المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وفي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ (1)، وَهُوَ - الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌فصل وفي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ (1)، وَهُوَ

‌فصل

وفي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ (1)، وَهُوَ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ـ إِلَى آخِرِهِ ـ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهَا الْبِدْعَةُ التَّرْكية، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ غَيْرُ التَّرْكِيَّةِ، فَقَدْ يَقَعُ الِابْتِدَاعُ بِنَفْسِ التَّرْكِ تَحْرِيمًا لِلْمَتْرُوكِ (2) أَوْ غَيْرَ تحريم، فإن الفعل ـ مثلاً (3) ـ قد يَكُونُ حلَالًا بِالشَّرْعِ فَيُحَرِّمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، أو يقصد تركه قصداً. فهذا (4) التَّرْكِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ (5) مَا يُطْلَبُ بِتَرْكِهِ، كَالَّذِي يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ دِينِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ هُنَا مِنَ التَّرْكِ، بَلْ إِنْ قُلْنَا بِطَلَبِ التداوي للمريض كان (6) الترك هنا مطلوباً، وَإِنْ قُلْنَا بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي فَالتَّرْكُ مُبَاحٌ (7).

فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعَزْمِ عَلَى الْحَمِيَّةِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ، وأصله قوله عليه الصلاة السلام:"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ (8) فليتزوج"، (إلى

(1) ساقطة من (م) و (ت).

(2)

في (غ) و (ر): "للفعل".

(3)

ساقطة من (ت).

(4)

في (ط): "فبهذا".

(5)

في (غ): "لا".

(6)

في (خ) و (ط): "فإن"، وفي (ت):"لأن".

(7)

والجمهور على استحباب التداوي، كما نقل ذلك الإمام النووي في شرح مسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (14/ 191)، والمستحب مطلوب شرعاً.

(8)

قال الإمام النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين =

ص: 56

أَنْ قَالَ) (1): "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، [فإنه له وجاء"(2) فأمر عليه الصلاة والسلام بِالصَّوْمِ] (3) الَّذِي يَكْسِرُ مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لَا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَصِيرَ إِلَى الْعَنَتِ (4).

وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا (5) بِهِ الْبَأْسُ، فَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَكَتَارِكِ الْمُتَشَابِهِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ.

وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ (6) لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَدَيُّنًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَدَيُّنًا فَالتَّارِكُ عَابِثٌ بِتَحْرِيمِهِ الْفِعْلَ، أَوْ بِعَزِيمَتِهِ عَلَى التَّرْكِ. وَلَا يُسَمَّى هَذَا التَّرْكُ بِدْعَةً؛ إِذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِّ إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ الْقَائِلَةِ إِنَّ (7) الْبِدْعَةَ تَدْخُلُ فِي (8) الْعَادَاتِ. وَأَمَّا على الطريقة الأولى، فلا يدخل (9). لَكِنَّ هَذَا (10) التَّارِكَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ أَوْ باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله.

= يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج

والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سمّيت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج. (مسلم بشرح النووي 9/ 173).

(1)

ما بين المعكوفين ساقط من (ت).

(2)

أخرجه الإمام البخاري في كتاب النكاح من صحيحه، باب قول النبي "من استطاع منكم الباءة فليتزوج

"، عن ابن مسعود وذكره (9/ 106 مع الفتح)، وأخرجه أيضاً في كتاب الصيام (4/ 119)، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح (9/ 172 بشرح النووي)، والنسائي في كتاب النكاح من سننه (6/ 57)، وابن ماجه في كتاب النكاح من سننه (1/ 592)، والدارمي في كتاب النكاح من سننه (2/ 177)، والإمام أحمد في مواضع من المسند (1/ 378، 424).

(3)

ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

(4)

العنت: الإثم، وأيضاً الوقوع في أمر شاقّ. الصحاح (1/ 258 ـ 259).

(5)

في (م) و (ت): "لما".

(6)

ساقطة من (ت).

(7)

في (ر): "بأن".

(8)

في (ت): "على".

(9)

في (غ): "تدخل".

(10)

ساقطة من (غ).

