المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الحديد قلت: وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: ‌ ‌سورة الحديد قلت: وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع

‌سورة الحديد

قلت: وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا:{سَبَّحَ} وفي الجمعة: {يُسَبِّحُ} [الجمعة: 1] و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1] . وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله:{وَسَبِّحُوهُ} [الأحزاب: 42]، وأصله: التعدي بنفسه؛ لأنّ معنى سبَّحته: بعّدته من السوء، من: سَبَح: إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في: نصحته ونصحت له، وإما أن يراد بـ " سبَّح لله ": اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.

يقول الحق جل جلاله: {سَبَّح لله} أي: نَزَّه اللهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر {في السماوات والأرض} مِن الملائكة والجن والإنس

ص: 308

والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى:{وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] قيل: إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. هـ. {وهو العزيزُ} المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، {الحكيمُ} في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.

{وله مُلك السماواتِ والأرض} أي: التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي: ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى. هـ. {يُحيي ويميت} استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي: هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، {وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ} من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة {قدير} لا يعجزه شيء.

{

وهو الأولُ} القديم قبل كل شيء، {والآخرُ} الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، {والظاهرُ} الذي ظهر بكل شيء، {والباطنُ} الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث:" اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء " قال الطيبي: فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي: الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. {وهو بكل شيءٍ عليم} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ. {هو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيام} من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، {ثم استوى} أي: استولى {على العرش} حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، {يعلم ما يَلِجُ في الأرض} ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأمطار، {وما يعرجُ فيها} من الملائكة والأموات والأعمال، {وهو معكم أينما كنتم} بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة.

ص: 309

{والله بما تعملون بصيرٌ} فيُجازي كلاًّ بعمله.

{له مُلك السماوات والأرضِ} تكرير للتأكيد، وتمهيد لقوله:{وإِلى الله تُرجع الأمورُ} أي: إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور، {يُولج الليلَ في النهار} يُدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، {ويُولج النهارَ في الليل} بأن ينقص من النهار ويزيد الليل، {وهو عليم بذات الصدور} أي: بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها، كَنّى بها عن القلوب. والله تعالى أعلم.

الإشارة: التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري: تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.

قلت: ومعنى قوله: " فلك الذات سماء الصفات "

الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول: وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالأثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره. له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو: ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو: هو الظاهر بتجلياته، والباطن

ص: 310

بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو: الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو: الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل: أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال:" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلا أهل الأذواق.

قال القشيري: هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز: بِمَ عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الأضداد، ثُم تَلا هذه الآية: {هو الأول والآخر

} الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلَاّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.

{هو الذي خَلَقَ السماوات والأرض في ستة أيام} قال القشيري: يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي: هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.

حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي ": أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول: إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له: كيف تعتقد: {وهو معكم أين ما كنتم} ؟ فقال: بالذات، فقال له: أشهد أنك من العارفين. هـ. قلت: فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.

وقال الورتجبي: للعارفين في هذا مقامان: مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن، وسطوات عظمته،

ص: 311

حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه: أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض:

فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً

ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

يقول الحق جل جلاله: {آمِنوا بالله ورسوله} أي: دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو: أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، {وأَنفِقوا} أي: تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي: جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو: جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، {فالذين آمنوا} بالله ورسوله {منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير} لا يُقادر قدره.

ص: 312

{وما لكم لا تؤمنون بالله} هو حال، أي: أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة، {والرسولُ يدعوكم} ويُنبهكم عيله، ويُقيم لكم الحجج على ذلك، {لتؤمنوا بربكم وقد أخذ} قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر، على الإقرار بالربوبية، والتصديق بالداعي، بعد أن رَكّب فيكم العقول، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان، أو: أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، فانظروا واعتبروا وآمنوا، {إِن كنتم مؤمنين} بأخذ هذا الميثاق، أو: بموجبٍ ما، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه.

{

هو الذي يُنَزِّلُ على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {آيات بيناتٍ} واضحاتٍ، يعني القرآن، {ليُخرجَكم} أي: الله تعالى، أو العبد {من الظلمات} أي: من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة، {وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم} حيث يهديكم إلى سعادة الدارين، بإرسال الرسول، وتنزيل الآيات، بعد نصب الحُجج العقلية.

ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق، بعد توبيخهم على ترك الإيمان، على ترتيب قوله:{آمِنوا} و {إنفِقوا} فقال: {وما لكم ألَاّ تُنفقوا في سبيل الله} أي: أيَ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى، وهو له حقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف؟ {ولله ميراثُ السماوات والأرض} يرث كل شيء فيهما، لا يبقى لأحد شيء من ذلك، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه {في سبيل الله} والله مُهلككم، فوارث أموالكم؟ فتقديمها لله أولى، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة. وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في " لله " لزيادة التقرير، وتربية المهابة.

ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال:{لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ} مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله: {أولئك أعظم درجة

} الخ، والمراد: فتح مكة، أي: لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد لك، {أولئك} الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:" لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه "، فهم {أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا} لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، {وكُلاًّ} أي: كل واحد من الفريقين {وَعَدَ اللهُ الحسنى} وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي: وعده الله الحسنى، {والله بما تعملون خبير} فيُجازيكم على قدر أعمالكم.

{من ذا الذى يُقْرِضُ اللهَ قرضاً حسناً} هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في

ص: 313

سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي: مَن ذا الذي يُنفق مَالَهُ في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر، فإنه كمن يُقرضه. وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، {فيُضاعِفه له} أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله، {وله أجرٌ كريمٌ} وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة! ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.

الإشارة: أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقيا، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال:{وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير: سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي: تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.

وما لكم ألَاّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. {من ذا الذى يُقرض الله قرضاً حسناً} ، قال القشيري: هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر:" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً ". هـ. فيضاعفه له بالترفي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ص: 314

يقول الحق جل جلاله: واذكر {يومَ ترى} أو: لهم أجر كبير {يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم} وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى {بين أيديهم وبأَيمانهم} وقيل: هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهك كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة.

قلت: ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن: يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع: الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي: العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول: جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. هـ. قلت: الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.

وقال مقاتل: يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين {من بين أيديهم وعن إيمانهم} كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.

وتقول لهم الملائكة: {بُشراكم اليومَ جناتٌ} أي: دخول جنات؛ لأنّ البشارة تقع بالإجداث دون الجُثث، {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} . {يومَ} بدل من " يوم ترى " {يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انُظرونا} أي:

ص: 315

انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون في ظلمة، فيقولون للمؤمنين: قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم. وقرأ حمزة: " أَنظِرونا "، من الإنظار، وهو التأخير، أي: أَمهِلوا علينا. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني، أي: انتظرني، فتتفق القراءتان. وقيل: من النظر، أي: التفتوا إلينا وأَبْصِرونا {نَقتبس مِن نوركم} لأنَّ نورهم بين أيديهم، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة:{ارجعوا وراءكم} أي: إلى الموقف، إلى حيث أُعطينا هذا النور {فالتمِسوا نوراً} فإنّا هناك اقتبسناه، أو: التفتوا وراءكم، فيلتفتون فيُحال بينهم، {فضُرِبَ} حينئذ {بينهم} بين الفريقين {بسُورٍ} بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار، {له باب} يلي المنافقين، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة، فيزدادون حسرة، {باطِنُه} أي: باطن ذلك السور، وهو الجهة التي تلي المؤمنين {فيه الرحمةُ وظاهرهُ} الذي يلي المنافقين {مِن قِبَلِه العذابُ} أي: العذاب حاصل من قِبَلِه. فالعذاب: مبتدأ، و {مِن قِبَلِه} : خبر، أي: ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة، فيقابله العذاب، فهم بين النار والسور.

{يُنادونهم} أي: ينادي المنافقون المؤمنين: {ألم نكن معكم} في الدنيا؟ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر، {قالوا} أي: المؤمنون: {بلى} كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسَكم} أي: محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر، {وتربصتم} بالمؤمنين الدوائر، {وارتبتم} في أمر الدين {وغرتكم الأمانيُّ} الفارغة، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام، أو: طول الأمل وامتداد الأعمار {حتى جاء أمرُ الله} ؛ الموت، {وغرَّكم بالله} الكريم {الغَرُورُ} أي: الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم، أو: بأنه لا بعث ولا حساب.

{

فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ} فداء {ولا من الذين كفروا} جهراً، {مأواكم النارُ} أي: مرجعكم، لا تبرحون عنها أبداً {هي مولاكم} أي: المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه، أو: هي أولى بكم، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، أو: ناصركم، على طريق:

تحيةٌ بَينِهِم ضَرْبٌ وجِيعُ

فيكون تهكُّماً بهم، {وبئس المصيرُ} أي: النار.

الإشارة: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول،

ص: 316

يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم: بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري: قوله تعالى: {يسعى نورهم

} الخ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم:{المؤمن ينظر بنور الله} ، وقال تعالى:{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22] . وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي: ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.

يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا: انظُرونا والتفتوا إلينا، نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ، قِيلَ: ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فاتلمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم: ألم نكن معكم في عالم الحس؟ وهو عالم الأشباح، قالوا: بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني: المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي: حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.

