المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل كل بدعة ضلالة] - الاعتصام للشاطبي ت الهلالي - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي‌‌ أَحْكَامِ الْبِدَعِوَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ]

- ‌ أَحْكَامِ الْبِدَعِ

- ‌[فَصْلٌ تَفَاوَتُ الْبِدَعِ]

- ‌[مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي النَّفْسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي النَّسْلِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْعَقْلِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْمَالِ]

- ‌[فَصْلٌ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ فِي الْبِدَعِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ]

- ‌[فَصْلٌ شُرُوطُ كَوْنِ الْبِدْعَةِ صَغِيرَةً]

- ‌[أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَى الْبِدْعَةِ]

- ‌[أَنْ لَا يَدْعُوَ إِلَى الْبِدْعَةِ]

- ‌[أَنْ لَا تَفْعَلَ الْبِدْعَةَ فِي مُجْتَمَعَاتِ النَّاسِ أَوْ فِي مَوَاضِعِ إِقَامَةِ السُّنَنِ]

- ‌[أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَ الْبِدْعَةَ وَلَا يَسْتَحْقِرَهَا]

- ‌[الْبَابُ السَّابِعُ فِي الِابْتِدَاعِ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ أَمْ يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ]

- ‌[الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ]

- ‌[الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْبِدَعُ]

- ‌[فَصْلٌ فُشْوُ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالْعَمَلُ بِهَا هَلْ يُعَدُّ بِدْعَةً]

- ‌[نُشُوءُ الْبِدَعِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَدُّوا أَكْثَرَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِدَعًا وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ تُوَضِّحُ الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ]

- ‌[جَمْعُ الْقُرْآنِ]

- ‌[اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ]

- ‌[قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ]

- ‌[اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ]

- ‌[تَوْظِيفُ الْإِمَامِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ]

- ‌[مُعَاقَبَةُ الْإِمَامِ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى بَعْضِ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[طَبَّقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ وَانْسَدَّتْ طُرُقُ الْمَكَاسِبِ الطَّيِّبَةِ وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ]

- ‌[قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ]

- ‌[خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحَاجَةُ إِلَى إِمَامٍ يَقْدُمُ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[إِذَا خِيفَ عِنْدَ خَلْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِقَامَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ وَمَا لَا يَصْلُحُ فَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّرْكِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِحْسَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُسْتَحْسِنٍ وَهُوَ إِمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ حُجَجِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ شُبْهَةِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ]

- ‌[فَصْلٌ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هَلْ هِيَ مُعْتَبِرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ]

- ‌[الْبَابُ التَّاسِعُ فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَتْ فِرَقُ الْمُبْتَدَعَةِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ إِمَّا رَاجِعٌ لِسَابِقِ الْقَدَرِ وَإِمَّا كَسْبِيٌّ]

- ‌[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ]

- ‌[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ]

- ‌[فَصْلُ أَسْبَابِ الْخِلَافِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ]

- ‌[فَصْلٌ مَسَائِلُ فِي حَدِيثِ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً]

- ‌[حَقِيقَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ]

- ‌[سَبَبُ الْفُرْقَةِ قَدْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْصِيَةٍ]

- ‌[هَذِهِ الْفِرَقُ يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ]

- ‌[تَخْصِيصُ الْفِرَقِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمُبْتَدِعَةِ، وَإِشَارَةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ]

- ‌[الْفِرَقُ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا لِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ]

- ‌[إِذَا قُلْنَا هَذِهِ الْفِرَقُ كُفَّارٌ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ]

- ‌[تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ]

- ‌[الْعَلَامَاتُ وَالْخَوَاصُّ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا هَذِهِ الْفِرَقُ]

- ‌[التَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْفِرَقِ]

- ‌[التَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْفِرَقِ]

- ‌[اتِّبَاعُ الْأُمَّةِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا]

- ‌[كُفْرُ الْفِرَقِ وَفِسْقُهَا وَنُفُوذُ الْوَعِيدِ أَوْ جَعْلُهُ فِي الْمَشِيئَةِ]

- ‌[قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام " إِلَّا وَاحِدَةً " أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ]

- ‌[النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَيِّنْ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً]

- ‌[هَلْ يَدْخُلُ فِي الْهَالِكَةِ الْمُبْتَدِعُ فِي الْجُزَيْئَاتِ كَالْمُبْتَدِعُ فِي الْكُلِّيَّاتِ]

- ‌[مَنْ رَوَى فِي تَفْسِيرِ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ هِيَ الْجَمَاعَةُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّفْسِيرِ]

- ‌[الِاعْتِبَارُ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِ اجْتِهَادُهُمْ]

- ‌[مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ

- ‌[قَوْلُهُ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ فِيهِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ فَلَا تَكُونُ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَلَا مُحَالٍ بِهَا]

