الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
(1)
وأمّا النقل فمن وجوه:
أحدها: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (2) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ تعالى فِي الْجُمْلَةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} (3)، فهذه الآية من أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا، فَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (4)، قَالَ:"فَإِذَا رَأَيْتِهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ (5) "(6).
وَصَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عن هذه الآية)(7) {هُوَ
(1) يتناول المؤلف في هذا الفصل وما بعده من الفصول وجوه ذم البدع من القرآن والسنّة وأقوال الصحابة والتابعين والصوفية المشهورين.
(2)
في (غ): "الحكيم".
(3)
سورة آل عمران، آية (7).
(4)
سورة آل عمران، آية (7).
(5)
في (م) و (ت): "فاعرفنهم".
(6)
رواه الإمام الترمذي في كتاب التفسير من سننه برقم (2993)، وقال: حسن صحيح (5/ 207)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 604)، وقد ذكره الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 31). وأصل الحديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها كما سيأتي.
(7)
ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا (رَأَيْتُمُ) (1) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ (2) فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ (3) "(4).
وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُبْهَمٌ (5)، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الْآيَةَ، قَالَ:"فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى (6) اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ"(7)، وَهَذَا أبينَ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةَ الزَّيْغِ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجِدَالُ مُقَيَّدٌ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ.
فَإِذًا الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَ مَنْ جَادَلَ فِيهِ بِتَرْكِ الْمُحْكَمِ ـ وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ ـ وَالتَّمَسُّكِ بِمُتَشَابِهِهِ (8).
وَلَكِنَّهُ بَعْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَفْسِيرٍ أَظْهَرَ، فَجَاءَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ وَاسْمُهُ حَزَوَّر (9) قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ، فبعث المهلب (10) سبعين رأساً من
(1) في (م) و (خ) و (ت): "رأيتهم".
(2)
ساقطة من (غ).
(3)
في (م): "فاحذرهم".
(4)
رواه الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب منه آيات محكمات، عن عائشة وذكره (8/ 209 مع الفتح)، ورواه الإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه (16/ 217 بشرح النووي)، والإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب مجانبة أهل الأهواء برقم (4598)(4/ 198)، والإمام الترمذي في كتاب التفسير من صحيحه برقم (2994)، وقال: حسن صحيح (5/ 207)، والإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب من هاب الفتيا وكره التبدع والتنطع (1/ 66)، والإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 118)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 9)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 603 ـ 604)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 545).
(5)
في (م): "منهم".
(6)
في (خ): "عن".
(7)
رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 48)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه برقم (47)(1/ 18)، والإمام الآجري في الشريعة (ص26)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 602)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 14 ـ 15).
(8)
في (خ): "بمشابهه".
(9)
في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "جرور"، والصواب المثبت، وهو صاحب أبي أمامة رضي الله عنه، قيل: اسمه حزور، وقيل: سعد بن الحزور، وقيل: نافع، قال ابن حجر:"صدوق يخطئ"، وضعفه النسائي، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به.
انظر: التقريب (2/ 460)، الكاشف للذهبي (3/ 322)، تهذيب التهذيب (12/ 197).
(10)
هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة، واسمه ظالم بن سارق العتكي، كان من ثقات=
الْخَوَارِجِ (1)، فَنُصِبُوا عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَكُنْتُ عَلَى ظهر بيت لي (2)، فمرّ أبو أمامة رضي الله عنه، فَنَزَلْتُ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وقال:"سبحان الله! ما يصنع الشيطان (3) بِبَنِي آدَمَ! قَالَهَا ثَلَاثًا، كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ"، ثُمَّ الْتَفَتَ إليّ فقال:"يا (4) أَبَا غَالِبٍ إِنَّكَ بِأَرْضٍ هُمْ بِهَا كَثِيرٌ فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ"، قُلْتُ: رَأَيْتُكَ بَكَيْتَ حِينَ رَأَيْتَهُمْ، قَالَ:"بَكَيْتُ رَحْمَةً حِينَ رَأَيْتُهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَرَأَ:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} حَتَّى بَلَغَ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} (5)، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ (6) بِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ:{فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (7)، قُلْتُ: هُمْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: مِنْ قِبَلِكَ تَقُولُ أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ (8) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: "إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، بَلْ سَمِعْتُهُ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (9) لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ"، حَتَّى عَدَّ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى (10) إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، كُلُّهُا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ"، قُلْتُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ أَلَا تَرَى ما فعلوا؟ (11) قال: عليهم ما حملوا {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (12) الآية.
=الأمراء، وكان عارفاً بالحرب، غزا الهند، وولي الجزيرة لابن الزبير، وحارب الخوارج. توفي غازياً بمرو الروذ سنة اثنتين وثمانين.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 280)، الكاشف للذهبي (3/ 159)، سير أعلام النبلاء (4/ 383).
(1)
تقدم ذكرهم والتعريف بهم في المقدمة (ص11).
(2)
ساقطة من (ت).
(3)
في (ط): "السلطان"، وهو خطأ.
(4)
ساقطة من (ط).
(5)
سورة آل عمران، آية (7).
(6)
ساقطة من (خ) و (ت) و (ط) و (م).
(7)
سورة آل عمران، آية (105 ـ 107).
(8)
في (ط): "سمعت".
(9)
ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
(10)
ساقطة من (ت).
(11)
في (غ): "ما يفعلون".
(12)
سورة النور، آية (54)، ونصّ الآية:{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} .
خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (1) وَغَيْرُهُ (2).
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ (3): "أَلَا تَرَى مَا فِيهِ (4) السَّوَادُ الْأَعْظَمُ" وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ (5)، وَالْقَتْلُ (6) يَوْمَئِذٍ ظاهر، قال:"عليهم ما حملوا {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (7) ".
(1) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي المالكي، قاضي بغداد، وكان إماماً حافظاً متقناً فقيهاً، صنّف المسند، وصنف علوم القرآن، وجمع حديث أيوب وحديث مالك، وصنف الموطأ، استوطن بغداد وولي قضاءها حتى مات سنة اثنتين وثمانين ومئتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 339)، تذكرة الحفاظ (2/ 225)، شذرات الذهب (2/ 178).
(2)
رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، سياق ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحثّ على اتباع الجماعة والسواد الأعظم (1/ 102 ـ 104)، وابن أبي عاصم في السنّة، باب فيما أخبر به النبيّ عليه السلام أن أمّته ستفترق، برقم (68)(1/ 34)، والمروزي في السنة (ص22)، والبيهقي في كتاب قتال أهل البغي من سننه، باب الخلاف في قتال أهل البغي (8/ 188)، وأبو نعيم الأصبهاني في ذكر أخبار أصبهان (1/ 286)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (8035)، (8051)، (8054)، (8/ 321، 327، 328).
وروى الخبر من غير ذكر حديث الافتراق الإمام أحمد في المسند (5/ 253، 256، 269)، والترمذي في كتاب التفسير من سننه برقم (3000)، (5/ 210)، وابن ماجه في مقدمة سننه، باب في ذكر الخوارج برقم (176)، (1/ 62)، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 635، 643، 644)، والآجري في الشريعة (ص35 ـ 37)، قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد:"رواه الطبراني، ورجاله ثقات"(6/ 234)، وقال في موضع آخر:"رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه أبو غالب، وثّقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير" المجمع (7/ 261 ـ 262). وحسّنه الألباني إن كان روى من غير طريق القطن بن عبد الله، الذي يرويه عن أبي غالب.
انظر: ظلال الجنة (1/ 34)، وقد رواه غيره من الثقات عن أبي غالب كحماد بن زيد عند البيهقي.
(3)
في (م) و (ط): "قال رواته
…
".
(4)
في (خ): "في"، وقد صححت في الهامش.
(5)
هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو الوليد، كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها. ملك ثلاث عشرة سنة استقلالاً، وقبلها منازعاً لابن الزبير تسع سنين. مات سنة ست وثمانين وقد جاوز الستين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 246)، طبقات ابن سعد (5/ 223)، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (10/ 388).
(6)
في (ر): "القتيل".
(7)
سورة النور، آية (54).
وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ:"حَدِيثٌ حَسَنٌ"(1).
وخرّجه الطحاوي (2) أيضاً (3) باختلاف في بعض الروايات (4) والألفاظ، وَفِيهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، تَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبْكِي! ـ يَعْنِي قَوْلَهُ:"شَرُّ قَتْلَى" إِلَى آخِرِهِ ـ قَالَ: "رَحْمَةً لَهُمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا مِنْهُ"، ثُمَّ تَلَا:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ} (5) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:"هُمْ هَؤُلَاءِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
…
} (6) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:"هُمْ هَؤُلَاءِ"(7).
وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ (8) عَنْ طَاوُسٍ (9) قَالَ: ذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الْخَوَارِجُ وَمَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: "يؤمنون بمحكمه، ويضلّون
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2)
هو الإمام العلامة الحافظ الكبير أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحجري المصري الحنفي، برز في علم الحديث وفي الفقه، وكان محدث الديار المصرية وفقيهها، وصنّف كتباً تدل على سعة علمه. مات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 27)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 186)، الوافي بالوفيات للصفدي (8/ 9).
(3)
في (م) و (ت): "وأيضاً".
(4)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(5)
سورة آل عمران، آية (7).
(6)
سورة آل عمران، آية (106).
(7)
انظر: مشكل الآثار للطحاوي (2519).
