المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل هل في البدع صغائر وكبائر] - الاعتصام للشاطبي ت الهلالي - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي‌‌ أَحْكَامِ الْبِدَعِوَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ]

- ‌ أَحْكَامِ الْبِدَعِ

- ‌[فَصْلٌ تَفَاوَتُ الْبِدَعِ]

- ‌[مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي النَّفْسِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي النَّسْلِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْعَقْلِ]

- ‌[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْمَالِ]

- ‌[فَصْلٌ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ فِي الْبِدَعِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ]

- ‌[فَصْلٌ شُرُوطُ كَوْنِ الْبِدْعَةِ صَغِيرَةً]

- ‌[أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَى الْبِدْعَةِ]

- ‌[أَنْ لَا يَدْعُوَ إِلَى الْبِدْعَةِ]

- ‌[أَنْ لَا تَفْعَلَ الْبِدْعَةَ فِي مُجْتَمَعَاتِ النَّاسِ أَوْ فِي مَوَاضِعِ إِقَامَةِ السُّنَنِ]

- ‌[أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَ الْبِدْعَةَ وَلَا يَسْتَحْقِرَهَا]

- ‌[الْبَابُ السَّابِعُ فِي الِابْتِدَاعِ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ أَمْ يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ]

- ‌[الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ]

- ‌[الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْبِدَعُ]

- ‌[فَصْلٌ فُشْوُ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالْعَمَلُ بِهَا هَلْ يُعَدُّ بِدْعَةً]

- ‌[نُشُوءُ الْبِدَعِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَدُّوا أَكْثَرَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِدَعًا وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ تُوَضِّحُ الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ]

- ‌[جَمْعُ الْقُرْآنِ]

- ‌[اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ]

- ‌[قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ]

- ‌[اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ]

- ‌[تَوْظِيفُ الْإِمَامِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ]

- ‌[مُعَاقَبَةُ الْإِمَامِ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى بَعْضِ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[طَبَّقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ وَانْسَدَّتْ طُرُقُ الْمَكَاسِبِ الطَّيِّبَةِ وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ]

- ‌[قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ]

- ‌[خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحَاجَةُ إِلَى إِمَامٍ يَقْدُمُ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ]

- ‌[إِذَا خِيفَ عِنْدَ خَلْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِقَامَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ وَمَا لَا يَصْلُحُ فَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّرْكِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِحْسَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُسْتَحْسِنٍ وَهُوَ إِمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ حُجَجِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّ شُبْهَةِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ]

- ‌[فَصْلٌ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هَلْ هِيَ مُعْتَبِرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ]

- ‌[الْبَابُ التَّاسِعُ فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَتْ فِرَقُ الْمُبْتَدَعَةِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[سَبَبُ الِاخْتِلَافِ إِمَّا رَاجِعٌ لِسَابِقِ الْقَدَرِ وَإِمَّا كَسْبِيٌّ]

- ‌[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ]

- ‌[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ]

- ‌[فَصْلُ أَسْبَابِ الْخِلَافِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ]

- ‌[فَصْلٌ مَسَائِلُ فِي حَدِيثِ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً]

- ‌[حَقِيقَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ]

- ‌[سَبَبُ الْفُرْقَةِ قَدْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْصِيَةٍ]

- ‌[هَذِهِ الْفِرَقُ يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ]

- ‌[تَخْصِيصُ الْفِرَقِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمُبْتَدِعَةِ، وَإِشَارَةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ]

- ‌[الْفِرَقُ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا لِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ]

- ‌[إِذَا قُلْنَا هَذِهِ الْفِرَقُ كُفَّارٌ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ]

- ‌[تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ]

- ‌[الْعَلَامَاتُ وَالْخَوَاصُّ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا هَذِهِ الْفِرَقُ]

- ‌[التَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْفِرَقِ]

- ‌[التَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْفِرَقِ]

- ‌[اتِّبَاعُ الْأُمَّةِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا]

- ‌[كُفْرُ الْفِرَقِ وَفِسْقُهَا وَنُفُوذُ الْوَعِيدِ أَوْ جَعْلُهُ فِي الْمَشِيئَةِ]

- ‌[قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام " إِلَّا وَاحِدَةً " أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ]

- ‌[النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَيِّنْ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً]