- ‌[مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ عَلَى وَصْفِ كَذَا

- ‌[الْإِشْرَابُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ أَمْ لَا يَخْتَصُّ]

- ‌[دَاءُ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ]

- ‌[التَّنْبِيهُ عَلَى السَّبَبِ فِي بُعْدِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنِ التَّوْبَةِ]

- ‌[مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ مَنْ لَا يُشْرَبُ هَوَى الْبِدْعَةِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ]

- ‌[جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ " أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ

- ‌[جَوَابُ النَّبِيِّ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِيهِ انْصِرَافُ الْقَصْدِ إِلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ الضَّابِطِ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ]

- ‌[الْبَابُ الْعَاشِرُ بَيَانُ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ]

- ‌[التَّعْيِينُ لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ اجْتِهَادِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَجَاءَ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ]

- ‌[فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ]

- ‌[فَصْلُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ]

- ‌[فَصْلٌ اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[فَصْلٌ خَاتِمَةٌ]

الفصل: ‌[فصل كل بدعة ضلالة]

الْعَمَلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:

«لَا حِمَى إِلَّا حِمَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ثُمَّ جَرَى بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وَلَكِنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا أَثْبَتُ أَصْلًا فِي الشَّرِيعَةِ مُطَّرِدًا لَا يَنْخَرِمُ، وَعَامًّا لَا يُتَخَصَّصُ، وَمُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ. وَهُوَ أَنَّ الصَّغِيرَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْكَبِيرَ، وَالشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ، وَالرَّفِيعَ وَالْوَضِيعَ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ سَوَاءٌ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ خَرَجَ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ.

وَتَحْتَ هَذَا الرَّمْزِ تَفَاصِيلُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ، لَعَلَّهَا تُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا.

[فَصْلٌ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ]

إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَمَا أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا وَشَامِلٌ لِأَنْوَاعِهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» .

لَكِنْ يَبْقَى هَاهُنَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] وَقَوْلِهِ

ص: 530

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ - وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 36 - 37] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خُرُوجٌ عَنِ الْهُدَى.

وَنَظِيرِهِ فِي الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِبِدَعٍ، الْمَكْرُوهَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَالصَّلَاةِ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَنَظِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا» فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مُخَالِفٌ وَلَا عَاصٍ، مَعَ أَنَّ الطَّاعَةَ ضِدُّهَا الْمَعْصِيَةُ. وَفَاعِلُ الْمَنْدُوبِ مُطِيعٌ لِأَنَّهُ فَاعِلُ أَمْرٍ بِهِ. فَإِذَا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا لِأَنَّهُ فَاعِلٌ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَاصٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ،

ص: 531

وَإِلَّا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ.

إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عُمُومُ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ، فَلْيَعُمَّ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ، لَكِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ

وَالْجَوَابُ: أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثَابِتٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ ـ وَمَا الْتَزَمْتُمْ فِي الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْأَفْعَالِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الضِّدِّيَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ، وَلِمَا اسْتَقْرَيْنَا مَوَارِدَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَجَدْنَا لِلطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا أَوْ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْمُبَاحُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ.

فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ضِدَّانِ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّخْيِيرُ.

وَإِذَا تَأَمَّلْنَا الْمَكْرُوهَ ـ حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ ـ وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ:

طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ، فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ.

غَيْرَ أَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الطَّرَفَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمٌّ شَرْعِيٌّ وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا ذَمَّ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ، فَتَحَامَوْا أَنْ يُطْلِقُوا عَلَى مَا هَذَا شَأْنُهُ عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهَا الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فَلَيْسَ إِلَّا حَقٌّ، وَهُوَ الْهُدَى، وَضَلَالٌ وَهُوَ الْبَاطِلُ، فَالْبِدَعُ

ص: 532

الْمَكْرُوهَةُ ضَلَالٌ.

وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّ إِثْبَاتَ قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَلَا يَغْتَرُّ الْمُغْتَرُّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ وَأَمَّا تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثْمِ فَاعِلِهَا وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ الْبَتَّةَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ.

أَمَّا الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ:«أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا أَنَامُ» ، وَقَالَ الْآخَرُ:«أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْكِحُ النِّسَاءَ» إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:«مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْإِنْكَارِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلَّا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلَى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ عليه السلام رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَجْلِسُ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فَلْيَجْلِسْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ» قَالَ مَالِكٌ: أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ.

وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ،

ص: 533

قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمُسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا فَقَالَ حَجَّتْ مُصْمَتَةً قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتِ الْحَدِيثَ إِلَخْ.

وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» إِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الشَّامِ وَإِلَى مِصْرَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ، أَوْ أَنْ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِنْ هُوَ كَلَّمَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ، وَإِنَّمَا يُوفِي لِلَّهِ بِكُلِّ نَذْرٍ فِيهِ طَاعَةٌ مِنْ مَشْيٍ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صَلَاةٍ، فَكُلُّ مَا لِلَّهِ فِيهِ طَاعَةٌ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ.

