما استمر غدوة ورواحة يستمر إعداد نزله في الجنة، فالغدو والرواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالي:{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} يراد بهما الديمومة لا الوقتان المعلومان. ((مظ)): من عادة الناس أن يقدموا طعاماً إلي من دخل بيوتهم، والمسجد بيت الله، فمن دخله أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة، لأن الله تعالي أكرم الأكرمين؛ فلا يضيع أجر المحسنين.

ص: 931

699 -

وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام)) متفق عليه.

700 -

وعن جابر، قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:((بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد)). قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك. فقال: ((يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم)) رواه مسلم.

ــ

الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((فأبعدهم)) الفاء فيه للاستمرار، كما في قوله:((الأمثل فالأمثل)) و ((الأكمل فالأكمل)) قوله: ((من الذي يصلي)) يعني من أخر الصلاة وانتظر الإمام ليصلي معه أعظم أجراً من الذي يصلي في وقت الاختيار ولم ينتظر الإمام. ويحتمل أن يراد بقوله: ((يصلي)) يصليها مع الإمام ثم ينام، أي لا ينتظر الصلاة الثانية، فهو دون من صلي مع الإمام وانتظر الصلاة الثانية. وفي قوله:((ثم ينام)) غرابة؛ لأنه جعل عدم الانتظار نوماً؛ فيكون المنتظر وإن نام فيه يقظان؛ لأنه مراقب للوقت، كالمرابط ينتظر فرصة المجاهدة، وهذا يضع تلك الأوقات كالنائم فهو كالأجير الذي أدى ما عليه من العمل ثم مضى لسبيله. والله أعلم.

الحديث الحادي عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((بنو سلمة)) ((تو)): بنو سلمة- بكسر اللام- بطن من الأنصار، وليس في العرب سلمة- بكسر اللام- غيرهم، كانت ديارهم علي بعد من المسجد، وكانت المسافة تجهدهم في سواد الليل، وعند وقوع الأمطار، واشتداد البرد، فأرادوا أن يتحولوا إلي قرب المسجد، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، فرغبهم فيما عند الله تعالي من الأجر علي نقل الخطى إلي المسجد. أقول: في النداء بقوله: ((يا بني سلمة)) والظاهر الاستغناء عنه استرضاء عند قصدهم، وإحماد لهم علي نياتهم، ولذلك أتبعه بقوله:((دياركم)) أي عليكم والزموها لأنكم أحقاء أن يضاعف ثوابكم، ويجعل لكل لسان صدق في الآخرين. و ((تكتب)) يروى بالجزم علي جواب الزموا، ويجوز الرفع علي الاستئناف لبيان الموجب. وأثر الشيء حصول ما يدل علي وجوده يقال له: أثر، والجمع آثار، قال الله تعالي:{ونكتب ما قدموا وآثارهم} فالمراد بالكتابة إما كتب صحائف الأعمال وبالآثار الخطى، فالمعنى أن كثرة الخطى إلي المساجد سبب لزيادة الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم

ص: 932

701 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) متفق عليه.

ــ

فأبعدهم ممشاً)) وإما كتب ما في السير، والمراد بالآثار ما يؤثر في الكتب المدونة من سير الصالحين، فالمعنى لزومكم دياركم وبعد ممشاكم يكتب في سير السلف وآثار الصالحين، فيكون سبباً لحرص الناس وجدهم واجتهادهم في حضور الجماعات، فمن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها.

الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يظلهم الله)) ((حس)): معناه إدخاله تعالي إياهم في رحمته ورعايته. وقيل: المراد منه ظل الشمس، لأنه جاء في رواية من طريق هذا الحديث ((ظل عرشه)). ((غب)): الظل [ضد الضحى]، وهو أعم من الفيء، ويعبر عن العزة والمنعة والرفاهية، يقال: أظلني فلان أي حرفني وجعلني في ظله، أي عزه، ومناعته.

قوله: ((لا تعلم شماله)) ((شف)): قيل: فيه حذف أي لا يعلم من بشماله ما ينفق يمينه، وقيل: يراد به المبالغة في إخفائها، وأن شماله لو تعلم لما علمها.

أقول: ((في ظله)) تأكيد وتقرير لقوله: ((يظلهم))؛ فإن ((يظلهم)) يحتمل أن يراد به ظله أو ظل غيره، فجيء به نفياً لظل الغير، وكذا قوله:((يوم لا ظل إلا ظله)) علي نفي جنس الظل وإثبات ظله تقرير له يعني أن الله تعالي يحرسهم من كرب الآخرة ويكنفهم في كنف رحمته، ونظير الحديث قوله تعالي:{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} يعني لما سلمت قلوبهم في الدنيا من الشرك الأصغر والأكبر والمعاصي، وأخلصوا أعمالهم لله تعالي جعلهم الله تعالي تحت ظل رحمته، ونفعهم برأفته وعاطفته، ولهذا السر لم يقل: سلطان عادل بل قال: إمام عادل. ومن نشأ في عبادة الله من صغر سنه يسلم من المعاصي غالباً. ومن تعلق قلبه بالمسجد لا يكون إلا تقياً. كما ورد: ((المسجد بيت كل تقي)).

وقوله: ((اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) عبارة عن خلوص المودة في الغيبة والحضور، فهو في الإخلاص كالمنفق المستخفي، والذاكر الدامع في الخلوة، وكذا وصف المرأة بالحسن والجمال. وقول الرجل:((إني أخاف الله)) فيه دلالة علي المقام للدحض الذي لا تثبت فيه الأقدام قال الله

ص: 933

702 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف علي صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلي المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة؛ فإذا صلي، لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)). وفي رواية: قال: ((إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه)). وزاد في دعاء الملائكة. ((اللهم اغفر له، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) متفق

ــ

تعالي: {وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} . سمعت والدي قدس روحه يقول: كان من التابعين فتى جميل الصورة، وضئ الوجه، راودته امرأة ذات حسن وجمال، فامتنع، فأبت إلا ما أرادت، وغلقت الأبواب، فلما اضطر أذن لدخول الخلاء، فلوث بالقذرة ثيابه ووجهه وخرج، فلما رأته طردته، فرأي يوسف عليه الصلاة والسلام في المنام، فشكر صنيعه وبزق في فمه، فرزق علم رؤيا المنام، وتأويل الأحاديث، والله أعلم.

الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلاة الرجل)) مبتدأ والمضاف محذوف، أي ثواب صلاته، والضمير في ((تضعف)) راجع إليه، وفي تخصيص ذكر السوق والبيت إشعار بأن مضاعفة الثواب علي غيرهما من الأماكن التي لم تلزمه لزومهما لا يكون أكثر مضاعفة منهما.

وقوله: ((وذلك)) الجملة الحالية كالتعليل للحكم، كأنه لما أضاف الصلاة إلي الرجل والتعريف فيه للجنس أفاد أن صلاة الرجل الكامل الذي لا يلهيه أمر دنيوي عن ذكر الله في بيت الله يضعف أضعافاً؛ لأن مثل هذا الرجل لا يقصر في شرائطها، وأركانها، وآدابها، فإذا توضأ أحسن الوضوء، وإذا خرج إلي الصلاة لا يشوبه شيء مما يكدرها، فإذا صلي لم يتعجل للخروج، ومن شأنه هذا فجدير بأن يضعف ثواب صلاته.

وقوله: ((اللهم صل عليه)) جملة مبينة لقوله: ((يصلي عليه)) وهو أفخم من أن لو قيل ابتداء: لا تزال الملائكة تقول: اللهم صل عليه، للإبهام والتبيين.

وقوله: ((اللهم ارحمه)) طلبت لهم الرحمة من عند الله بعد طلب الغفران؛ لأن صلاة الملائكة علي العباد استغفار لهم. وفي قوله: ((كانت الصلاة تحبسه)) إشارة إلي النفس اللوامة التي تشتهي استيفاء لذاتها واشتغالها بخلع العذار، والصلاة تنهاها عن هواها، وتحبسها في بيت الله تعالي

ص: 934

703 -

وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)) رواه مسلم.

704 -

وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) متفق عليه.

705 -

وعن كعب بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس فيه)) متفق عليه.

706 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)) رواه مسلم.

ــ

كما كانت آمرة بالمعروف في قوله: ((لا يخرجه إلا الصلاة)) فإذا لزم مصلاه وانتظر الصلاة الأخرى اطمأنت، وقيل لها:{يأيتها النفس المطمئنة} فإذا طلبت الملائكة الغفران والرحمة لها قيل لها: {ارجعي إلي ربك} إلي آخره الآية. وقوله: ((لا يخرجه)) إما مفعول مطلق، أو حال مؤكدة.

