الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحديد
قلت: وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا:{سَبَّحَ} وفي الجمعة: {يُسَبِّحُ} [الجمعة: 1] و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1] . وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله:{وَسَبِّحُوهُ} [الأحزاب: 42]، وأصله: التعدي بنفسه؛ لأنّ معنى سبَّحته: بعّدته من السوء، من: سَبَح: إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في: نصحته ونصحت له، وإما أن يراد بـ " سبَّح لله ": اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.
يقول الحق جل جلاله: {سَبَّح لله} أي: نَزَّه اللهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر {في السماوات والأرض} مِن الملائكة والجن والإنس
والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى:{وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] قيل: إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. هـ. {وهو العزيزُ} المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، {الحكيمُ} في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
{وله مُلك السماواتِ والأرض} أي: التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي: ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى. هـ. {يُحيي ويميت} استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي: هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، {وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ} من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة {قدير} لا يعجزه شيء.
{
وهو الأولُ} القديم قبل كل شيء، {والآخرُ} الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، {والظاهرُ} الذي ظهر بكل شيء، {والباطنُ} الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث:" اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء " قال الطيبي: فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي: الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. {وهو بكل شيءٍ عليم} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ. {هو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيام} من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، {ثم استوى} أي: استولى {على العرش} حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، {يعلم ما يَلِجُ في الأرض} ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأمطار، {وما يعرجُ فيها} من الملائكة والأموات والأعمال، {وهو معكم أينما كنتم} بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة.
{والله بما تعملون بصيرٌ} فيُجازي كلاًّ بعمله.
{له مُلك السماوات والأرضِ} تكرير للتأكيد، وتمهيد لقوله:{وإِلى الله تُرجع الأمورُ} أي: إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور، {يُولج الليلَ في النهار} يُدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، {ويُولج النهارَ في الليل} بأن ينقص من النهار ويزيد الليل، {وهو عليم بذات الصدور} أي: بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها، كَنّى بها عن القلوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري: تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت: ومعنى قوله: " فلك الذات سماء الصفات "
…
الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول: وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالأثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره. له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو: ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو: هو الظاهر بتجلياته، والباطن
بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو: الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو: الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل: أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال:" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلا أهل الأذواق.
قال القشيري: هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز: بِمَ عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الأضداد، ثُم تَلا هذه الآية: {هو الأول والآخر
…
} الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلَاّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
{هو الذي خَلَقَ السماوات والأرض في ستة أيام} قال القشيري: يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي: هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي ": أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول: إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له: كيف تعتقد: {وهو معكم أين ما كنتم} ؟ فقال: بالذات، فقال له: أشهد أنك من العارفين. هـ. قلت: فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي: للعارفين في هذا مقامان: مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن، وسطوات عظمته،
سورة الشمس
يقول الحق جل جلاله: {والشمسِ وضُحاها} أي: وَضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها، {والقمرِ إِذا تلاها} ؛ تبعها في الضياء والنور، وذلك في النصف الأول من الشهر، يخلف القمرُ الشمسَ في النور، {والنهارِ إِذا جلَاّها} أي: جلّى الشمسَ وأظهرها للرائين، وذلك عند افتتاح النهار وانبساطه؛ لأنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء، وقيل: الضمير للظلمة، أو الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله:{مَا تَرَكَ عَلَىا ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45]، {والليلِ إِذا يغشاها} أي: يستر الشمس ويُظْلِمُ الأفاق، والواو الأولى في هذه الأشياء للقسم باتفاق، وكذا الثانية عند البعض، وعند الخليل: الثانية للعطف؛ لأنَّ إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز، ألا ترى: أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان المعنى على حاله، وهما حرفا عطف، وكذا الواو، ومَن قال: إنها للقسَمَ احتجّ بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين، لأنَّ قوله:{وَالْلَّيْلِ} [الليل: 1]ـ مثلاً ـ مجرور بواو القسم، {إِذا يغشى} منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم، فلو جعلت الواو التي في {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا} [الليل: 2] للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جرًّا، و {إذا تجلى} معطوفاً على " يغشى " نصباً، وكان كقولك: إنَّ في الدار زيداً، والحُجرة عَمْراً، وأجيب بأنّ واو القسم تنزّلت منزلة الباء والفعل، حتى لم يجز إبراز الفعل معها، فصار كأنها العاملة جرًّا ونصباً، وصارت كعاملٍ واحد له معمولان، وكلُّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحدٍ بالاتفاق، نحو: ضرب زيدٌ
عمراً وأبو بكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل.
{والسماءِ وما بناها} أي: ومَن بناها، وإيثار " ما " على " مَنْ " لإرادة الوصفيّة تفخيماً، كأنه قيل: والقادر العظيم الذي بناها، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم، وكذا في قوله:{والأرضِ وما طحاها} أي: بسطها من كل جانب، كـ " دحاها ".
