المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الإشارة: الذين يباعدون من أنفسهم، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: الإشارة: الذين يباعدون من أنفسهم، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ

الإشارة: الذين يباعدون من أنفسهم، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ الله من الطيبات، تضييقاً وتشديداً عليها، مفْرطين في ذلك، محتجين لذلك بأنهم كانوا في بطن الشهوات، فقد ملكتهم ملك الأم لولدها، قال تعالى:" ما هن أمهاتِهم إنْ أُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون مُنكراً من القول وزوراً " حيث حرّموا ما أحلّ الله، والمراد بذلك الإفراط المؤدي إلى التلف. قال القشيري: لأنّ النفس مطية الروح، فلا تسلك طريق السير إلاّ بها، وهي مددها ومعونتها، كما قال عليه السلام:" إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً " فلا بد للروح من مسامحة النفس ومداراتها في بضع الأوقات، لتميل النفس إلى تصرفها وحكمها فيها، وإلاّ ضعفت وكَلَّت عن موافقتها، فتنقطع الروح عن السلوك إلى الله. هـ. قلت: وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى "{وإن الله لعفو غفور} لمَن وقع له شيء من هذا ورجع.

والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يتسطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري: وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية، هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذه الحِكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب.

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه} أي: يُعادونهما ويُشاقونهما؛ فإنَّ كُلَاّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه. ثم أخبر عنهم فقال:{كُبِتُوا} أي: أُخذوا وأُهلكوا، أو: لُعنوا {كما كُبِتَ الذين من قبلهم} من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام. وقال القشيري: يُحادّون: يُخالفون أمر الله، ويتركون طاعة رسول الله، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة. نزلت في المستهزئين يوم الخندق، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي، ووقع في هذا الذُّل. هـ. وقال ابن عطية: الآية نزلت في المنافقين واليهود، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك. هـ.

{وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ} : حال من ضمير " كُبتوا " أي: كُبتوا بمحادتهم، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، أو: آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، {وللكافرين} بهذه الآيات، أو: بكل ما يجب الإيمان به، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً، {عذابٌ مهين} يذهب بعزِّهم وكِبْرهم.

واذكر {يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا} أو: لهم ذلك العذاب {يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا} أي: لا يترك أحداً منهم، أو مجتمعين في حال واحد وصعيدٍ واحد، {فيُنَبئهم بما عمِلوا} من القبائح، تخجيلاً لهم، وتشهيراً لحالهم، وتشديداً لعذابهم، فيتمنون حينئذ المسارعة إلى النار، لِما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، {أحصاه اللهُ} أحاط به عدداً، لم يفته منه شيء، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل: كيف ينبئهم بما عملوا، وهي أعراض مُنقضية متلاشية، فقيل:{أحصاه اللهُ ونَسًوه} أي: قد نسوه لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظّمات الأمور. وهو حال أيضاً. {واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ} لا يغيب عنه شيء. والجملة اعتراض تذييلي، مقرِّرة لإحصائه تعالى.

ثم استشهد على شمول شهادته تعالى، فقال:{ألم تَرَ أن الله يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض} فهو كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ} [البقرة: 258]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] أي: ألم تعلم علماً مزاحماً

ص: 338

للمشاهدة أنَّ الله يعلم ما استقر في السماوات وما في الأرض من الموجودات، {ما يكونُ من نجْوَى ثلاثةٍ} : استئناف مُقَرِّر لِما قبله مِن سعة علمه تعالى، ومُبَيّن لكيفيته، و " كان " تامة، أي: ما يقع من تناجي ثلاثة نفر في مساررتهم {إِلَاّ هُو} أي: الله تعالى {رابعُهم} أي: جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يُشاركهم في الاطلاع عليها، {ولا خمسةٍ} أي: ولا نجوى خمسة {إِلاّ هو سادسُهم ولا أدنَى} ولا أقل {من ذلك ولا أكثرَ إِلاّ هو معهم} يعلم ما يتناجون به، فلا يخفى عليهم ما هم فيه. وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في المنافقين، وكانوا يتناجون مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين، وقيل: المعنى: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عددهم ولا أكثر، إلا والله معهم، يسمع ما يقولون، ولأنّ أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب، وأول عَدَدهم الاثنان فصاعداً، إلى خمسة، إلى ستة، إلى ما اقتضته الحال، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة، وقال:{ولا أدنى من ذلك} فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال:{ولا أكثرَ} فدلّ على ما فوق هذا العدد. قاله النسفي.