(8)
هو الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري، صاحب التواليف، منها كتاب الشريعة في السنة وكتاب الثمانين، وأخلاق العلماء، وكان صدوقاً خيّراً عابداً صاحب سنة واتباع. مات بمكة سنة ستّين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 133)، تاريخ بغداد (2/ 243)، الوافي بالوفيات (2/ 373).
(9)
هو طاوس بن كيسان اليماني، الفقيه القدوة، عالم اليمن، سمع من زيد بن ثابت وعائشة وغيرهم، ولازم ابن عباس مدّة، وهو من كبار أصحابه، وكان ثقة فقيه فاضل، وكان من عباد اليمن وسادات التابعين. توفي سنة 106هـ.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 377)، الكاشف للذهبي (2/ 37)، طبقات ابن سعد (5/ 537).
عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ"، وَقَرَأَ:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (1)(2).
فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ رضي الله عنه جَعَلَ الْخَوَارِجَ (3) دَاخِلِينَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا (4) تَتَنَزَّلُ (5) عَلَيْهِمْ. وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، إما على معنى (6) أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ (7) عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجُوا عنهم، على اختلاف العلماء فيهم (8).
(1) سورة آل عمران، آية (7).
(2)
رواه الإمام الآجري في الشريعة (ص27)، والإمام ابن جرير في تفسيره (3/ 181)، وعزاه ابن حجر في الفتح للإمام الطبري في تهذيبه، وصحح إسناده.
انظر: فتح الباري (12/ 300)، وبحثت عنه في تهذيب الآثار فلم أجده.
(3)
في (ر): "الخارج".
(4)
في (ر): "لأنها".
(5)
في (ت): "تنزل".
(6)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(7)
فس (ت): "من ببدعتهم".
(8)
اختلف العلماء في تكفير الخوارج على قولين، فقد صرح بكفرهم القاضي أبو بكر ابن العربي، كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 299)، وقد احتجّ على كفرهم بالأحاديث الواردة فيهم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"يمرقون من الإسلام"، وقوله:"لأقتلنهم قتل عاد"، وفي لفظ ثمود، وكل منهما إنما هلك بالكفر وغير ذلك، وجنح إلى هذا القول من المتأخرين تقي الدين السبكي، وذكر أن حجة من كفرهم هو تكفير الخوارج لأعلام الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة، وكذلك احتجّوا بحديث أبي سعيد، وفيه أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنه لا يعلق بالسهم شيء من الرمية من دم أو فرث، فهذا التمثيل ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام. إلى غير ذلك مما استدلّوا به وما ردوا به حجة الآخرين كما هو مبين في الفتح.
وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين، مستندين إلى تأويل فاسد، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
ومما احتجّوا به أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "كمروق السهم، فينظر الرامي إلى سهمه"، إلى أن قال:"فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء". قال ابن بطال: "ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله: "يتمارى في الفوق"، لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج=
وَجَعَلَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ بِهِمْ.
وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ فيهم (1) وفي غيرهم، ممن كان على وصفهم (2).
أَلَا تَرَى أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (3) إِنَّمَا نَزَلَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ (4)، وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي عِيسَى عليه السلام، حَيْثُ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْإِلَهُ، أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِأَوْجُهٍ مُتَشَابِهَةٍ، وَتَرَكُوا مَا هُوَ الْوَاضِحُ فِي عُبُودِيَّتِهِ (5)، حَسْبَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ السِّيَر (6).
=من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلاّ بيقين، قال: وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن أهل النهر هل كفروا؟ قال: من الكفر فروا.
ويظهر ميل الإمام ابن حجر في الفتح إلى القول الأول. انظر فتح الباري (12/ 299 ـ 301). وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن القول بعدم تكفير الخوارج هو مذهب الشافعي وجماهير أصحابه، وذكر أنه الصحيح.
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 160 ـ 165)، ويميل المؤلف إلى هذا القول. انظر الباب التاسع (2/ 185 ـ 186)، وانظر نيل الأوطار للإمام الشوكاني فقد نقل الخلاف في المسألة (7/ 167 ـ 168).
(1)
ساقطة من (ط).
(2)
في (خ) و (ط): "صفاتهم"، وفي (ر):"صفتهم".
(3)
في (خ): "الصورة"، وهي سورة آل عمران.
(4)
ذكر ذلك الإمام ابن كثير عند قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية، فقال:"وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردّاً عليهم".
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 551)، وانظر أسباب النزول للإمام الواحدي (ص67).
(5)
في (خ): "عبوديتهم".
(6)
قال الإمام محمد بن إسحاق في سيرته كما نقله عنه ابن كثير في تفسيره: "فهم يحتجّون في قولهم هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله، وليجعله الله آية للناس، ويحتجّون في قولهم بأنه ابن الله يقولون لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجّون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو وعيسى=
ثُمَّ تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى قَضَايَا دَخَلَ أَصْحَابُهَا تَحْتَ حُكْمِ اللَّفْظِ كَالْخَوَارِجِ، فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ.
ثُمَّ تَلَا أَبُو أُمَامَةَ الْآيَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1)، وفسَّرها بمعنى (2) ما فسّر به الآية (3) الأولى (4)، فهي تقتضي (5) الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ (6) لِمَنْ تِلْكَ صِفَتُهُ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ أن يكونوا مثلهم.
ونقل عبد بن حميد (7) عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِهْرَانَ (8) قَالَ: سَأَلْتُ (9) الْحَسَنَ: كَيْفَ يَصْنَعُ أَهْلُ (10) هَذِهِ (الْأَهْوَاءِ الْخَبِيثَةِ)(11) بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (12)، قال:"نبذوها وربّ الكعبة وراء ظهورهم"(13).
=ومريم، تعالى الله وتقدس وتنزّه عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن". انظر تفسير ابن كثير (1/ 551).
وقد ذكر خبرهم الإمام ابن سعد في الطبقات (1/ 357)، والإمام ابن هشام في السيرة (2/ 222)، والإمام ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 48)، والإمام ابن القيم في زاد المعاد (3/ 629)، والإمام الواحدي في أسباب النزول (ص128 ـ 129)، وانظر صحيح البخاري (8/ 93 ـ مع الفتح)، ومسند الإمام أحمد (1/ 414).
(1)
سورة آل عمران، آية (105 ـ 107).
(2)
في (م) و (خ) و (ت): "بالمعنى".
(3)
في (ر): "الرواية".
(4)
المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ:"الأخرى"، وذلك في نفس الحديث السابق حيث فسر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
…
}، وهذه الآية بأن المراد بهما الخوارج. وتقدم تخريج الحديث مستوفى (ص76).
(5)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(6)
في (ت): "والتشديد والتهديد".
(7)
المثبت هو ما في (غ)، وهو الصواب. وفي بقية النسخ: "ونقل عبيد عن حميد بن مهران
…
".
(8)
هو حميد بن أبي حميد مهران الخياط الكندي، أو المالكي، ثقة، روى عن الحسن، وروى عنه مسلم وأبو عاصم. انظر الكاشف للذهبي (1/ 193)، وتقريب التهذيب (1/ 204).
(9)
في (غ): "سمعت".
(10)
ساقطة من (ت).
(11)
بياض في (غ).
(13)
سورة آل عمران، آية (105).
(12)
ذكر هذا الأثر الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لعبد بن حميد. انظر الدر المنثور (2/ 289).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: "هُمُ الْحَرُورِيَّةُ"(1).
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ (2): سمعت مالكاً رضي الله عنه يَقُولُ: "مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (3)، قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ كَلَامٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ "، فَرَأَيْتُهُ يَتَأَوَّلُهَا (4) لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ (5).
وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ (6)، وَزَادَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: "إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ لأهل الأهواء"(7)(8).
وما ذكره مالك (9) فِي الْآيَةِ قَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَالَّذِي تَقَدَّمَ لِلْحَسَنِ (10).
وَعَنْ قَتَادَةَ (11) فِي قَوْلِهِ: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (12) يعني أهل البدع (13).
(1) وهم الخوارج، وتقدم قول أبي أمامة في الحديث أن المراد بالآية الخوارج. انظر (ص76).
(2)
هو عبد الله بن وهب، المحدث الكبير، وصاحب مالك. تقدمت ترجمته، وفي (ر):"ابن يعزوها".
(3)
سورة آل عمران، آية (106 107).
(4)
في (م): "يناولها".
(5)
انظر: الانتقاء لابن عبد البر (70)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 294)، والبيان والتحصيل لابن رشد (16/ 362 ـ 363).
(6)
هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي، مولاهم المصري، صاحب الإمام مالك، كان عالم الديار المصرية ومفتيها، وكان ثقة مأموناً، صاحب ورع توفي سنة إحدى وتسعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 120)، تقريب التهذيب (1/ 495)، ترتيب المدارك (4/ 433).
(7)
في جميع النسخ: "لأهل القبلة"، والمثبت من (غ)، وهو الأنسب لما قبله.
(8)
ذكر السيوطي في الدر المنثور مثل هذا القول للشعبي، وعزاه لابن أبي حاتم (2/ 292)، وأما قول الإمام مالك فلم أجده.
(9)
ساقطة من (ط).
(10)
تقدم (ص81)، والآيتان متجاورتان في المصحف، وقد سبق كلام أبي أمامة رضي الله عنه أن المراد بهما الخوارج (ص78)، وكذلك قول الشعبي كما في هامش (9).
(11)
هو قتادة بن دعامة السدوسي، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، كان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك. توفي سنة سبع عشرة ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 269)، تقريب التهذيب (2/ 123)، الكاشف للذهبي (2/ 341).
(12)
سورة آل عمران، آية (105).