{
ونفسٍ وما سوَّاها} أي: والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها، مستعدة لكمالاتها، والتنكير للتفخيم، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير، وهو الأنسب للجواب، أي: ومَن سوّى كلَّ نفس، {فألْهَمَها فجورَها وتقواها} أي: ألهمها طاعتها ومعصيتها، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة، أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] أي: ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها، فسعت إليه. {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاها} أي: فاز بكل مطلوب، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة، {وَقَدْ خَابَ مَن دسَّاها} ؛ أغواها، قال عكرمة:" أفلحت نفس زكّاها اللهُ، وخابت نفس أغواها الله " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد. والتدسية: النفس والإخفاء، أي: خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور، وأصل دسّى: دسّس، كتقضى وتقضض، فأبدل من الحرف الثالث ياء، قال في الكافية:
وثَالِثَ الأمثال أبدلنه ياء
نحو تظنا خالد تظنينا
وجواب القسم محذوف، والتقدير: ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود، وقيل:" قد أفلح " وليس بشيء، وقيل:" كذبت ثمود " على إضمار " قد " والأول أحسن، والله تعالى أعلم.
الإشارة: والشمس شمس العرفان، وابتداء ضُحاها في أول الفناء، والقمر قمر الإيمان، إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها، أي: ظلمة حس الكائنات، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن، والليل؛ ليل القطيعة، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه، أو يتسلّى فيُسلب، أو نهار البسط إذا جلاّها، أي: ظلمة القبض، وليل القبض إذا يغشاها، أي: شمس نهار البسط، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح، وما بناها؛ رفعها، والأرض أرض الأشباح، وما طحاها، أي: بسطها للعبودية، ونفسٍ وما سوّاها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد، فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل، قال الورتجبي: سوّاها بتسوية الصِفة، ورقمها بنور الآزلية، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله:{فألهمها فجورها وتقواها} عرّفها أولَا طريق القهر حتى عرفت المهلكات، ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت
معالجتها من المنجيات، والمقصود منها: عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف، حتى تكمل معرفةُ صانعها. هـ.
قال القشيري: فألهمها فجورها وتقواها: بأن خَذَلَها ووَفَّقَها، ويقال: فجورها: حركتها في طلب الرزق، وتقواها: سكونها لحُكْم التقدير. ثم قال: ويُقال: أفلح مَن طهَّرها من الذنوب والعيوب، ثم عن الأطماع في الأَعواض، ثم العبد نفسه عن الاعتراض على الأنام، وعن ارتكاب الحرام، وقد خاب مَن خان نفسه وأهملها عن المراعاة، ودسَّها بالمخالفات، وفي نوادر الأصول ما حاصله: أنَّ دسّاها بمنزلة مَن دسّ شيئاً في كوة، يمنع من دخول الضوء، كذلك الهوى والشهوة سدّ وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة والوصلة. هـ.
يقول الحق جل جلاله: {كذبتْ ثمودُ} صالحاً {بطغواها} أي: بسبب طغيانها، إذ الحامل لهم على التكذيب هو طغيانهم، وفيه وعظ لأمثالهم، وتهديد للحاضرين الطاغين؛ لأنَّ الطغيان أجرم الجرائم الموجبة للهلاك والخيبةِ في الدنيا والآخرة. {إِذ انبعث أشقاها} ، منصوب بـ " كذبتْ "، أي: حين قام أشقى ثمود، وهو: قُدّار بن سالف، أو: هو ومَن تصدّى معه للعقر من الأشقياء، فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد، والمذكر والمؤنث. وفضل شقاوتهم على مَن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به.
{فقال لهم} أي: لثمود {رسولُ الله} صالح عليه السلام، عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجوب طاعته، وبياناً لغاية عتوهم، وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله:{ناقةَ الله} أي: احذروا عقرها، أو احفظوها، {و} الزموا {سُقياها} فلا تُدَوروها في نوبتها، وهما منصوبان على التحذير. {فكذّبوه} فيما حذّرهم به من نزول العذاب بقوله:{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] ، {فعقروها} ، أسند الفعل إليهم، وإن كان العاقر واحداً، لقوله:{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىا فَعَقَرَ (29) } [القمر: 29] لرضاهم به. قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم. وذكرانهم وإناثهم ". {فَدَمْدَمَ عليهم ربُّهم} ؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم. قال الهروي: إذا كررت الإطباق قلت: دمدمت عليه، أي: أدمت عليه الدمدمة، وقيل: فدمدم عليهم: عَضِبَ عليهم، {بذنبهم} ؛ بسبب ذنبهم، وصّرح به مع دلالة الفاء عليه للإيذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر
به كل مذنب. {فسوَّاها} أي: الدمدمةّ بينهم، لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم، أو فسوّى ثمود بالأرض بتسوية بنائها وهدمه، {وَلآ يَخَافُ عُقْبَآهَا (15) } [الشمس: 15] أي: عاقبتها وتَبِعَتها، كما يخاف سائر المعاقِبين أي: فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة مِن أحد، كما يخاف مَن يعاقب مِن الملوك وغيرهم، لأنه تصرف في ملكه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) } [الأنبياء: 23] . ومَن قرأ بالواو فهو للحال، أو الاستئناف.
الإشارة: قال القشيري: كذبت ثمودُ النفس بسبب طغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية، واللذات الجسمانية، إذ انبعث أشقاها، هو الهوى المتبع، الساعي في قتل ناقة الروح، فقال لهم رسول الله؛ القلب الصالح: ناقةَ الله، أي: اتركوا ناقةَ الله ترعى في المراتع الروحانية، من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات، فكذّبوه؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسولَ القلب، فعقروها، أي: الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية، فَدَمْدَم عليهم ربُّهم؛ على ثمود النفس وقومها عذاب البُعد والطرد، بذنبهم، فسوّاها، أي: فسوّى الدمدمة، وهي الإطباق على النفس وجنودها، فلا يخاف عقباها لغناه عن العالمين. هـ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.