- ‌[هَلْ يَدْخُلُ فِي الْهَالِكَةِ الْمُبْتَدِعُ فِي الْجُزَيْئَاتِ كَالْمُبْتَدِعُ فِي الْكُلِّيَّاتِ]

- ‌[مَنْ رَوَى فِي تَفْسِيرِ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ هِيَ الْجَمَاعَةُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّفْسِيرِ]

- ‌[الِاعْتِبَارُ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِ اجْتِهَادُهُمْ]

- ‌[مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ

- ‌[قَوْلُهُ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ فِيهِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ فَلَا تَكُونُ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَلَا مُحَالٍ بِهَا]

- ‌[مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ عَلَى وَصْفِ كَذَا

- ‌[الْإِشْرَابُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ أَمْ لَا يَخْتَصُّ]

- ‌[دَاءُ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ]

- ‌[التَّنْبِيهُ عَلَى السَّبَبِ فِي بُعْدِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنِ التَّوْبَةِ]

- ‌[مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ مَنْ لَا يُشْرَبُ هَوَى الْبِدْعَةِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ]

- ‌[جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ " أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ

- ‌[جَوَابُ النَّبِيِّ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِيهِ انْصِرَافُ الْقَصْدِ إِلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ الضَّابِطِ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ]

- ‌[الْبَابُ الْعَاشِرُ بَيَانُ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ]

- ‌[التَّعْيِينُ لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ اجْتِهَادِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَجَاءَ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ]

- ‌[فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ]

- ‌[فَصْلُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ]

- ‌[فَصْلٌ اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[فَصْلٌ خَاتِمَةٌ]

الفصل: ‌[فصل هل في البدع صغائر وكبائر]

هَذَا وَإِنْ كَانَ زَعْمُهُ شُبْهَةً عَرَضَتْ فَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي تَقْرِيرٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُعَظِّمُ أَمْرَ الْبِدَعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَذَلِكَ مَرَّ فِي آخِرِ الْبَابِ أَيْضًا أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ فِي بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَرَاجِعْهَا هُنَالِكَ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِصْدَاقَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَبَيْنَ أَدْنَى الْبِدَعِ بَعِيدُ الْمُلْتَمَسِ.

[فَصْلٌ هَلْ فِي الْبِدَعِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ]

إِذَا ثَبَتَ هَذَا انْتَقَلْنَا مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى مَا هُوَ صَغِيرَةٌ وَإِلَى مَا هُوَ كَبِيرَةٌ ـ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ ـ فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ: إِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ اعْتِبَارًا بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهَا ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ. وَلَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَوْجُهٍ وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ لَعَلَّهُ لَا يُوفِي بِذَلِكَ الْمَقْصُودِ عَلَى الْكَمَالِ فَلْنَتْرُكِ التَّفْرِيعَ عَلَيْهِ.

وَأَقْرَبُ وَجْهٍ يُلْتَمَسُ لِهَذَا الْمَطْلَبِ مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ أَنَّ الْكَبَائِرَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَهِيَ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالنَّسْلُ وَالْعَقْلُ وَالْمَالُ، وَكُلُّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ جَرَتْ فِي الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ مَجْرَاهَا، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ

ص: 539

أَشْتَاتَ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.

فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي كَبَائِرَ الْبِدَعَ: مَا أَخَلَّ مِنْهَا بِأَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَمَا لَا، فَهُوَ صَغِيرَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ أَمْثِلَةُ أَوَّلِ الْبَابِ. فَكَمَا انْحَصَرَتْ كَبَائِرُ الْمَعَاصِي أَحْسَنَ انْحِصَارٍ ـ حَسْبَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ـ كَذَلِكَ تَنْحَصِرُ كَبَائِرُ الْبِدَعِ أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْتَرِضُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ عَظِيمٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ يَعْسُرُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَائِرِ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِخْلَالِ بِالدِّينِ إِمَّا أَصْلًا وَإِمَّا فَرْعًا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا أُحْدِثَتْ لِتُلْحِقَ بِالْمَشْرُوعِ زِيَادَةً فِيهِ أَوْ نُقْصَانًا مِنْهُ أَوْ تَغْيِيرًا لِقَوَافِيهِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخْتَصٍّ بِالْعِبَادَاتِ دُونَ الْعَادَاتِ، وَإِنْ قُلْنَا بِدُخُولِهَا فِي الْعَادَاتِ، بَلْ تُمْنَعُ فِي الْجَمِيعِ. وَإِذَا كَانَتْ بِكُلِّيَّتِهَا إِخْلَالًا بِالدِّينِ فَهِيَ إِذًا إِخْلَالٌ بِأَوَّلِ الضَّرُورِيَّاتِ وَهُوَ الدِّينُ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَقَالَ فِي الْفِرَقِ:«كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةٌ» وَهَذَا وَعِيدٌ أَيْضًا لِلْجَمِيعِ عَلَى التَّفْصِيلِ.

