المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً

أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى؛ لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى. هـ. وذَكَرَ عند قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ} [الطارق: 7] أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه. انظر بقيته في الحاشية.

{

نحن قدَّرنا بينكم الموتَ} أي: قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين، حسبما تقتضيه قسمتنا، المبنية على الحِكَم البالغة. قال القشيري: فيكون في الوقت الذي نريده، منكم مَنْ يموت طفلاً، ومنكم مَن يموت شابّاً، وكهلاً وشيخاً، وبعللٍ مختلفة، وبأسباب متفاوتة، وأوقاتٍ مختلفة. هـ. {وما نحن بمسبوقين} بعاجزين {على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم} بل نحن قادرون على ذلك، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات، {ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون} ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها. قال الحسن: نجعلكم قردةً وخنازير، يعني: إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً، أي: خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم. و {أمثال} إمّا جمع " مِثْل " بالسكون - وهو التبديل بالذات، أو:" مَثَل " بالفتح، وهو التبديل في الصفات، أي: على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها. {ولقد علمتم النشأةَ الأولى} أي: فطرة آدم عليه السلام: أو: خلقتهم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة

الخ، {فلولا تَذَكَّرُون} فهلَاّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى.

ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد، ذكّرهم بنعمة الإمداد، فقال:{أفرأيتم ما تحرثون} أي: ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه، {أأنتم تزرعونه} أن: تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً {أم نحن الزارعون} المُنبِتون له؟ وفي الحديث: " لا يقل أحدكم، زرعت، وليقل: حرثت "{لو نشاء لجعلناه حُطاماً} هشيماً منكسِراً قبل إدراكه، {فَظَلْتم} بسبب ذلك {تَفَكَّهُون} تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون، أو: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو: على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها، و " تفكه " من أفعال الإزالة، كتخرّج، وتأثّم، أي: أزال الفُكَاهة، وهي المسرة، فتحصل الندامة، {إِنَّا لمُغْرَمُونَ} أي: قائلين: إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها، أو: لمهلَكون لِهلاك قوتنا، من: الغرام، وهو الهلاك، {بل نحن محرومون} حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا، فالمحروم هو الممنوع الرزق. قال ابن عباس:" هو المحارَف " الذي انحرف عنه رزقه.

ص: 297

{أفرأيتم الماءَ الذي تشربون} أي: الماء العذب الصالح للشرب، {أأنتم أنزلتموه من المُزنِ} السحاب الأبيض، وهو أعذب ماءٍ، أو مطلق السحاب، واحدها " مزنة "، {أم نحن المنزلون} بقدرتنا، فأسكناه في الأرض، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً؟ {لو نشاء جعلناه أُجَاجاً} أي: ملحاً، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه، {فلولا} فهلَاّ {تشكرون} تحضيض على شكر الكل، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى؛ لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب؛ للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها.

{

أفرأيتم النارَ التي تُورون} أي: تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب كانت تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويُسمون الأعلى: الزند، والسفلى: الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة. {أأنتم أنشأتم شجرتَهَا} التي بها الزناد، وهي المرْخ والعَفَار، {أم نحن المنشئون} الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ، المنبئ عن بديع الصنع، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار، التي لا تخلو عن النار، حتى قيل: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله:{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاًءَاخَرَ} [المؤمنون: 14] كذلك.

ثم بيَّن منافعها، فقال:{نحن جعلناها تذكرةً} تذكيراً لنار جهنم، لينظروا إليها، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم، أو: تذكرة وأنموذجاً، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم " وقيل: تبصرة في أمر البعث؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب، {ومتاعاً للمُقْوين} منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء، وهو القفر. وفي القاموس: القِيُّ: فقر الأرض، كالِقواء - بالكسر والمد: القفر. هـ. وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد، أو: للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام، من قولهم: أَقْوت الدار: إذا خلت من ساكنها. والأول أحسن.

بدأ أولاً بنعمة الإيجاد، ثم بإمداد الطعام، ثم بالشراب، وما يُعجن به من الطعام، ثم بما يطبخ به؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة.