ص: 317

قلت: {ألم يأن} : مجزوم بحذف الياء، من: أَنَى يأنِي، كمَضَى يمضي: إذا حان وقرب. و {أن تخشع} : فاعل. و {لا يكونوا} : عطف على " تخشع "، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب، فيكون التفاتاً؛ للاعتناء بالتحذير، أو نهياً.

يقول الحق جل جلاله: {ألم يَأْنِ} ألم يحضر، أو يقرب {للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله} أو: ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى، وتطمئن به، ويسارعون إلى طاعته، بالامثال لأوامره والاجتناب لنواهيه. قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء، وأنَّ الجلال هو الجمال، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنه: استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.

وعن أبي بكر رضي الله عنه: إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال:" هكذا كنا حتى قست قلوبنا ". قلت: مراده بالقسوة: التصلُّب والتثبُّت للورادات، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات، يتأثر بأدنى شيء، فإذا استمر مع الأنوار والواردات؛ استأنس بها وتصلّب واشتد، فلا تؤثر فيه الواردات، فيكون مالكاً للأحوال، لا مملوكاً، وهذا أمر ذَوقْي، يرتفع البكاء عن العارفين، ويظهر على الصالحين والطالبين. وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل، كان صاعداً لجارية، فسمع قارئاً يقرأها، فقال: قد آن الخشوع والرجوع، فتاب.

والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ

} [الأنفال: 2] الآية، أو: القرآن، فيكون قوله:{وما نَزَلَ من الحق} عطف تفسير، أو لتغاير العنوانين، فإنه ذِكْرٌ وموعظة، كما أنه حقٌّ نازل من السماء. والمراد بالخشوع: الإنابة والخضوع، ومتابعة الأمر والنهي. {ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ} أي: اليهود والنصارى، {فطال عليهم الأمدُ} الزمن بينهم وبين أنبيائهم، {فقست قلوبُهم} باتباع الشهوات، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له، ورقَّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا.

قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لمَّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم، فاخترعوا كتاباً

ص: 318

من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلَاّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، [وقالوا] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلَاّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومئ إلى صدره، وقال: آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. هـ.

قال تعالى: {وكثيرُ منهم فاسقون} خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي: وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية: الإشارة بقوله: {أوتوا الكتاب} إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال:{من قبل} ، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله:{فطال عليهم الأمدُ} قيل: أمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة. هـ. وقال مقاتل: {الأمد} هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. هـ. قيل: إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا: حدِّثنا، فنزل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وبعد مدة قالوا: لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة.

وهذه الآية {اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلَاّ الالتجاء إلى الله، ونفى الحول والقوة؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك، كما أنه وحده يُحيي الأرض، {قد بينا لكم الآيات} التي من جملتها هذه الآية، {لعلكم تعقلون} كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.

الإشارة: خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق: أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة: انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال: موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال:

ص: 319

إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ

كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ

اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل.

قلت: {المصدقين} مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل، من: تصدّق، أدغمت التاء في الصاد، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق. و {أقرضوا} : عطف على الصلة، أي: إن الذين تصدّقوا وأقرضوا.

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات} أي: المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو: المصدقين بالله ورسوله والمصدقات، {وأقرضوا اللهَ قرضاً حسناً} وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ، بقلب طيب، {يُضاعف لهم} بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة، {ولهم أجرٌ كريمٌ} الجنة وما فيها.

وقد ورد في الصدقات أحاديث، منها: أنها تدفع سَبعينَ باباً من السوء، وتزيد البركة في العمر. رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح، وخرجا من عنده مسرورين، وحضر ملك الموت، فقال: لا تعجب من سرورهما، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب، حتى ذهبت ستة أيام، ثم خمسة أشهر، فعجب من ذلك، فدخل عليه ملك الموت، فسأله عن ذلك، فقال: إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك، فلما خرج من عندك لقيه سائل، فدفع له درهماً، فدعا له بالبقاء، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته. هـ. وانظر عند قوله:{يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} [الرعد: 38] ، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه، فدعا موسى عليه السلام عليه، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف، فنزل الثعبان، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه.

{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} المبالغون في التصديق، أو الصدق، وهو أولى؛ لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً،

ص: 320

كمسّيك من أمسك. {و} هم أيضاً {الشهداءُ عند ربهم} وظاهره: أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء، وليس كذلك، فينبغي حمل قوله:{آمَنوا} على خصوص إيمان وكماله، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم، ولم يتوقفوا ساعة، أي: سبقوا إلى الإيمان، واستشهدوا في سبيل الله. وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق. وقيل: كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد، أي: ملحق بهما، وإن لم يتساووا في النعيم، كقوله: {وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ

} [النساء: 69] .

والحاصل على هذه العبارة: الترغيب في الإيمان والحث عليه، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه، تقول: فلان هو حاتم بعينه، إذا شابهه في الجود، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مؤمنو أمتي شهداء " قال مجاهد: (كل مؤمن صدّيق وشهيد)، أي: على ما تقدّم، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به، وقال بعضهم: معنى الشهداء هنا: أنهم يشهدون على الأمم. قال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله: " الصدّيقون "، وقوله:" الشهداء " استئناف كلام، أي: والشهداء حاضرون عند ربهم، أو: والشهداء {لهم أجرهم ونورهم} عند ربهم، قال أبو حيان: والظاهر: أن " الشهداء " مبتدأ، خبره ما بعده. هـ.

قلت: الظاهر: أنَّ الآية متصلة، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد، أي: يلحق بهم، وقوله:{لهم أجرهم ونورهم} أي: لهم أجر الصدّيقين ونورهم، على التشبيه، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به. وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام، ويؤيد عدم التقييد: ذكر ضده عقبه، كما هو عادة التنزيل، بقوله:{والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} .

الإشارة: إنَّ المصدّقين والمصدّقات، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً، أي: قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم،

ص: 321

ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله:{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي: هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم؛ لِصدق الفراسة؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة. هـ.

وقال القشيري: الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال: هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء: الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم: ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.

يقول الحق جل جلاله: {اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ} كلعب الصبيان، {وَلَهوٌ} كلهو الفتيان، {وزِينَةٌ} كزينة النسوان، {وتفاخر بينكم} كتفاخر الأقران، {وتكاثرٌ} كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - {في الأموال والأولاد} أي: مباهاة بهما. والتكاثر: الاستكثار، والحاصل: أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال:{كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ} أي: الحُرّاث، من: كَفَرَ الحبَ: ستره، ويقال: كفرت الغمامُ النجومَ: سترتها، أي: أعجب الزراع {نباتُه} أي: النبات الحاصل منه، {ثم يَهيجُ} أي: يجف بعد خضرته ونضارته، {فتراه مُصْفراً} بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل: ثم تراه؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. {ثم يكون حُطاماً} متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو:

ص: 322

الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.

وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري: الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً: طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً: المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. هـ.

{

وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ} لمَن أعرض عن الله، {ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ} لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل: أنّ الدنيا ليست إلَاّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، {وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور} لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور: هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون: يا معشر المريدين؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.

ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال:{سابِقوا} بالأعمال الصالحة {إِلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أو: سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، {وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض} أي: كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلَاّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات! {أُعِدَّتْ} تلك الجنة {للذين آمنوا بالله ورسله} وهو دليل أنها مخلوقة، {ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء} وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في

ص: 323

الحديث: {والله ذو الفضل العظيم} وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل، الذي لا غاية وراءه.

الإشارة: قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء، شبّهها بالماء المالح، يغرق ولا يروي، ويضر ولا ينفع، وشبهها بظل الغمام، يغر ويخذل، وشببها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار، وبسحاب الصيف، يضر ولا ينفع، وبزهر الربيع، يغر بزهرته، ثم يصفر فتراه هَشيماً، بأحلام النائم، يرى السرورَ في منامه، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف، يغر ويقتل. هـ. قال حفيده: فتأملت هذه الحروف سبعين سنة، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها، وتترك مَن أعرض عنها. هـ. وفي كتاب قطب العارفين، لسيدي عبد الرحمن اللجائي، قال: فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى: بغض الدنيا، التي هي ظلمة القلوب، وحجاب لوائح الغيوب، والحاجزة بين المحب والمحبوب، فبقدر رفضها يستعد للسفر، ويصح للقلوب النظر، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه، ويقبل على أخراه. هـ.

وذكر القشيري في إشارة الآية: أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام: وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره.

قوله: {سابِقوا

} الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر:

السباقَ السباقَ قولاً وفعلا

حَذَّر النفسَ حسرةَ المسبوق

حُكي عن أبي خالد القيرواني، وكان من العُبّاد، المجتهدين: أنه رأى خيلاً يسابقَ بها، فتقدمها فَرَسان، ثم تقدم أحدهما الآخر، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول، فتخلّل أبو خالد، حتى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقبّله، ويقول: بارك الله فيك، صبرت فظفرت، ثم سقط مغشيّاً. هـ. قال الورتجبي: دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع، يعني في قوله:{سارِعوا} ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب؛ لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب، حين لم يعرفوه حقّ معرفته، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه. هـ. أي: دعاهم إلى التطهير من

ص: 324

الاغترار بمعرفته، وهي لم تحصل. والله تعالى أعلم.

قلت: {في الأرض} : نعت لمصيبة، أي: كائنة في الأرض، و (في كتاب) : حال.