(13)
ذكره الإمام البغوي في معالم التنزيل عند الآية التي تليها عند قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (1/ 339).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (1)، قَالَ:"تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ"(2).
وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} (3)، فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إليه، وهو السنّة، والسُّبُل هي سبل أهل الِاخْتِلَافِ الْحَائِدِينَ (4) عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ.
وَلَيْسَ (5) الْمُرَادُ سُبُلَ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَاصٍ لَمْ يَضَعْهَا أَحَدٌ طَرِيقًا (6) تُسْلَكُ دَائِمًا عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْوَصْفُ خَاصٌّ بِالْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا (7) مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ (8) عَنْ (9) سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ (10)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ (11) عَنْ عاصم بن بهدلة (12)
(1) سورة آل عمران، آية (106).
(2)
أخرجه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 72)، ولفظه:"فأما الذين ابيضّت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودّت وجوههم فأهل البدع والضلالة"، وابن أبي حاتم في التفسير (3950)، والآجري في الشريعة (2074)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي حاتم وأبو نصر السجزي في الإبانة، والخطيب في تاريخه (2/ 291)، وذكره الإمام البغوي في معالم التنزيل (1/ 339).
(3)
سورة الأنعام، آية (153).
(4)
في (خ) و (ر): "الجائرين".
(5)
في (م) و (ت): "ليس" بدون الواو.
(6)
في (ر): "طرقا".
(7)
في (ر): "ذلك".
(8)
هو إسماعيل القاضي، وقد مضت ترجمته (ص76).
(9)
في (ر): "بن".
(10)
هو أبو أيوب سليمان بن حرب الواشحي، إمام، ثقة، حافظ، تولّى قضاء مكة سنة أربع عشرة ومائتين، ثم عزل سنة تسع عشرة ومائتين. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين.
انظر: التاريخ الكبير للبخاري (4/ 8)، السير (10/ 330)، التقريب (1/ 322)، الكاشف (1/ 312).
(11)
هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل، إمام، حافظ، ثبت، قال عنه الذهبي في السير:"لا أعلم بين العلماء نزاعاً في أن حماد بن زيد من أئمة السلف، ومن أتقن الحفاظ وأعدلهم، وأعدمهم غلطاً، على سعة ما روى"، توفي سنة تسع وسبعين ومائة.
انظر: التاريخ الكبير (3/ 25)، السير (7/ 456)، الكاشف (1/ 187)، التقريب (1/ 197).
(12)
في (خ) و (ط): "بهالة"، وهو خطأ، والصواب المثبت.=
عَنْ أَبِي وَائِلٍ (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوماً، وَخَطَّ لَنَا سُلَيْمَانُ خَطًّا طَوِيلًا (3)، وَخَطَّ عَنْ يمينه وعن يساره، فقال:((هذه (4) سَبِيلُ اللَّهِ)، ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ) (5)، وَقَالَ:"هَذِهِ سُبُلٌ، وَعَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يعني الخطوط {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (6)(7).
=وهو الإمام أبو بكر عاصم بن بهدلة بن أبي النجود الأسدي، مولاهم، وهو المقرئ الكبير، قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش الأسدي، وحدث عنهما وعن أبي وائل وطائفة، تصدر للإقراء مدة بالكوفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، قال ابن حجر: صدوق له أوهام، وقال الدارقطني: في حفظه شيء. توفي سنة سبع وعشرين مئة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 256)، تهذيب التهذيب لابن حجر (5/ 38)، الجرح والتعديل للرازي (6/ 340).
(1)
هو الإمام الكبير أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، مخضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وروى عن عدد من الصحابة وغيرهم، وكان ثقة كثير الحديث، توفي سنة اثنتين وثمانين.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 354)، تهذيب التهذيب له (4/ 361)، الكاشف للذهبي (2/ 13).
(2)
هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
كأن الراوي يروي ما فعله سليمان بن حرب وهو يحدث أصحابه.
(4)
في (ت) و (ر) و (ط): "هذا".
(5)
ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(6)
سورة الأنعام، آية (153).
(7)
رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (1/ 435 ـ 465)، ورواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه (1/ 78)، ورواه الإمام المروزي في السنة عنه (ص10)، ورواه الإمام الآجري في الشريعة (ص10)، ورواه ابن جرير في تفسيره عند الآية (8/ 88)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنّة (1/ 80 ـ 81)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 293 ـ 294)، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك (2/ 239)، قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، وراه ابن عاصم في السنّة (1/ 13)، وحسن الشيخ الألباني إسناده في تعليقه على السنة، وكذلك في تعليقه على المشكاة (1/ 58).
قَالَ بَكْرُ (1) بْنُ الْعَلَاءِ (2): أَحْسَبُهُ أَرَادَ شَيْطَانًا من الإنس، وهي البدع، والله أعلم (3).
والحديث مخرج من طرق.
وعن عمرو (4) بْنِ سَلَمَةَ الْهَمْدَانِيِّ (5) قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي حلقة ابن مسعود رضي الله عنه فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بَطْحَاءُ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّبَ (6)، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ (7) بْنُ عُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنهما وَكَانَ أَتَى غَازِيًا ـ:"مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ " قَالَ: "هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ (8) الَّذِي (9) ثَبَتَ عَلَيْهِ أَبُوكَ حَتَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ"، ثُمَّ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ أَيْمَانٍ وَلَاءً، ثُمَّ خَطَّ فِي الْبَطْحَاءِ خَطًّا بِيَدِهِ، وَخَطَّ بجنبيه (10)(خطوطاً)(11)، وقال:
(1) في (ت): "أبو بكر"، وهو خطأ، والصواب المثبت.
(2)
هو بكر بن محمد بن العلاء بن محمد، أبو الفضل، القشيري. قاض من علماء المالكية من أهل البصرة، انتقل إلى مصر قبل سنة 330هـ، وتوفي بها عن نيف وثمانين سنة، توفي سنة 344هـ.
انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (2/ 366)، الأعلام للزركلي (2/ 69).
(3)
لم أجد هذا القول له، وسنن إسماعيل القاضي التي ينقل عنها المؤلف غير موجودة فيما أعلم.
(4)
في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عمر"، والصواب المثبت.
(5)
هو عمرو بن سلمة بن عميرة بن مقاتل بن الحارث الهمداني. روى عن علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكان شريفاً، وهو الذي بعثه الحسن بن علي بن أبي طالب مع محمد بن الأشعث في الصلح بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، وكان ثقة قليل الحديث.
انظر: طبقات ابن سعد (6/ 171)، الجرح والتعديل للرازي (6/ 235)، تهذيب التهذيب لابن حجر (8/ 42).
(6)
الحصباء: الحصى، وحصبت المسجد تحصيباً إذا فرشته بها. انظر الصحاح للجوهري (1/ 112).
(7)
لفظ الجلالة ساقط من (ت)، والذي وجدته في مصادر الأثر "عبد الله"، وليس عبيد الله، وكلاهما من ولد عمر رضي الله عنه.
(8)
في (م): "العكبة".
(9)
العبارة في (ت): "ورب الكعبة هو الذي
…
".
(10)
في (ر): "بجنبتيه".
(11)
في (م) و (خ) و (ت): "خطاطاً".
تَرَكَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرَفِهِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْخُطُوطِ هَلَكَ (1).
وَفِي رِوَايَةٍ: يَا أَبَا (2) عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ:"تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جوادٌّ (3)، وَعَنْ يَسَارِهِ جوادُ، وَعَلَيْهَا (4) رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ: هَلُمَّ لَكَ هَلُمَّ لَكَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنِ اسْتَقَامَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ"، ثُمَّ تَلَا (5) ابْنُ مَسْعُودٍ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (6) الْآيَةَ كُلَّهُا" (7).
وَعَنْ مُجَاهِدٍ (8) فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (9) قال: "البدع والشبهات"(10).
(1) سأذكر تخريجه في الأثر بعده لأنه أشهر، وممن ذكر حلف ابن مسعود أن الصراط المستقيم هو ما كان عليه عمر الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص251).
(2)
ساقطة من (ر).
(3)
جواد جمع جادة. وهي معظم الطريق. انظر الصحاح للجوهري (2/ 452).
(4)
في (ت): "عليهم".
(5)
ساقطة من أصل (م)، ومثبتة في هامشها.
(6)
سورة الأنعام، آية (153).
(7)
روى هذا الأثر الإمام ابن جرير في تفسيره (8/ 89)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، وذكر أن السائل هو عبد الله بن عمر (ص39)، وذكره الإمام القرطبي في تفسيره وعزاه للإمام الطبري في آداب النفوس (7/ 138)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه أيضاً إلى عبد الرزاق وابن مردويه.
انظر: الدر (3/ 386)، وكذلك فعل الإمام الشوكاني في فتح القدير (2/ 179).
(8)
هو الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، شيخ القراء والمفسرين، وهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، أخذ عنه القرآن والتفسير والفقه، مات رحمه الله وهو ساجد سنة اثنتين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 449)، تهذيب التهذيب (10/ 42)، الكاشف (3/ 106).
(9)
سورة الأنعام، آية (153).
(10)
أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب في كراهية أخذ الرأي (1/ 79)(ص12)، وابن جرير في التفسير (1468)، وابن أبي حاتم (8104)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 298)، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 386).
وعن عبد الرحمن بن مهدي (1) قال (2): سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ السُّنَّةِ؟ قَالَ: "هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ، وَتَلَا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) "(4).
قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ (5): يُرِيدُ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَّ لَهُ خَطًّا (6)، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَهَذَا التَّفْسِيرُ (7) يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِ طُرُقِ الْبِدَعِ، لَا تَخْتَصُّ بِبِدْعَةٍ دُونَ أُخْرَى.
وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} (8)، فَالسَّبِيلُ الْقَصْدُ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ (من الطرق)(9) جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ عَادِلٌ عَنْهُ، وَهِيَ طُرُقُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، أَعَاذَنَا (10) اللَّهُ مِنْ سُلُوكِهَا بِفَضْلِهِ، وَكَفَى بِالْجَائِرِ أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ، فَالْمَسَاقُ يدل على التحذير والنهي.
(1) هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، الإمام، الناقد، سيد الحفاظ، روى عن الإمام مالك وابن الماجشون وغيرهما، وروى عنه ابن المبارك وابن وهب وأحمد وغيرهم. وكان إماماً حجة قدوة في العلم والعمل. توفي بالبصرة سنة 198هـ.
(2)
في جميع النسخ: "قد"، عدا (غ).
انظر: التاريخ الكبير (5/ 354)، الحلية (9/ 3)، السير (9/ 192)، تقريب التهذيب (1/ 499).
(3)
سورة الأنعام، آية (153).
(4)
انظر: كتاب الانتقاء لابن عبد البر (ص35)، وفي معناه ما ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك، قال: سأل رجل مالكاً من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ قال: "الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري". انظر: ترتيب المدارك (1/ 172).
(5)
تقدمت ترجمته (ص85).
(6)
في (ت): "خططاً".
(7)
في (خ): "فهذا الحديث التفسير".
(8)
سورة النحل، آية (9).
(9)
ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ) و (ر).
(10)
في (غ): "أنقذنا".
وَذَكَرَ (1) ابْنُ وَضَّاحٍ (2) قَالَ: سُئِلَ عَاصِمُ بْنُ بهدلة (3) وقيل له (4): يا أبا بكر، أرأيت (5) قول الله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} (6)؟ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ (7) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: "خَطَّ عَبْدُ اللَّهِ (8) خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا، فَقَالَ لِلْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ)، وَلِلْخُطُوطِ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ (9)(هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ (10)، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)، وَالسَّبِيلُ مُشْتَرَكَةٌ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (11) إلى آخرها (12).
وعن (13) التستري (14): {قَصْدُ السَّبِيلِ} طريق السنة (15)، {وَمِنْهَا جَائِرٌ} (16) يَعْنِي إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمِلَلُ وَالْبِدَعُ (17).
وَعَنْ مجاهد {قَصْدُ السَّبِيلِ} : "أي (18) المقتصد منها بين الغلوّ
(1) في (م): "ذكر"، بدون الواو.
(2)
هو الإمام محمد بن وضاح الأندلسي، محدث الأندلس. مضت ترجمته (ص39).
(3)
تقدمت ترجمته (ص84).
(4)
ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(5)
في (خ) و (ت) و (ط): "هل رأيت".
(6)
سورة النحل، آية (9).
(7)
تقدمت ترجمته (ص84).
(8)
في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عبد الله بن عبد الله".
(9)
في (ت): "وعن شماله".
(10)
في (ر): "مفترقة".
(11)
سورة الأنعام، آية (153).
(12)
رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص38)، وتقدم تخريجه (ص85).
(13)
في (ط): "عن" بدون الواو.
(14)
هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري، شيخ العارفين، الصوفي الزاهد، لقي ذا النون المصري وصحبه، وله كلمات نافعة، ومواعظ حسنة. توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: ثلاث وتسعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 330)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 189)، شذرات الذهب (2/ 182)، طبقات الصوفية للسلمي (ص206)، الرسالة القشيرية للقشيري (ص18).
(15)
في (غ): "الجنة".
(16)
سورة النحل، آية (9).
(17)
ذكره الإمام البغوي في تفسيره، وعزاه لسهل بن عبد الله وعبد الله بن المبارك. انظر معالم التنزيل (3/ 63).
(18)
ساقطة من (ت).
وَالتَّقْصِيرِ" (1)، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْجَائِرَ هُوَ الْغَالِي أَوِ الْمُقَصِّرُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْبِدَعِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "فَمِنْكُمْ جَائِر"(2)، قَالُوا: يَعْنِي هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ الْآيَةِ قَبْلَهَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} (3).
هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ (4) من طريق عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} مَنْ هُمْ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ، وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يَا عَائِشَةُ، إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مني براء"(5).
(1) روى ابن جرير عن مجاهد عن الآية قوله: "طريق الحق على الله"(21493)، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (12479).
(2)
ذكره عنه الإمام السيوطي في الدر المنثور (5/ 115)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف. وذكره الإمام الشوكاني في فتح القدير (3/ 151)، وذكر الإمام ابن كثير في تفسيره (2/ 873)، أنها قراءة ابن مسعود أيضاً، وكذلك ذكرها عنه الشوكاني في نفس الموضع السابق.
(3)
سورة الأنعام، آية (159).
(4)
في (غ) و (ر): "بعض الأحاديث".
(5)
رواه الإمام الطبراني في معجمه الصغير عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه (1/ 203)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة (ص8) برقم (4)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 303)، ورواه أبو نعيم في الحلية (4/ 138)، وقال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث شعبة، تفرد به بقية. وقد ذكر الحديث الإمام ابن كثير في تفسيره عند الآية، وقال: وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضاً، ولا يصح رفعه (2/ 314)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه بقية ومجالد بن سعيد وكلاهما ضعيف (1/ 193). وقال عنه الألباني كما في ظلال الجنة: إسناده ضعيف رجاله موثقون غير مجالد، وهو ابن سعيد وليس بالقوي (ص8) برقم (4).
قَالَ (1) ابْنُ عَطِيَّةَ (2): "هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ، وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهُا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ"(3).
وَيُرِيدُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (4) فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ (5)، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ (6).
وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ (7) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حنيفة رضي الله عنه أنّه
(1) في (ر): "وقال".
(2)
هو أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي، كان إماماً في الفقه، والتفسير، وفي العربية، وكان ذكياً فطناً مدركاً، من أوعية العلم، ووالده أحد حفاظ الحديث، تولّى قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
انظر: السير (19/ 586)، العبر (4/ 43)، شذرات الذهب (4/ 59)، بغية الملتمس (ص427).
(3)
ذكر ذلك الإمام ابن عطية عند قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} آية (153) من سورة الأنعام، ولم يذكر ذلك عند هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} آية (159) من سورة الأنعام، ومعنى الآيتين متقارب. انظر المحرر الوجيز لابن عطية (5/ 400).
(4)
هو الإمام العلامة أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي القرطبي، صاحب التصانيف الفائقة، طلب العلم، وأدرك الكبار، وكان حافظاً متقناً، صاحب سنة واتّباع، وكان أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثم تحوّل مالكياً مع ميل إلى فقه الشافعي في مسائل، وكان حافظ المغرب في زمانه، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 153)، وفيات الأعيان لابن خلكان (7/ 66)، طبقات الحفاظ للسيوطي (ص431).
(5)
ساقطة من (ت).
(6)
انظر كلام الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 138، 139)، وسوف يعقد المؤلف فصلاً في ذمّ الرأي وبيان المراد به ضمن هذا الباب (ص187).
(7)
هو أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، يعرف بابن اللجام. كان من كبار المالكية، وكان من أهل العلم والمعرفة، وقد عني بالحديث العناية التامة وقد شرح صحيح البخاري في عدة أسفار، توفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 74)، العبر للذهبي (3/ 219)، الوافي بالوفيات للصفدي (12/ 56).
قَالَ: "لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي (1) رَبَاحٍ (2) بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قلت: نعم، قال: فمن (3) أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدْرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ"(4).
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ، قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: "أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ (5) مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ"(6)، وَتَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (7).
قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ (8): "أَحْسَبُهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ" أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذلك الوقت حاجّة"(9).
(1) في (م) و (ط): "عطاء بن رباح".
(2)
هو الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم، المكي، ولد في خلافة عثمان، ونشأ بمكة، وحدث عن عدد من الصحابة، كابن عباس وغيره، وكان ثقة، فقيهاً، عالماً، كثير الحديث. توفي سنة أربع عشرة ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 78)، طبقات ابن سعد (5/ 467)، التاريخ للبخاري (6/ 463).
(3)
في (ط): "من" بدون الفاء.
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 314)، وانظر: مناقب أبي حنيفة للكردي (76)، والعقد الثمين للفاسي (6/ 91).
(5)
في (ت): "براء".
(6)
ذكر السيوطي في الدر المنثور أثراً قريباً منه عن الحسن، وقيّده بيوم مقتل عثمان رضي الله عنه، ولفظه: عن الحسن قال: رأيت يوم قتل عثمان ذراع امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قد أخرجت من بين الحائط والستر، وهي تنادي: ألا إن الله ورسوله بريئان من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً. وقد عزاه إلى عبد بن حميد. انظر الدر المنثور (3/ 403).
(7)
سورة الأنعام، آية (159).
(8)
تقدمت ترجمته (ص76).
(9)
ذكر الإمام ابن جرير عن أم سلمة أنها قالت: ليتّق الله امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، ثم قرأت:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (8/ 106).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (1).
وَعَنْ أَبِي أمامة رضي الله عنه: "هُمُ الْخَوَارِجُ"(2).
قَالَ الْقَاضِي (3): "ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ (4) عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتَخَاصَمُوا وتفرقوا وَكَانُوا شِيَعًا [{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}] (5) "(6).