وَهَذَا وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهَا فِي الْإِخْلَالِ بِالدِّينِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخْرِجٍ لَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ كَبَائِرَ، كَمَا أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْخَمْسَ أَرْكَانُ الدِّينِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي التَّرْتِيبِ، فَلَيْسَ الْإِخْلَالُ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَالْإِخْلَالِ بِالصَّلَاةِ، وَلَا الْإِخْلَالُ بِالصَّلَاةِ كَالْإِخْلَالِ بِالزَّكَاةِ، وَلَا الْإِخْلَالُ بِالزَّكَاةِ كَالْإِخْلَالِ بِرَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا مَعَ الْإِخْلَالِ، فَكُلٌّ مِنْهَا كَبِيرَةٌ. فَقَدْ آلَ النَّظَرُ إِلَى أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ.

ص: 540

وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا النَّظَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، فَفِي النَّظَرِ مَا يَدُلُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى إِثْبَاتِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّا نَقُولُ: الْإِخْلَالُ بِضَرُورَةِ النَّفْسِ كَبِيرَةٌ بِلَا إِشْكَالٍ، وَلَكِنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ أَدْنَاهَا لَا يُسَمَّى كَبِيرَةً، فَالْقَتْلُ كَبِيرَةٌ، وَقَطْعُ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ إِجْهَازِ كَبِيرَةٌ دُونَهَا، وَقَطْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ كَبِيرَةٌ دُونَهَا، وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّطْمَةِ، ثُمَّ إِلَى أَقَلِّ خَدْشٍ يُتَصَوَّرُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مَثَلِهِ كَبِيرَةٌ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّرِقَةِ: إِنَّهَا كَبِيرَةٌ لِأَنَّهَا إِخْلَالٌ بِضَرُورَةِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ فِي لُقْمَةٍ أَوْ تَطْفِيفٍ بِحَبَّةٍ فَقَدْ عَدُّوهُ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَهَذَا فِي ضَرُورَةِ الدِّينِ أَيْضًا.

فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ:

«أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِيمَانِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلِيُصَلِّيَنَّ نِسَاءٌ وَهُنَّ حُيَّضٌ ـ ثُمَّ قَالَ ـ حَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] لَا تُصَلُّنَّ إِلَّا ثَلَاثًا. وَتَقُولُ أُخْرَى: إِنَّا لِنُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِيمَانَ الْمَلَائِكَةِ، مَا فِينَا كَافِرٌ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمَا مَعَ الدَّجَّالِ»

ص: 541

فَهَذَا الْأَثَرُ ـ وَإِنْ لَمْ تُلْتَزَمْ عُهْدَةُ صِحَّتِهِ ـ مِثَالٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ.

فَقَدْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ ثَلَاثٌ لَا خَمْسٌ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يُصَلِّينَ وَهُنَّ حُيَّضٌ. كَأَنَّهُ يُعْنَى بِسَبَبِ التَّعَمُّقِ وَطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ بِالْوَسَاوِسِ الْخَارِجِ عَنِ السُّنَّةِ. فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ دُونَ الْأُولَى.

وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّ الظُّهْرَ خَمْسُ رَكْعَاتٍ لَا أَرْبَعُ رَكْعَاتٍ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ ـ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ ـ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ وَسُمِّيَ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (أَيْ يُسَاءُ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ) قَالَ: قَدْ عِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ. قَالُوا: وَمُسَاءً أَيْ يُسَاءُ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُرَوِّحَ الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يُقْرِنَهُمَا حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ إِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ الْمَرْضِيِّينَ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ انْتَهَى.