{ثم يُنبِّئُهم} يُخبرهم {بما عَمِلوا} تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم. {إِنّ الله بكل شيء عليم} لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء، فلا يخلو منه زمان ولا مكان.

الإشارة: في الحديث: " مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب " فمَن حادّ أولياءَ الله فقد حادّ الله ورسولَه، فيُكبت كما كُبِتَ مَن قبله ممن اشتغل بإذايتهم، وقد أنزلنا آيات واضحات على ثبوت الولاية في كل زمان، قال تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا} [البَقَرَة: 106] ، وللكافرين الجاحدين لخصوصيتهم عذاب مهين، وهو البُعد والطرد وغم الحجاب وسوء الحساب. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا، أي: أهل الإنكار، فيُنبئهم بما عملوا من الانتقاد والإذاية، أحصاه اللهُ ونسوه، لأنهم يعتقدون أنهم في ذلك على صواب؛ لجهلهم المُرَكَّب، فإذا تناجوا في شأنهم بما يسؤوهم فيقال في حقهم: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم

} الآية. قال القشيري: {إنّ الذين يُحادون الله ورسولَه} ، يعني: يُحادون مظاهر الله، وهم الأولياء المحققون، العارفون القائمون بأسرار الحقائق، ومظاهر رسول الله، وهم العلماء العاملون، القائمون بأحكام الشرائع، كُبتوا: أُفحموا بالحُجج وإظهار البراهين من الكرامات الظاهرة، وخرق العادات الباهرة، أو نشر العلوم الشريعة، ونشر الأحكام الفرعية، وقد أنزلنا بصحة ولايتهم، وقوة وراثتهم، علامات ظاهرة، ودلالات زاهرة، من المشاهدات والمعاينات، أو الحجج القاطعة

ص: 339

والبراهين الساطعة، ومن ستر أنوار ولايتهم، وآثارَ وراثتهم، بساتر إنكاره، فله عذاب القطيعة والفضيحة مع إهانة من غير إبانة هـ. ببعض البيان.

قال الورتجبي: قوله تعالى: {إلا هو معهم} المعية بالعلم عموم، وبالقرب خصوص، والقرب بالعلم عموم، وبظهور التجلِّي خصوص، وذلك دنو {دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} ، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف، فذلك حقيقة المعية، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث. ولو ترى أهل النجوى، الذين مجالستهم لله وفي الله، لترَى من وجوههم أنوار المعية، أين أنت من العلم الظاهر، الذي يدل على الرسوم. ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي، وبالعلم يتجلّى للمعلومات، فالصفات شاملة على الأفعال، ظاهرة من مشاهد الملعومات، فإذا كان الذرات لا تخلو من قرب الصفات، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث، فإنه حديث المُحدَثين، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان هـ.

قلت: وحاصل كلامه: أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات، إذا الصفة لا تفارق الموصوف، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية، وقد قال الجنيد:" إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم "، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني، حتى لا تجد إلَاّ القديم الأزلي، فافهم وسلِّم.

إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم

لأناس رأوه بالأبصار

يقول الحق جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لنما نُهوا عنه} نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعادوا لمثل فعلهم. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والهمزة للتعجيب مِن حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرير عودهم وتجدُّده، واستحضار صورته العجيبة. وفي السِّيَر: أنه أمر بإخراجهم من المسجد،

ص: 340

‌سورة الزلزلة

سورة الزلزلة

يقول الحق جل جلاله: {إِذا زُلزلت الأرضُ} أي: حُركت تحريكاً عنيفاً مكرراً متداركاً، {زِلزالها} أي: الزلزلة المخصوصة بها على مقتضى المشيئة الإلهية، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه، أو: زلزالها العجيب الذي لا يُقادر قدره. قال ابن عرفة: المراد: الأرض الأولى؛ لأنّ الثانية ليس فيها أموات. ولكن السموات عند المنجِّمين متلاصقة بعضها مع بعض، وكذلك الأرضون، وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل، وهو ظاهر حديث الإسراء. هـ.