يقول الحق جل جلاله: {ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض} من الجدب وآفات الزروع والفواكه، {ولا في أنفُسِكُم} من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد {إِلَاّ} مكتوب {في كتابٍ} اللوح {من قبل أن نبرأها} أي: مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب، {إِنّ ذلك على الله يسير} أي: إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة، وكما كُتبت المصائب، كُتبت المسرات والمواهب، وقد يدلّ عليها قوله تعالى:{لِكَيْلا تأسَوا} أي: أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا {على ما فاتكم} من الدنيا حزناً يقنطكم، {ولا تفرحوا} فرح المختال الفخور {بما آتاكم} من الدنيا وسعتها، ومن العافية وصحتها، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر، يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدّر إتيانه، لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات، ولا فرحه بما هو آت، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته، وتطهير من سيئاته، ففي صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ، ولا نَصَب، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهمَ يَهُمُّه، إلَاّ كفّر به من سيئاته " وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: " عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن: إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له "، وقال أيضاً:" مَا مِنْ مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها، إلَاّ كُتبتْ له درجةٌ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ ". وليس أحد إلَاّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به، لأنه طبع بشري، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول:(اللهم إنا لا نستيطع إلَاّ أن نفرح بما آتيتنا) ، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر، والمؤدّي إلى الفخر، {واللهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور} فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا،

ص: 325

وعظمت في نفسه، اختال وافتخر بها، لا محالة. وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.

ثم أبدل من " كل مختال " تفسيراً له فقال: {الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل} أي: لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم، فبخلوا به، وأَمروا غيرهم بإمساكه، ويحضُّونهم على البخل والادخار، {ومَن يتولَ} يُعرض عن الإنفاق، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي، {فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ} أي: غني عنه وعن أنفاقه، محمودٌ في ذاته، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هلو لمصحلة المنفق فقط. وقرأ المدنيان وابن عامر بغير " هو " الذي يفيد الحصر، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين، مع تأكيد " إنّ "، وقرأ الباقون بزيادتها؛ للتنصيص على الحصر والتأكيد، وهو ضمير فصل عن البصريين، أي: الفرق؛ لأنه يفرق بين الخبر والصفة، وعماد عند الكوفيين، ورابطة عند المنطقيين.

الإشارة: ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلَاّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري: هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت: وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم:

لَا يَفرحونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمُ

قَوْماً وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلوا

ثم قال: ويُقال: إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي: العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى: {لِكَيلا تأسوا

} الآية. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: " ما تجده

ص: 326

القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان "، وقال ابن الفارض، في شان الخمرة إذا دخلت القلب:

وإِنْ خطرتْ يوماً علَى خاطرِ امرىءٍ

أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ

أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " يا داود، قُل للصدِّيقين: بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا " واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل:" ما لك، لو لم تأتها لأتتك "، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان: قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب. هـ.

قلت: في تفريقه نظر، والحق: التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً

} [الطلاق: 2] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة {لَا يُسأل عَمَّا يَفْعَلُ وهم يُسألون} وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يتربت عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.

قوله تعالى: {والله لا يُحب كل مختال فخور} قال القشيري: لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. {الذين يبخلون} بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله: {لقد أرسلنا رسلنا} من البشر {بالبينات} الحُجج والمعجزات، أو: لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى:{وأنزلنا معهم الكتابَ} أي: جنس الكتاب الشامل للكل؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب: بأن التقدير: وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، {و} أنزلنا {الميزانَ} أي: الشرع؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، {ليقوم الناسُ بالقسط} أي: العدل، وقيل المراد: الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال:" مُرْ قومَك يَزِنوا به ". {وأنزلنا الحديدَ} قال ابن عباس: " نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء: السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ، والمِطرقة، والإبرة ". أو: {أنزلنا الحديد} أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل: المراد به السلاح.

وحاصل مضمن الآية: أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. {فيه بأس شديد} أي: قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، {ومنافعُ للناس} يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، {وليعلم اللهُ} علم ظهور {مَن ينصُرُه ورسُلَه} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، {بالغيبِ} غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، {إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ} فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب.

قال النسفي: والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة: أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم: أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها

ص: 328

بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد. هـ.

{ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم} خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام {وجعلنا في ذريتهما} أولادهما {النبوةَ} الوحي {والكتابَ} جنس الكتاب. وعن ابن عباس: " الخطّ بالقلم ". يقال: كتب كتاباً وكتابة. {فمنهم} من الذرية، أو: مِن المرسَل إليهم، المدلول عليه من الإرسال، {مُهتدٍ} إلى الحق، {وكثيرٌ منهم فاسقون} خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق.

{ثم قَفِّينا على آثارهم} أي: نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو: مَن عاصروهم من الرسل، {برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم} أي: أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم. والتقفية: من القفا، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه، {وآتيناه} أي: عيسى {الإِنجيلَ} وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب، {وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه} وهم النصارى {رأفةً} مودةً وليناً، {ورحمةً} تعطُّفاً على إخوانهم، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين، وطائفة من اليهود، وكفرت به الطائفة الباقية، فالنصارى أشياع الحواريين، فما زالت الرحمة فيهم، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر. {ورهبانيةً ابتدعوها} من باب الاشتغال، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم. أو: معطوفة على ما قبلها، أي: وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم، أي: وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها، وهي: المبالغة في الرهبة بالعبادة، والانقطاع عن الناس، وهي منسوبة إلى الرَهْبان، وهو الخائف، فعلان من: رَهَبَ، كخشيان، من خشي. وقرئ بضم الراء، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب، كراكب وركبان. وسبب ابتداعهم إياها: أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلَاّ القليل، فخافوا أن يفتونهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال، فارين بدينهم، مختلِّصين أنفسهم. انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً.

{

ما كتبناها عليهم} أي: لم نفرضها عليهم، ولكن نذروها على أنفسهم. ما فعلوا ذلك {إِلَاّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله} عليهم، قيل: الاستثناء منقطع، أي: ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل من أعم الأحوال، أي: ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان، {فما رَعَوْها حقَّ رعايتها} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله، لا يحلّ نكثه، وقيل: في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أي: فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى:{فآتينا الذين آمنوا منهم} إيماناً صحيحاً، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم {أجرَهم} ما

ص: 329

يخصهم من الأجر، {وكثيرٌ منهم فاسقون} خارجون عن حد الاتباع، كافرون بالله ورسوله.

الإشارة: كل زمان يبعث اللهُ رُسلاً يدعون إلى الله، وهم الأولياء العارفون، خلفاء الرسل، بالبينات الواضحة على ولايتهم، لمَن سبقت له العناية، وأنزلنا معهم الكتاب، أي: الواردات الإلهية، والميزان، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان، فيزن بها أحوالَ المريدين، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد، والأعمال، والأحوال، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط، من غير إفراط ولا تفريط، وأنزلنا الحديد، إشارة إلى الجذب، الذي في قلوب العارفين، فيه بأس شديد، يذهب العقول، ومنافع للناس، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين، ومَن لم يكن له ذلك الجذب، فلا يصلح للتربية؛ لأنه ظاهري محض، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر، وإلَاّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين. خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم، بالغيب، أي: مع غيب المشيئة عنهم، فهم يجتهدون في نصر الدين، وينظرون ما يفعل الله، وما سبق به القدر، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها، إنَّ الله قوي، يُقوي قلوب المتوجهين، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين.

ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أمِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه المة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.

وقوله تعالى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً} هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة: المساجد والزوايا، كما في الحديث. وليس من شأن

ص: 330

العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي: وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة: أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة: أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله:" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل: إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله: {يأيها الذين آمنوا} بالرسل المتقدمة {اتقوا اللهَ} أي: خافوه {وآمِنوا برسوله} محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، {يُؤتِكم كِفْلَين} نصيبين {من رحمته} لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، {ويجعل لكم نوراً تمشون به} يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله: {يَسْعَى نُورُهُم

} [الحديد: 12] الخ، {ويغفرْ لكم} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، {واللهُ غفور رحيم} ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب: قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي

" الحديث. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين

الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين: " مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود

ص: 331

إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل: ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجراً؟ فقال: هي ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء ". قيل: لمّا نزل قوله: {أولئك يُؤتون أجرَهم مرتين بما صبروا} افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزل. {يا أيها الذين آمنوا

} الخ. ولمَّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألَاّ يقدرون على شيء

} الخ، أي: إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب إنه، أي: الأمر والشأن لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرتهم، فـ " إنْ " مخففة، واسمها: ضمير الشأن، و (لا) مزيدة، أي: ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون {على شيءٍ من فضل الله} ولا يملكونه، حتى يخصوا به مَن شاؤوا، {و} ليعلموا أيضاً {أنَّ الفضلَ بيد الله} في ملكه وتصرفه، {يُؤتيه من يشاء} من عباده {واللهُ ذو الفضل العظيم} لا نهاية لفضله. وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله:{لئلا يعلم أهل الكتاب} أي: مَن لم يؤمن منهم، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية، المتضمنة لمعنى الشرط، أي:{يا أيها الذين آمنوا} بموسى وعيسى {اتقوا الله وآمنوا برسوله} فإن فعلتم ذلك {يُؤتكم كفلين من رحمته

} الخ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً، وأنَّ الفضل بيد الله

الخ.