وقوله: ((ما لم يؤذ)) أي أحداً من المسلمين بلسانه ويده، فإنه كالحدث المعنوي، ومن ثم أتبعه بالحدث الظاهري. ((تو)):((يحدث)) بتخفيف الدال من الحدث، ومن شددها فقد أخطأ، وقد روى هذا الحديث الترمذي في كتابه، وفيه:((فقال رجل من حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة؟ فقال: ((فساء أو ضراط)). قلت: ولعل الرجل إنما استفسره لأن الإحداث يستعمل علي معنى إصابة الذنب، فاشتبه عليه المعنى.

الحديث الرابع عشر عن أبي أسيد رضي الله عنه: قوله: ((اللهم افتح)) لعل السر في تخصيص ذكر الرحمة بالدخول والفضل بالخروج أن من دخل اشتغل بما يزلفه إلي الله وإلي ثوابه وجنته، فناسب أن يذكر الرحمة، فإذا خرج انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله من الرزق الحلال، فناسب الفضل كما قال الله تعالي:{فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} ولما لم يزل الإنسان في التقصير لزم في الحالتين طلب الغفران.

الحديث الخامس والسادس والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ينشد))

ص: 935

707 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشركة المنتنة؛ فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)) متفق عليه.

708 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الزاق في المسجد خطيئة؛ وكفارتها دفنها)) متفق عليه.

709 -

وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم.

ــ

((خط)): ينشد يطلب، يقال: نشدت الضالة أنشدها نشدة ونشداناً طلبتها، فأنشدتها بالألف إذا عرفتها، وزاد عليه في النهاية من النشيد رفع الصوت. ((خط)): ويدخل في هذا كل أمر لم يبن المسجد له، من البيع، والشرى، ونحو ذلك من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم، وقد ذكر بعض السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق علي السائل المعترض في المسجد. أقول: إن في أمر الضالة في تعلق قلب صاحبها واهتمامه بشأنها كما يجد كل أحد من نفسه تشديداً، فوضع لذلك باب من الفقه، فأوردت فيها أحاديث كثيرة، فكان يجب علي كل أحد أن ينشدها ويعاون صاحبها، فلما أمر بهذا الدعاء فهم منه أن غيرها بالطريق الأولي أن يدفع ويرد.

الحديث الثامن عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((هذه الشجرة)) ((حس)): جعل الثوم من الشجرة، والشجرة ما له ساق وأغصان، وما لا يقوم علي ساق فهو نجم، قال الله تعالي:{والنجم والشجر يسجدان} فيسمى به تغليباً. ((تو)): قال العلماء: ويلحق بالثوم كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. قال القاضي عياض: ويلحق به من به بخر أو جرح له رائحة. قال القاضي عياض: وقاس العلماء علي هذا مجامع الصلاة غير المسجد، كمصلي العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات، والعلم والذكر، والولائم، لا الأسواق ونحوها.

الحديث العشرون عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((النخاعة في المسجد)) ((نه)): وهي البزقة التي تخرج من فيصل الفم مما يلي أصل النخاع، والنخاع الخيط الأبيض في فقار الظهر. ((شف)): التعريف في النخاع الأذى كما في قوله: دخلت السوق في بلد كذا. و ((مماط)) صفة الأذى، أو تكون صفة للنخاعة.

ص: 936

710 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم إلي الصلاة فلا يبصق أمامه؛ فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)).

711 -

وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه.

712 -

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) متفق عليه.

ــ

الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلا يبصق أمامه)) ((مظ)): لعل المراد من النهي أن يبصق المصلي تلقاء وجهه صيانة للقبلة عما ليس فيه تعظيمها.

أقول: قوله: ((فإنما يناجي الله)) تعليل للنهي شبه العبد وتوجهه إلي الله تعالي في الصلاة وما فيها من القراءة والأذكار، وكشف الأسرار، واستنزال رأفته، ورحمته مع الخشوع والخضوع بمن يناجي مولاه ومالكه، ومن شرائط حسن الأدب أن يقف محازيه، ويطرق رأسه، ولا يمد بصره إليه، ويراعي جهة أمامه؛ حتى لا يصدر منه من تلك الهنات شيء، وإن كان الله تعالي منزهاً عن الجهات؛ لأن الآداب الظاهرة والباطنة مرتبطة بعضها مع بعض، وأما جواز البصاق عن اليسار وتحت قدميه مع كونه في المناجاة فلا يتصور فيه معنى المجازاة والمقابلة.

قوله: ((ولا عن يمينه)) ((تو)): يحتمل أن يراد بالملك الذي يحضره عند الصلاة من جهة التأييد والإلهام بقلبه، والتأمين علي دعائه، ويكون سبيله سبيل الزائر، ومن حق المزور أن يكرم زائره فوق ما يختصه من الكرام الكاتبين، ويحتمل أن يخص صاحب اليمين بالكرامة تنبيهاً علي ما بين الملكين المزية كما بين اليمين والشمال، وتميزاً بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولهذا نكره. كأنه أراد ملكاً مكرماً مفضلاً، أو ملكاً غير الذي تعلمون من الحفظة.

الحديث الثاني والعشرون عن عائشة: قوله: ((في مرضه)) لعله صلى الله عليه وسلم عرف بالمعجزة أنه مرتحل، فخاف من الناس أن يعظموا قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعن اليهود والنصارى وصنيعهم لئلا يعاملوا قبره معاملتهم. و ((اتخذوا)) جملة مستأنفة علي سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: لم يلعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا .... ((قض)): لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثاناً، لعنهم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه. أما من اتخذ مسجداً في جوار صالح، أو صلي في مقبرته، وقصد به الاستظهار بروحه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له والتوجه نحوه- فلا حرج عليه، ألا ترى أن مرقد إسماعيل عليه السلام في المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي لصلاته. والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمقابر المنبوشة؛ لما فيها من النجاسة.

ص: 937

713 -

وعن جندب، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.

714 -

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً)) متفق عليه.

ــ

الحديث الثالث والعشرون عن جندب: قوله: ((ألا وإن من كان قبلكم)) الواو تقتضي معطوفاً عليه، و ((إن)) روي بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن من كان قبلكم، وإن روى بالكسر فالتقدير: أنبهكم وأقول: إن من كان قبلكم، وحرف التنبيه الثانية مقحمة بين السبب والمسبب، ومن ثم جاء بالفاء، المعنى أنبهكم علي تلك الفعلة الشنيعة تنبيهاً. ((غب)): تنبيه لئلا تصنعوا صنيعهم، وكما كرر التنبيه كرر النهي أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم:((إني أنهاكم)) بعد قوله: ((لا تتخذوا)) ولا تظنوا أن هذا النهي مجاز، بل هو علي حقيقته، وفائدة هذه المبالغة والتكرير غاية التحذير، وكذا فائدة تكرير ((كان)) في الشرط والجزاء الدلالة علي أن تلك الغفلة القبيحة كانت مستمرة فيهم، وهي دأبهم وهجيراهم. ((حس)): اختلف أهل العلم في الصلاة في المقبرة، فكرهها جماعة، وإن كانت التربة طاهرة والمكان طيباً، واحتجوا بهذا الحديث، ومنهم من ذهب إلي أن الصلاة فيها جائزة، وتأويل الحديث هو أن الغالب من أمر المقابر اختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومها، والنهي لنجاسة المكان، فإن كان المكان طاهراً فلا بأس.

الحديث الرابع والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ولا تتخذوها قبوراً)) ((تو)): هذا محتمل لمعان: أحدهما أن القبور مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، فلا يصلي فيها، وليس كذلك البيوت، فصلوا فيها. وثإنيها أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر، لا عنها في البيوت، فصلوا فيها، ولا تشبهوها بها. والثالث أن مثل الذاكر كالحي وغير الذاكر كالميت؛ فمن لم يصل في البيت جعل نفسه كالميت، وبيته كالقبر. والرابع قول الخطابي: لا تجعلوا بيوتكم أوطاناً للنوم، فلا تصلوا فيها، فإن النوم أخو الموت. وقد حمل بعضهم النهي عن الدفن في البيوت، فذلك ذهاب عما يقتضيه نسق الكلام، علي أنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيت عائشة رضي الله عنها مخافة أن يتخذ قبره مسجداً.

أقول: ((من)) في ((من صلاتكم)) تبعيضية وهو مفعول أول ((اجعلوا))، والثاني ((في بيوتكم))، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، فقدم الثاني للاهتمام بشأن البيوت، وأن من حقها أن يجعل لها نصيب من الطاعات، فتصير مزينة منورة بها؛ لأنها مأواكم ومواقع منقلبكم ومثواكم، وليست كالقبور التي لا تصلح لصلاتكم، وأنتم خارجون عنها، وداخلون فيها، والله أعلم.