ص: 57

وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّرْكُ (1) تَدَيُّنًا، فَهُوَ الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا الْفِعْلَ جَائِزًا شَرْعًا (2) فَصَارَ التَّرْكُ الْمَقْصُودُ مُعَارَضَةً لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ التَّحْلِيلِ (3). وَفِي مِثْلِهِ نزل قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} (4)، فَنَهَى أَوَّلًا عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ جَاءَتِ الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، (وأن من اعتدى)(5) لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي لِلْآيَةِ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (6).

لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ همَّ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، وَآخَرَ (7) الْأَكْلَ بِالنَّهَارِ، وَآخَرَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ هَمَّ بِالِاخْتِصَاءِ (8)، مُبَالَغَةً فِي تَرْكِ شَأْنِ (9) النِّسَاءِ. وَفِي أَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(10).

فَإِذَا كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ـ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ـ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، (وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِعَيْنِهِ)(11).

فَإِنْ قِيلَ: فَتَارِكُ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ـ نَدْبًا أو وجوباً ـ هل يسمى

(1) في (م) و (خ): "التارك".

(2)

في (ت): "شرعياً".

(3)

في (ط): "التحيلل".

(4)

سورة المائدة، آية (87).

(5)

ما بين المعكوفين ساقط من (ط).

(6)

وذلك في الباب الخامس، حيث يفرد لها المؤلف فصلاً يبين فيه سبب نزولها، ويذكر فيه مسائلها (1/ 323).

(7)

في (ت): "والآخر".

(8)

غير واضحة في (ت).

(9)

في (م): "شبان".

(10)

رواه الإمام البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (9/ 104)، ورواه مسلم في كتاب النكاح (9/ 175)، والنسائي في نفس الكتاب (6/ 60)، والإمام أحمد في المسند (3/ 241) جميعهم عن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يصنعوا ما ذكر فكان من ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فمن رغب عن سنّتي فليس مني"، ورواه أيضاً الدارمي عن سعد بن أبي وقاص في قصة رد التبتّل على عثمان بن مظعون (2/ 179).

(11)

ما بين المعكوفين ساقط من (ت).

ص: 58

مُبْتَدِعًا أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّارِكَ لِلْمَطْلُوبَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ التَّدَيُّنِ، إِمَّا كَسَلًا، أَوْ تَضْيِيعًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي النَّفْسِيَّةِ، فَهَذَا الضَّرْبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فَمَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي نَدْبٍ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ إِذَا كَانَ التَّرْكُ جُزْئِيًّا، وَإِنْ كَانَ (1) كُلِيًّا فَمَعْصِيَةٌ حَسْبَمَا تبيَّن فِي الْأُصُولِ (2).

وَالثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهَا تَدَيُّنًا، فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ حَيْثُ تَدَيَّنَ بِضِدِّ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَمِثَالُهُ أهل الإباحة القائلون بإسقاط التكليف (3) إِذَا بَلَغَ السَّالِكُ عِنْدَهُمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي حَدُّوهُ (4).

فإذا قوله في الحدّ: (طريقة [في الدين] (5) مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)، يَشْمَلُ (6) الْبِدْعَةَ التَّرْكِيَّة كَمَا يَشْمَلُ غَيْرَهَا (7)؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إِلَى تَرْكٍ وَغَيْرِهِ.

وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، أَمْ قُلْنَا: إِنَّهُ نَفْيُ الْفِعْلِ، على (8) الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه (9).

(1) ساقطة من (ط).

(2)

وقد تكلّم المؤلف رحمه الله في الموافقات عن هذا فقال: "إذا كان الفعل مندوباً بالجزء كان واجباً بالكل، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة وصلاة العيدين، وصدقة التطوّع، والنكاح، والوتر، والفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء. ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها. ألا ترى أن في الأذان إظهاراً لشعائر الإسلام، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه. وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته

فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائماً، أمّا إذا كان في بعض الأوقات، فلا تأثير له فلا محظور في الترك"، الموافقات (1/ 132).

(3)

في (ط): "التكاليف".

(4)

يريد بهم غلاة المتصوّفة الذين يسقطون التكليف عن السالك إذا بلغ مرتبة الولاية. انظر كلام المؤلف في الباب الرابع (1/ 246).

(5)

ساقط من جميع النسخ عدا (ر).

(6)

في (خ): "يشمل على البدعة".

(7)

في (ر): "الطريق".

(8)

ساقطة من (ط).