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ فِي الشَّمْسِ وَتَرَكَ الْكَلَامَ وَنَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الشَّامِ أَوْ مِصْرَ مَعَاصِيَ، حَتَّى فَسَّرَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، مَعَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا أَشْيَاءَ مُبَاحَاتٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا يَتَشَرَّعُ بِهِ وَيُدَانُ لِلَّهِ بِهِ صَارَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَاصِيَ لِلَّهِ، وَكُلِّيَةُ قَوْلِهِ:«كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التَّأْثِيمَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَهِيَ خَاصِّيَّةُ الْمُحَرَّمِ.

وَقَدْ مَرَّ مَا «رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ: فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ. قَالَ: غَنِيٌّ أُرِيدَ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ سُبِقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ

ص: 534

تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]».

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشْرَفَ مِنْهُ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، لَكِنَّهُ أُبْعِدَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ. فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَأَيْنَ كَرَاهِيَةُ التَّنْزِيهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَظْهَرُ بِأَوَّلِ النَّظَرِ أَنَّهَا سَهْلَةٌ وَيَسِيرَةٌ؟.

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ؟ قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَانَ الدِّينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا.

وَإِنَّمَا التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَأَبْطَأَ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ لَمَّا نَقَلَ هَذَا عَنْ سَحْنُونَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَ إِسْحَاقُ هُوَ التَّثْوِيبُ الَّذِي قَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالَّذِي أَحْدَثُوهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَإِذَا

ص: 535

اعْتُبِرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَسْتَسْهِلُّهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ بِالصَّلَاةِ.

وَقِصَّةُ صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: جَعَلَ صَبِيغٌ يَطُوفُ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَهُ، وَيَقُولُ: مَنْ يَتَفَقَّهْ يُفَقِّهْهُ اللَّهُ، مَنْ يَتَعَلَّمْ يُعَلِّمْهُ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ الرَّطِبِ، ثُمَّ سَجَنَهُ حَتَّى إِذَا خَفَّ الَّذِي بِهِ أَخْرَجَهُ فَضَرَبَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَأَجْهِزْ عَلَيَّ، وَإِلَّا فَقَدْ شَفَيْتَنِي شَفَاكَ اللَّهُ فَخَلَّاهُ عُمَرُ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ، وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَبِيغًا حِينَ بَلَغَهُ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اهـ.

وَهَذَا الضَّرْبُ إِنَّمَا كَانَ لِسُؤَالِهِ عَنْ أُمُورٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ عَنِ السَّابِحَاتِ سَبْحًا، وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ إِنَّمَا يَكُونُ لِجِنَايَةٍ أَرْبَتْ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ، إِذْ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَلَا عِرْضُهُ بِمَكْرُوهٍ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ، ضَرْبُهُ إِيَّاهُ خَوَّفَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْتَغِلَ مِنْهُ بِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً، لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ، فَمَا الْأَبُّ! ثُمَّ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا.

ص: 536

وَفِي رِوَايَةٍ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ.

وَجَاءَ فِي قِصَّةِ صَبِيغٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ. فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ سَيِّئَتُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ. وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَيِّنَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْبِدَعِ شَدِيدٌ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ. فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا: أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا

ص: 537

أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ، فَإِنَّهُ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَيْنَ يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ، لَا لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا ثَالِثًا: فَإِنَّا إِذَا تَأَمَّلْنَا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ ـ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ ـ وَجَدْنَاهَا مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إِنَّمَا قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ مُتَّكِلًا عَلَى الْعَفْوِ اللَّازِمِ فِيهِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِلَى الطَّمَعِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَقْرَبُ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ عَقَدُهُ الْإِيمَانِيُّ بِمُتَزَحْزِحٍ، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْمَكْرُوهَ مَكْرُوهًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْحَرَامَ حَرَامًا وَإِنِ ارْتَكَبَهُ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ.

فَكَذَلِكَ مُرْتَكِبُ الْمَكْرُوهِ يَرَى أَنَّ التُّرْكَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ زَيَّنَتْ لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ. وَيَوَدُّ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وَأَيْضًا فَلَا يَزَالُ ـ إِذَا تَذَكَّرَ ـ مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ طَامِعًا فِي الْإِقْلَاعِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ الْإِقْلَاعِ أَمْ لَا.

وَمُرْتَكِبُ أَدْنَى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حَسَنًا، بَلْ يَرَاهُ أَوْلَى بِمَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ، فَأَيْنَ مَعَ هَذِهِ خَوْفُهُ أَوْ رَجَاؤُهُ؟ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ طَرِيقَهُ أَهْدَى سَبِيلًا، وَنِحْلَتَهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ.

ص: 538