ص: 938

الفصل الثاني

715 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) رواه الترمذي. [715]

716 -

وعن طلق بن علي، قال: خرجنا وفداً إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا فاستوهبناه من فضل طهوره. فدعا بماء، فتوضأ وتمضمض، ثم صبه لنا في إداوة، وأمرنا، فقال: ((اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجداً. قلنا: إن

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) ((تو)) الظاهر أن المعنى بالقبلة في هذا الحديث قبلة المدينة؛ فإنها واقعة بين المشرق والمغرب، وهي إلي الطرف الغربي أميل. ((مظ)): المشارق والمغارب كثيرة، قال الله تعالي:{رب المشارق والمغارب} وأول المشارق مشرق الصيف، وهو مطلع الشمس في أطول يوم من السنة، وذلك قريب من مطلع السماك الرامح، يرتفع عنه في الشمال قليلاً، وآخر المشارق مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في أقصر يوم في السنة، وهو قريب من مطلع قلب العقرب. ينحدر عنه في الجنوب قليلاً. وأول المغارب مغرب الصيف، وهو مغيب القرص عند موضع غروب السماك الرامح، وآخر المغارب مغرب الشتاء، وهو مغيب القرص عند مغرب قلب العقرب. فمن جعل من أهل الشرق أول المغارب عن يمينه وآخر المشارق عن يساره كان مستقبلاً للقبلة، والمراد بأهل الشرق أهل الكوفة، وبغداد، وخوزستان، وفارس، وعراق، وخراسان، وما يتعلق بهذه البلاد.

الحديث الثاني عن طلق بن علي قوله: ((وفداً)) الوفد الجماعة القاصدة عظيماً من الشيءون وهي حال، ((وبيعة)) متعبد النصارى، والفاء في ((فاستوهبناه)) عطفت ما بعدها علي المجموع، أي خرجنا وفعلنا كيت وكيت فاستوهبناه. و ((من)) في قوله:((من فضل طهوره)) تبعيضية منصوبة بدل من المفعول.

قوله: ((أمرنا)) أي أراد أن يأمرنا بالخروج ((فقال: اخرجوا)) والضمير في ((فإنه)) يحتمل أن يكون للماء الوارد والمورود، أي الماء لا يزيد المورود الطيب ببركته إلا طيبا، والمورود الطيب لا يزيد بالوارد إلا طيباً.

ص: 939

البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف. فقال:((مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيباً)) رواه النسائي. [716]

717 -

وعن عائشة، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور، وأن ينظف ويطيب. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. [717]

718 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرت بتشييد المساجد)). قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. رواه أبو داود. [718]

719 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشراط الساعة أن يتباهي الناس في المساجد)) رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. [719]

ــ

قوله: ((ينشف)) علي بناء المجهول. ((الجوهري)): نشف الثوب العرق- بالكسر- ونشف الحوض الماء ينشفه شربه بسببه المجاورة. وفيه جواز التبرك بماء زمزم ونقله إلي البلاد الشاسعة، وعليه يحتمل التبرك بما بقى من فضل طعام العلماء والمشايخ وشرابهم وخرقهم.

الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((في الدور)) ((تو)): أي في المحلات، الدار لغة العامر المسكون والعامر المتروك، وهي من الاستدار، لأنهم كانوا يحيطون بطرف رمحهم قدر ما يريدون أن يتخذوه مسكناً، ويدورون حوله، قال الشاعر:

الدار دار وإن زالت حوائطها والبيت ليس ببيت وهو مهدوم

الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((لتزخرفنها)) تعليل للأمر المنفي، والنون لمجرد التأكيد، كما في قوله تعالي:{واتقوا فتنة لا تصيبن} إذا كانت ((لا)) نافية، أي ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلي التزخرف، وفيه نوع توبيخ وتإنيب، ويجوز فتح اللام علي جواب القسم، وهو الأظهر أي: والله لتزخرفنها. ((نه)) الزخرف: النقوش والتصاوير بالذهب وأصل الزخرف للذهب وكمال حسن الشيء. ((حس)): التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالي:{ولو كنتم في بروج مشيدة} وهي التي طول بناؤها. كانت اليهود والنصارى تزخرف المساجد عندما حرفوا وبدلوا أمر دينهم، وأنتم ستصيرون إلي حالهم، وسيصير إلي المرآة بالمساجد، والمباهاة بتشييدها وتزيينها، وكان المسجد علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، زاد فيه عمر رضي الله عنه فبناه علي بنيانه علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وسقفه بالساج.

الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من أشراط الساعة)) ((نه)): الأشراط العلامات، واحدها شرط- بالتحريك- ((أن يتباهي)) أي يتفاخر، مبتدأ ((ومن أشراط الساعة))

ص: 940

720 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد. وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)) رواه الترمذي، وأبو داود. [720]

721 -

وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشر المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي، وأبو داود. [721]

ــ

خبره، قدم للاهتمام لا للتخصيص؛ لأن في أشراطها كثرة، ولما كان هذا الضيع من قبل الناس، لاسيما من أمته، قدمه اهتماماً لمزيد الإنكار عليهم.

الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((القذاة)) ((نه)): القذي جمع قذاة، وهو ما يقع في العين من تراب، أو تبن، أو وسخ. لابد ههنا من تقدير مضاف، أي أجور أعمال أمتي وأجر القداة، أو أجر إخراج القذاة، و ((القذاة)) تحتمل الجر و ((حتى)) بمعنى إلي، فحينئذ التقدير إلي أجر إخراج القذاة، فـ ((يخرجها من المسجد)) جملة مستأنفة للبيان، والرفع عطفاً علي أجور، والتقدير ما مر، وحتى يحتمل أن تكون هي الداخلة علي الجملة فحينئذ التقدير حتى أجر القذاة يخرجها. علي الابتداء والخبر.

وشرط الحديث مقتبس من قوله تعالي: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} . وإنما قال: ((أوتيها)) ولم يقل ((حفظها)) لينبه به علي أنها كانت نعمة عظيمة أولاها الله تعالي إياه ليقوم بها، ويشكر مولاها، فلما نسيها كأنها كفر تلك النعمة، فبالنظر إلي هذا المعنى كان أعظم حرمان، وإن لم يعد من الكبائر، فلما عد إخراج القذة التي لا يعبأ به لها من الأجور تعظيماً لبيت الله سبحانه وتعالي عد أيضاً النسيان من أعظم الجرم تعظيماً لكلام الله (سبحانه وتعالي) كأن فاعل ذلك عد الحقير عظيماً بالنسبة إلي العظيم، فأزاله عنه، وصاحب هذا عد العظيم حقيراً، فأزاله عن قلبه. انظر إلي هذه الأسرار العجيبة التي احتوتها الكلمات اليسيرة. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

الحديث السابع عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((بشر المشائين)) في وصف النور بالتمام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلي وجه المؤمنين يوم القيامة وقولهم فيه: {ربنا أتمم لنا نورنا} في قوله تعالي: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} وإلي قصة المنافقين وقولهم للمؤمنين: {انظروا نقتبس من نوركم} .

ص: 941

722 -

ورواه ابن ماجه، عن سهل بن سعد، وأنس. [722]

723 -

وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر})) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [723]

ــ

قال صاحب ((الكشاف)): ((لا يخزي)) تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق، واستحماد إلي المؤمنين علي أنه عصمهم الله من مثل حالهم؛ يسعى نورهم علي الصراط. قال ابن عباس: يقولون أتمم لنا نورنا إلي أطفأ نور المنافقين إشفاقاً.

وفيه أن من انتهز هذه الفرصة وهي المشي إلي المساجد في الظلم في الدنيا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. ومن تقاعد عنها لا يؤمن أن يتهكم بهم ويقال لهم:{ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} . فحق لذلك أن لا تختص هذه البشارة لعظمها وفخامتها بمبشر دون مبشر. ويعضده ما رويناه عن مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((من سره أن يلقى الله تعالي غداً مسلماً فليحافظ علي هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى فإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم، لضللتم، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف)).

الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((يتعاهد)) ((تو)): وهو بمعنى التعهد، وهو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، وتعدت فلاناً، وتعهدت ضيعتي، وهو أفصح من تعاهدت؛ لأن التعاهد إنما يكون بين اثنين. وهذا الحديث رواه أبو عيسى الترمذي في كتابه، وفي رواية:((يعتاد المسجد))، وفي رواية أخرى له:((يتعاهد))، فالاعتياد معاودته إلي المسجد كرة بعد أخرى لإقام الصلاة، وكلاهما حسن، وأولي الروايتين بالتقديم علي ما تشهد لها البلاغة لا السند:((يعتاد المسجد)).