(9)

اختلف علماء الأصول في الترك هل هو فعل أو نفي للفعل، فذهب جمهور =

ص: 59

وَكَمَا يَشْمَلُ الْحَدُّ التَّرْكَ يَشْمَلُ أَيْضًا ضِدَّ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمُ الِاعْتِقَادِ، وَقِسْمُ الْقَوْلِ، وَقِسْمُ الْفِعْلِ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ يَتَعَلَّقُ به الابتداع، (والله أعلم)(1).

= الأصوليين على أن الترك فعل، وهو كفّ النفس عن الفعل، بناء على أنه لا تكليف إلاّ بفعل، وذهب أبو هاشم وكثير من الأصوليين إلى أن الترك نفي للفعل وليس فعلاً، بناء على أنه يجوز التكليف بغير فعل.

انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (1/ 350)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 194)، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 429)، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع للسبكي (1/ 214)، نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر لعبد القادر الدودمي (1/ 128).

(1)

ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

ص: 60

الْبَابُ الثَّانِي

فِي ذَمِّ الْبِدَعِ (1) وَسُوءِ مُنْقَلَبِ أصحابها

لَا خَفَاءَ أَنَّ الْبِدَعَ (1) مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا يَعْلَمُ الْعَاقِلُ ذَمَّهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا خُرُوجٌ عَنِ الصراط المستقسم وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ (2):

أَمَّا النَّظَرُ فَمِنْ وجوه:

أحدها: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ (3) وَالْخِبْرَةِ (4) السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ (5) مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى الْيَوْمِ أَنَّ الْعُقُولَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَصَالِحِهَا، اسْتِجْلَابًا لَهَا، أَوْ مَفَاسِدِهَا، اسْتِدْفَاعًا لَهَا، لِأَنَّهَا إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ.

(فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ)(6) فَلَا يُسْتَقَلُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَلْبَتَّةَ، لَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا أَوَّلًا، وَلَا فِي اسْتِدْرَاكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي طَرِيقِهَا، إِمَّا فِي السَّوَابِقِ، وَإِمَّا فِي اللَّوَاحِقِ، لِأَنَّ وَضْعَهَا أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ آدَمَ عليه السلام لَمَّا أُنْزِلَ إِلَى (7) الْأَرْضِ عُلِّم كَيْفَ يَسْتَجْلِبُ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَعْلُومِهِ أَوَّلًا، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن

(1) في (ت): "البدعة".

(2)

سيذكر المؤلف أوجه ذم البدع من القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين، وحتى من كلام الصوفية أنفسهم. انظر (ص73 وما بعده".

(3)

في (م): "بالتجاوز"، وفي (ت):"بالتجار".

(4)

في (م): "بالتجاوب الخبرة" بدون الواو.

(5)

في (م): "العام".

(6)

ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت)، وأثبت في هامش (خ) و (ت).

(7)

ساقطة من (م).

ص: 61

ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (1)، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَعْلِيمًا غَيْرَ عَقْلِيٍّ، ثُمَّ تَوَارَثَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ كَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ فَرَّعَتِ الْعُقُولُ مِنْ أُصُولِهَا تَفْرِيعًا تَتَوَهَّمُ اسْتِقْلَالَهَا بِهِ.

وَدَخَلَ (2) فِي الْأُصُولِ الدَّوَاخِلُ حَسْبَمَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ أزمنة الفترات؛ إذ لم تجر مصالح أهل (3) الْفَتَرَاتِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، لِوُجُودِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ (4)، وَظُهُورِ أوجه الفساد (5).

فلولا أن الله تعالى منّ (6) على الخلق ببعثة الأنبياء عليهم السلام لَمْ تَسْتَقِمْ (7) لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلَا جَرَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى كَمَالِ مَصَالِحِهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ (8) فِي أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الأُخروية، فَأَبْعَدُ عن مجاري (9) العقول (10) مِنْ جِهَةِ وَضْعِ أَسْبَابِهَا، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ مَثَلًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَشْعُرُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَكَوْنِهَا آتِيَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنَّهَا (11) دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الَّذِي يُدْرِكُ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ أن يشعر به (12).

(1) سورة البقرة، آية (31)، وقد روى نحو هذا القول عن قتادة. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 282).