ومنها قوله: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *} (7). قُرِئَ {فَارَقُواْ دِينَهُمْ} (8)، وَفُسِّرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنهم الخوارج (9).
(1) رواه عنه ابن جرير في تفسيره (8/ 105)، وذكره البخاري في خلق أفعال العباد (66)، وذكره ابن كثير عنه (2/ 314)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضاً للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر الدر المنثور (3/ 402).
(2)
ذكره عنه الإمام ابن كثير في تفسيره، وقال: وروي عنه مرفوعاً ولا يصح (2/ 314)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عن أبي أمامة، قال: هم الحرورية، وعزاه إلى عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر: الدر المنثور (3/ 402).
(3)
هو إسماعيل القاضي كما بينه المؤلف في الصفحة التالية.
(4)
ساقطة من (غ).
(5)
ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ).
(6)
لم أتمكن من الرجوع إلى قوله لعدم وجود كتابه.
(7)
سورة الروم، آية (31 ـ 32).
(8)
هي قراءة حمزة والكسائي كما ذكره الإمام أبو زرعة في كتابه حجة القراءات (ص278)، والإمام ابن الجزري في النشر في القراءات العشر (2/ 216)، وقرأ الباقون:{فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ، وهذا الخلاف في هذه الآية هو نفسه في آية الأنعام:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (159)، وقراءة {فارقوا دينهم} مروية عن علي رضي الله عنه، روى ذلك الإمام ابن جرير في تفسيره (8/ 104)، وذكرها القرطبي في تفسيره (14/ 32)، والشوكاني في فتح القدير (4/ 225)، والسيوطي في الدر المنثور، وعزاها أيضاً إلى الفريابي وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (3/ 402).
(9)
لم أجد هذا التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمفسّرون عند هذه الآية يفسّرونها=
ورواه أبو أمامة رضي الله عنه مَرْفُوعًا (1).
وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، قَالُوا: رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (2).
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ ابْتَدَعَ حَسْبَمَا قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (3)، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي (4) الْآيِ الْأُخَرِ (5).
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (6).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أَنْ لَبَّسَكُمْ (7) شِيَعًا: هُوَ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ (8).
وَيَكُونُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} تَكْفِيرُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ حَتَّى يَتَقَاتَلُوا (9)، كَمَا جَرَى لِلْخَوَارِجِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
=بما فسروا به آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
…
} (159)، وقد تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه أنها في هذه الأمة (ص93).
(1)
ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه مرفوعاً ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عند آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
…
}، وعزاه لابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه (3/ 402)، وقد ذكر الإمام ابن كثير قول أبي أمامة أنهم الخوارج، ثم قال: وروي عنه مرفوعاً ولا يصح (2/ 314).
(2)
تقدم ذكر الحديث (ص86).
(3)
تقدم كلامه (ص93).
(4)
ساقطة من (م) و (ت).
(5)
يريد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} سورة الأنعام، آية (159).
(6)
سورة الأنعام، آية (65).
(7)
في (ر): "لبسهم".
(8)
رواه عنه الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 221)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضاً لابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (3/ 283)، وذكره الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87).
(9)
قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. انظر الفقرة السابقة.
وقيل: معنى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} مَا فِيهِ إِلْبَاسٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ (1).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ (2) وَأَبُو الْعَالِيَةِ (3): "إِنَّ الْآيَةَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"(4).
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "هُنَّ أَرْبَعٌ، ظَهَرَ اثْنَتَانِ (5) بَعْدَ (6) وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأُلْبِسُوا شيعاً، وأذيق بعضهم (7) بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، فَهُمَا وَلَا بُدَّ واقعتان: الخسف من تحت أرجلكم، والرجم (8) والمسخ من فوقكم"(9).
(1) قال ابن جرير عن قوله {يَلْبِسَكُمْ} : "أو يخلطكم {شِيَعًا}: فرقاً، فهو من قولك: لبست عليه الأمر إذا خلطت". انظر تفسير ابن جرير (7/ 221)، وانظر زاد المسير لابن الجوزي (3/ 59)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 9)، وتفسير ابن كثير (2/ 230)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 126).
وهذه العبارة هي عبارة الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87).
(2)
تقدمت ترجمته (ص87).
(3)
هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، الإمام، المقرئ المفسر، كان مولى لامرأة من بني رياح بن يربوع، أسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سمع من عدد من الصحابة، حفظ القرآن، وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، وبَعُد صيته. توفي سنة تسعين وقيل: ثلاث وتسعين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 207)، حلية الأولياء (2/ 217)، شذرات الذهب (1/ 102).
(4)
عزو هذا القول إلى مجاهد وأبي العالية هو ما قاله الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87)، وقبله الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 222)، ورجح الإمام ابن جرير أن الآية للمشركين، إلا أن تهديدها عام لمن سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله ورسوله. انظر تفسير ابن جرير (7/ 225 ـ 226).
(5)
في (خ) و (ت): "ثنتان".
(6)
ساقطة من (ت).
(7)
في (خ) و (ط): "بعضكم".
(8)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ)، وهو الموافق لما في الحوادث والبدع للطرطوشي (ص89)، والمؤلف ينقل عنه هنا.
(9)
رواه عن أبي العالية الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 222)، ورواه أيضاً عن أُبي بن كعب رضي الله عنه (7/ 226)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7398)، وذكره الإمام ابن كثير في تفسيره عن أُبي بن كعب (2/ 229)، وذكره السيوطي في الدر المنثور عن أُبي بن كعب، وعزاه أيضاً لابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية. انظر الدر المنثور (3/ 284).
وللإمام ابن حجر في الفتح بحث حسن حول الجمع بين هذا الأثر عن أُبي رضي الله عنه،=
وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَهْوَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَمَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَفِيمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (1)، قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِينَ:"إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ، {إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} قال: أهل (2) الحق ليس بينهم اخْتِلَافٌ"(3).
وَرُوِيَ (4) عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ (5) أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَتِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهُا (6) وَاحِدًا لَقَالَ الْقَائِلُ: لَعَلَّ الْحَقَّ فِيهِ، فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّقَتْ عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يتفرّق"(7).
وعن عكرمة (8): {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يَعْنِي فِي الْأَهْوَاءِ، {إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} هم أهل السنة" (9).
=وما ورد من الأحاديث الدالّة على أن الله لا يعذّب هذه الأمة بما عذب به من قبلها. انظر فتح الباري لابن حجر (8/ 291).
(1)
سورة هود، آية (118 ـ 119).
(2)
في (ط): "فإن أهل الحق".
(3)
رواه عنه الإمام ابن جرير في تفسيره (12/ 141)، وذكره ابن عبد البر في الجامع (1753)، وعزاه السيوطي أيضاً لأبي الشيخ. انظر الدر المنثور (4/ 491).
(4)
في (م): "روى" بدون الواو.
(5)
هو مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، الإمام، القدوة، كان ثقة، عابداً، فاضلاً، حدّث عن أبيه رضي الله عنه وعدد من الصحابة، مات سنة ست وثمانين وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 187)، تهذيب التهذيب (10/ 173)، شذرات الذهب (1/ 110).
(6)
ساقطة من (ط).
(7)
رواه عنه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 149)، وذكره ابن عبد البر في الجامع (1752).
(8)
هو أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله القرشي، مولاهم، وهو مولى ابن عباس، وأصله بربري، ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، قد روى عن عدد من الصحابة، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة. توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك.
انظر: تهذيب التهذيب (7/ 263)، شذرات الذهب (1/ 130)، الجرح والتعديل (7/ 7).
(9)
لم أجده بلفظه، وإنما روى عنه ابن جرير عند الآية قوله:"لا يزالون مختلفين في الهوى"، انظر تفسير ابن جرير (12/ 142)، وسنن سعيد بن منصور (5/ 368)، وتفسير ابن أبي حاتم (11289).
ونقل أبو بكر بن ثابت الخطيب (1)، عن منصور بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ وَرَجُلٌ خَلْفِي قَاعِدٌ، فَجَعَلَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ({إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (3)، قال: نعم {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (4) عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، {إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فَمَنْ رَحِمَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ" (5).
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكِ بْنِ أنس رضي الله عنهما أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ (6).
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ بسط يأتي بعد هذا (7)، إِنْ شَاءَ اللَّهُ (8).
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرٍو (9) عن (10) مصعب (11) قال: سألت
(1) هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد البغدادي، كان إماماً من أئمة الحديث وحفاظه، فقد جمع وصنّف وصحح، وعلّل وجرّح، وعدّل وأرّخ، وصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق، وكان من كبار الشافعية، ومن أشهر كتبه تاريخ بغداد. توفي رحمه الله سنة 460هـ.
انظر: السير (18/ 70، العبر (2/ 314)، البداية والنهاية (12/ 108).
(2)
في (خ) و (ط): "مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، وهو إضراب عن الخطأ والصواب المثبت، وهو منصور بن عبد الرحمن الغداني الأشل، صدوق يهم. روى عن الحسن والشعبي، وروى عنه ابن علية وابن المفضل.
انظر: تقريب التهذيب (2/ 276)، الكاشف (3/ 156).
(3)
سورة هود، الآية (118 ـ 119).
(4)
ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(5)
رواه الإمام ابن جرير في تفسيره (12/ 141)، وعزاه السيوطي أيضاً لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. انظر الدر المنثور (4/ 491)، ورواه عبد الله بن أحمد في السنة عن منصور بن عبد الرحمن قال: سألت الحسن عن قوله: "ولا يزالون
…
"، فذكره (2/ 430)، وسعيد بن منصور في السنن (5/ 367)، والخطيب في المتفق والمفترق (3/ 1923)، والآجري في الشريعة (2/ 719 ـ 721).