أقول الجواب عن قوله أولاً: التعاهد أفصح من التعهد، أن العكس أولي ((الكشاف)) في قوله تعالي:{يخادعون الله} : عنى به فعل، إلا أنه قد أخرج في زنة فاعلت؛ لأن الزنة في أصلها للمبالغة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه، إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه، وإذا كان كذلك فكيف يظن في كلام أفصح الفصحاء ما هو أفصح منه؟ وعن قوله ثإنياً: فأولي الروايتين بالتقديم علي تشهد لها البلاغة لا السند: يعتاد المسجد، أن السند أولي أن يقدم ويتبع، علي أنه أبلغ من غيره، فإن ((يتعاهد))

ص: 942

724 -

وعن عثمان بن مظعون، قال: يا رسول الله! إئذن لنا في الاختصاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من خصى ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام)). فقال: إئذن لنا في السياحة. فقال: ((إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)). فقال: إئذن لنا في الترهب. فقال: ((إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة)). رواه في ((شرح السنة)). [724]

725 -

وعن عبد الرحمن بن عائش، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة. قال: فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: أنت أعلم)) قال:

ــ

أشمل معنى، وأجمع لما يناط به أمر المساجد من العمارة والاعتياد وغيرها، ألا ترى كيف استشهد صلى الله عليه وسلم:{إنما يعمر مساجد الله} ((الكشاف)): العمارة تتناول رم ما استرم منها، وقمها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها لله، واعتيادها للعبادة والذكر- ومن الذكر درس العلم بل هو أجله وأعظمه- وصيانتها مما لم تبن له المساجد، من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث. وقوله:((فاشهدوا له)) أي اقطعوا له القول بالإيمان، فإن الشهادة قول صدر عن مواطأة القلب علي سبيل القطع.

الحديث التاسع عن عثمان بن مظعون: قوله: ((من خصى)) ((تو)) يقال: خصيت الفحل خصاء، أي سللت خصيته، واختصيت إذا فعلت ذلك بنفسك، وتقدير الكلام: ليس منا من خصى، ولا من اختصى، فحذف:((من)) لدلالة ما قبلها عليها، والمعنى ليس من فعل ذلك ممن يهتدي بهدينا ويتمسك بسنتنا. انتهي كلامه. ولعل إيجاب تقدير ((من)) لئلا يتوهم أن التهديد وارد علي من جمع بين الخصاء والاختصاء، ولا يتناول من تفرد بأحدهما، ولا النافية جيء بها مؤكدة للنفي بين المعطوف والمعطوف عليه.

وقوله: ((في السياحة)) فالسياحة مفارقة الأمصار، والذهاب في الأرض، كفعل عباد بني إسرائيل. قوله:((في الترهب)) ((نه)): من رهبته، وأصلها من الرهبة والخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها.

فإن قلت: هل تسمى هذه الأجوبة بأسلوب الحكيم؟ قلت: لا يبعد ذلك؛ لأن ظاهر الجواب المنع، فلما أرشدهم إلي ما هو الأصوب والأهم بحالهم، من القصد في الأمور والتجنب عن طرفي الإفراط والتفريط المذمومين، دخلت في الأسلوب، ولما كان السؤال الأول بعيداً من الحكمة- وهي ما خلق الإنسان لأجله من تكاثر النسل لعبادة الله- قدم الزجر والتوبيخ تنبيهاً علي ما هو الأولي.

ص: 943

((فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات والأرض، وتلا: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين})) رواه الدارمي مرسلاً، وللترمذي نحوه عنه. [725]

ــ

الحديث العاشر عن عبد الرحمن: قوله: ((في أحسن صورة)) ((نه)): الصورة ترد في كلام العرب علي ظاهرها، وعلي معنى حقيقة الشيء وهيئاته، وعلي معنى صفتيه يقال: صورة الفعل كذا، وصورة الأمر كذا وكذا، أي صفته. ((تو)): هذا الحديث مستند إلي رؤيا رأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أورده الطبرإني في كتابه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم صلي ذات يوم صلاة الغداة وقال: ((إني صليت الليلة ما قضى لي، ووضعت جنبي في المسجد، فأتإني ربي في أحسن صورة)) الحديث، ورواه أبو عبد الله أحمد في مسند عن معاذ بن جبل، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة الغداة، ثم أقبل علينا، فقال:((إني سأحدثكم: إني قمت من الليل، فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة)) وساق الحديث وأصح طرق هذا الحديث ما رواه أبو عبد الله في مسنده.

((قض)): فإذا ذهب إلي أن ذلك رؤيا رآها في المنام فلا إشكال، إذ الرائي قد يرى غير المتشكل متشكلاً، والمتشكل بغير شكله. ثم لا يعد ذلك خللاً في الرؤيا وخللاً في خلد الرائي، بل له أسباب أخر تذكر في علم المنامات، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء عليهم السلام إلي التعبير. وإذا ذهب إلي أن ذلك في اليقظة فلابد من التأويل، فنقول وبالله التوفيق: صورة الشيء ما يتميز به الشيء من غيره، سواء كان عين ذاته، أو جزؤه المميز، وكما يطلق ذلك في الجثة يطلق في المعإني، فيقال: صورة المسألة كذا، وصورة الحال كذا، فصورته تعالي- والله أعلم- ذاته المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء، كما قال الله تعالي:{ليس كمثله شيء} البالغة إلي أقصى مراتب الكمال. ((نه)): يجوز أن يكون المراد بالصورة أنه تعالي أتاه في أحسن صفة، ويجوز أن يعود المعنى إلي النبي صلى الله عليه وسلم أي أتإني ربي وأنا في أحسن صورة، وتجرى معإني الصورة كلها عليه، إن شئت ظاهرها، وإن شئت هيئتها أو

ص: 944

ــ

صفتها، فأما إطلاق ظاهرة الصورة علي الله تعالي فلا يجوز- تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً- ((مظ)): إذا أجريت الصورة علي الله تعالي ويراد بها الصفة كان المعنى إن ربي تعالي كان أحسن إكراماً ولطفاً ورحمة علي من وقت آخر. وإذا أجريت علي النبي صلى الله عليه وسلم كان المعنى أنا في تلك الحالة كنت في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه تعالي علي.

((تو)): مذهب أكثر أهل العلم من السلف في أمثال هذا الحديث أن يؤمن بظاهره، ولا يفسر بما تفسر به صفات الخلق، بل ينفي عنه الكيفية، ويوكل علم باطنه إلي الله تعالي فإنه سبحانه يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يشاء من وراء أستار الغيب مما لا سبيل لأحد إلي إدراك حقيقته بالجد والاجتهاد، فأولي أن لا يتجاوز هذا الحد، فإن الخطب فيه جليل، والإقدام عليه مزلة اضطربت عليه أقدام الراسخين شديد. ولأن نرى أنفسنا أحقاء بالجهل والنقصان. أزكى وأسلم من أن ننظر إليها بعين الكمال، وهذا لعمر الله هو المنهج الأقوم، والمذهب الأحوط، غير أن في زماننا هذا اتسع الخرق علي الراقع، إذ حملت أكثر أبناء الزمان داعية الفتن المستكنة في نفوسهم علي الخوض في هذه الغمرة، حتى لو ذكر لهم مذهب السلف سارعوا إليه بالطعن، وإذا عجزوا عن التأويل لغموض المراد ولقصورهم في علم البلاغة أفضى بهم ذلك إلي التكذيب، حتى صار العدول عن التأويل في هذا الزمان مظنة للتهمة في العقائد. وذريعة للمضلين إلي توهين السن، فأدت بنا هذه القضية إلي سلوك هذا المسلك الوعر، واختيار التأويل، فنقول- والله الموفق لإصابة الحق- ثم ذكر الشيخ ما سبق من الأقوال في تأويل الصورة.

قوله: ((الملأ الأعلي)) ((نه)): الملأ الأعلي الملائكة. ((تو)): وصفوا بذلك إما اعتباراً بمكانهم، أو مكانتم، والمراد بالاختصام التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم في السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين. ((قض)): واختصامهم إما عبارة عن تبادرهم إلي ثبت تلك الأعمال والصعود بها إلي السماء وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها وأناقتها علي غيرها، وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل؛ لاختصاصهم بها، وفضلهم علي الملائكة بسببها، مع تهافتهم في الشهوت، وتماديهم في الجنايات، والوجهان الأخيران ذكرهما الشيخ التوربشتي أيضاً.

قوله: ((فوضع كفه)) ((قض)): هو مجاز في تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه، وإيصال فيضه إليه؛ لأن ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلي أنفسهم بعض خدمهم وتسرهم بعض أحوال مملكتهم يلقون أنفسهم علي ظهره ويلقون أنفسهم علي ظهره ويلقون سواعدهم علي عنقه تلطفاً به، وتعظيماً لشأنه وتنشيطه له في فهم ما يقوله. فجعل ذلك حيث لا كف ولا وضع حقيقة، كناية عن التخصيص لمزيد الفضل والتأييد، وتمكين للملهم في الروع. قوله:((فوجدت بردها بين ثديي)) كناية عن

ص: 945

ــ

وصول ذلك الفيض إلي قلبه، وتأثره عنه، ورسوخه فيه، وإيقانه له يقال: ثلج صدره وأصابه برد اليقين، لمن تيقن الشيء وتحققه.