(2)

في (م) و (ر) و (ت): "دخل"، بدون الواو.

(3)

ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).

(4)

الهرج هو القتل كما فسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل، القتل"، رواه مسلم (18/ 31 مع شرح النووي).

ومن معاني الهرج الفتنة والاختلاط. الصحاح (1/ 350).

(5)

أشار المؤلف إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات (2/ 48).

(6)

في (ط): "فلولا أن منَّ الله".

(7)

في (م) و (خ) و (ت): "يستقيم"، وكلا اللفظين صحيح في اللغة.

(8)

ساقطة من (ت).

(9)

في (م): "مجار"، وفي (ط):"مصالح".

(10)

في (ط): "المعقول".

(11)

ساقطة من (م) و (ت).

(12)

في (خ) و (ط): "بها".

ص: 62

وَلَا يَغْتَرَّنَّ ذُو الْحِجَى بِأَحْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُدَّعِينَ لِإِدْرَاكِ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، قَبْلَ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ دَعْوَاهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَمْ تَزَلْ وَارِدَةً عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ جِهَةِ (1) الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَيْضًا لَمْ يَزَالُوا موجودين في العالم، وهم أكثر، كل ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ (2)، غَيْرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ إِذَا أَخَذَتْ فِي الدُّرُوسِ (3) بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ يبيِّن (4) لِلنَّاسِ مَا خُلقوا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ.

فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَفْرُوضَةِ ـ مَا بَيْنَ زَمَانِ أَخْذِهَا فِي الِانْدِرَاسِ وَبَيْنَ إِنْزَالِ الشَّرِيعَةِ بعدها ـ بعض الأصول معلومة (5)، فَأَتَى الْفَلَاسِفَةُ إِلَى تِلْكَ الْأُصُولِ فَتَلَقَّفُوهَا، أَوْ تلقفوا منها، ما أرادوا (6) أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى مُقْتَضَى عُقُولِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عَقْلِيًّا لَا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا (7) يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مُتَقَدِّمٍ مُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يُمْكِنُ فِي أَحْوَالِ الآخرة تصوّر (8) أَصْلٌ مُسَلَّمٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلِهَذَا المعنى بسطٌ سيأتي إن شاء الله تعالى (9).

فَعَلَى الْجُمْلَةِ، الْعُقُولُ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا دُونَ الْوَحْيِ.

فَالِابْتِدَاعُ مُضَادٌّ لِهَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ (10) مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَبْقَى إلا ما ادّعوه من العقل.

(1) ساقطة من (ر).

(2)

ساقطة من أصل (خ)، وأثبتت في هامشها.

(3)

درس الرسم إذا عفا، ودرس الثوب إذا أخلق. الصحاح (3/ 927 ـ 928).

(4)

في (ت): "فيبين".

(5)

في (ط): "المعلومة".

(6)

المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ:"فأرادوا".

(7)

في (ت): "فإنما".

(8)

في (م) و (خ): "تسلم"، وفي (ط):"قبلهم"، وعبارة (ت):"قبلهم تسلم أصل مسلم".

(9)

وذلك في الباب العاشر حيث جعل المؤلف تحسين الظن بالعقل من أسباب الابتداع في الشريعة، وبسط الكلام عليه هناك. (2/ 318 وما بعدها) من المطبوع.

(10)

ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

ص: 63

فَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بِدْعَتِهِ أَنْ يَنَالَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِهَا مَا رَامَ تَحْصِيلَهُ مِنْ جِهَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْعَبَثِ.

هَذَا إِنْ قُلْنَا (1): إِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ وَإِلْزَامٍ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ، وَالْعَقْلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ (2).

وَنَاهِيكَ مِنْ نِحْلَةٍ يَنْتَحِلُهَا صَاحِبُهَا فِي أَرْفَعِ مُطَالَبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا، وَيُلْقِي مِنْ يَدِهِ مَا هُوَ عَلَى ثِقَةٍ منه:

والثاني (3): أن الشريعة جاءت كاملة تامّة (4) لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً} (5).

وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ (6): وَعَظَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظة (7)

(1) ساقطة من أصل (م)، ومثبتة في هامشها، وفي (غ):"إذا".