ص: 298

ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله؛ لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل، فقال:{فَسَبِّح باسم ربك} أي: فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، فأراد بالاسم المسمى، والباء صلة، أي: نزَّه ربك {العظيم} أو: نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه. والعظيم: صفة للرب، أو للاسم، لأن المراد به المسمى. والله تعالى أعلم.

الإشارة: أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة، وتهيج شجرة المحبة، فتُثمر بالمعرفة، أم نحن الخالقون؟ نحن قدّرنا بينكم الموت، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول، ومنكم مَن يموت بعد الوصول، والموت المعنوي: هو الرجوع عن السير، ولا يكون إلَاّ قبل الوصول، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم، ونُغيّر صفاتكم، فإنّ القلوب بيد الله، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد. ولقد علمتم النشأة الأولى، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة.

أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات، أأنتم تزرعونه، أي: تُنبتونه حتى يُقبل منكم، وتجنون ثماره، أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق، حيث لم تجنوا ثمرتها، تقولون: إنّا لمغرمون، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا، أفرأيتم الماء الذي تشربون، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب، تشربونه بوسائط المشايخ، يزقّه الشيخُ لروح المريد، كما يزق الطيرُ أفراخه، وبذلك تحيا روحه، فتغيب عن عوالم حسها، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية، أم نحن المنزِلون؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها، أو تمتنع من شربه، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة. فلولا تشكرون هذه النعم، حيث وفقكم لشرب الخمر، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم. أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون؛ تقدحونها في نفوسكم، أأنتم أنشأتم شجرتها، وهي النفس الطبيعية، أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة، أي: إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه، وفي الحِكَم:" وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه ": وجعلناها متاعاً للسائرين؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم، وبتصفيتها يتحقق كمالهم، وبفنائها يتحقق وصولهم، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه، يقول: أما أنا فجزاها علي خيراً، ما ربحت إلاّ منها. وقال القشيري: {أفرأيتم النار

} الخ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة،

ص: 299

بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور - قدّس الله سره - حين سُئل عن حقيقة المحبة، فقال: هي العناية الإلهية السرميدة، لولاها مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب ولا الإيمان، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق، ومتاعاً للمُوقين، أي غذاء أرواح المحبين، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب، كا رُوي عن سهل التستري: أنه كان يطوي ثلاثين يوماً، وعن أبي عقيل المغربي: أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين. هـ.

وقوله تعالى: {فسبِّح باسم رَبِّكَ العظيم} قال الورتجبي: أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه، ثم قال: والاسم والمسمى واحد، أي: قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك، أو بشيء دوني، ألا ترى إشارة قوله:{العظيم} أي: عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة، وأن تصِفة البرية. هـ.

قلت: " فلا ": صلة، كقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ

} [النساء: 65] . ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، أي: فلأنا أُقسم، ولا يصح أن تكون للقسم؛ لأنها لا بد أن تقرن بنون التوكيد.

يقول الحق جل جلاله: {فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ} بمساقطها ومغاربها. وقرأ الأخَوان " بموقع " على الإفراد، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو: لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها، واستعظم ذلك بقوله:{وَإِنَّهُ لقَسَم لَّوْ تَعْلَمُونَ عظيمٌ} وهو اعتراض في اعتراض، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله:{إِنه لقرآن كريمٌ} أي: حسن مرضيّ، أو نفّاع جمّ المنافع؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد، أو: كريم على الله تعالى، واعترض بين الموصوف وصفته بـ {لو تعلمون} وجواب " لو " متروك، أريد به نفي علمهم، أو: محذوف، ثقةً، والتقدير: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ ذلك، لكن لا تعلمون كُنه ذلك، أو: لو تعلمون ذلك لعظمتموه، أو: لعملتم بموجبه، {في كتابٍ مكنون} مَصون من غير المقربين من

ص: 300

الملائكة، لا يطلع عليه مَن سواهم، وهو اللوح المحفوظ.