قوله: ((فعلمت ما في السماء والأرض)) يدل علي أن وصول ذلك الفيض صار سبباً لعلمه، ثم استشهد بالآية، والمعنى أنه تعالي كما أرى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ملكوت السموات والأرض، وكشف له ذلك، فتح علي أبواب الغيوب، حتى علمت ما فيها من الذوات، والصفات، والظواهر، والمغيبات، فعلوت من الملك وهو أعظمه. ((مظ)) ((نرى)) لفظ مضارع، ومعناه ماض، أي أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض أي خلقهما.

أقول- والله أعلم- قول المظهر: ((معناه ماض)) محمول علي أن معناه حين استشهد به في الحديث ماض ليستقيم معنى تشبيه حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالة خليل الله. وإلا فهو في مستقره من التنزيل علي ما هو عليه مضارع علي حكاية الحال الماضية استغراباً واستعجاباً، والمشبه بكذلك غير المشبه في الحديث، وكذا المشار إليه. الكشاف:((كذلك نوري)) أي مثل ذلك التعريف يجوز أن يكون المشار إليه. ما سبق من معنى قوله: {وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة} الآية، وهو المعرفة والبصارة التي يمكن بها من إنذاره إياه، وتضليل قومه، فيكون قوله:{فلما جن عليه الليل رأي كوكباً} كالتفصيل والبيان بمعنى المثل في ((كذلك)). و ((ليكون)) إما معطوف علي محذوف، أي هديناه لطريق الاستدلال ليحتج به قومه، وليكون من الموقنين، وإما أن يكون معلله محذوفاً أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك والجملة معطوفة علي الجملة السابقة. ثم في الاستشهاد بالآية نكتة، وهي أنك إذا أمعنت النظر في الرؤيتين، ودققت الفكر بين العلمين، علمت أن بينهما بوناً بعيداً، وذلك أن الخليل عليه الصلاة والسلام رأي ملكوت السموات والأرض أولاً، ثم حصل له الإيقان لوجود منشأها ثإنياً، والحبيب صلى الله عليه وسلم رأي المنشيء ابتداء، ثم علم ما في السموات- والأرض- إنتهاء، كما قال الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله أولاً، جواباً عن قول الشيخ أبي القاسم القشيري: ما رأيت شيئاَ إلا رأيت الله بعده. ثم إن الحبيب حصل له عين اليقين بالله، والخليل علم اليقين بالله، والحبيب علم الأشياء كلها، والخليل رأي ملكوت الأشياء.

قوله: ((في الكفارات)) ((نه)): هي عبارة عن الفعلة والخصلة من شأنها أن تكفر الخطيئة، أي تسترها وتمحوها، وهي فعالة للمبالغة، كضرابة، وهي من الصفات الغالبة في باب الأسمية. ((قض)): كرر قوله: ((فيم يختصم الملأ الأعلي)) إعادة للسؤال بعد التعليم. سميت الخصال المذكورة كفارات لأنها تكفر ما قبلها من الذنوب، بدليل قوله:((وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)).

ص: 946

726 -

وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وزاد فيه:((قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: نعم، في الكفارات)). والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي علي الأقدام إلي الجماعات، وإبلاغ الوضوء في

ــ

وقوله: ((ومن فعل ذلك عاش بخير)) هو من قوله كقوله تعالي: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} الآية. أي لنرزقنه في الدنيا حياة طيبة، وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً فمعه ما يطيب عيشته، وهو القناعة والرضي بقسمة الله تعالي؛ وأما الفاجر فأمر علي العكس، إن كان معسراً فلا إشكال في أمره، وإن موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه، وعن ابن عباس: الحياة الطيبة الرزق الحلال، وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه. ومعنى ((يموت بخير)) أنه يأمن في العاقبة، ويكون له روح وريحان إذا بلغت الحلقوم، ويقال له:{يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} .

قوله: ((كيوم ولدته أمه)) يوم مبني علي الفتح، للإضافة إلي الماضي، وإذا أضيف إلي المضارع اختلفت في أنه مبني أو معرب، والأصح الثاني، يعني من فعل ذلك يكون مبرءاً عن الذنوب، كما كان مبرءاً عنها يوم ولدته أمه.

قوله: ((أسألك الخيرات)) وهي ما عرف في الشرع من الأفعال الحميدة، والأقوال المرضية وغيرها، يدل عليه قوله:((ترك المنكرات))، فلما طلب ما يرفع به درجته، ويزلفه إلي خيرة القدس، أراد التواضع والاستكانة، - بأنه – طلب حب المساكين، بأن يعيش معهم، ويموت معهم، ويحشر معهم. قوله:((فتنة)) ((مظ)): أي إذا أردت أن تضل قوما عن الحق قدر موتي غير مفتون، أي غير ضال.

قوله: ((والدرجات)) مبتدأ، وما بعده خبر، أي ما يرفع به الدرجات، أو يوصل إلي الدرجات العالية هذه الخصال الثلاث، لأنه إذا عاشر الخلق يقوم بحقهم، من بذل السلام، وإطعام الطعام، وإذا ناموا عامل الحق بالقيام، فنال بها الدرجات العلي، قال الله تعالي:{ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} فلا غرو إذا إن اغتبط الملائكة البشر بتلك الكفارات، وهذه الدرجات، نفعنا الله بها. والله تعالي أعلم.

الحديث الحادي عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((ضامن علي الله)) عدى ((ضامن)) بـ ((علي)) تضميناً لمعنى الوجوب علي سبيل الوعد، أي يجب علي الله وعداً أن يكلأه من مضار

ص: 947

المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضي إليك غير مفتون)). قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام. ولفظ هذا الحديث كما في ((المصابيح)) لم أجده عن عبد الرحمن إلا في ((شرح السنة)). [726]

728 -

وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة كلهم ضامن علي الله: رجل خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامن علي الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة؛ ورجل راح إلي المسجد، فهو ضامن علي الله [حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة]؛ ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن علي الله)) رواه أبو داود. [727]

ــ

الدين والدنيا. قال صاحب المغرب: قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله (سبحانه وتعالي): ((من خرج مجاهداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فأنا عليه ضامن- أو علي ضامن-)) شك الراوي، والمعنى إني في ضمان ما وعدته في الجزاء حياً وميتاً، وعدى بعلي لتضمن معنى محارم ورقيب. وقوله:((هو علي ضامن)) قريب المعنى من الأول، إلا أنه تأول الضامن بذي الضمان، فيعود إلي معنى الواجب كأنه قال: هو علي واجب الحفظ والرعاية كالشيء المضمون. ((خط)): ضامن أي مضمون علي الله، فاعل بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق، ويحتمل أن يكون ذو ضمان، كلابن، وتامر. ((تو)): ذكر الشيء المضمون به في أول الثلاثة، ولم يذكر في الثاني والثالث اكتفاء بالأول، فكما أن المجاهد طالب لإحدى الحسنيين: الشهادة، أو الغنيمة، فكذلك الذي يروح إلي المسجد فإنه يبتغي فضل الله ورضوانه، ومغفرته، فهو ذو ضمان علي الله أن لا يضل سعيه، ولا يضع أجره.

قوله: ((دخل بيته بسلام)) ((تو)): ذهبوا إلي أن هذا هو الذي سلم علي أهله إذا دخل بيته، والمضمون به أن يبارك عليه وعلي أهل بيته؛ لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه:((يا بني إذا دخلت علي أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلي أهل بيتك)) وقيل: هو الذي يلزم بيته طلباً للسلامة، وهرباً من الفتنة؛ لقوله تعالي:{ادخلوها بسلام آمنين} أي من الآفات والعوارض. وهذا أوجه، ولملاءمة ما قبله أوفق؛ لأن المجاهدة في سبيل الله سفراً، والرواح إلي المسجد حضراً، ولزوم البيت اتقاء من الفتن أخذ عضها بحجزة بعض، وعلي هذا المضمون به هو رعاية الله تعالي إياه وجواره عن الفتن.

ص: 948

728 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من بيته متطهراً إلي صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم. ومن خرج إلي تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر. وصلاة علي إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)) رواه أحمد، وأبو داود. [728]

ــ

الحديث الثاني عشر عن أبي أمامة: قوله: ((إن صلاة)) حال، أي خرج من بيته قاصداً إلي المسجد لأداء الفرائض، وإنما قدرنا القصد حالاً ليطابق الحج، لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهر منزلة الإحرام، وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، فكيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضي فضل الثاني وجوباً ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثاً، فشبه صلى الله عليه وسلم حال المصلي القاصد إلي الصلاة المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغة وترغيباً للمصلي؛ ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات. ((تو)): شبه أجر المتطهر الخارج من بيته للصلاة المكتوبة بأجر الحاج المحرم، حيث أنه يستوفي أجره من لدن يخرج من بيته إلي أن يرجع إليه كالحاج المحرم فإنه يستوفي أجره من حيث يخرج إلي أن يرجع، وذلك مثل قولنا: فلا كالأسد، فلا يقتضي من تشبيه به سائر الوجوه، بل يحمل علي الشجاعة، فكذلك الأجران لا يقتضيان المشاركة من تشبيه به سائر الوجوه، بل يحمل علي الشجاعة، فكذلك الأجران لا يقتضيان المشاركة من سائر الوجوه. وقال: في قوله: ((وأجره كأجره المعتمر)) إشارة إلي أن نسبة ثواب الخروج للنافلة من الصلوات إلي الخروج لفرائضها نسبة ثواب الخروج للعمرة إلي الخروج إلي الحج.