(2)

تناول المؤلف هذه القضية في كتاب الموافقات، وذلك في مقدمة قدّمها حول مقاصد الشريعة، وأنها جاءت لمصالح العباد الدنيوية والأخروية. انظر كتاب الموافقات للمؤلف (2/ 6 ـ 7)، ثم قال: وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معلّلة بعلّة البتّة، وأخذ في الردّ عليه. قلت: هذا هو مذهب الأشاعرة الذين نفوا الحكمة الإلهية، وكذلك نفوا أن تكون أحكام الله معلّلة، وانظر قولهم أيضاً في كتاب التمهيد للباقلاني (ص30)، وقد ردّ عليهم أهل السنة والجماعة في كتبهم، فانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (16/ 96 وما بعدها)، ومنهاج السنة له (1/ 141 وما بعدها)، والنبوات له (ص358)، وقد أطال الإمام ابن القيم في الرد عليهم في شفاء العليل (ص391 ـ 521).

(3)

أي من وجوه ذم البدعة من جهة النظر.

(4)

ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

(5)

سورة المائدة، آية (3).

(6)

هو أبو نجيح العرباض بن سارية السلمي، صحابي، كان من أعيان أهل الصفة، سكن حمص، وروى أحاديث، روى عنه جبير بن نفير وعده، توفي سنة 75هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 419)، الإصابة لابن حجر (2/ 473)، الحلية لأبي نعيم (2/ 13).

(7)

في (م): "وعظة".

ص: 64

ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ:"تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَلَا يَزِيغُ عَنْهَا (1) بَعْدِي إِلَّا هالك، من (2) يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عرفتم من سنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين (3) مِنْ بَعْدِي"(4) الْحَدِيثَ.

وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَتَى بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ (5) الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مُخَالِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ (6) مَقَالِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا (7)، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَمْ يَبْتَدِعْ (8)، وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا، وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ (9): سَمِعْتُ مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام

(1) في (م) و (ر) و (خ): "عليها"، وفي (ط):"عنها".

(2)

في (ط): "ومن".

(3)

ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).

(4)

رواه الإمام ابن ماجه عن العرباض بن سارية في باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16)، ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 126)، ورواه أبو داود، برقم (4607)، (4/ 200)، وليس فيه:"تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا وَلَا يَزِيغُ عنها بعدي إلاّ هالك"، ورواه الترمذي برقم (2671)، وليس فيه: "تركتكم على البيضاء

"، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم (1/ 95)، والبيهقي (10/ 114)، وابن حبان (1/ 104)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 74)، والمروزي في السنة (ص26)، والآجري في الشريعة (ص47)، وابن أبي عاصم في السنّة، وقال الألباني في تعليقه على الكتاب: "حديث صحيح" (1/ 27). وانظر صحيح الجامع الصغير للألباني (1/ 499).

(5)

ساقطة من (ت).

(6)

في (ت): "و".

(7)

في (غ): "إدراكها".

(8)

في (م) و (خ): "لم يبدع".

(9)

هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ابن الماجشون، أبو مروان، المدني الفقيه، كان مفتي أهل المدينة، روى عن أبيه وعن مالك، وكان رفيق الشافعي، وهو صدوق، وله أغلاط في الحديث، توفي سنة 214هـ.

انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 520)، الكاشف للذهبي (2/ 186).

ص: 65

بدعة يراها حسنة، فقد زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا" (2).

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ وَمَشَاقٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ عيَّن لِمَطَالِبِ الْعَبْدِ طُرُقًا خَاصَّةً، عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ، وَقَصَرَ الْخَلْقَ عَلَيْهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَأَنَّ الشَّرَّ فِي تعدِّيها، إلى غيرها (3)؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

فَالْمُبْتَدِعُ رَادٌّ (4) لِهَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ثَمَّ طُرُقًا أُخَر، لَيْسَ (5) مَا حَصَرَهُ الشَّارِعُ بِمَحْصُورٍ، وَلَا مَا عَيَّنَهُ بمتعيِّن، وأن (6) الشَّارِعَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ، بَلْ رُبَّمَا يَفْهَمُ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ الطُّرُقَ عَلَى الشَّارِعِ، أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الشَّارِعُ.

وَهَذَا إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِلْمُبْتَدِعِ، فَهُوَ كُفْرٌ بِالشَّرِيعَةِ وَالشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ.