{لَاّ يَمسُّه إِلَاّ المُطَهَّرون} أي: الملائكة المنزّهون عن الكدرات الجسمانية، وأوضار الذنوب. هذا إن جعلته صفة لكتاب مكنون، وهو اللوح، وإن جعلته صفة للقرآن؛ فالمعنى: لا ينبغي أن يمسّه إلَاّ مَن هو على الطهارة مِن الناس، والمراد: المكتوب منه. قال ابن جزي: فإن قلنا إنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة، فالمطهَّرون يُراد به الملائكة؛ لأنهم مُطهَّرون من الذنوب والعيوب، وإن قلنا أنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس؛ فيحتمل أن يريد بالمطهرين: المسلمين؛ لأنهم مُطَهرون من الكفر، أو يريد: المطهرين من الحدث الأكبر، وهو الجنابة والحيض، فالطهارة على هذا: الاغتسال. أو: المطهرين من الحدث الأصغر، فالطهارة على هذا: الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله:{لا يمسُّه} خبراً أو نهياً، على أنه قد أنكر بعضهم أن يكون نهياً، وقال: لو كان نهياً لكان بفتح السين. والتحقيق: أن النهي يصح مع ضم السين؛ لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوماً واتصل به ضمير المفرد المذكر ضُم عند التقاء الساكنين، اتباعاً لحركة الضمير، وإذا جعلته خبر؛ فيحتمل أن يُراد به مجرد الإخبار، أو: يكون خبراً بمعنى النهي، وإذا كان لمجرد الإخبار، فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلَاّ المطهرون، أي: هذا حقه، وإن وقع خلاف ذلك.

واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مَسّ المصحف على حسب الاحتمالات في الآية، فأجمعوا على أنه لا يمسه كافر، واختلفوا فيما سواه على أقوال؛ فقال بعضهم: لا يجوز أن يمسه الجُنب ولا الحائض ولا المحدِث الحدثَ الأصغر، وهذا قول مالك وأصحابه، ومَنعوا أيضاً أن يحمله بعلاقة أو وسادة، وحجتهم: الآية، على أن يُراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وقد احتج مالك في الموطأ بالآية، ومن حجتهم أيضاً: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَمرو بن حزم ألَاّ يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ. القول الثاني: أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدِث حدثاً أصغر، وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية، وحملوا " المطهرين " على أنهم المسلمون أو الملائكة. والقول الثالث: أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر، وحمل صاحب هذا القول " المطهرين " على أن يُراد من الحدث: الأكبر، ورخَّص مالك في مسِّه على غير وضوء لمُعلِّم الصبيان؛ لأجل المشقة.

واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقاً، وأجازه الظاهرية مطلقاً، وأجاز مالك قراءة الآيات اليسيرة، أي: لتعوُّذ ونحوه. واختلفوا في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظاهر قلب، فعن مالك روايتان، وفرّق بعضهم بين الكثير

ص: 301

واليسير. هـ. قلت: المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً. وقال الكواشي عن ابن عطاء: لا يفهم إشارات القراءة إلَاّ مَن طَهَّر سره من الأكوان. هـ. وفي آخر البخاري؛ " لا يمسه ": لا يجد طعمه ونَفْعَه إلَاّ مَن آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلَاّ المؤمنُ لقوله:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] . هـ.

{تنزيلٌ من رب العالمين} : صفة رابعة للقرآن، أي: نزل من رب العالمين، وُصف بالمصدر؛ لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب، فكأنه في نفسه تنزيل، {أفبهذا الحديثِ} أي: القرآن {أنتم مُّدْهِنون} متهاونون به، كمَن يُدهن في بعض الأمر، أي: يلين جانبه، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به. قال ابن عطية: قال ابن عباس: المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة: المهادوة فيما يحل. هـ.

{وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون} أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون} أي: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها، أي: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم، وتقولون: مُطرنا بنوء كذا، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم، لا من بابا العلامة وقيل: مطلقاً، سدّاً للذريعة، وهو مقتضى كلام ابن رشد، وعزاه لسحنون. والمسألة خلافية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا "، ومنهم مَن فصّل في المسألة، فقال: يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: " تعوّذوا بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب " وأشار إلى القمر. وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله، وكذا الأدب. والله تعالى أعلم.