قوله: ((إلي تسبيح الضحى)) فالمكتوبة والنافلة وإن اتفقنا في أن كل واحدة منهما يسبح فيهما، إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض نوافل، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة علي أنها شبيهة بالأذكار في كونها غير واجبة. قوله:((لا ينصبه إلا إياه)) ((حس)): أي لا يتعبه ولا يزعجه إلا ذلك، وأصله من النصب، وهو معناه المشقة. ((شف)): قوله: ((إياه)) ضمير منصوب منفصل وقع موقع المرفوع المنفصل كما وقع المرفوع المنفصل موقع المنصوب المنفصل في حدث الوسيلة: ((وأنا أرجو أن أكون أن هو)). أقول: وقد سبق توجيه حديث الوسيلة، وأما ههنا فيمكن أن يقال: إن هذا من الميل إلي المعنى دون اللفظ، فمعنى ((لا ينصبه إلا إياه)) لا يقصد ولا يطلب إلا إياه. ((الكشاف)): في قوله: ((فشربوا إلا قليلا)): قرأ أبي والأعمش: ((إلا قليل) بالرفع، وهذا من ميلهم إلي المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً. وهو من باب جليل من علم العربية، فلما كان المعنى فشربوا منه فلم يطيعوه، إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق: لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف. كأنه قيل: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف.

قوله: ((كتاب في عليين)) ((تو)): أي صلاة علي إثر صلاة عمل مكتوب في عليين. ((نه)): العليون اسم لديوان الملائكة الحفظة، ترفع إليه أعمال الصالحين، وقيل: أراد أعلي الأمكنة

ص: 949

729 -

وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)). قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: ((المساجد)). قيل: وما الرتع؟ يا رسول الله! قال: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي. [729]

730 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى المسجد لشيء، فهو حظه)) رواه أبو داود. [730]

731 -

وعن فاطمة بنت الحسين، من جدتها فاطمة الكبرى، رضي الله عنهم، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلي علي محمد وسلم، وقال: ((رب اغفر

ــ

وأشرف المراتب. أقول: وقوله: ((وصلاة علي إثر صلاة)) معناه مداومة الصلاة والمحافظة عليها من غير شوب بما ينافيها، ولا مزية عليها، ولا شيء من الأعمال أعلي منها، فكنى عن ذلك بقوله:((عليين)).

الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا مررتم برياض الجنة)) تلخيص الحديث إذا مررتم بالمساجد قولوا هذا القول، فلما وضع ((رياض الجنة)) موضع المساجد بناء علي أن العبادة فيها سبب للحصول في رياض الجنة- روعيت المناسبة لفظاً ومعنى، فوضع الرتع موضع القول، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل، ووسيلة إلي الفوز النبيل. والرتع ههنا كما في قول إخوة يوسف:{يرتع ويلعب} وهو أن يتسع في أكل الفواكه والمستلذات، والخروج إلي التنزه في الأرياف والمياه، كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلي الرياض والبساتين، ثمرة الشجرة التي غرسها الذاكر في رياض المسجد علي ما ورد:((لقيت ليلة أسري بي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال لي: يا محمد! أقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) - لجاء أسلوباً بديعياً، وتلميحاً عجيباً.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ومن أتى المسد لشيء فهو حظه)) وهو من قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله)) الحديث.

الحديث الخامس عشر عن فاطمة بنت الحسين رضي الله عنها: قوله: ((قال: رب اغفر لي))

ص: 950

لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج صلى الله عليه وسلم، وقال:((رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)). رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه وفي روايتهما، قالت: إذا دخل المسجد، وكذا إذا خرج، قال:((بسم الله، والسلام علي رسول الله)) بدل: صلي علي محمد وسلم. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى. [731]

732 -

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والاشتراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد. رواه أبو داود، والترمذي. [732]

ــ

أبرز صلى الله عليه وسلم ضمير نفسه عند ذكر الغفران ملتجأ إلي مطاوي الإنكار بين يدي الملك الجبار، وأظهر اسمه المبارك علي سبيل التجريد عند ذكر الصلاة لمحا إلي منصب الرسالة ومنزلة النبوة؛ إجلالا وتعظيماً لشأنها، كأنها غيره، امتثالاً لأمر الله تعالي في قوله:{إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} .

الحديث السادس عشر عن عمرو بن شعيب: قوله: ((تناشد الأشعار)) ((تو)): التناشد أن ينشد لكل واحد صاحبه نشداً لنفسه أو لغيره، افتخاراً ومباهاة، أو علي وجه التفكه بما يستطاب منه ترجية للوقت بما يركن إليه النفس، فهو مذموم، وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله، وذم الباطل وذويه، أو كان فيه تمهيد لقواعد الدين، أو إرغام لمخالفيه فهو خارج عن القسم المذموم وإن خالطه النسيب، وقد كان يفعل ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينه عنه، ولعلمه فيه بالغرض الصحيح، وأما نهي عمر رضي الله عنه حسان بن ثابت رضي الله عنه عن ذلك فالنظر فيه لمصلحة الجمهور، ولا يؤدي منه إلي الاسترسال في الخلافة والمحن، وكان رضي الله عنه عارفاً بزمانه، عبقرياً في شأنه، ألمعياً في رأيه، مصيباً في اجتهاده، ولما عارضه حسان بقوله: أنشدته بين يدي من خير منك. فسكت عنه، ولم يكن سكوته لوضوح حق كان قد خفي عليه، بل كان السكوت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأدباً.

قوله: ((عن البيع والاشتراء)) ((حس)): روي عن عطاء بن يسار أنه كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا، إنما هذا سوق الآخرة. وعن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف رفعا أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأنه سمع صوت رجل في المسجد، فقال:

ص: 951

733 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك)) رواه الترمذي، والدارمي. [733]

734 -

وعن حكيم بن حزام، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود. رواه أبو داود في ((سننه))، وصاحب ((جامع الأصول)) فيه عن حكيم. [734]

735 -

وفي ((المصابيح)) عن جابر.

736 -

وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن هاتين الشجرتين- يعني البصل والثوم- وقال:((من أكلهما فلا يقربن مسجدنا)). وقال: ((إن كنتم لابد آكليهما؛ فأميتوهما طبخاً)) رواه أبو داود. [736]

737 -

وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) رواه أبو داود، والترمذي، والدارمي. [737]

ــ

أتدري أين أنت؟ قوله: ((أن يتحلق الناس)) ((تو)): هو أن يجلسوا حلقة حلقة، والنهي يحتمل معنيين: أحدهما أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين، والثاني أن الاجتماع للجمعة خطب جليل: لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها، وتحلق الناس قبل الصلاة موهم بالغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه. ((حس)). في الحديث كراهة التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم، بل يشتغل بالذكر، والصلاة، والإنصات للخبطة، ولا بأس بعد ذلك.

الحديث السابع إلي الثامن عشر عن حكيم بن حزام: قوله: ((عن حكيم بن حزام)) قال المؤلف: روى هذا الحديث أو داود في خر كتاب الحدود عن الحكيم، وكذا في جامع الأصول عن الحكيم، وفي كتاب المصابيح عن جابر، ولم يوجد في الأصول الرواية عنه. قوله:((أن يستقاد)) ((نه)): استقدت الحاكم سألته أن يقتدي القود أي القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. ((حس)): قال عمر رضي الله عنه) فيمن لزمه حد في المسجد: ((أخرجوه))، وعن علي مثله.

الحديث التاسع عشر عن معاوية: قوله: ((وقال: من أكلهما فلا يقربن)) الجملة كالبيان للجملة الأولي وإن دخل العاطف، نحو: أعجبني زيد وكرمه، وقول امرئ القيس:

ذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسود

فعطف ((خبرته)) علي ((جاءني)) علي سبيل البيان. وفي النهي عن القربان إشارة إلي أن النهي

ص: 952

738 -

وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله،. رواه الترمذي، وابن ماجه. [738]

ــ

عند الدخول أولي وأحق، في إضافة المسجد إلي الضمير المعظم إشعار بالعلية، وهو يحتمل وجهين: أحدهما أن مسجدنا مكان حلول الملائكة المقربين، ومهبط نزول كلام رب العالمين، فهو حري بأن يطيب بأنواع الطيب ويبخر بأصناف الصندل، فأنى يصلح لنتن الشجرتين الخبيثتين؟ والثاني أن يراد جنس المساجد، ومعنى الإضافة اجتماع المؤمنين فيه لأداء فرائض الله تعالي فيجب الاجتناب عما يؤذيهم من الروائح الكريهة، ومن ثم سن الغسل وتنظيف الثياب.