الإشارة: تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلم.

ص: 332

في شأنها: {قد سمع الله

} ويقال: صارت قصتها فرجةً ورحمةً للمؤمنين إلى يوم القيامة، في قضية الظهار، ليعلم العالمون أنه لا يخسر على الله أحد. هـ.

ولمّا نزلت السورة بإثر الشكوى، قالت عائشة رضي الله عنها:" ما أسمع الله " تعجُّباً من سرعة نزولها.

{وتشتكي إلى اللهِ} أي: تتضرع إليه، وتُظهر ما بها من الكرب، {واللهُ يسمع تحاورَكما} مراجعتكما الكلام، من: حاور إذا رجع. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدُّده، وفي نظمها في سلك الخطاب تشريفٌ لها. والجملة استئناف، جار مجرى التعليل لِمَا قبله، فإنّ إلحافَها في المسألة، ومبالغتها في التضرُّع إلى الله تعالى، ومدافعته صلى الله عليه وسلم إياها، منبئٌ عن التوقف وترقُّب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة، أي: قد سمع قول المرأة وأجاب طلبتها؛ لأنه يسمع تحاوركما. وقيل: هو حال، وهو بعيد. {إِنَّ الله سميع بصير} تعليل لِما قبله، أي: مُبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات، ومِن قضيته: أن يسمع تحاوركما، ويرى ما يقارنه من الهيئات، التي مِن جملتها: رفع رأسها إلى السماء، وإثارة التضرُّع، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة، وتعليل الحكم بوصف الألوهية، وتأكيد الجملتين.

الإشارة: قد سمع الله قولَ الروح، التي تُجادل في شأن القلب؛ لأنه مقرها ومسكنها، إن صلح صلحت، وإن فسد بحب الدنيا ومتابعة الهوى، فسدت، فهي تُجادل رسولَ الإلهام وتشتكي إلى الله من القلب الفاسد، والله يسمع تحاورهما وتضرعَها إن صدقت في طلب الحق، فيُجيب دعاءها، ويُقيض لها طبيباً يُعالجه، حتى ترجع لأصلها منه، إِن الله سميعٌ بصير.

يقول الحق جل جلاله: {وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ} وأصله: يتظهرون، فأدمغت التاء في الظاء، وقرأ عاصم: بضم الياء وتخفيف الظاء، مضارع ظاهر؛ لأنّ كل واحد يباعد

ص: 332

‌سورة الشمس

يقول الحق جل جلاله: {والشمسِ وضُحاها} أي: وَضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها، {والقمرِ إِذا تلاها} ؛ تبعها في الضياء والنور، وذلك في النصف الأول من الشهر، يخلف القمرُ الشمسَ في النور، {والنهارِ إِذا جلَاّها} أي: جلّى الشمسَ وأظهرها للرائين، وذلك عند افتتاح النهار وانبساطه؛ لأنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء، وقيل: الضمير للظلمة، أو الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله:{مَا تَرَكَ عَلَىا ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45]، {والليلِ إِذا يغشاها} أي: يستر الشمس ويُظْلِمُ الأفاق، والواو الأولى في هذه الأشياء للقسم باتفاق، وكذا الثانية عند البعض، وعند الخليل: الثانية للعطف؛ لأنَّ إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز، ألا ترى: أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان المعنى على حاله، وهما حرفا عطف، وكذا الواو، ومَن قال: إنها للقسَمَ احتجّ بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين، لأنَّ قوله:{وَالْلَّيْلِ} [الليل: 1]ـ مثلاً ـ مجرور بواو القسم، {إِذا يغشى} منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم، فلو جعلت الواو التي في {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا} [الليل: 2] للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جرًّا، و {إذا تجلى} معطوفاً على " يغشى " نصباً، وكان كقولك: إنَّ في الدار زيداً، والحُجرة عَمْراً، وأجيب بأنّ واو القسم تنزّلت منزلة الباء والفعل، حتى لم يجز إبراز الفعل معها، فصار كأنها العاملة جرًّا ونصباً، وصارت كعاملٍ واحد له معمولان، وكلُّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحدٍ بالاتفاق، نحو: ضرب زيدٌ

ص: 308

عمراً وأبو بكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل.

{والسماءِ وما بناها} أي: ومَن بناها، وإيثار " ما " على " مَنْ " لإرادة الوصفيّة تفخيماً، كأنه قيل: والقادر العظيم الذي بناها، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم، وكذا في قوله:{والأرضِ وما طحاها} أي: بسطها من كل جانب، كـ " دحاها ".

{

ونفسٍ وما سوَّاها} أي: والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها، مستعدة لكمالاتها، والتنكير للتفخيم، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير، وهو الأنسب للجواب، أي: ومَن سوّى كلَّ نفس، {فألْهَمَها فجورَها وتقواها} أي: ألهمها طاعتها ومعصيتها، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة، أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] أي: ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها، فسعت إليه. {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاها} أي: فاز بكل مطلوب، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة، {وَقَدْ خَابَ مَن دسَّاها} ؛ أغواها، قال عكرمة:" أفلحت نفس زكّاها اللهُ، وخابت نفس أغواها الله " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد. والتدسية: النفس والإخفاء، أي: خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور، وأصل دسّى: دسّس، كتقضى وتقضض، فأبدل من الحرف الثالث ياء، قال في الكافية:

وثَالِثَ الأمثال أبدلنه ياء

نحو تظنا خالد تظنينا

وجواب القسم محذوف، والتقدير: ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود، وقيل:" قد أفلح " وليس بشيء، وقيل:" كذبت ثمود " على إضمار " قد " والأول أحسن، والله تعالى أعلم.

الإشارة: والشمس شمس العرفان، وابتداء ضُحاها في أول الفناء، والقمر قمر الإيمان، إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها، أي: ظلمة حس الكائنات، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن، والليل؛ ليل القطيعة، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه، أو يتسلّى فيُسلب، أو نهار البسط إذا جلاّها، أي: ظلمة القبض، وليل القبض إذا يغشاها، أي: شمس نهار البسط، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح، وما بناها؛ رفعها، والأرض أرض الأشباح، وما طحاها، أي: بسطها للعبودية، ونفسٍ وما سوّاها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد، فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل، قال الورتجبي: سوّاها بتسوية الصِفة، ورقمها بنور الآزلية، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله:{فألهمها فجورها وتقواها} عرّفها أولَا طريق القهر حتى عرفت المهلكات، ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت

ص: 309

معالجتها من المنجيات، والمقصود منها: عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف، حتى تكمل معرفةُ صانعها. هـ.

قال القشيري: فألهمها فجورها وتقواها: بأن خَذَلَها ووَفَّقَها، ويقال: فجورها: حركتها في طلب الرزق، وتقواها: سكونها لحُكْم التقدير. ثم قال: ويُقال: أفلح مَن طهَّرها من الذنوب والعيوب، ثم عن الأطماع في الأَعواض، ثم العبد نفسه عن الاعتراض على الأنام، وعن ارتكاب الحرام، وقد خاب مَن خان نفسه وأهملها عن المراعاة، ودسَّها بالمخالفات، وفي نوادر الأصول ما حاصله: أنَّ دسّاها بمنزلة مَن دسّ شيئاً في كوة، يمنع من دخول الضوء، كذلك الهوى والشهوة سدّ وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة والوصلة. هـ.

يقول الحق جل جلاله: {كذبتْ ثمودُ} صالحاً {بطغواها} أي: بسبب طغيانها، إذ الحامل لهم على التكذيب هو طغيانهم، وفيه وعظ لأمثالهم، وتهديد للحاضرين الطاغين؛ لأنَّ الطغيان أجرم الجرائم الموجبة للهلاك والخيبةِ في الدنيا والآخرة. {إِذ انبعث أشقاها} ، منصوب بـ " كذبتْ "، أي: حين قام أشقى ثمود، وهو: قُدّار بن سالف، أو: هو ومَن تصدّى معه للعقر من الأشقياء، فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد، والمذكر والمؤنث. وفضل شقاوتهم على مَن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به.

{فقال لهم} أي: لثمود {رسولُ الله} صالح عليه السلام، عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجوب طاعته، وبياناً لغاية عتوهم، وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله:{ناقةَ الله} أي: احذروا عقرها، أو احفظوها، {و} الزموا {سُقياها} فلا تُدَوروها في نوبتها، وهما منصوبان على التحذير. {فكذّبوه} فيما حذّرهم به من نزول العذاب بقوله:{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] ، {فعقروها} ، أسند الفعل إليهم، وإن كان العاقر واحداً، لقوله:{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىا فَعَقَرَ (29) } [القمر: 29] لرضاهم به. قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم. وذكرانهم وإناثهم ". {فَدَمْدَمَ عليهم ربُّهم} ؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم. قال الهروي: إذا كررت الإطباق قلت: دمدمت عليه، أي: أدمت عليه الدمدمة، وقيل: فدمدم عليهم: عَضِبَ عليهم، {بذنبهم} ؛ بسبب ذنبهم، وصّرح به مع دلالة الفاء عليه للإيذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر

ص: 310

به كل مذنب. {فسوَّاها} أي: الدمدمةّ بينهم، لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم، أو فسوّى ثمود بالأرض بتسوية بنائها وهدمه، {وَلآ يَخَافُ عُقْبَآهَا (15) } [الشمس: 15] أي: عاقبتها وتَبِعَتها، كما يخاف سائر المعاقِبين أي: فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة مِن أحد، كما يخاف مَن يعاقب مِن الملوك وغيرهم، لأنه تصرف في ملكه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) } [الأنبياء: 23] . ومَن قرأ بالواو فهو للحال، أو الاستئناف.