الإشارة: مواقع النجوم هي أسرار العارفين؛ لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي، وأقمار التوحيد البرهاني؛ لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر، وقد قلت في قصيدتي العينية:

تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ

فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ

قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: كنتُ أعرف أربعة عشر علماً، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله. هـ. يعني: وقع الاستغناء عنها، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله، على نعت العيان، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط. " ماذا فقد مَن وجدك "؟ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة، كما قال الغزالي لابن العربي

ص: 302

المعافري: كنتَ الصاحِبَ في زمن البطالة، يعني: قبل ملاقاته بالشيخ. وإنما كان القسم به عظيماً؛ لأنه ليس عند الله أعظم من قلوب الواصلين وأسرار العارفين، لأنها وسعت الرب تعالى علماً وتجلياً، " لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن ". فالقَسم عظيم، والمُقسَم به أعظم، والمُقسَم عليه أعظم، وهو القرآن الكريم، {لا يسمّه إلاّ المطهرون} قال الجنيد: لا يمسّه إلاّ العارفون بالله، المطهرون سرهم عما سِوَى الله. هـ. أي: لا يمس أبكار حقائقه ودقائق إشارته إلاّ القلوب المطهَرة من الأكدار والأغيار، وهي قلوب العارفين:{تنزيل من رب العالمين} على سيد المرسلين، ثم غرفت أسرارَه قلوبُ خلفائه العارفين. أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. قال القشيري: أي: أنتم تتهاونون في قبول مثل هذا الكلام الحق، وتعجبون من مثل هذه الحقيقيات والتدقيقات. هـ. والعتاب لمَن يتهاون بعلم الإشارة ويُنكرها. ويتنكّب مطالعتها. وتجعلون شكر رزقكم إياها - حيث استخرجها بواسطة قلوب العارفين - التكذيب بها والإنكار على أربابها.

يقول الحق جل جلاله لمَّا وبَّخهم على تكذيبهم بالقرآن الناطق بقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} [الواقعة: 75] ، ثم أوقفهم على أنهم تحت قهر ملكوته، من حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معاشهم، عجزهم بقهرية الموت، فقال:{فلولا} أي: هلَاّ {إِذا بلغتْ} الروح عند الموت {الحلقومَ} وهو ممرّ الطعام والشراب، وتداعت للخروج {وأنتم حينئذٍ} أيها الحاضرون حول صاحبها {تنظرون} إلى ما هو فيه من الغمرات، {ونحن أقربُ إِليه} علماً وقدرة وإحاطة {منكم} حيث لا تعرفون من حاله إلَاّ ما تُشاهدون من أثر الشدة، من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها، ونحن المتولون لتفاصيل أحواله، {ولكن لا تُبصرون} لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤوننا، {فلولا إِن كنتم غير مَدِينينَ} غير مربوبين مقهورين، من: دان السطلان رعيته: إذا ساسهم واستعبدهم، والمحضَض عليه قوله:{ترجعونها}

ص: 303

‌سورة الفجر

يقول الحق جل جلاله: {والفجر} ، إمّا وقته، أقسم به لشرفه، كما أقسم بالصُبح، لِمَا في ذلك من الاقتدار، أو: صلاته؛ لكونها مشهودة، {وليالٍ عشر} ؛ عشر ذي الحجة، أو العشر الأُول من المحرم، أو الأواخر من رمضان، ونُكِّرت للتفخيم، {والشفع والوتر} أي: شفع كل الأشياء ووترها، أو: شفع هذه الليالي ووترها، أو: شفع الصلوات ووترها، أو: يوم النحر، لأنه اليوم العاشر، ويوم عرفة لأنه التاسع، أو الخلق والخالق، او صلاة النافلة والوتر بعدها، أو الأعداد؛ لأنَّ منها شفعاً ومنها وتراً، والمختار العموم، كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ إذ لا يخلو شيء من أن يكون شفعاً وهو الزوج، أو وتراً وهو الفرد، والوتر بالفتح والكسر لغتان.

ولمَّا أقسم بالليالي المخصوصة، أقسم بالليالي على العموم، فقال:{والليلِ إِذا يَسْرِ} إذا ذهب، أو: يسري فيه السائر، وقيل: أُريد به ليلة القدر، وحُذفت الياء في الوصل؛ اكتفاءً بكسرتها، وسُئل الأخفش عن سقوطها، فقال للسائل: لا أجيبك حتى تخدمني سنة، فسأله بعد سنة، فقال: الليل لا يسري، وإنّما يُسرى فيه، فلمّا عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً. هـ. ويرد عليه: أنها حُذفت في كلمات كثيرة، ليس فيها هذه العلة.