قوله: ((لابد)) ((الجوهري)): ((بد)) فرقة، وقولهم: لابد من كذا، كأنه قال: لا فراق منه، والجملة معترضة بين اسم كان وخبره.

قوله: ((فأميتوهما طبخاً)) مجاز هذا مجاز قوله: ((يميتون الصلاة)) لكن بالعكس، فإن إحياء الصلاة أداؤها في أول وقتها، حتى تكون طرية رياً، وإماتتها إخراجها عن وقت الاختيار، حتى تكون ذابلة يابسة، فحياة الشجرتين عبارة عن قوة رائحتهما عند طراوتهما، وموتهما إزالة تلك الرائحة بالطبخ، وفيه إشارة لأهل العرفان إلي سر دقيق.

الحديث العشرون والحادي والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((المجزرة)) ((نه)): أي الموضع الذي ينحر فيه الإبل، ويذبح فيه البقر والشاة، ونهي عنها لأجل النجاسة التي فيها من دماء الذبائح وأرواثها، وجمعها المجازر، والمعاطن جمع معطن، وهو مبرك الإبل حول الماء. ((حس)): اختلفوا في الصلاة في المقبرة والحمام، فرويت الكراهية فيها عن جماعة من السلف لظاهر الحديث، وإن كانت التربة طاهرة، وقالوا: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً)) فدل أن محل القبر ليس بمحل الصلاة. ومنهم من ذهب إلي أن الصلاة جائزة إذا صلي في موضع نظيف منه، وتأويل الحديث هو أن الغالب من أمر الحمام قذارة المكان، ومن أمر المقبرة اختلاط ترتبها بصديد الموتى ولحومها، فالنهي لنجاسته، وإن كان المكان طاهراً فلا بأس، وكذلك المزبلة والمجزرة، وقارعة الطريق، فالنهي عن الصلاة فيها لنجاستها، وفي قارعة الطريق معنى آخر، وهو اختلاف المار يشغله عن الصلاة. وأما فوق ظهر بيت الله، فإن لم يكن بين يديه سترة أي بقية جدار يستقبلها بطلت عند الشافعي، ويصح عند أبي حنيفة وإن لم يكن بين يديه شيء، كما لو صلي علي أبي قبيس متوجهاً إلي هواء البيت.

واحتج من جوز الصلاة في هذه الموضع إذا كان المكان طيباً بما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً)) ويقال: حديث جابر إنما لإظهار فضيلة هذه الأمة، حيث رخص لهم في الطهور بالأرض، والصلاة في المواضع التي لم تبن للصلاة من بقاعها، بخلاف سائر الأمم، فيجوز أن يدخل فيه التخصيص.

ص: 953

739 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) رواه الترمذي. [739]

740 -

وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات

ــ

((تو)): العلية في المعاطن لو كانت النجاسة لم يرخص لهم في المرابض أيضاً؛ لأنهما سيان في هذا الحكم، فأما العلة في المواطن الأخرى المذكورة في الحديث فإنها مختلفة، ثم إن الأمكنة النجسة لا تنحصر في هذه المواضع النجس، ولو كانت العلة النجاسة لكان من الجائز أن يبسط في المزبلة بساطاً في المكان اليابس، أو وجد موضعاً خالياً من النجاسة فصلي فيها، لكن ذلك استخفاف لأمر الدين، لأن من حق الصلاة أن تؤدى في الأمكنة النظيفة، والبقاع المحترمة.

الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في مرابض الغنم)) وفي معناه ما رواه الإمام الشافعي رضي الله عنه عن ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أدركتم الصلاة وأنتم في مرابض الغنم فصلوا فيها، فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتم الصلاة أنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها فصلوا؛ فإنه جن من جن خلقت، ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها؟)).

((قض)): المرابض جمع مربض، وهو مأوى الغنم، والأعطان المبارك، والفارق أن الإبل كثير الشرار، شديد النفار، فلا يأمن المصلي في أعطانها من أن ينفر ويقطع الصلاة عليه، ويتشوش قلبه؛ فيمنعه من الخشوع فهيا، وإليه أشار:((لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين)) ولا كذلك في مرابض الغنم.

واختلف العلماء في أن النهي الوارد عن الصلاة في المواطن السبعة للتحريم أو للتنزيه، ثم القائلون بالتحريم اختلفوا في الصحة خلافاً مبنياً علي أن النهي هل يدل علي الفاسد؟ وفيه أربعة مذاهب: أحدها أنه يدل مطلقاً، وثإنيها أنه لا يدل مطلقاً، وثالثها الفرق بين ما ورد في العبادات، وبين ما ورد في المعاملات ونحوها، ورابعها الفرق بين ما إذا كان متعلق النهي نفس الفعل، وما يكون لازماً كصوم يوم العيد، والصلاة في الأوقات المكروهة، وبيع الربا، وبين ما لا يكن كذلك، كالصلاة في دار المغصوبة، والودي وأعطان الإبل، والبيع وقت النداء.

الحديث الثالث والعشرون عن ابن عباس: قوله: ((زائرات القبور)) ((حس)): كان هذا قبل الترخيص، فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء. وقيل: بل نهي النساء عن زيارة القبور باق، لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن إذا رأين القبور، والنهي عن الإسراج في القبور إنما

ص: 954

القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [740]

741 -

وعن أبي أمامة، قال: إن حبراً من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ فسكت عنه، وقال:((أسكت حتى يجيء جبريل))، فسكت، وجاء جبريل عليه السلام، فسأل، فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؛ ولكن أسأل ربي تبارك وتعالي. ثم قال جبريل: يا محمدا! إني دنوت من الله دنواً ما دنوت منه قط. قال: ((وكيف كان يا جبريل؟)) قال: بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها، وخير البقاع مساجدها. [741]

ــ

كان لتضييع المال، لأنه لا نفع فيه لأحد، ويحتمل أن يكون النهي للاحتزاز عن تعظيم القبور، كالنهي عن اتخاذ القبور مساجد.

الحديث الرابع والعشرون عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((إن حبرا)) ((نه)): الخبر والحبر- بفتح الحاء وكسرها- العالم، وكان يقال لابن عباس الحبر والبحر لعلمه وسعته.

قوله: ((سكت وقال: أسكت)) أي سكت وقال في نفسه: أسكت، لا أنه نطق به. وفيه أن من استفتى عن مسألة لم يعلمها فعليه أن لا يعجل في الإفتاء، ولا يستنكف عن الاستفتاء عمن هو أعلم منه، ولا يتبادر إلي الاجتهاد ما لم يضطر إليه؛ فإن ذلك من سنة رسول الله وسنة جبريل صلى الله عليه وسلم.

فإن قلت: كيف قرن المساجد بالأسواق؟ وكم من بقاع شر من الأسواق. قلت: ذهب في التقابل إلي معنى الإلهاء والاشتغال. وإن العز الديني يدفعه الأمر الدنيوي. ولا شك أن الأسواق معدن الإلهاء عن ذكر الله وما والاه. ألا ترى إلي أنه تعالي كيف وصف أولياءه الذين جعلوا المسجد مأواهم بقوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع- إلي قوله- رجال لا تلهيهم تجارة

ص: 955

الفصل الثالث

742 -

عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله. ومن جاء لغير ذلك؛ فهو بمنزلة الرجل ينظر إلي متاع غيره)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [742]

743 -

وعن الحسن مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي علي الناس زمان

ــ

ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} وقوله تعالي: {فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع} فعلي هذا قوله: ((شر البقاع أسواقها)) جاء مقرراً لما يعرف به خيرية المساجد، وبضدها تتبين الأشياء، كأنه قال: خير البقاع بقعة مخلصة لذكر الله، مسلمة عن الشوائب الدنيوية، فالجواب من الأسلوب الحكيم، حيث سئل عن الخير أجيب عنه بضده، وقدم الداء علي الدواء؛ والمرض علي الشفاء، لما عسى أن يبدر من المكلف شيء في بيت الشيطان فيتداركه في بيت الرحمن. ولا تظنن أن شأن المساجد وبناءها والاجتماع فيها للجماعات أمر هين. فإن مثل رأس الكرويين وسفير [المسلمين] لم يحصل له دنو مثل ذلك الدنو، وما ذلك إلا لتعظيم المساجد، {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} .

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم يأت)) أي جاء مسجدي حال كونه غير آت إلا لخير. قوله: ((ومن جاء لغير ذلك)) يوهم أن الصلاة داخلة فيه، وليس كذلك؛ لأن أمر الصلاة مفروغ عنه، وأنها مستثناة من أصل الكلام، وقوله:((بمنزلة الرجل)) فيه معنى التشبيه كأنه شبه حالة من أتى المسجد لغير الصلاة والتعلم بحالة من ينظر إلي متاع الغير بغير إذنه، ومع ذلك لم يقصد تملكه بوجه شرعي، فإن ذلك محظور وكذلك إتيان المسجد لغير ما بني له محظور، لاسيما مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب توقيره وتعظيمه إجلالاً وتبجيلاً لمكانة صاحبه صلى الله عليه وسلم ولا يدخله عبثاً، ولا ماراً، فكيف بغيرهما؟.