(6)
رواه سعيد بن منصور في السنن (5/ 367)، وابن أبي حاتم في التفسير (11296)، والفريابي في القدر (61)، وانظر: تفسير ابن جرير (12/ 143)، والمحرر الوجيز لابن عطية (9/ 240)، وتفسير ابن كثير (2/ 866).
(7)
ساقطة من (ط).
(8)
تكلم المؤلف عن هذه الآية بشكل أوسع في الباب التاسع. انظر المطبوع (2/ 165).
(9)
في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عمر".
(10)
في جميع النسخ: "بن"، والتصويب من صحيح البخاري (8/ 425).
(11)
مصعب هو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، روى عن أبيه وطلحة، وكان ثقة. توفي بالكوفة سنة ثلاث ومائة.=
أبي (1){قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (2) هُمُ الْحَرُورِيَّةُ (3)؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَذَّبُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (4)، وكان (سعد)(5) يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ (6).
وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (7) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (8) أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ. ولكن الحرورية الذين قال الله (9): {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (10) "(11).
=انظر: الكاشف للذهبي (3/ 130)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 251).
(1)
عبارة (ط): "سألت أبي عن قوله تعالى"، والمثبت هو الموافق لرواية البخاري والمراد بأبيه هو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه. انظر فتح الباري (8/ 425).
(2)
سورة الكهف، آية (103).
(3)
الحرورية من أسماء الخوارج، سموا بذلك نسبة إلى حروراء، وهي قرية بظاهر الكوفة، وقيل على ميلين منها، نزل بها الخوارج الذين خالفوا علياً رضي الله عنه، وكان ابتداء خروجهم منها.
انظر: معجم البلدان لياقوت (3/ 256)، فتح الباري (8/ 425).
(4)
سورة البقرة، آية (27).
(5)
في جميع النسخ: "شعبة"، والتصويب من صحيح البخاري (8/ 425).
(6)
رواه الإمام البخاري في صحيحه (8/ 425 مع الفتح)، والإمام ابن جرير في تفسيره (16/ 33)، وعزاه السيوطي لعبد الرزاق والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه. انظر الدر المنثور (5/ 465).
(7)
هو أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني المروزي، الحافظ، الإمام، شيخ الحرم، ومؤلف كتاب السنن، روى عن مالك والليث وغيرهم، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهم. وكان ثقة صادقاً. توفي سنة سبع وعشرين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 586)، طبقات ابن سعد (5/ 502)، الجرح والتعديل للرازي (4/ 68).
(8)
سورة الكهف، آية (104).
(9)
أي الذين قال الله فيهم.
(10)
سورة الصف، آية (5).
(11)
رواه عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 641)، وفيه الخوارج بدل من الحرورية، ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 370)، وابن جرير في تفسيره (16/ 33)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (5/ 465).
وَخَرَّجَ عَبْدُ (1) بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} إلى قوله:{يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قُلْتُ: أَهُمُ (2) الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: "لَا (3)، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} (4) "(5).
[ففي هذه الروايات عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الآية، يشمل أهل البدعة؛ لأن أهل حروراء اجتمعت فيهم هذه الأوصاف التي هي نقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض](6).
فَالْأَوَّلُ (7): لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُمْ تأولوا فيه (8) التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا فَعَلَ الْمُبْتَدِعَةُ، وَهُوَ بَابُهُمُ الذي دخلوا منه (9).
(1) في (م) و (خ) و (ط): "عبيد"، والصواب المثبت.
وهو عبد بن حميد ويقال عبد الحميد بن نصر الكسي، ويقال الكشي، الإمام، الحافظ، الحجة، ولد بعد السبعين ومائة. حدّث عنه مسلم والترمذي والبخاري تعليقاً. كان ممن جمع وصنّف. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 235)، تهذيب التهذيب لابن حجر (6/ 455)، شذرات الذهب لابن العماد (2/ 120).
(2)
في (ر): "هم".
(3)
ساقطة من (ت).
(4)
سورة البقرة، آية (27).
(5)
هذا اللفظ هو لفظ الإمام البخاري إلاّ أنه قال هنا: "كفروا بمحمد"، وقال هناك:"كذبوا بمحمد"، وقد تقدم تخريجه قريباً.
(6)
ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ) و (ر).
(7)
من هنا يبدأ المؤلف في تنزيل الصفات الواردة في الآية على الخوارج وأعمالهم، علماً بأن الآية لم تنص على الخوارج، ولم تنزل فيهم. ولكنهم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل، وقد ذكر ذلك الإمام ابن كثير في تفسيره (1/ 101). وسوف يشير إلى ذلك المؤلف (ص105).
(8)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(9)
في جميع النسخ "فيه" عدا (غ) و (ر).
وَالثَّانِي (1): لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَذَا التَّصَرُّفَ.
فَأَهْلُ حَرُورَاءَ (2) وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ قَطَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} (3) عن قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) وغيرها (5).
وَكَذَا فَعَلَ سَائِرُ الْمُبْتَدِعَةِ حَسْبَمَا يَأْتِيكَ بِحَوْلِ الله (6).
ومنه (7): ما (8) روي عن عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ (9) قَالَ: (بَلَغَ عُمَرُ بْنُ
(1) بعد أن تكلم المؤلف عن نقضهم لعهد الله فإنه يذكر هنا قطعهم لما أمر الله به أن يوصل.
(2)
تقدم التعريف بها (ص99).
(3)
سورة الأنعام: آية (57).
(4)
سورة المائدة: آية (95).
(5)
يشير المؤلف بهذا الكلام إلى احتجاج الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه استنكاراً للتحكيم. فقد قالوا كيف يحكم الرجال في أمر الله، واحتجوا بقول الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} . وقد أرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس ليجادلهم فيما ذهبوا إليه من آراء، وقد أجاب ابن عباس رضي الله عنه عن هذه المسألة بأن الله قد قبل حكم الرجال فيما هو أهون من دماء المسلمين، وذلك مثل قبول حكم الرجال في جزاء الصيد الذي يقتله المحرم، فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} المائدة (95)، ثم أجاب رضي الله عنه عن بقية آرائهم. فرجع منهم ألفان إلى المسلمين.
انظر هذه القصة في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 104)، كما ذكرها المؤلف في نفس الكتاب (2ج187) من المطبوع. وذكرها ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص112 ـ 114)، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 202 ـ 203)، وانظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 90، 91).
(6)
تناول المؤلف مناهج المبتدعة في الاستدلال في الباب الرابع من الكتاب (1/ 220 ـ 285) من المطبوع، وخاصة (ص237 ـ 245) فإن له تعلقاً بمسألتنا هنا.
(7)
أي: ومن قَطْع بعض الأدلة عن بعض فعل غيلان الدمشقي الذي قطع أول سورة الإنسان عن آخرها كما سيذكره المؤلف.
(8)
ساقطة من (م).
(9)
هو عمرو بن مهاجر بن أبي مسلم الأنصاري الدمشقي، ولي شرطة عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة. توفي سنة تسع وثلاثين ومائة.
انظر: التاريخ الكبير (6/ 373)، تقريب التهذيب (2/ 79)، والكاشف للذهبي (2/ 296).
عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله أَنَّ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ (1) يَقُولُ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَحَجَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ، مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ أَلَّا يَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ:{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا *إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *} (2)، قَالَ عُمَرُ: اقْرَأْ إِلَى (3) آخِرِ السُّورَةِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} (4)، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ يَا غَيْلَانُ؟ قَالَ: أَقُولُ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَبَصَّرْتَنِي، وَأَصَمَّ فَأَسْمَعْتَنِي، (وَضَالًّا فَهَدَيْتَنِي) (5). فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ غَيْلَانُ صَادِقًا وَإِلَّا فَاصْلُبْهُ (6). قَالَ: فَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ، فَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَارَ الضَّرْبِ بِدِمَشْقَ. فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى هِشَامٍ (7) تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ وَالذُّبَابُ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ، هَذَا قَضَاءٌ وَقَدَرٌ. قَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا هَذَا قَضَاءٌ ولا قدر، فبعث إليه هشام فصلبه" (8).
(1) هو غيلان بن مسلم الدمشقي، القدري، تنسب إليه فرقة الغيلانية من القدرية، وهو ثاني من تكلم في القدر ودعا إليه، فقد سبقه معبد الجهني، قتل بسبب بدعته وصلب على باب كيسان بدمشق.
انظر: ميزان الاعتدال (3/ 338) ولسان الميزان (4/ 424) والأعلام للزركلي (5/ 124)، والملل والنحل للشهرستاني (ص46).
(2)
سورة الإنسان: آية (1 ـ 3).
(3)
ساقطة من (ر).
(4)
سورة الإنسان: آية (30، 31).
(5)
ما بين المعكوفين ساقط من (خ).
(6)
في (ط): "فاصلة"، وفي (ت):"فأصابه".
(7)
هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان، بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك، سنة خمس ومائة، وكان حازم الرأي، ذكياً، مدبراً، فيه حلم وأناة. توفي سنة خمس وعشرين ومائة.
انظر: البداية والنهاية (9/ 365)، سير أعلام النبلاء (5/ 351)، فوات الوفيات (4/ 238).