فَمِثْلُ هَذَا ـ إِنْ كَانَ يَعُدُّهُ فَاعِلُهُ مِنْ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ أَثَرٌ ـ فَيُقَالُ فِي مِثْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ كِبَارِ الْبِدَعِ. كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ

ص: 542

الْخَامِسَةِ فِي الظُّهْرِ وَنَحْوِهَا، بَلْ إِنَّمَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مِنْ صَغَائِرِ الْبِدَعِ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّنْزِيهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ فِي قَاعِدَةِ الدِّينِ، فَمِثْلُهُ يُتَصَوَّرُ فِي سَائِرِ الْبِدَعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَرَاتِبِ، فَالصَّغَائِرُ فِي الْبِدَعِ ثَابِتَةٌ كَمَا أَنَّهَا فِي الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هِيَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِلَى جُزْئِيَّةٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كُلِّيًّا فِي الشَّرِيعَةِ، كَبِدْعَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، وَبِدْعَةِ إِنْكَارِ الْأَخْبَارِ السُّنِّيَّةِ اقْتِصَارًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ دُونَ فَرْعٍ، بَلْ سَتَجِدُهَا تَنْتَظِمُ مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنَ الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ جُزْئِيًّا إِنَّمَا يَأْتِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ دُونَ بَعْضٍ كَبِدْعَةِ التَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ، وَبِدْعَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَبِدْعَةِ الِاعْتِمَادِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَهَذَا الْقِسْمُ لَا تَتَعَدَّى فِيهِ الْبِدْعَةُ مَحَلَّهَا، وَلَا تَنْتَظِمُ تَحْتَهَا غَيْرُهَا حَتَّى تَكُونَ أَصْلًا لَهَا.

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ اتَّضَحَ مَغْزَاهُ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُنْحَصِرًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَيَكُونُ الْوَعِيدُ الْآتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَخْصُوصًا بِهِ لَا عَامًّا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيَكُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ الْمَرْجُوِّ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ إِلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى أَنْ جَمِيعَهَا مِنْ وَاحِدٍ، وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ انْقِسَامِهَا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعَاصِيَ قَدْ ثَبَتَ انْقِسَامُهَا إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِدَعَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي ـ عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ـ وَنَوْعٌ

ص: 543

مِنْ أَنْوَاعِهَا، فَاقْتَضَى إِطْلَاقُ التَّقْسِيمِ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ أَيْضًا، وَلَا يُخَصِّصُ وُجُوهًا بِتَعْمِيمِ الدُّخُولِ فِي الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا لَاسْتُثْنِيَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِالتَّقْسِيمِ، قِسْمُ الْبِدَعِ، فَكَانُوا يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ مَا عَدَّا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِالِانْقِسَامِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ، فَمِنْهَا ثَقِيلٌ وَأَثْقَلُ وَمِنْهَا خَفِيفٌ وَأَخَفُّ، وَالْخِفَّةُ هَلْ تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ تُعَدَّ الْبِدْعَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي الْمَعَاصِي غَيْرِ الْبِدَعِ.

وَأَمَّا فِي الْبِدَعِ فَثَبَتَ لَهَا أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ، حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ـ وَإِنْ قُلْتَ ـ تَشْرِيعٌ زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ، أَوْ تَغْيِيرٌ لِلْأَصْلِ الصَّحِيحِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ. وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ عَامِدًا الْكُفْرَ، إِذِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوِ التَّغْيِيرُ ـ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ـ كُفْرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ. فَمَنْ فَعَلَ مِثْلِ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ أَوْ

ص: 544

بِرَأْيٍ غَالِطٍ رَآهُ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِالْمَشْرُوعِ إِذَا لَمْ تُكَفِّرُهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ جِنَايَةٌ لَا تَحْمِلُهَا الشَّرِيعَةُ بِقَلِيلٍ وَلَا بِكَثِيرٍ.