الحديث الثاني عن الحسن رضي الله عنه: قوله: ((فليس لله فيهم حاجة)) كناية عن براءة الله (سبحانه وتعالي) عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله (سبحانه وتعالي) منزه عن الحاجة مطلقاً. وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم في ظلمه، حيث يضع الشيء في غير موضعه، وقد مر بيان المضاد بين المسجد والسوق، وما بنينا لأجله.

ص: 956

يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم. فلا تجالسوهم؛ فليس لله فيهم حاجة)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [743]

744 -

وعن السائب بن يزيد، قال: كنت نائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب. فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما. فقال: ممن أنتما- أو من أين أنتما-؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! رواه البخاري.

745 -

وعن مالك، قال: بني عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من كان يريد أن يلغط، أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلي هذه الرحبة. رواه في الموطأ. [745]

ــ

الحديث الثالث عن السائب بن يزيد: قوله: ((فحصبني رجل)) ((نه)): أي رجمني بالحصاء، وهي الحجارة الصغار. ((مح)): يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره. قوله: ((لو كنتما من أهل المدينة لأوجتكما)) لما لم تكونا معذورين حينئذ. وقوله: ((ترفعان أصواتكما)) جملة مستأنفة للبيان.

الحديث الرابع عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((رحبة)) ((المغرب)): الرحبة- بالفتح- الصحراء بين أفنية القوم، ورحبة المسجد ساحته. قال أبو علي الدقاق: لا ينبغي للحائض أن تدخل رحبة مسجد الجماعة، متصلة كانت أو منفصلة. وتحريك الحاء أحسن. وأما في حديث علي رضي الله عنه وصف ضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحبة الكوفة فإنها دكان في وسط مسجد الكوفة، كان رضي الله عنه يقعد فيه ويعظ. قوله:((أن يلغط)): اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه.

ص: 957

746 -

وعن أنس، قال: رأي النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال:((إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه))، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه علي بعض، فقال:((أو يفعل هكذا)) رواه البخاري.

747 -

وعن السائب بن خلاد، - وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن رجلا أم قوماً، فبصق في القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه حين فرغ:((لا يصلي لكم)). فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، فأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، وحسبت أنه قال:((إنك قد آذيت الله ورسوله)) رواه أبو داود. [747]

748 -

وعن معاذ بن جبل، قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن

ــ

الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نخامة)) ((نه)): وهي البزقة التي تخرج من أقصى الحلق، ومن مخرج الخاء المعجمة. وقوله:((حتى رؤي في وجهه)) الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلي معنى قوله: ((شق ذلك عليه)) وهو الكراهة.

قوله: ((وإن ربه بينه وبين القبلة)) ((حس)): معناه أنه يقصد ربه بالتوجه إلي القبلة، فيصير بالتقدير كأنه مقصود بينه وبين القبلة، فأمر أن يصان تلك الجهة عن البزاق. ((مح)): الأمر بالبصاق عن يساره وتحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، وأما في المسجد فلا يبصق إلا في ثوبه.

الحديث السادس عن السائب بن خلاد رضي الله عنه: قوله: ((لا يصلي لكم)) وكان أصل الكلام لا تصل لهم، فعدل إلي النفي ليؤذن بأنه لا يصلي للإمامة، وأن بينه وبينها منافاة. وأيضاً في الإعراض عنه غضب شديد عليه، حيث لم يجعله محلاً للخطاب، وذلك لسوء أدبه بين يدي ربه. قوله:((فذكر ذلك)) أي ذكر الرجل قولهم: إنك منعتني عن الإمامة، أكذا هو؟ فقال: نعم. وقوله: ((حسبت)) من كلام الراوي، حسبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بهذه الزيادة.

الحديث السابع عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: قوله: ((نتراءى عين الشمس)) وضع ((نتراءى)) موضع ((نرى)) للجمع. قوله: ((فثوب)) ((نه)): التثويب ههنا إقامة الصلاة، والأصل فيه

ص: 958

صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته. فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا:((علي مصافكم كما أنتم))، ثم انفتل إلينا، ثم قال:((أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل، فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب!. قال: فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثاً)). قال: ((فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلي لي كل شيء وعرفت. فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلي الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في الدرجات. قال: وما هن؟

ــ

أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمى الدعاء تثويباً لذلك، وكل داع مثوب.

قوله: ((تجوز في صلاته)) ((نه)): أي خفف وأسرع بها. وقوله: ((علي مصافكم)) أي اثبتوا عليها، وهي جمع مصف، وهو موضع الصف. ((وأسألك حبك)) يحتمل أن يكون أنني أسألك حبك إياي، أو حبي إياك، وعلي هذا يحمل قوله:((وحب من يحبك)). وأما قوله: ((حب عمل يقربني إلي حبك)) فيدل علي أنه طالب لمحبة العمل، حتى يكون وسيلة إلي محبة الله تعالي إياه، فينبغي أن يحمل الحديث علي أقصى ما يمكن من المحبة في الطرفين، ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا. وقد أشبعنا القول في معنى الحديث في الفصل الثاني، ونقلنا هناك عن التوربشتي أنه قام: تلك الرؤيا كانت في المنام، واستشهد بالحديث الذي رواه الطبرإني، ويروى أيضاً عن الإمام أحمد بن حنبل: أنها كانت في اليقظة، حيث قال:((فنعست في صلاتي حتى استيقظت)) وقد روينا في الحديث عن الإمام أحمد: ((فنعست في صلاتي حتى استثقلت)) فدل علي أنها كانت في المنام. قوله: ((النعاس)) النوم القليل، قال الله تعالي:{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} والله أعلم.

((غب)) قوله: ((ثم تعلموها)) أي لتعلموها، فحذف اللام، وأنشد الدار الحديثي:

قلت لبواب لديه دارنا تيذن فإني حموها وجارها

ص: 959

قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. ثم قال: سل، قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلي حبك)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث صحيح.

749 -

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل المسجد: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)). قال: ((فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) رواه أبو داود. [749]

ــ

أصله لتيذن، ولم يضطر إليه إذ يمكنه أن يقول: ايذن لي. لا يقال: أصله يتذن بالرفع، فأسكن ضرورة، إذ لو كان كذلك لقال:((يئذن أنى)) بغير الفاء.

قوله: ((هذا حديث حسن)) قال ابن الصلاح: فيه إشكال؛ لأن الحسن قار عن الصحيح، فالجمع بينهما في حديث واحد جمع بين المتافيين. وجوابه أن ذلك راجع إلي الإسناد، فإذا روي الحديث بإسنادين، أحدهما حسن، والآخر صحيح، استقام أن يقال فيه: إنه حسن صحيح. أو أراد بالحسن معناه الغوي، وهو ما يميل إليه النفس ولا يأباه.

الحديث الثامن عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((فإذا قال ذلك)) الفاء دلت علي محذوف، أي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا قال المؤمن ذلك قال الشيطان)) إلي آخره.

الحديث التاسع عن عطاء رضي الله عنه: قوله: ((لا تجعل قبري وثناً)) فيه تشبيه، أي لا تجعل قبري مثل الوثن المعبود في تعظيم الناس وعودهم للزيارة إليه بعد بدءهم واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد. وقوله:((اشتد غضب الله)) استئناف، كأنه قيل: لم تدعو بهذا الدعاء وتتضرع فيه ويجعل قبرك كالوثن؟ فأجاب ترحماً علي أمته، وتعطفاً عليهم بقوله:((أشتد غضب الله)) إلي آخره.

ص: 960

750 -

وعن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله علي قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك مرسلا. [750]

751 -

وعن معاذ بن جبل، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة في الحيطان. قال بعض رواته:- يعني البساتين-: رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر، وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره.

752 -

وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) رواه ابن ماجه. [752]

753 -

وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)). قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم المسجد الأقصى)).

ــ

الحديث العاشر والحادي والثاني عشر، عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((ثم الأرض لك مسجد)) يعني سألت يا أبا ذر عن أماكن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها أيها أقدم زماناً، فأخبرتك بوضع المسجدين، وتقدمهما علي سائر المساجد، ثم أخبرك بما أنعم الله علي وعلي أمتي، من تسوية الجناح، وتسوية الأراضي في أداء العبادة فيها، كما ورد:((جعلت لي الأرض مسجداً)) وطهوراً ولفظ الحديث موافق لقوله تعالي: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} والموضع غير، والبناء غير. ((الكشاف)):((وضع للناس)) صفة البيت، والواضع

ص: 961