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه، إِذْ كَتَبَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ (7) يَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ (8)، فكتب إليه:

(1) سورة المائدة، آية (3).

(2)

رواه عنه بسنده الإمام ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 85).

(3)

المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ:"إلى غير ذلك".

(4)

في (م): "زائد".

(5)

في (غ) و (ر): "وليس".

(6)

في (ت): "لأن"، وفي (خ) و (ط):"كأن".

(7)

هو عدي بن أرطاة الفزاري الدمشقي، كان أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، روى عن أبي أمامة وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، قتله معاوية بن يزيد بن المهلب سنة اثنتين ومائة.

انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 53)، تقريب التهذيب (2/ 16)، شذرات الذهب لابن العماد (1/ 124).

(8)

تقدم ذكرهم والترجمة لهم في المقدمة (ص11).

ص: 66

"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون مما (1) قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ (2)، وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ، فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سنَّها مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ، فارضَ لِنَفْسِكَ بِمَا (3) رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ (4) لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نافذ قد كفوا، ولهم (5) كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل لو كان (6) فِيهِ أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُمْ: أَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَهُمْ، مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سُنَنِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ لَهُمُ السَّابِقُونَ (7)، فَقَدْ تَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، وَمَا فَوْقَهُمْ محسر (8)، لقد قصر عنهم (أقوام فجفوا، وطمح عنهم) (9) آخرون فَغَلَوْا (10)، وَأَنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ"(11).

(1) في (خ) و (ط) و (غ): "فيما".

(2)

في (م): "سنة".

(3)

في (ت): "ما".

(4)

في (خ): "العموم".

(5)

في (ط): "وهم".

(6)

في (م) و (ت): "لو كانوا"، وفي (خ) و (ط):"وبفضل كانوا فيه".

(7)

في (غ) و (ر): "الغابنون".

(8)

ساقطة من (غ) و (ر)، وفي رواية أبي داود:"فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر"(4/ 202)، قال في عون المعبود بعد ذكره أن معنى القصر الحبس، وأن معنى الحسر الكشف:"وحاصله أن السلف الصالحين قد حبسوا أنفسهم عن كشف ما لم يحتج إلى كشفه من أمر الدين حبساً لا مزيد عليه، وكذلك كشفوا ما احتيج إلى كشفه من أمر الدين كشفاً لا مزيد عليه" عون المعبود (12/ 370).

(9)

ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ، وقد أثبته من سنن أبي داود (4/ 202)، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (ص37)، إذ لا يستقيم المعنى إلاّ به.

(10)

في (ط): "فقلوا".

(11)

رواه عن عمر بن عبد العزيز الإمام أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب لزوم السنة، تحت رقم (4612)، ولفظه أطول من لفظ المؤلف (4/ 202)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب كل محدثة بدعة (ص37)، ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 321)، ورواه أبو نعيم في الحلية ضمن ترجمة عمر بن عبد العزيز (5/ 338)، ورواه الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص360)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ضمن ترجمته (9/ 224).

ص: 67

ثُمَّ خُتِمَ الْكِتَابُ بِحُكْمِ مَسْأَلَتِهِ (1):

فَقَوْلُهُ: "فَإِنَّ (2) السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا في خلافها" هو (3) مَقْصُودُ الِاسْتِشْهَادِ.

وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ (4) تُنَزَّلِ (5) الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ (6) الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِيجَ إلى بعث الرسل عليهم السلام.

فهذا (7) الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً، حَيْثُ شرَّع مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا، وَرَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي الِانْفِرَادِ بِالتَّشْرِيعِ، وَكَفَى بذلك شراً (8).

وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، لِأَنَّ الْعَقْلَ (9) إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ (10)، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، أَلَا تَرَى قول (11) الله تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} (12)، فَحَصَرَ الْحُكْمَ فِي أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْهَوَى، وَعَزَلَ الْعَقْلَ مُجَرَّدًا إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا ذَلِكَ.

(1) وهي مسألة القدر كما مرّ، وكما في سنن أبي داود (4/ 202)، تحت رقم (4612)، وفيه كلام نفيس في هذه المسألة.

(2)

في (خ) و (ت): "من".

(3)

في جميع النسخ: "فهو" عدا (غ) و (ر).

(4)

ساقطة من (م) و (خ).