الإشارة: قال القشيري: كذبت ثمودُ النفس بسبب طغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية، واللذات الجسمانية، إذ انبعث أشقاها، هو الهوى المتبع، الساعي في قتل ناقة الروح، فقال لهم رسول الله؛ القلب الصالح: ناقةَ الله، أي: اتركوا ناقةَ الله ترعى في المراتع الروحانية، من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات، فكذّبوه؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسولَ القلب، فعقروها، أي: الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية، فَدَمْدَم عليهم ربُّهم؛ على ثمود النفس وقومها عذاب البُعد والطرد، بذنبهم، فسوّاها، أي: فسوّى الدمدمة، وهي الإطباق على النفس وجنودها، فلا يخاف عقباها لغناه عن العالمين. هـ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 311

‌سورة الليل

يقول الحق جل جلاله: {والليلِ إِذا يغشى} أي: حين يغشى الشمس، كقوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) } [الشمس: 4] أو: كل ما يواريه بظلامه. وقال القشيري: إذا يغشى الأفق وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته. {والنهارِ إِذا تَجَلَّى} أي: ظهر وأسفر ووضح، {وماخَلَقَ الذكَرَ والأُنثى} أي: والقادر الذي خلق الذكر والأنثى من كل ما له توالد مِن ماءٍ واحد، وقيل: هما آدم وحواء، و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية. وقُرىء " والذكر والأنثى " وقرىء " الذي خلق الذكر والأنثى ". جواب القسم:{إِنَّ سعيَكم} أي: عملكم {لشتَّى} ؛ لمختلف، جمع شتيت، أي: إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة.

ثم فصّله فقال: {فأّمَّا مَن أعطى} حقوق ماله {واتقى} محارمَ الله التي نهى عنها، {وصدَّق بالحسنى} ؛ بالخصلة الحُسنى، وهي الإيمان، أو بالكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو بالملة الحسنى، وهي الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده اللهُ به يوصله إليه، ولا يجري على قلبه خاطر شك، {فسَنُيَسِّره لليُسرى} ؛ فسنهيئه للطريقة التي تؤدي إلى الراحة واليُسر، كدخول الجنة ومبادئه. قال ابن عطية: معناه: سنظهر عليه تيسيرنا إياه بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وحَتْم تيسيره كان في علم الله أزلاً. هـ. يقال: يسَّرَ الفرس، إذا أسرجها وألجمها.

{وأمّا مَن بَخِلَ} بماله، فلم يبذله في سبيل الخير، {واستغنَى} أي: زهد فيما عند الله تعالى، كأنه مستغنٍ عنه فلم يتقه، أو: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة،

ص: 312

{وكَذَّب بالحُسنى} أي: بالخصلة الحسنى، على ما ذكر من معانيها، {فسَنُيَسِّره للعُسرى} أي: للخصلة المؤدّية إلى العسر والشدة، كدخول النار ومقدماته، لاختياره لها. وقال الإمام ـ أي الفخر ـ: كل ما أدّت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة، فذلك اليسرى، وهو وصف كل الطاعات، وكل ما أدّت عاقبته إلى التعب والردى، فذلك العُسرى، وهو وصف كل المعاصي. هـ. {وما يُغني عنه مالُه} الذي بَخِلَ به، أي: لا ينفعه شيئاً {إِذا تَرَدَّى} ؛ هَلَكَ، تفعّل، من الردى، أو تردَّى في حفرة القبر، أو في قعر جهنّم، والعياذ بالله.

الإشارة: أقسم تعالى بليل الحجاب، إذا يغشى القلوبَ المحجوبة، ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب الصافية، وكأنه تعالى أقسم بقهر جلاله، ولُطف جماله، وقدرته على خلق أصناف الحيوانات، إنَّ سعي الناس لشتى، فأمّا مَن أعطى مالَه ونفسَه، واتقى كلَّ ما يشغله عن المولى، فَسنُيَسِّره لسلوك الطريق اليُسرى، التي توصل إلى حضرة المولى. وقال الورتجبي: سهّل له طريقَ الوصول إليه، ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية. وقال القشيري: نُسَهِّلُ عليه الطاعات، ونُكَرِّه إليه المخالفات، ونهيىء له القُربَ، ونُحَبِّبُ له الإيمان، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان. هـ. وأمَّا مَن بَخِلَ بماله ونفسه، واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان، وقنع بمقام الإيمان، فسَنُيسره للعُسرى، وهي طريق البُعد والحجاب، كاشتغاله بحب الدنيا، وجمع المال، وما يُغني عنه ماله إذا تردى في مهاوي البُعد والردى.

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ علينا لَلْهُدى} ؛ إنَّ علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل، وتبيين الشرائع، أو: إن علينا بموجب قضائنا المَبْنيِّ على الحِكَم البالغة، حيث خلقنا الخلق للعبادة، أن نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك مما لا مزيد عليه، حيث بَيَّنَّا حال مَن سلك كلا الطريقين، ترغيباً وترهيباً، فتبيّن أنَّ الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البُغية، لا الدلالة الموصلة إليها حتماً. قاله أبو السعود.

{وإِنَّ لنا للآخرة والأُولى} أي: التصرُّف الكلي فيهما، كيفما نشاء، فنفعل فيهما ما نشاء، فنُعطي الدنيا لمَن نشاء، والآخرة لمَن نشاء، أو نجمع له بينهما، أو نحرمه منهما، فمَن طلبهما مِن غيرنا فقد أخطأ، أو: إنَّ لنا كُلَّ ما في الدنيا والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهُدانا.

ص: 313

{فَأّنْذَرتكم} ؛ خوَّفتكم {ناراً تلضى} ؛ تتلهب، {لا يَصْلاها إِلاّ الأشقى} ؛ لا يدخلها للخلود فيها إلاّ مَن سبق له الشقاء، {الذي كذَّب وتَوَلَّى} أي: الكافر الذي كذّب الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وتَوَلى عن الإيمان، {وسَيُجنبها} ؛ وسيبعِّدها {الأتقى} ؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي، فلا يحوم حولها، فضلاً عن دخولها، وأمّا مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد هذا البُعد، وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور، فلا يُنافي الحصر المذكور. {الذي يُؤتى مالَه} للفقراء {يتزكَّى} أي: يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يُريد به رياءً ولا سمعةً، من: الزكا، وهو الزيادة، أو: تفعّل من الزكاة، أو: يتطهر من الذنوب والعيوب، وهو حال من ضمير " يؤتى ". {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى} أي: ليس لأحدٍ عنده نعمة من شأنها تجزى وتكافأ، {إِلَاّ ابتغاءَ وجه ربه} : استثناء منقطع، أي: لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه {الأعلى} أي: الرفيع بسلطانه، المنيع في شأنه وبرهانه.

والآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً في جماعة كان المشركون يؤذونهم، فأعتقهم. ولذلك قالوا: المراد بالأشقى: أبو جهل وأمية بن خلف. وعن ابن عباس رضي الله عنه: عذَّب المشركون بلالاً، وبلالٌ يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ، فمرّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:" ينجيك أحد أحد " ثم أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وقال له:" إنَّ بلالاً يُعذَّب في الله " فعرف مراده، فاشتراه برطل من ذهب، وقيل: اشتراه بعبدٍ كان عنده اسمه " نسطاس " وكان له عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري، وكان مشركاً، فقال له الصدِّيق: أسْلِم ولك جميع مالك، فأبى، فدفعه لأمية بن خلف، وأخذ بلالاً، فأعتقه، فقال المشركون: ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده، فنزلت. رُوي أنه اشتراه، وهو مدفون بالحجارة، يُعَذَّب على الإسلام، قال عروة: أَعتق أبو بكر سبعة، كلهم يُعذب في الله، بلال وعامر بن فهيرة، والنجدية وبنتها، وزِنِّيرة، وبيرة، وأم عُبيس، وأمة بني المؤمِّل. قال: وأسْلَم وله أربعون ألفاً، فأنفقها كلها في سبيل الله. وقال ابن الزبير: كان أبو بكر يشتري الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: لو كنت تبتاع مَن يمنع ظهرك، فقال: مَنْعَ ظهري أريد، فنزلت فيه:{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) } [الليل: 17] الآية. واسمه: عبد الله بن عثمان، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عبد الله.

وقوله تعالى: {ولسوف يرضى} جواب قسم مضمر، أي: والله لسوف نُجازيه فيرضى، وهو وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها، إذ به يتحقق رضاه، وهو كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا (5) } [الضحى: 5] .

الإشارة: إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق، فإنا أنزلنا كتاباً ما فرطنا فيه من شيء، وبعثنا رسولاً يهدي إلى الرشد، وجعلنا له خلفاء في كل زمان،

ص: 314

يهدون بأمرنا إلى حضرة قدسنا، وإنَّ لنا للآخرةَ لِمن طلبها، والأوُلى لِمن طلبها، وأظهرنا أسرار ذاتِنا لمَن طلبها، فأنذرتكم ناراً تلظى، وهي نار البُعد لا يصلاها إلا الأشقى، الذي سبق له البُعد منا. {الذي كذَّب وتولَّى} ، قال القشيري: أي كذَّب الحق في مظاهر الأولياء والمشايخ وأرباب السلوك، وأعْرَض عن قبول إرشادهم ونصائحهم، وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية، وسيُجنبها الأتقى، أي: يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب مَن اتقى السِّوى، الذي يؤتى ماله تقرُّباً إلى الله ليتزكّى من العيوب والأنانية، {وما لأحدٍ عنده من نعمة تُجزى} أي: ليس إحسانه في مقابلة حرف {إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي: إلاّ طلب معرفة ذاته العلية، {ولَسَوف يَرضى} بدوام شهود الذات الأقدس. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 315

‌سورة الضحى

يقول الحق جل جلاله: {والضُحى} ، المراد به: وقت الضحى، وهو حدود النهار حتى ترتفع الشمس، وإنما خُصّ بالإقسام به لأنه الساعة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام، والتي وقع فيها السحرة ساجدين، أو: النهار كلّه؛ لمقابلته بالليل في قوله: {والليلِ إِذا سجى} ؛ سَكَن، المراد: سكون الناس والأصوات فيه، أو ركد ظلامه، من: سجا البحر إذا سكنت أمواجه، وقيل: المراد بالضحى: ساعة مناجاة موسى، وبالليل: ليلة المعراج.

وجواب القسم: {ما ودّعَكَ ربُّك} أي: ما تركك منذ اختارك، {وما قَلَى} أي: وما أبغضك منذ أحبك، والتوديع: مبالغةٌ في الودْع، وهو الترك؛ لأنَّ مَن ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. رُوي أنَّ الوحي تأخّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، فقال المشركون: إنَّ محمداً ودَعَهُ ربُّه وقلاه، فنزلت ردًّا عليهم، وتبشيراً له صلى الله عليه وسلم بالكرامة الحاصلة. وحذف الضمير من " قَلَى " إمّا للفواصل، أو للاستغناء عنه بذكره قبل، أو: للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه تعالى، مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية، وحيث تضمّن ما سبق من نفي التوديع، والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر صلى الله عليه وسلم بأنّ ما سيؤتاه في الآخرة أجلّ وأعظم بذلك، فقيل:{وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولى} ، لأنَّ ما فيها من النِعم

ص: 316

صافية من الشوائب على الإطلاق، وهذه فانية مشوبة بالمضار، وما أوتي صلى الله عليه وسلم من شرف النبوة، وإن كان مما لا يُعادله شرف، ولا يُدانيه فضل، لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض الشاقة على النفس.

ووجه اتصال الآية بما قبلها: أنه لمَّا كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ الله يُواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبر أن ما له في الآخرة أعظم وأشرف، وذلك لتقدُّمه على الأنبياء في الشفاعة الكبرى، وشهادة أمته على الأمم، ورفع درجات المؤمنين، وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تُحيط بها العبارة.

وقوله تعالى: {ولَسَوْفَ يُعطيك ربُّك فَتَرْضى} وَعْد كريمٌ شاملٌ لِما أعطاه الله تعالى في الدنيا، من كما اليقين، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره، وإعلاء دينه بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة، وإعلاء منار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلَاّ الله عز وجل، وقد أنبأ ابنُ عباسٍ عن شيء منها، حيث قال:" أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك ". وفي الحديث: لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: " أنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار " قال بعضهم: هذه أرجى آيةٍ في القرآن. ودخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة، وعليها ثياب من صوف وشعر، وهي تطحن وتُرضع ولدها، فدمعت عيناه، وقال:" يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة " ثم تلا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} . واللام للقسم، وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل.

الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول، عند انتشار شمس روحه على بشريته، وبِلَيل بشريته عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه لغلبة سلطان الحقيقة، ما ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك، وما قَلَى بقطع فيض الولاية عن قلبك، {وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} يعني: أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة، ويترقّى في مقامات القٌرب والكرامة. هـ. ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين، الدعاة إلى الله. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله: {أَلمْ يَجِدْكَ يتيماً} من أبويك {فآوى} أي: ضمَّك إلى جدك، ثم إلى عمك أبي طالب. رُوي أنَّ أباه مات وهو جنين، قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكلفه أولاً جدُّه عبد المطلب، فلما مات جده كَفَلَه عَمُّه أبو طالب، فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه، وقال القشيري: ويُقال: بل آواه إلى ظل كَنَفِه، وربَّاه بلطف رعايته. هـ.

والحكمة في يُتمه صلى الله عليه وسلم: ألاّ يكون عليه منّة لأحدٍ سوى كفالة الحق تعالى. وقيل: هو من قول العرب: دُرة يتيمة إذا لم يكن لها مِثل، أي: ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك، لا نظير لك فآواك إلى حضرته.

{وَوَجَدَك ضالا} ؛ غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول، {فَهَدَى} ؛ فهداك إليها، كقوله:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] . وقال القشيري: أي: ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها، وعَرَّفناك تفصيلَها. هـ. أو: ضالاً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة، ولم يقل أحد من المفسرين: ضالاًّ عن الإيمان. قاله عياض: وقيل: ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل: ضلّ مرة أخرى، وطلبوه فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرّع إلى الله، فسمعوا هاتفاً يُنادي من السماء: يا معشر الناس، لا تضجُّوا، فإنَّ لمحمدٍ ربَّا لا يخذله ولا يُضيّعه. وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالإغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته، وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريلُ عليه السلام، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند، وردّه إلى القافلة. وقوله تعالى:{فَهَدَى} أي: فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى إليك من الكتاب المبين، وعلَّمك ما لم تكن تعلم. {ووجدك عائلاً} ؛ فقيراً من حس الدنيا، {فأَغْنَى} ؛ فأغناك به عما سواه، وزوّجك خديجة، فقامت بمؤونة العيش، أو بما أفاء عليك من الغنائم، قال صلى الله عليه وسلم:

" جعل رزقي تحت ظل رمحي ". {فأمَّا اليتيمَ فلا تقهرْ} ، قال المفسرون: أي: لا تغلبه على ماله وحقه، لأجل ضعفه، وأذكر يتمك، ولا تقهره بالمنع من مصالحه، ووجوه القهر كثيرة، والنهي يعم جميعها، أي: دُم على ما أنت عليه من عدم قهر اليتيم. وقد ورد في الوصية باليتيم

ص: 318

أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى الله " وأشار بالسبابة والوُسطى، وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة "، فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه وأعطاه شيئاً. وقال أنس:" مَن ضمّ يتيماً، فكان في نفقته، وكفاه مؤنته، كان لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار يوم القيامة، ومَن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ".

{وأمَّا السائِلَ فلا تنهرْ} أي: لا تزجره ولا تعبس في وجهه، ولا تغلظ له القول، بل ردّه ردًّا جميلاً، قال إبراهيم بن أدهم: نِعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يمنعنّ أحدُكم السائلَ وإن في يديْه قُلْبَين، من ذهب " أي: سوارين. وقال أيضاً: " أَعْطِ السائِلَ ولو على فرسه " وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رددت السائل ثلاثاُ فلم يرجع عليك أن تَزْبُرَه " وقال الحسن: المراد بالسائل هنا: السائل عن العلم.

{وأمَّا بنعمةِ ربك فحدِّث} بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها، يرد ما أفاضه الله تعالى عليه من فنون النِعَم، التي من جملتها المعدودة والموعودة، والنبوة التي آتاه الله تأتي على جميع النِعم، ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:" التحدُّث بالنِعَم شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول: لقد أعطاني الله كذا، ولقد صلَّيتُ البارحة كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وجه الشكر، أو ليُقتدى به، فأمّا على وجه الفخر والرياء فلا يجوز. هـ.

ص: 319

انظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا، فقال في قوله:{ألم يجدك يتيماً} بقوله: {فأمّا اليتيم فلا تَقْهَر} وقابل قولَه: {ووجدك ضالاً} بقوله: {وأمّا السائل فلا تَنْهَر} على مَن قال: إنه طالب العلم، وقابل بقوله:{وأمّا بنعمة ربك فَحَدِّث} على القول الآخر، وقابل قوله:{ووجدك عائلاً فأَغْنَى} بقوله: {وأما السائل فلا تَنْهر} على القول الأظهر، وقابله بقوله:{وأمَّا بنعمة ربك فحدِّث} على القول الآخر هـ. من ابن جزي.

ولمَّا قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الضحى كبّر في آخرها، فسُنَّ التكبير آخرها، وورد الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها في رواية البزي.

الإشارة: ألم يجدك يتيماً فرداً من العلائق، مجرداً مما سوى الله، فآواك إليه، وهي طريقة كل متوجه، لا يأويه الحق إليه حتى يكون يتيماً من الهوى، بل بقلبٍ مُفرد، فيه توحيد مجرد. قال القشيري: ويُقال فآواك إلى بساط القربة، بحيث انفردْتَ بمقامِك، فلم يُشاركك فيه أحد. هـ. {ووجدك ضالاًّ} قيل: متردداً في معاني غوامض المحبة، فهداك بلطفه لها، أو: وجدك مُتحيراً عن إدراك حقيقتنا، فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا، وفي هذا ملاءمة لمعنى الافتتاح. قال القشيري: ويُقال: ضالاًّ عن محبتي لكن فعرَّفْتُك أني أُحبك، ويقال: جاهلاً شرفَك فعرَّفْتُك قَدْرَكَ. هـ. ووجدك عائلاً فقيراً مما سواه، فأغناك به عن كل شيء، إلاّ طلب الزيادة في العلوم والعرفان، فلا قناعة من ذلك، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] . وفي القوت: إنما أغناه بوصفه، لا بالأسباب، وهو أعز على الله من أن يجعل غناه من الدنيا أو يرضاها له. هـ. وكما أنَّ الله تعالى غَنِيّ بذاته، لا بالأعراض والأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم غَنِيّ بربه لا بالأعراض. قاله في الحاشية. قلت: وكذلك الأولياء رضي الله عنهم سَرَى فيهم اسمه تعالى " الغَنيِّ " فصاروا أغنياء بلا سبب، وما وصّى به الحقٌّ تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم يُوصَّى به خلفاؤه من قوله: {فأمّا اليتيم فلا تقهر

} الخ. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 320

‌سورة الشرح

يقول الحق جلاّ جلاله: {أَلَمْ نشرحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي: ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب والشهادة، وجمع بين ملَكتي الاستفادة والإفادة، فما صدتك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملِكات الروحانية، وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شهود الحق، وقيل: المراد شرح جبريل صدرَه في حال صباه، حين شقّه وأخرج منه علقة سوداء، أو ليلة المعراج فملأه إيماناً وحكمة. والتعبير عن الشرح بالاستفهام الإنكاري للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يُجِيب عنه بغير " بلى ".

وزيادة " لك " وتوسُّطه بين الفعل ومفعوله للإيذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى الله عليه وسلم ومصالحة، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى الله عليه وسلم وتشويقاً إلى ما يعقبه، ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تمكُّن. وقال في الوجيز: هو استفهام معناه التقرير، أي: ألم نفتح ونُوسِّع لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة. قال في الحاشية الفاسية: والظاهر أنه

ص: 321

إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] ، وأنه بادَاه به من غير طلب، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة، متضمن حمل ثقل تبليغها، لكونه في ذلك بربه، ويناسبه ما بعده من وضع الوزر، وهو لغة: الحمل الثقيل، كما في الوجيز، وشرح الصدر: بسطه بنور إلهي. هـ.

{ووضعنا عنك وِزْرَكَ} ، عطف على مدلول الجملة السابقة، كأنه قيل: قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، أي: حططنا عنك عبأك الثقيل، {الذي أَنْقَضَ ظهرك} أي: أثقله حتى سمع له نقيض، وهو صوت الانتقاض، أي: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، أو: يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها، ووضعه عنه: أن يغفر له. قال ابن عرفة: التفسير السالم فيه: أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد، أو يتجوّز في الوزر، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى: أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك، وإن أريد بالوزر المجازي، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية، فيكون الوضع حقيقة، والوزر مجازاً. هـ. قلت: والظاهر: أنَّ كل مقام له ذنوب، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب، فكأنه صلى الله عليه وسلم خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه، فاهتمّ من أجله، وجعل منه حملاً على ظهره، فأسقطه الحق تعالى عنه، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق؛ ليتخلّى من ذلك الاهتمام.

وزاده شرفاً بقوله: {ورفعنا لك ذِكرك} أي: نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب، ومِن رَفْعِ ذكره صلى الله عليه وسلم أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد، وفي مواضع من القرآن:{أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء: 59]{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، وتسميته رسول الله، ونبي الله، وقد ذكره في كتب الأولين. قال ابن عطية: رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة. هـ. قلت: والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه: مَن أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره. هـ. والخمول للمريد أسلم، والظهور للواصل أشرف وأكمل.

ثم بشّر رسولَه وسلَاّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله: {فإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً} أي: إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل: كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم، ثم قال:

ص: 322

{فإِنَّ مع العسكر يُسراً} كأنه قال: خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله، {إِنَّ مع العسر} الذي أنتم فيه {يُسراً} ، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك تكريره، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها:" لن يغلب عسر يسرين " لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليُسر أعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى: إنَّ مع العُسر يسريْن، وبعضهم يكتبه بياءين، ولا وجه له.

{فإِذا فرغتَ} من التبليغ أو الغزو {فانصبْ} ؛ فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة، ووعدك من الآلاء اللاحقة، أو: فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق، وقيل: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، أو: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة، أي: في سبب استحقاق الشفاعة، {وإِلى ربك فارغبْ} في السؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره. وقُرىء:" فرغِّب " أي: الناس إلى ما عنده.

الإشارة: ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله، حرفاً بحرف، فيقال له: ألم نُوسع صدرك لمعرفتي، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا، أو: وضعنا عنك أثقال السير، فحملناك إلينا، فكنت محمولاً لا حاملاً، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير، فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة، أو: فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك، وارغب في هداية الخلق. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 323

‌سورة التين

يقول الحق جل جلاله: {والتينِ والزيتونِ} ، أقسم بهما تعالى لِما فيهما من المنافع الجمّة. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أُهْدِي له طبقٌ من تينٍ فأكل منه، وقال لأصحابه:" كُلوا، فلو قلتُ إنَّ فاكهةً نزلت من الجنة لقُلتُ هذه، لأن فاكهة الجنة، بلا عَجَمِ، فكلوها فإنها تقْطَعُ البواسير، وتنفَعُ من النقْرسِ ". وهو أيضاً فاكهة طيبة لا فضل له، وغذاء لطيف سريع الهضم، كثير النفع، ملين الطبع، ويحلل البلغم، ويُطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح سُرد الكبد والطحال. وعن عليّ بن موسى الرضا: التين يزيل نكهة الفم، ويطيل الشعر، وهو أمان من الفالج. هـ.

وأمّا الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء، ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى به فضلاً. وشجرته هي الشجرة المباركة، المشهود لها في التنزيل. ومرّ معاذُ بن جبل بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيباً واستاك به. وقال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " نعم السواك الزيتون، هي الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفرة " وقال: " هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي " وعن ابن عباس: هو تينكم هذا، وزيتونكم هذا. وقيل: هما جبلان بالشام ينبتانهما.

{وطُورِ سينينَ} ، أضيف الطور وهو الجبل إلى " سينين " وهو البقعة، وهو الجبل

ص: 324

الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه، ويُقال له: سينين وسيناء. {وهذا البلد الأمين} وهو مكة، شرّفها الله، وأمانتها أنها تحفظ مَن دخلها كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه. ووجه الإقسام بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا والآخرة غني عن الشرح والتبيين.

وجواب القسم: {لقد خلقنا الإِنسانَ} أي: جنس الإنسان {في أحسن تقويمٍ} أي: كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى، حيث جعله اللهُ مستوي القامة، متناسب الأعضاء، متصفاً بصفات البارىء تعالى من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الله خلق آدم على صورته "، وفي رواية:" على صورة الرحمن " على بعض الأقوال. وشرح عجائب الإنسان يطول.

{

ثم رددناه أسفلَ سافلين} أي: جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين. وقيل: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القدرة، كقوله تعالى:{وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يَس: 68] أي: ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه، فقوَّس ظهره بعد اعتداله، وابْيَضَّ شعره بعد سواده، وتكمش جلده، وكَلّ سمعه وبصره. {إِلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ، استثناء متصل على التفسير الأول، ومنقطع على الثاني، {فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ} أي: رددناه أسفل السافلين إلَاّ مَن آمن، أو: لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب غير منقطع، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة، خصوصاً وقت الكبر. وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين كُتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غُفرت ذنوبه، وشفع في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما كان يعمله في صحته وشبابه ". ودخلت الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين المعنيين هنا. قاله النسفي. والخطاب في قوله: {فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين} للإنسان، على طريقة الالتفات، أي: فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع، والبرهان الساطع بالجزاء، والمعنى: إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ، وتسويته بشراً سويًّا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي،

ص: 325

ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر، لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ ! أو: بالرسول صلى الله عليه وسلم: أي: فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع؟

{أليس اللهُ بأحكم الحاكمين} وعيد للكفار، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله، وهو من الحُكم والقضاء، أي: أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك. وقيل: مِن الحِكمة، بمعنى الإتقان، أي: أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: " بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ". الإشارة: حاصل ما ذكره القشيري: أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء، لغاية شرفها؛ الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية، والثانية: شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها، وإليه الإشاره بقوله:{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] الخ. والثالثة: شجرة السر، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة. والرابعة: البلد الأمين، الذي هو حال التلبيس والخفاء، بعد التمكين، وهو الرجوع للأسباب، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية، وهو مقام الكملة. والمقسَم عليه:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم} قال القشيري: أي: في المظهر الأكمل والأتم، والمحل الأعم، حامل الأمانة الإلهية، وصاحب الصورة الرحمانية، روحانيته أُم الروحانيات، وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها، ونشأته أوسع النشآت وأشملها. هـ. قلت: وإليه أشار الششتري بقوله:

وفيك يطوى ما انتشر من الأواني

وقول الشاعر:

يا تَائهاً في مهمهٍ عَنْ سِرِّه

انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوجودَ بأَسْره

أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً

يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بأسره

وقال في لطائف المنن، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي: قرأتُ ليلة {والتين والزيتون} إلى أن انتهيت إلى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين} ففكرتُ في معنى الآية، فكشف لي عن اللوح المحفوظ، فإذا فيه مكتوب: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم روحاً وعقلاً، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى. هـ. فقوله تعالى:{إلاّ الذين آمنوا..} الخ؛ هم أهل الروح والعقل، الباقون في حسن التقويم، وغيرهم أهل النفس والهوى، والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

ص: 326

‌سورة العلق

يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم، في أول الوحي:{اقرأ باسم ربك} أي: اقرأ هذا القرآن مفتتحاً باسم ربك، أو مستعيناً به، فالجار في محل الحال. ويحتمل أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو باسم ربك، كأنه قيل له: اقرأ هذا اللفظ. والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية والروحانية بإنزال الوحي المشتمل على نهاية العلوم والحكم. وقوله تعالى: {الذي خلقَ} صفة للرب، ولم يذكر له مفعولاً؛ لأنَّ المعنى: الذي حصل منه الخلق، واستأثر به، لا خالق سواه، أو تقديره: خلق كلَّ شيء، فتناول كلَّ مخلوق؛ لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من البعض.