وذلك عند النفخة الثانية لقوله تعالى: {وأخرجت الأرضُ أثقالها} أي: ما في جوفها من الأموات والدفائن، جمع: ثِقُل، وهو: متاع البيت، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها. وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو: للإيماء إلى تبدُّل الأرض غير الأرض. {وقال الإنسانُ} أي: كل فرد مِن أفراده، لِما يدهمهم من الطامة التامة، ويبهرهم من الداهية العامة:{ما لها} زُلزلت هذه الزلزلة الشديدة، وأخرجت ما فيها من الأثقال، استعظاماً لِما شهدوه من الأمر الهائل، وقد سُيرت الجبال وفي الجو فصارت هباءً. وهذا قول عام يقوله المؤمن بطريق الاستعظام، والكافر بطريق التعجًّب.

ص: 338

{يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها} يوم إذا زلزلت الأرض تُحَدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها، قيل: يُنطقها اللهُ وتُحدِّث بما وقع عليها خيرٍ وشر، رُوي عنه صلى الله عليه وسلم:" أنها تشهد على كل أحدٍ بما عمل على ظهرها "{بأنّ ربك أوْحى لها} أي: بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن تُحَدِّث، أي: أَمَرَها بذلك. والحديث يستعمل بالباء وبدونها، يقال: حدثت كذا وبكذا، و " أوحى " يتعدى باللام وبـ " إلى ".

{يومئذٍ} أي: يوم إذ يقع ما ذكر {يَصْدُر الناسُ} من قبورهم إلى موقف الحساب {أشتاتاً} متفرقين طبقات، منهم بِيض الوجوه آمنين، ومنهم سُود الوجوه فزعين، كما في قوله تعالى:{فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ: 18] وقيل: يصدرون غن الموقف أشتاتاً، ذات اليمين إلى الجنة، وذات الشمال إلى النار، {لِيُرَوا أعمالَهم} أي: جزاء أعمالهم، خيراً أو شراً.

{

فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرا يَرَهُ} ، والذرة: النملة الصغيرة. وقيل: ما يُرى في شعاع الشمس من البهاء. و " خيراً ": تمييز، {ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شرا يَرَهُ} قيل: هذا في الكافر، والأُولى في المؤمنين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس مؤمن ولا كافر، عَمِلَ خيراً ولا شرًّا في الدنيا إلاّ يراه في الآخرة، فأمّا المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر اللهُ سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأمّا الكافر فيَرُدُّ اللهُ حسناته ويُعذبه بسيئاته. وقال محمد بن كعب: الكافر يرى ثوابه في الدنيا، في أهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، والمؤمن يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. وفي الحديث:" إذا تاب العبدُ عن ذنبه أَنْسَى الله الحفظةَ ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض، حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب ". قال ابن جُزي: هو على عمومه في الكافر، وأمّا المؤمنون فلا يُجْزَون بذنوبهم إلَاّ بستة شروط؛ أن تكون ذنوبهم كِبار، وأن يموتوا قبل التوبة منها، وألَاّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها، وألاّ يُشفع فيهم، وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعملٍ، كأهل بدر، وإلاّ يعفو الله عنهم، فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ.

الإشارة: إذا زُلزلت أرضُ النفوس زلزالها اللائق بها، وحُركت بالواردات والأحوال، وتحققت الغيبة عنها بالكلية، أشرقت شمس العرفان، فغطّت وجودَ الأكوان، كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه مُنشِداً:

ص: 339

فلوا عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ

أَرضْ النفُوس ودُكت الأجْبَالُ

لرأيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورها

يوم التزلزل والرجال رجال

وأخرجت حينئذ ما فيها من العلوم، يومئذ تُحَدِّث أخبارها: أخبار الأسرار الكامنة فيها، بأنّ ربك أوحى لها إلهاماً. يومئذ يَصْدُر الناسُ من الفناء إلى البقاء، أشتاتاً، فمنهم الغالب حقيقته، ومنهم الغالب شريعته، ومنهم المعتدل. أو: فمنهم الغالب عليه القبض والقوة، ومنهم الغالب عليه البسط والليونة، وهذا أعم نفعاً. والله أعلم. وذلك لِيُروا أعمال مجاهدتهم بالتنعُّم في مشاهدتهم، فمَن يعمل مثقال ذرة خيرا ـ بأن ينقص من نفسه عادةً في سيره ـ يرَ جزاء ذلك، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا ـ بأن يزيد من الحس شيئاً في الظاهر ـ يره، فإنه ينقص من معناه في الباطن، إلاّ إذا تمكّن من الشهود. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

ص: 340