(8)
روى هذه القصة الفريابي في القدر (279)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (4/ 712 ـ 713)، والإمام الآجري في الشريعة (ص228) بلفظ المؤلف تماماً، كما=
وَالثَّالِثُ (1): لِأَنَّ الْحَرُورِيَّةَ جَرَّدُوا السُّيُوفَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ (2) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ شَائِعٌ، وَسَائِرُهُمْ يُفْسِدُونَ بِوُجُوهٍ مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَقْتَضِيهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (3)، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (4)، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْأُمَّةَ تَتَفَرَّقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)(5).
وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِمُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ (6) أَيْضًا، فَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ (7).
ثُمَّ فَسَّرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (8) أَنَّ ذَلِكَ بسبب الزيغ الحاصل فيهم، وذلك قوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (9)، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (10) الْآيَةَ.
فَإِنَّهُ (11) رضي الله عنه أَدْخَلَ (12) الْحَرُورِيَّةُ في الآيتين بالمعنى، وهو الزيغ
=ذكرها بلفظها ومن نفس الطريق الإمام ابن بطة في كتاب القدر من كتاب الإبانة الكبرى (ص339 ـ 440)، (وهو رسالة دكتوراه في جامعة أم القرى، بتحقيق الدكتور عبد الله آدم الأثيوبي)، وروى قصته أيضاً مع عمر بن عبد العزيز عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 429).
(1)
يريد الوصف الثالث في آية البقرة والرعد، وهو الفساد في الأرض.
(2)
في (ر): "في كثير".
(3)
سورة آل عمران: آية (105).
(4)
سورة الأنعام: آية (159).
(5)
تقدم تخريج حديث الافتراق وبيان صحته في المقدمة (ص12)، وسوف يذكر المؤلف حديث الافتراق وبعض رواياته في الباب التاسع (2/ 189) من المطبوع. وقد جمع الشيخ سلمان العودة أحاديث الافتراق ودرس أسانيدها في كتابه "صفة الغرباء"(ص20 ـ 50).
(6)
هو ابن سعد بن أبي وقاص. تقدم ذكره (ص99).
(7)
انظر: الرواية الأولى التي ذكرها المؤلف (ص99).
(8)
تقدمت هذه الرواية (ص99).
(9)
سورة الصف: آية (5).
(10)
سورة آل عمران: آية (7).
(11)
في (ر): "فكأنه".
(12)
عبارة (خ) و (ط): "فإنه أدخل رضي الله عنه
…
".
فِي إِحْدَاهُمَا (1)، وَالْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأُخْرَى (2) لِأَنَّهَا فيهم موجودة.
فآية الرعد (3) تشمل (4) بِلَفْظِهَا، لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لُغَةً، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْكُفَّارِ خُصُوصًا فَهِيَ تُعْطِي أَيْضًا فِيهِمْ (5) حُكْمًا مِنْ جِهَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ (6) عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ (7) حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الأوصول (8).
وَكَذَلِكَ آيَةُ الصَّفِّ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ مُوسَى عليه السلام ومن هنا كان (سعد)(9) يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ ـ أَعْنِي الْحَرُورِيَّةَ ـ، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِيهَا:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (10) وَالزَّيْغُ أَيْضًا كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، فَدَخَلُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (11).
وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ (12) أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ مِنْ أهل البدعة بالحرورية، بل تعم
(1) وهي آية الصف {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} رقم (5).
(2)
وهي آية البقرة رقم (27)، وآية الرعد رقم (25)، فكلا الآيتين تناول الأوصاف الثلاثة: وهي نقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض.
(3)
ذكر المؤلف آية الرعد ولم يذكر آية البقرة، فلعله اكتفى بالاستشهاد بها، علماً بأن الإمام ابن حجر في الفتح تكلم على الآية التي استشهد بها سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه على أنها آية البقرة. انظر الفتح (8/ 425).
(4)
في (ر): "تشتمل".
(5)
أي: في الخوارج وغيرهم من المبتدعة الذين يتصفون بما ورد في الآية من الصفات.
(6)
في (ت): "الأجزاء".
(7)
أي المذكورة في آية البقرة رقم (27). انظر هامش (8).
(8)
يريد بهذا ـ والله أعلم ـ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهو قول جمهور الأصوليين. انظر: روضة الناظر لابن قدامة مع شرحه نزهة الخاطر العاطر (2/ 123)، إرشاد الفحول للشوكاني (133)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 273).
في جميع النسخ "شعبة"، والصواب "سعد" كما في صحيح البخاري، وهو سعد ابن أبي وقاص كما مر في الحديث (ص99).
(9)
سورة الصف: آية (5). وتسمية سعد رضي الله عنه لهم بالفاسقين قد يكون بسبب ذكر ذلك في سورة البقرة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ} ، ثم وصفهم الله بالأوصاف المذكورة. انظر سورة البقرة: آية (26، 27).
(10)
سورة الصف: آية (5).
(11)
في (غ): "يعلم".
كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي أَصْلُهَا الزَّيْغُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى.
وَإِنَّمَا فَسَّرَهَا سَعْدٌ رضي الله عنه بِالْحَرُورِيَّةِ، لأنه إنما سئل عنهم، (وإنما سُئِلَ عَنْهُمْ)(1) عَلَى الْخُصُوصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ من (2) أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَلَا يقتضى ذلك تخصيصاً.
وأما الآية (3) المسؤول عَنْهَا أَوَّلًا، وَهِيَ آيَةُ الْكَهْفِ (4)، فَإِنَّ سَعْدًا نَفَى أَنْ تَشْمَلَ الْحَرُورِيَّةَ.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا بِالْحَرُورِيَّةِ أَيْضًا. فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (5) عَنْ أَبِي (6) الطُّفَيْلِ (7) قَالَ: (قَامَ (8) ابْنُ الكوَّاء (9) إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(2)
ساقطة من (م) و (ط).
(3)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(4)
هي آية الكهف رقم (103) وهي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} .
(5)
تقدم ذكره وترجمته (ص100).
(6)
في (ط): "ابن".
(7)
هو الصحابي عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، خاتم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، كان من شيعة الإمام علي رضي الله عنه وكان ثقة فيما ينقله، صادقاً، عالماً. شاعراً، فارسا. شهد مع علي رضي الله عنه حروبه، وعمر دهراً طويلاً. توفي بمكة سنة عشر ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 467)، الإصابة لابن حجر (4/ 113)، أسد الغابة لابن الأثير (3/ 145).
(8)
ساقطة من (ت).
(9)
هو عبد الله بن الكواء اليشكري. خرج مع الخوارج إلى حروراء، وجعلوه أميراً للصلاة، وكان من أول من بايع عبد الله بن وهب الراسي أمير الخوارج وقد رشحه الخوارج ليجادل الإمام علي رضي الله عنه فيما نقموا عليه، وقد رجع عن مذهب الخوارج، وعاود صحبة علي رضي الله عنه.
انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 202، 203)، الملل والنحل للشهرستاني (ص117)، دراسة عن الفرق لأحمد الجلي (ص55)، والفرق بين الفرق (2/ 117)، لسان الميزان (4/ 406).
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (1)؟ قَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ) (2).
وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ فِي تَفْسِيرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ (3).
وَفِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ:(ارْقَ إليَّ أُخْبِرْكَ) وَكَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَرَقِيَ إلى دَرَجَتَيْنِ، فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَجَعَلَ يضربه بها، ثم قال له (4) علي رضي الله عنه:(أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ)(5).
وَخَرَّجَ عَبْدُ (بْنُ حُمَيْدٍ)(6) أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (7) قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَوْد (8) أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَطَبَ النَّاسَ بِالْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَصَاحَ بِهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ مِنْ أَقْصَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين، من
(1) سورة الكهف: آية (104).
(2)
رواه ابن جرير في تفسيره (16/ 33 ـ 34)، وعبد الله بن أحمد في السنة عن أبي الطفيل (2/ 636)، وعبد الرزاق في التفسير (2/ 348)، وابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2393)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم. انظر الدر المنثور (5/ 465).
(3)
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ، قال ابن عيينة وابن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقد ساد الناس بالورع والعلم، وكان رأساً في الزهد والتأله والخوف، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم. توفي سنة إحدى وستين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 229)، طبقات ابن سعد (6/ 371)، حلية الأولياء (6/ 356).
وانظر: تفسير سفيان الثوري فقد ذكر الخبر عند الآية (ص179).
(4)
ساقطة من (م) و (ر).
(5)
رواه الإمام ابن جرير مختصراً. انظر: تفسير ابن جرير (16/ 27).
(6)
ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر).
(7)
هو محمد بن جبير بن مطعم النوفلي، إمام، فقيه، ثبت، كان أحد العلماء الأشراف، وصاحب كتب وعناية بالعلم، روى عن أبيه وعمر وابن عباس، وروى عنه الزهري وغيره. توفي بالمدينة سنة مائة.
انظر: التاريخ الكبير (1/ 52)، السير (4/ 543)، والتقريب (2/ 150).
(8)
قال السمعاني في الأنساب: الأودي بفتح الألف وسكون الواو، وفي آخرها الدال المهملة، هذه النسبة إلى أود بن صعب بن سعد العشيرة من مذحج. انظر الأنساب (1/ 226).
الأخسرين أعمالاً؟ قال: "أنت وأصحابك (1) ". فَقُتِلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَوْمَ الْخَوَارِجِ (2).
وَنَقَلَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ (3) فَقَالَ: (أَنْتُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ، وَأَهْلُ الرِّيَاءِ، وَالَّذِينَ يُحْبِطُونَ الصَّنِيعَةَ بِالْمِنَّةِ (4).
