الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبِدْعَةُ بِعَيْنِهَا، فَهَذَا وَجْهٌ.
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِيِّينَ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ هَذَا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَشْرَبُهَا لِلنَّفْعِ لَا لِلَّهْوِ، وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ أَوْ غِذَاءٌ صَالِحٌ يَصْلُحُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ. وَيُحْكَى هَذَا الْعَهْدُ عَنِ ابْنِ سِينَا.
وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ كَلَامِ النَّاسِ مِمَّنْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي سَهَرِهِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالنَّظَرِ بِالْخَمْرِ، فَإِذَا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ كَسَلًا أَوْ فِتْرَةً شَرِبَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُنَشِّطُهُ وَيَنْفِي عَنْهُ الْكَسَلَ، بَلْ ذَكَرُوا فِيهَا أَنَّ لَهَا حَرَارَةً خَاصَّةً تَفْعَلُ أَفْعَالًا كَثِيرَةً تُطَيِّبُ النَّفْسَ، وَتُصَيِّرُ الْإِنْسَانَ مُحِبًّا لِلْحِكْمَةِ، وَتَجْعَلُهُ حَسَنَ الْحَرَكَةِ، وَالذِّهْنِ، وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا عَلَى الِاعْتِدَالِ عَرَفَ الْأَشْيَاءَ، وَفَهِمَهَا، وَتَذَكَّرَهَا بَعْدَ النِّسْيَانِ.
فَلِهَذَا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ كَانَ ابْنُ سِينَا لَا يَتْرُكُ اسْتِعْمَالَهَا ـ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُ ـ وَهُوَ كُلُّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتِ مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي بِهَا. وَفِيهَا خِلَافٌ شَهِيرٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ سِينَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا اسْتِعْمَالَ الْأُمُورِ الْمُنَشِّطَةِ مِنَ الْكَسَلِ وَالْحِفْظِ لِلصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْأَعْمَالِ، أَوْ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، لَا فِي الْأَمْرَاضِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَجْسَامِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَمْرَاضِ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مُتَقَوِّلُونَ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ مُبْتَدِعُونَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَأْيُ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ فِي الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ.
[فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْمَالِ]
وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ:
أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]
فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَحَلُّوا الْعَمَلَ بِهِ وَاحْتَجُّوا بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ، فَقَالُوا: إِذَا فَسَخَ الْعَشَرَةَ الَّتِي اشْتَرَى بِهَا إِلَى شَهْرٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى شَهْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى شَهْرَيْنِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أَيْ: لَيْسَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ أَخَذُوا بِهَا مُسْتَنِدِينَ إِلَى رَأْيٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، كَسَائِرِ مَا أَحْدَثُوا فِي الْبُيُوعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ.
وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ قَدْ شَرَعَتْ أَيْضًا أَشْيَاءَ فِي الْأَمْوَالِ كَالْحُظُوظِ الَّتِي كَانُوا يُخْرِجُونَهَا لِلْأَمِيرِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ:
لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا
…
وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ
فَالْمِرْبَاعُ: رُبْعُ الْمَغْنَمِ يَأْخُذُهُ الرَّئِيسُ. وَالصَّفَايَا: جَمْعُ صَفِيٍّ. وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الرَّئِيسُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَالنَّشِيطَةُ: مَا يَغْنَمُهُ الْغُزَاةُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدُوهُ، فَكَانَ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّئِيسُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْفُضُولُ: مَا يَفْضُلُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
وَكَانَتْ تَتَّخِذُ الْأَرَضِينَ تَحْمِيهَا عَنِ النَّاسِ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا وَلَا يَرْعَوْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، ارْتَفَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ إِلَّا بَعْضُ مَنْ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلَ بِأَحْكَامِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى