الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَا فِي الْأَلْوَانِ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَلَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّامِّ الْخَلْقِ وَالنَّاقِصِ الْخَلْقِ وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ، وَلَا فِي الْخُلُقِ كَالشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَالْجَوَادِ وَالْبَخِيلِ، وَلَا فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا.
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اخْتِلَافٌ آخَرُ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة: 213] الْآيَةَ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَسْعَدُ الْإِنْسَانُ بِهِ أَوْ يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا.
[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ]
هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ
وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ قَالَ:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] قَالَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَالْحَنِيفِيَّةُ ـ وَهُمُ الَّذِينَ رَحِمَ رَبُّكَ ـ الْحَنِيفِيَّةُ، خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِيِ الرَّأْيِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَجُّهُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ لَهُمْ مُدَبِّرًا يُدَبِّرُهُمْ وَخَالِقًا
أَوَجَدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. مِنْ قَائِلٍ بِالِاثْنَيْنِ وَبِالْخَمْسَةِ، وَبِالطَّبِيعَةِ أَوِ الدَّهْرِ، أَوْ بِالْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ قَالُوا بِالْآدَمِيِّينَ وَالشَّجَرِ وَالْحِجَارَةِ وَمَا يَنْحِتُونَ بِأَيْدِيهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ لَكِنْ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَيْضًا. إِلَى أَنْ بَعْثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ مُبَيِّنِينَ لِأُمَمِهِمْ حَقَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَاطِلِهِ، فَعَرَفُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَنَزَّهُوا رَبَّ الْأَرْبَابِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ:{إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] وَأَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ، فَصَارَ إِلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وَإِنَّمَا دَخَلَ الْأَوَّلُونَ تَحْتَ وَصْفِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ وَصْفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى وَصْفِ الْوِفَاقِ وَالْأُلْفَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا. وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَطَاوُسَ فِي جَامِعِهِ، وَبَقِيَ الْآخَرُونَ عَلَى وَصْفِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ خَالَفُوا الْحَقَّ الصَّرِيحَ، وَنَبَذُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ: الَّذِينَ رَحِمَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]
إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] وَمَعْنَى ذَلِكَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فَأَخْبَرَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَّفِقُوا، فَبَعَثَ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] فَهَذَا يَوْمُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213].
وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ وَاتَّخَذَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِيَوْمِ الْجُمْعَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَاسْتَقْبَلَتِ الْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَدَى اللَّهُ أَمَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْقِبْلَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ
وَلَا يَرْكَعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، وَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى نَصْرَانِيًّا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عليه السلام فَكَفَرَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَوْحَهُ وَكَلِمَتَهُ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّفِقِينَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْقَصْدِ الثَّانِي لَا الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ بِحِكْمَتِهِ أَنْ تَكُونَ فُرُوعُ هَذِهِ الْمِلَّةِ قَابِلَةً لِلْأَنْظَارِ وَمَجَالًا لِلظُّنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ النُّظَّارِ أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً، فَالظَّنِّيَّاتُ عَرِيقَةٌ فِي إِمْكَانِ الِاخْتِلَافِ، لَكِنْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ وَفِي الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ، فَلِذَلِكَ لَا يَضُرُّ هَذَا الِاخْتِلَافُ.
وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا يَضُرُّهُمْ. يَعْنِي لِأَنَّهُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا بِقَطْعِ الْعُذْرِ، بَلْ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ الْعُذْرِ، وَمَعَ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاقِعٌ،
أَتَى فِيهِ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الْآيَةَ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم.
إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مُقْتَضَاهَا أَهْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِينَ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118] فَإِنَّهَا اقْتَضَتْ قِسْمَيْنِ: أَهْلُ الِاخْتِلَافِ، وَالْمَرْحُومِينَ، فَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ وَإِلَّا كَانَ قَسْمُ الشَّيْءِ قَسِيمًا لَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ وَصْفَ الِاخْتِلَافِ لَازِمٌ لَهُمْ، حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْعِرِ بِالثُّبُوتِ، وَأَهْلُ الرَّحْمَةِ مُبَرَّءُونَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ وَصْفَ الرَّحْمَةِ يُنَافِي الثُّبُوتَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، بَلْ إِنْ خَالَفَ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهَا تَحَرِّيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَتَلَافَى
أَمْرَهُ، فَخِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْعَرْضِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ لَازِمًا وَلَا ثَابِتًا، فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْعِلَاجَ وَالِانْقِطَاعَ أَلْيَقَ فِي الْمَوْضِعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاقِعٌ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مَحْضُ الرَّحْمَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُهُمْ فِي قِسْمِ الْمُخْتَلِفِينَ بِوَجْهٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ ـ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا ـ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَعَلُوا اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ خَارِجًا مَنْ قِسْمِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ.