وقوله تعالى: {خَلَق الإِنسانَ} بتخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه، ولأنَّ التنزيل إنما هو إليه، ويجوز أن يُراد: الذي خلق الإنسان، إلَاّ أنه ذكر مبهماً، ثم فسّر تفخيماً لخلقه، ودلالةً على عجيب فطرته. قيل: لمَّا ذكر فيما قبل أنه خلق الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك، ذكره هنا منبهاً على شيءٍ من أطواره، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك، وما يؤول إليه حاله في الآخرة، فإنه تفسير لقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4، 5]، ثم ذكر أصل نشأته بقوله:{مِن علقٍ} ولم يقل من علقة؛ لأنَّ الإنسان في معنى الجمع. وفيه

ص: 327

إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله.

ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله: {اقرأْ} أي: افعل ما أُمرتَ به، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله:{وربُّك الأكرمُ} فإنه كلام مستأنف، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله:" ما أنا بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ، وأنا أمي، فقيل له:{وربك} الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو {الأكرم} أي: مِن كل كريم، يُنعم على عباده بغاية النعم، ويحلم عنهم إذا عصوه، فلا يعاجلهم بالنقم، فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم. {الذي عَلَّم} الكتابة {بالقلم عَلَّم الإِنسانَ مَا لَمْ يعلم} فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله المنزّلة، إلَاّ بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي:

لله في خلقه مِن صنعه عجبُ

كادت حقائقُ في الوجود تنقلب

كلم بعين تُرى لا الأذنُ تسمعها

خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا

الإشارة: اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك، الذي أظهر الأشياء ليُعرف بها، وأظهر المظهر الأكبر ـ وهو الإنسان ـ من علقة مهينة، ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين، فرفعه من حضيض النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة، ولذلكم قال:(اقرأ وربك الأكرم) الذي تكرَّم عليك وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان مَا لَمْ يكن يعلم. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله: {كلَاّ} ، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك {إِنَّ الإِنسان ليطغى} ؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل: هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر. وقوله:{أن رآه استغنى} مفعول له،

ص: 328

أي: ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً، على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى، لأنه بمعنى عَلِم، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في " ظننتني وعَلِمتني " وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها:" رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان، الماء والتمر "، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب. وحاصل الآية: أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال، وسبب تواضعه هو فقره.

ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان، على طريق الالتفات، فقال:{إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى} أي: الرجوع، فيجازيك على طغيانك. {أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى} أي: أرأيت أبا جهل ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، وهو تشنيع بحاله، وتعجيب منها، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية. رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش، فقال: لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه، فرأه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجاءه، ثم نكص على عقبيه، فقالوا: مالك؟ فقال: حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم:" لو دنا من لاختطفته الملائكة ". وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم، والرؤية هنا بصرية، وأمّا في قوله:{أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى} وفي قوله: {أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى} فعلمية، أي: أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب.

قال في الكشاف: قوله تعالى: (الذي ينهى) هو المفعول الأول لقوله: (أرأيت) الأول، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد، فلا تحتاج إلى مفعول. وقوله:{أَلَمْ يَعْلَم بأنَّ الله يرى} هو جواب قوله: {إن كذَّب وتولى} ، وجواب قوله:{إن كان على الهدى} محذوف، يدل عليه جواب قوله:{إن كذَّب وتولى} فهو في المعنى جواب للشرطين معاً. والضمير في قوله: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للناهي، وهو أبو جهل، وكذا في قوله:{إن كذَّب وتولَّى} ، والتقدير على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى، أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى جميع أحواله، فمقصود الآية: تهديد له وزجر، وإعلام بأنّ الله يراه. وخالفه ابن عطية في الضمائر، فقال: إنَّ الضمير في قوله: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للعبد الذي صلَّى، وأنّ الضمير في قوله:{إن كذَّب وتولى} للناهي، وخالفه في جعل " أرأيت " الثانية مكررة للتأكيد، فقال:" أرأيت " في المواضع الثلاثة توقيف، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَم

ص: 329

بأن الله يرى} فإنه يصلح مع كل واحدة منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً. انظر ابن جزي. وما قاله ابن عطية أظهر، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال: يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، ثم أقبل على الآخر، فقال: أرأيت إن كذَّب. الخ.

وقال الغزنوي: جواب {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} محذوف، تقديره: أليس هو على الحق واتباعه واجب، يعني: فكيف تنهاه يا مكذّب، متولي عن الهدى، كافر، ألم تعلم أن الله يراك. هـ.

{كلَاّ} ، ردع للناهِي عن عبادة الله {لئن لم ينتهِ} عما هو عليه {لَنَسْفعاً بالناصيةِ} ؛ لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف. واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور، ثم بيّنها بقوله:{ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ} فهي بدل، وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز، وهما لصاحبهما. وفيه من الجزالة ما ليس في قوله: ناصية كاذب خاطىء.

{فَلْيَدْعُ ناديَه} ، النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم. رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلّي، فقال: ألم أَنْهكَ؟ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فنزلت. {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار. والزبانية: الشُّرَطِ، واحدة: زِبْنِيَّة أو زِبْنى، من الزبن، وهو الدفع. عن النبي صلى الله عليه وسلم:" لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً ". {كلَاّ} ، ردع لأبي جهل {لا تُطِعْهُ} أي: أثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) } [القلم: 8]{واسجدْ} ؛ واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث {واقترب} ؛ وتقرّب بذلك إلى ربك.

الإشارة: كل مَن أنكر على المتوجهين، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دائمون، يُقال في حقه: أرأيت الذي يَنهى عبدا إذا صلّى.. إلى آخر الآيات. ويُقال للمتوجه: لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك، وتقرّب بذلك إلى مولاك، حتى تظفر بالوصول إليه. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

ص: 330

‌سورة القدر

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} ، نوّه بشأن القرآن، حيث أسند إنزاله إليه بإسناده إلى نون العظمة، المنبىء عن كمال العناية به، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للإيذان بغاية ظهوره، كأنه حاضر في جميع الأذهان، وقيل: يعود على المقروء المأمور به في قوله: {اقْرَأْ} [العلق: 1] فتتصل السورة بما قبلها. وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ليلةٌ القَدْر} لِما فيه من الدلالة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها إلاّ علَاّم الغيوب، كما يُشعر به قوله تعالى:{ليلةُ القدر خيرٌ مِنْ ألف شهرٍ} أي: ليس فيها ليلة القدر، فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى الله عليه وسلم إلى درايتها، فإنَّ ذلك مُعْرِب عن الوعد بإدرائها على ما تقدّم. وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى.

والمراد بإنزاله: إمّا إنزاله كله إلى سماء الدنيا، كما رُوي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل نجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، وإمّا ابتداء نزوله، وهو الأظهر. وسُميت ليلة القدر لتقدير الأمور فيها، وإبراز ما قضى تلك السنة، لقوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) } [الدخان: 4] ، فالقَدْر بمعنى التقدير، أو لشرفها على سائر الليالي، فالقَدْر بمعنى الشرف، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهورِ. لما رُوي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة السابع والعشرين، وقيل غير ذلك ومظان التماسها في الأوتار من العشر الأواخر. ولعل السر

ص: 331

في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع.

وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير، أو لما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي. وقيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما.

ثم بيّن وجه فضلها، فقال:{تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها} ، والروح إمّا جبريل عليه السلام، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة، أو الرحمة. والمراد بتنزلهم: نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم، كما في الأثر. وقيل: إلى سماء الدنيا. وقوله: {بإِذنِ ربهم} يتعلق بـ " تنزلُ "، أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي: ملتبسين بأمر ربهم، أو: ينزلون بإذنه، {من كل أمرٍ} أي: من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله، وقيل: يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين، كما قال تعالى:{سلامٌ هيَ} أي: ما هي إلَاّ سلام على المؤمنين، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس، فقد رُوي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارىء ومُصَلِّ، أو: ما هي إلاِّ سلامة، أي: لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء، وقال ابن عباس: قوله: (هي) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة.

ثم ذكر غايتها، فقال:{حتى مطلَعِ الفجر} أي: تنتهي إلى طلوع الفجر، أو: تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر، أو: تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر. و " مَطْلَع " بالفتح: اسم زمان، وبالكسر مصدر، أو اسم زمان على غير قياس؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر، يعني " مَفْعَل " في الجميع.

الإشارة: أهل القلوب من العارفين، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر، والأماكن عندهم كلها عرفات، والأيام كلها جمعات، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى، كما قال شاعرهم:

ص: 332