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى (5) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ حَرُورَاءَ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِهِمْ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (6)، فوصفهم (7) بِالضَّلَالِ مَعَ ظَنِّ الِاهْتِدَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عُمُومًا، كَانُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب أو لا (8)، من حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"(9). وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ (10).
فَقَدْ يَجْتَمِعُ التفسيران في الآية، تفسير سعد رضي الله عنه بأنهم اليهود والنصارى، وتفسير علي رضي الله عنه بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الابتداع. ولذلك فسر سعد (11) كُفْرَ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا فِي الْجَنَّةِ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِالرَّأْيِ (12).
فَاجْتَمَعَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ (13) عَلَى (14) ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا (15)، وَأَشْعَرَ
(1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(2)
تقدم قريباً.
(3)
أي: سأله عن الآية المذكورة.
(4)
ذكر الماوردي في تفسيره مما قيل في الآية: أنهم من يصطنع المعروف ويمن عليه.
ولم يعزه. (2/ 510).
(5)
هي رواية أبي الطفيل عند عبد بن حميد. وتقدمت (ص106).
(6)
سورة الكهف: آية (104).
(7)
في (ط): "وصفهم".
(8)
في (ت): "أولى".
(9)
سيذكر المؤلف الحديث بتمامه (ص115)، وسأذكر تخريجه هناك.
(10)
تكلم المؤلف عن هذا المعنى في آخر فصل من فصول الباب الثاني (ص255).
(11)
ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(12)
في (ر): "غير ما هو عليه، وهو التأويل بالرأي".
(13)
وهي آية البقرة: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (27)، وآية الكهف {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} (103)، وآية الصف {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (5). وقد تقدم استشهاد سعد وعلي رضي الله عنهما بتلك الآيات.
(14)
ساقطة من (م).
(15)
ساقطة من (ط).
كلام سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه بِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ اقْتَضَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ المبتدعة فهم مقصودون بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْخِزْيِ وَسُوءِ الْجَزَاءِ، إِمَّا بِعُمُومِ اللَّفْظِ (1)، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ (2).
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى (3) بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ فَقَالَ: (كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا، أَوْ (4) قَالَ ضَلًالًا، أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِمْ)، فَنَزَلَتْ:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (5) الآية (6).
وخرج (7) عبد بن حميد (8) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(9)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (10) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (11).
وَخَرَّجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في قول الله:
(1) مثل آية البقرة (27){الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وكذلك آية الرعد (25) فإن فيها نفس الأوصاف المذكورة في آية البقرة.
(2)
مثل آية الصف (5){فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وتقدم استشهاد سعد رضي الله عنه بهذه الآيات.
(3)
في (م) و (خ) و (ت): "أوتى".
(4)
في (ت): "و" بدل أو.
(5)
سورة العنكبوت: آية (51).
(6)
رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه: باب من لم ير كتابة الحديث، عن يحيى بن جعدة مرسلاً (1/ 134)، ورواه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (21/ 7)، ورواه الإمام أبو داود في المراسيل (ص454)، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، باب مختصر في مطالعة كتب أهل الكتاب والرواية عنهم (2/ 41)، وذكره القاضي عياض في الشفا (2/ 38)، وعزاه الشوكاني في فتح القدير أيضاً للفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم (4/ 209)، وأخرجه الإسماعيلي في معجمه (384) عن يحيى بن جعدة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وذكره بمعناه.
(7)
في (خ): "وخرجه".
(8)
في (ط): "عبد الحميد"، وتقدمت ترجمة عبد بن حميد (ص100).
(9)
رواه الشيخان، وتقدم تخريجه (ص58).
(10)
سورة آل عمران: آية (31).
(11)
ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى عبد بن حميد (2/ 30).
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ *} (1) قَالَ: (مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يُعْمَلُ بِهَا من بعدها (2) " (3).
وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) قَالَ:(مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ صَالِحَةٍ يُعْمَلُ بها (5)، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ (6) من أوزارهم شيئاً) (7). خرجه ابن المبارك (8) وَغَيْرُهُ (9).
وَجَاءَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (10) وَأَبِي قِلَابَةَ (11) وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: (كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ فِرْيَةٍ ذَلِيلٌ". وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
(1) سورة الانفطار: آية (5).
(2)
في (خ) و (ط): "بعده".
(3)
ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عنه، وعزاه إلى عبد بن حميد (8/ 438)، وقريب منه عند ابن جرير في تفسيره (36557).
(4)
هو ابن مسعود.
(5)
في (م) و (خ) و (ت): "يعمل بها من بعدها".
(6)
ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(7)
في (م) و (خ) و (ت) و (غ): "شيء"، وما أثبته هو الموافق للرواية.
(8)
في (ت): "مالك".
(9)
خرج هذا الأثر عن ابن مسعود الإمام ابن المبارك في كتاب الزهد له (ص517)، وعزاه الإمام السيوطي في الدر المنثور لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (8/ 438). وذكره الإمام البغوي في شرح السنة، باب ثواب من دعا إلى هدى أو أحيا سنة، وذكره بلفظ أخصر (1/ 232).
(10)
هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير، حافظ العصر، طلب الحديث وهو حدث، ولقي الكبار، وأتقن وجود، وجمع وصنف، وهو ومالك نظيران في الإتقان. توفي سنة ثمان وتسعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 454)، الجرح والتعديل للرازي (1/ 32)، وتهذيب التهذيب (4/ 117).
(11)
هو عبد الله بن زيد بن عمرو، الجرمي، أبو قلابة البصري، كان ثقة فاضلاً كثير الحديث، كثير الإرسال، ابتلي في دينه وبدنه، مات بالشام هارباً من القضاء سنة أربع ومائة.
انظر: تقريب التهذيب (1/ 417)، سير أعلام النبلاء (4/ 468)، طبقات ابن سعد (7/ 183)، حلية الأولياء (2/ 282).
الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ *} (1) " (2).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (3)(يَقُولُ: (مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ، وَآثَارَهُمُ)(4) الَّتِي أَوْرَثُوا النَّاسَ بَعْدَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ) (5).
وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ (6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ (7) أنه قال: إني
(1) سورة الأعراف: آية (152).
(2)
روى قول سفيان بن عيينة ابن جرير في التفسير (15161)، وأبو نعيم في الحلية، ولفظه: "ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله، قالوا: وأين هي من كتاب الله؟ قال: أما سمعتم قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة. قال: كلا، اتلوا ما بعدها:{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة. (انظر الحلية 7/ 280). وكذلك ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 266)، وذكر ابن كثير قوله مختصرا. انظر تفسيره (2/ 395). وذكر قول سفيان الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 565 ـ 566). وروى قول أبي قلابة وابن جرير في التفسير (15158)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 143)، وذكره السيوطي عنه في الدر المنثور، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 565).
(3)
سورة يس: آية (12).
(4)
ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(5)
أخرجه سفيان الثوري في التفسير (792)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور. وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (7/ 48). وأشار إلى طرف منه الإمام ابن كثير في تفسيره (3/ 900).
(6)
هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني، مولاهم، كان من أئمة العلم والعمل، وكان مشهوراً في الحفظ، وفي الفقه، وفي العبادة والفضل، وكان ثقة ثبتاً فاضلاً. توفي سنة إحدى وخمسين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 364)، تهذيب التهذيب (5/ 346)، شذرات الذهب (1/ 230).
(7)
هو محمد بن سيرين الأنصاري الأنسي البصري، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان رحمه الله فقيها، عالماً، ورعا، كثير الحديث. شهد له أهل العلم والفضل بذلك. توفي سنة عشر ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 606)، طبقات ابن سعد (7/ 193)، حلية الأولياء (2/ 263).
أَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً (1) أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ (2): {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (3) الآية (4).
وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ (5) عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ (6) أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْجَوْزَاءِ بِيَدِهِ لِأَنْ تَمْتَلِئَ دَارِي قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُجَاوِرَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (7)) (8).
وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ وَالْمُشِيرَةُ إِلَى ذَمِّهِمْ وَالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ أَحْوَالِهِمْ كَثِيرَةٌ. فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَفِيهِ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ الْمَوْعِظَةُ لِمَنِ اتَّعَظَ، والشفاء لما في الصدور.
(1) عير واضحة في (ت).
(2)
في (ت): "أهل الأهواء".
(3)
سورة الأنعام: آية (68).
(4)
أخرجه الآجري في الشريعة (2/ 889) دون قوله: "قال ابن عون .. ". رواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب التحذير من قوم يمرضون القلوب، عن ابن عون، قال: كان محمد يرى .. وذكره (2/ 431). وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 7428) الشطر الثاني منه، وذكره الذهبي في السير (4/ 610)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عن ابن سيرين، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 292).
(5)
تقدمت ترجمته (ص78).
(6)
هو أوس بن عبد الله الربعي البصري، ثقة، من كبار العلماء، حدث عن عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وكان أحد العباد الذين قاموا على الحجاج، فقيل: إنه قتل يوم الجماجم سنة ثلاث وثمانين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 371)، تهذيب التهذيب (1/ 383)، شذرات الذهب (1/ 93).
(7)
سورة آل عمران: آية (119).
(8)
انظر: الشريعة (5/ 2548 ـ 2549) ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان عن أبي الجوزاء وذكره بلفظين متقاربين أحدهما لفظ المؤلف. انظر الإبانة الكبرى (2/ 468 ـ 469). ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة، سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع .. وذكره بلفظ أخصر من لفظ المؤلف، وليس فيه الاستشهاد بالآية (1/ 131)، وذكره الذهبي في السير (4/ 372).