وَبَيَانُ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ رَحْمَةً مَا رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَمَلِ، لَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِعَمَلِ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ. وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَجَاءَ قَالَ: اجْتَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِ الْحَدِيثَ ـ قَالَ ـ فَجَعَلَ عُمَرُ يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُخَالِفُ فِيهِ الْقَاسِمَ ـ قَالَ ـ وَجَعَلَ الْقَاسِمُ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَفْعَلُ! فَمَا يَسُرُّنِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرُ النَّعَمِ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا قَالَ: لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْتَلِفُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا لَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ سِعَةً.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ فَتَحُوا لِلنَّاسِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْتَحُوهُ لَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي ضِيقٍ، لِأَنَّ مَجَالَ الِاجْتِهَادِ وَمَجَالَاتِ الظُّنُونِ لَا تَتَّفِقُ عَادَةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ فَيَصِيرُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مَعَ تَكْلِيفِهِمْ بِاتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِ خِلَافِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضِّيقِ. فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ الْفُرُوعِي فِيهِمْ، فَكَانَ فَتْحُ بَابِ لِلْأُمَّةِ لِلدُّخُولِ فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي قِسْمِ مَنْ (رَحِمَ رَبُّكَ)؟! فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ كَاتِّفَاقِهِمْ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَاسِطَةٌ أَدْنَى مِنَ الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَأَعْلَى مِنَ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَيَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّقِ شِيَعًا.
فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَنْتَظِمُ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» ، وَأَخْبَرَ:
«أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» ، وَشَمِلَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ فِي الْأُمَمِ قَبِلْنَا، وَيُرَشِّحُهُ وَصْفُ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالضَّلَالَةِ وَإِيعَادُهُمْ بِالنَّارِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ
تَمَامِ الرَّحْمَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ عليه الصلاة والسلام حَرِيصًا عَلَى أُلْفَتِنَا وَهِدَايَتِنَا، حَتَّى ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم ـ فَقَالَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا كَثُرَ اللَّغَطُ وَالِاخْتِلَافُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُومُوا عَنِّي فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ» .
فَكَانَ ذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَضِلُّوا بَعْدَهُ الْبَتَّةَ، فَتَخْرُجُ الْأُمَّةُ عَنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] بِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ كَمَا اخْتَلَفَ غَيْرُهُمْ. رَضِيَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُمِيتَنَا عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أَهْلُ السُّنَّةِ،
وَلَكِنْ لِهَذَا الْكِتَابِ أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ مَعَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُحْتَمِلُ الْعِبَارَةِ لِلتَّأْوِيلِ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ.
فَاعْلَمُوا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لَا يَقَعُ فِي الْعَادِيَّاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الْخَائِضِينَ فِي لُجَّتِهَا الْعُظْمَى، الْعَالِمَيْنِ بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَعَامَّةُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِسْمِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ آنِفًا، بَلْ كُلٌّ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ وَقَدْ تَفْتَرِقُ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ ـ وَلَمْ يَبْلُغْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ ـ فَيَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَعُدُّ رَأْيَهُ رَأْيًا وَخِلَافُهُ خِلَافًا، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيٍّ وَفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ـ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوْ مِنَ الْأُصُولِ الْعَمَلِيَّةِ ـ فَتَارَةً آخِذًا بِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ فِي هَدْمِ كُلِّيَّاتِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا مَا ظَهَرَ لَهُ بَادِيَ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا رُسُوخٍ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«لَا يَقْبِضُ اللَّهُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا
فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا».
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. فَيُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ صُرِّفَ هَذَا الْمَعْنَى تَصْرِيفًا، فَقِيلَ: مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ وَلَكِنَّهُ ائْتَمَنَ غَيْرَ أَمِينٍ فَخَانَ. قَالَ وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ.
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَكَى رَبِيعَةُ يَوْمًا بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِكَ؟ فَقَالَ لَا! وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خِدَاعًا، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ»
قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الْحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَتَى يَهْلِكُ النَّاسُ! إِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ أَصَاغِرُ فِي الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بِدَعٍ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُ الصِّغَارَ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَهْلُ مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ. فَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ مَقْطُوعٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ، فَاطْلُبُوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