وَيُعَضِّدُ هَذَا النَّظَرَ عُمُومُ الْأَدِلَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ بِدْعَةٍ جُزْئِيَّةٍ وَبِدَعَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا. وَظَهَرَ أَنَّهَا مَعَ الْمَعَاصِي لَا تَنْقَسِمُ ذَلِكَ الِانْقِسَامَ، بَلْ إِنَّمَا يَنْقَسِمُ مَا سِوَاهَا مِنَ الْمَعَاصِي. وَاعْتَبِرْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي يَتَبَيَّنْ لَكَ عَدَمُ الْفَرْقِ فِيهَا. وَأَقْرَبُ مِنْهَا عِبَارَةً تُنَاسِبُ هَذَا التَّقْرِيرَ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتْبَتُهَا فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكْبَرُ مِمَّا دُونَهُ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ، فَكَمَا انْقَسَمَتِ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إِلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إِلَى الْكَامِلِ وَالْأَكْمَلِ، انْقَسَمَتِ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إِلَى الرَّذْلِ وَالْأَرْذَلِ، وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، مِنْ بَابِ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ

ص: 545

إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَكِنْ فِي انْقِسَامِ الْمَعَاصِي إِلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَقَالَ: الْمَرَضِيُّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ ذَنَبٍ كَبِيرٌ وَعَظِيمٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَعْصِيَةِ الْعِبَادِ، قَوْلًا مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا قَالَ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي النَّظَرِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ يَأْبَى ذَلِكَ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ ـ وَالظَّوَاهِرُ فِي الْبِدَعِ لَا تَأْبَى كَلَامَ الْإِمَامِ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهَا ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ فَصَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا صَارَ اعْتِقَادُ نَفْيِ الْكَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهُ عَنْهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ.

فَلْيَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ أَشَدَّ التَّأَمُّلِ وَيُعْطِ مِنَ الْإِنْصَافِ حَقَّهُ، وَلَا يَنْظُرْ إِلَى خِفَّةِ الْأَمْرِ فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صُورَتِهَا وَإِنْ دَقَّتْ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وَأَنَّهَا لَمْ تُكَمَّلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْقِيصٍ وَلَا غَضٍّ مِنْ جَانِبِهَا، بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ مُتَنَصِّلٌ مِنْهَا، مُقِرٌّ لِلَّهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِهَا.

وَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ. وَالْبِدْعَةُ حَاصِلُهَا مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ

ص: 546

مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مِنْ أَحْدَثِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.

وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَالَ: أَيُّ فِتْنَةٍ فِيهَا؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّكَ فَعَلْتَ فِعْلًا قَصَّرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَيْضًا، فَإِذَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صَغِيرَةٌ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ بِطَرِيقَةٍ يُظْهِرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهَا تَحْقِيقٌ فِي تَشْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ. وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً عَلَى ضَرْبَيْنِ، وَهُمَا الْمُجْتَهِدُ فِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا، وَالْمُقَلِّدُ لَهُ فِيهَا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالتَّأْوِيلُ يُصَاحِبُهُ فِيهَا وَلَا يُفَارِقُهُ إِذَا حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغَمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ أَوِ النُّقْصَانِ مِنْهُ أَوِ التَّحْرِيفِ لَهُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ كَقَوْلِهِ: هِيَ بِدْعَةٌ وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا أَوْ يُقِرُّ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُهَا لِحَظٍّ عَاجِلٍ، كَفَاعِلِ الذَّنْبِ لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ، أَوْ فِرَارًا مِنْ خَوْفٍ عَلَى حَظِّهِ، أَوْ فِرَارًا مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ،

ص: 547

كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْعَالِمِ وَهُوَ الْوَاضِعُ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَهَا بِدَعَةً، بَلْ هِيَ عِنْدَهُ مِمَّا يَلْحَقُ الْمَشْرُوعَاتِ، كَقَوْلِ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ يُصَامُ لِأَنَّهُ يَوْمُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَجَعْلَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مُلْحَقًا بِأَيَّامِ الْأَعْيَادِ لِأَنَّهُ عليه السلام وُلِدَ فِيهِ، وَكَمَنَ عَدَّ السَّمَاعَ وَالْغَنَاءَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجْلِبُ الْأَحْوَالَ السُّنِّيَّةَ، أَوْ رَغِبَ فِي الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا بِنَاءً عَلَى مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْوَاحِدَةِ، أَوْ زَادَ فِي الشَّرِيعَةِ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً لِيَنْصُرَ فِي زَعْمِهِ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَكْذِبُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ:

«مِنْ كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» قَالَ: لَمْ أَكْذِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَذَبْتُ لَهُ. أَوْ نَقَّصَ مِنْهَا تَأْوِيلًا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ لِذَلِكَ وَلِمَا أَشْبَهَ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ قِبَلِ التَّأْوِيلِ.

وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَقُولُ: فُلَانٌ الْمُقْتَدَى بِهِ يَعْمَلُ بِهَذَا الْعَمَلِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، كَاتِّخَاذِ الْغِنَاءِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شُيُوخَ التَّصَوُّفِ قَدْ سَمِعُوهُ وَتَوَاجَدُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِهِ، وَكَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عِنْدَ التَّوَاجُدِ بِالرَّقْصِ وَسِوَاهُ لِأَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى التَّصَوُّفِ.

وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِالْجُنَيْدِ وَالْبَسْطَامِيِّ وَالشِّبْلِيِّ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا صَحَّ عِنْدَهُمْ أَوْ لَمْ يَصِحَّ، وَيَتْرُكُونَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِسُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ الَّتِي

ص: 548

لَا شَائِبَةَ فِيهَا إِذَا نَقَلَهَا الْعُدُولُ وَفَسَّرَهَا أَهْلُهَا الْمُكِبُّونَ عَلَى فَهْمِهَا وَتَعَلُّمِهَا. وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِالْخِلَافِ لِلسَّنَةِ بَحْثًا، بَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ أَذْيَالِ التَّأْوِيلِ، إِذْ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إِلَى الْإِسْلَامِ بِإِبْدَاءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ أَصْلًا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ: مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ. وَقَوْلُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: أَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّكَ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ، إِنَّهَا إِلْزَامٌ لِلْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ النَّظَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَلْزَمُكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ كَذَا. لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَصَدْتُ إِلَيْهِ قَصْدًا، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ، وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ: هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَمْ لَا؟ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَالَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ شُيُوخُنَا الْبِجَائِيُّونَ وَالْمَغْرِبِيُّونَ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ أَيْضًا: أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، فَلِذَلِكَ إِذَا قُرِّرَ عَلَى الْخَصْمِ أَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، فَإِذًا اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَسْتَوِي الْبِدْعَةُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ صَغَائِرٌ وَكَبَائِرٌ، فَكَذَلِكَ الْبِدَعُ.

ثُمَّ إِنَّ الْبِدَعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: كُلِّيَّةٌ وَجُزْئِيَّةٌ، فَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ فَهِيَ السَّارِيَةُ فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمِثَالُهَا بِدَعُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُلِّيَّاتِ مِنْهَا دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ،

ص: 549

حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَأَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبِدَعِ تَحْتَ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ، وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصْفِ بِالضَّلَالِ، كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي سَرِقَةِ لِقِمَّةٍ أَوِ التَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ وَصْفِ السَّرِقَةِ، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دُخُولُ عَظَائِمِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا كَالنِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ وَاضِحَةُ الشُّمُولِ لَهَا، أَلَّا تَرَى أَنَّ خَوَاصَّ الْبِدَعِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ الْجُزْئِيَّةِ غَالِبًا كَالْفِرْقَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْجُزْئِيَّاتُ فِي الْغَالِبِ كَالزَّلَّةِ، وَالْفَلْتَةِ وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهَا مَعَ حُصُولِ التَّأْوِيلِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْفُرُوعِ، وَلَا الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْجُزْئِيَّةِ كَالْمُفْسِدَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَعَلَى هَذَا ; إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَصْفَانِ، كَوْنُهَا جُزْئِيَّةً، وَكَوْنُهَا بِالتَّأْوِيلِ صَحَّ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَمِثَالُهُ، مَسْأَلَةُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا لَا يَجْلِسُ، وَضَاحِيًا يَسْتَظِلُّ، وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ النَّوْمِ أَوْ لَذِيذِ الطَّعَامِ أَوِ النِّسَاءِ أَوِ الْأَكْلِ بِالنَّهَارِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَأْتِي. غَيْرَ أَنَّ الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً كَمَا أَنَّ التَّأْوِيلَ قَدْ يُقَرِّبُ مَأْخَذَهُ، وَقَدْ يُبَعِّدُ فَيَقَعُ الْإِشْكَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ فَيَعُدُّ كَبِيرَةً مَا هُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَبِالْعَكْسِ فَيُوكَلُ النَّظَرُ فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ

ص: 550