(5)

في (م) و (خ): "تزل".

(6)

في (ر): "يقع".

(7)

في جميع النسخ: "هذا"، والمثبت من (غ) و (ر).

(8)

ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

(9)

في (ت): "العقلل".

(10)

في (م) و (خ): "الشهوى".

(11)

في (ر): "إلى قول".

(12)

سورة ص، آية (26).

ص: 68

وَقَالَ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (1)، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَحْصُورًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى.

وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (2)، وَهِيَ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا، وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ.

وَهَذَا شَأْنُ الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهُدَى اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ.

وَمَا بيَّنته الشَّرِيعَةُ (3)، وبيَّنته الْآيَةُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى (4) عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، وَلَا صَاحِبُهُ بِضَالٍّ، كَيْفَ وَقَدْ قَدَّمَ الْهُدَى (5) فَاسْتَنَارَ بِهِ فِي طَرِيقِ هَوَاهُ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ (6).

وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ هُوَ (7) الْمُقَدَّمُ بالقصد الأول، كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ تَابِعَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْمُومُ.

وَالْمُبْتَدِعُ قدَّم هَوَى نَفْسِهِ عَلَى هُدَى (8) رَبِّهِ (9)، فَكَانَ أضلَّ النَّاسِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى هُدًى.

وَقَدِ انْجَرَّ هُنَا مَعْنًى يَتَأَكَّدُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وهو أن الآيات (10) الْمَذْكُورَةَ عيَّنت لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الشَّرِيعَةُ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ وَحَقٌّ وَهُدًى، وَالْآخَرُ الْهَوَى، وَهُوَ الْمَذْمُومُ؛ لِأَنَّهُ لم يذكر في القرآن إلاّ في سياق (11) الذَّمِّ، وَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَّ طَرِيقًا ثَالِثًا، وَمَنْ تتبَّع الْآيَاتِ أَلْفَى ذَلِكَ كَذَلِكَ.

ثُمَّ الْعِلْمُ الَّذِي أُحيل عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ الَّذِي حُمِدَ إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (12).

(1) سورة الكهف، آية (28).

(2)

سورة القصص، آية (50).

(3)

في (ر): "وبينت".

(4)

في (م) و (ت): "الهدى".

(5)

في (ر): "الهوى".

(6)

في (ر): "المتقي".

(7)

ساقطة من (غ).

(8)

في (غ): "هوى"، وهو خطأ ظاهر.

(9)

في (خ) و (ط): "الله".

(10)

المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ:"الآية".

(11)

في (م) و (ر) و (ت): "مساق".

(12)

سورة الأنعام، آية (143).

ص: 69

وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1).

وَقَالَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *} (2).

وَهَذَا كُلُّهُ لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي التَّشْرِيعِ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ.

وَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (3).

وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي التَّشْرِيعِ، إِذْ حَقِيقَتُهُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ.

وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (4)، أَيْ: لَا يَهْدِيهِ دُونَ اللَّهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرْعِ لَا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْهُدَى (5).

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْهَوَى تَزَلْزَلَتْ قَاعِدَةُ حُكْمِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مَجَالٌ إِلَّا مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْهَوَى، فَهُوَ إِذًا اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. وَدَعِ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ هُنَا، وأن أَهْلُهُ قَدْ زَلُّوا أَيْضًا بِالِابْتِدَاعِ، فَإِنَّمَا زَلُّوا مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْخِطَابِ، وَمِنْ حَيْثُ التَّشْرِيعِ، وَلِذَلِكَ عُذِرَ الْجَمِيعُ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَعْنِي فِي خَطَئِهِمْ فِي التَّشْرِيعَاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، حَتَّى جَاءَتِ الرُّسُلُ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ يَسْتَقِيمُ إِلَيْهَا {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (6)، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ.

فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِ النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أُصُولِيَّةً، فهذه نكتتها (7) مستنبطة من كتاب الله، (وبالله التوفيق)(8)، انتهى.

(1) سورة الأنعام، آية (144).

(2)

سورة الأنعام، آية (140).

(3)

سورة المائدة، آية (103).

(4)

سورة الجاثية، آية (23).

(5)

في (ر): "الهوى".

(6)

سورة النساء، آية (165).

(7)

في (ر): "نكتبها".

(8)

ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).

ص: 70