{هل في ذلك} أي: فيما أقسمت به من هذه الأشياء {قَسَمٌ} أي: مٌقسم به، أو

ص: 297

إقسام، والمعنى: مَن كان ذا لُبٍّ عَلِمَ أنَّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بان يُقسم به، وهذا تفخيم لشأن المقسَم بها، وكونها أموراً جليلة حقيقة بالإقسام بها لذوي العقول، وهذا كقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) } [الواقعة: 76] وتذكير الإشارة لتأويلها بما ذكر، وما فيها من معنى البُعد للإيذان ببُعد مرتبة المشار إليه، وبُعد منزلته في الشرف والفضل، {لذي حِجْرٍ} ؛ لذي عقل؟ سُمِّي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سُمِّي عقلاْ ونُهْيَةً لأنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل؛ والمعنى: هل يحقُّ عند ذوي العقول أن تُعَظَّم هذه الأشياء بالإقسام بها؟ أو: هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكّد بمثله المقسَم عليه؟ أو: هل في القسم بهذه الأشياء قسم مُقنع لذي لُب وعقل؟ والمقسَم عليه محذوف، أي: لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن بالحساب، يدلّ عليه قوله تعالى:

{

ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بعادٍ} فإنه استشهاد بعلمه صلى الله عليه وسلم بما فعل بعاد وأضرابهم المشاركين لقومه صلى الله عليه وسلم في الطغيان والفساد، أي: ألم تعلم علماً يقيناً كيف عذَّب ربُّك عاداً ونظائرهم، فيُعذّب هؤلاء أيضاً لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي، والمراد بعاد: أولاد عادٌ بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام، سُمُّوا باسم أبيهم، وقد قيل لأوائلهم: عاد الأولى، ولآخرهم عاد الآخرة، وقوله تعالى:{إِرَمَ} عطف بيان لعاد؛ للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو: أهل إرم، على ما قيل: من أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها، كقوله:{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، ويؤيده قراءة ابن الزبير بالإضافة، ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث، قبيلةً، كانت أو أرضاً. وقوله تعالى:{ذاتِ العماد} صفة لإِرم، فإذا كانت قبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو: طِوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، وإن كانت صفة للبلدة، فالمعنى: أنها ذات عماد طِوال لخيامهم على قدر طول أجسامهم، رُوي: أنها كانت من ذهب، فلما أرسل اللهُ عليهم الريح دفنتها في التراب، أو ذات أساطين.

رُوي: أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد، فمَلَكا وقَهَرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينةٌ عظيمةٌ، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولمَّا تمَّ بناءها سار إليها بأهل مملكته، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلةٍ، بعث اللهُ عليه صيحة من السماء فهلكوا، وقيل: غطتها الريح بالرمل فما غمًّا عليها. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه ممّا ثمَّ، فبلغ خبره معاوية، فاستحضره فقصَّ عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه

ص: 298

خال، وعلى عنقه خال، يرخج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا واللهُ ذلك الرجل. انظر الثعلبي.

{التي لم يُخْلَق مثلُها في البلاد} أي: مثل عادٍ في قوتهم، كان الرجل منهم يحمل الصخرة، فيجعلها على الحق فيهلكهم، وطُولِ قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو: لم يُخلق مثل مدينة " شدّاد " في جميع بلاد الدنيا، ذكر في القوت: أنَّ بعض الأولياء قال: دخلتُ مائة مدينة، أصغرها إرم ذات العماد، ثم قال: وقوله تعالى على هذا: {لم يخلق مثلها في البلاد} أي: بلاد اليمن. هـ.

{

وثمودَ الذين جابوا الصَّخْرَ بالوادِ} أي: قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتاً، قيل: أوّل مَن نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينةٍ كلها من الحجارة، والمراد بالواد وادي القُرى، وقيل غيره. والوادي: ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء.

{وفرعونَ ذي الأوتاد} أي: وكيف فعل بفرعون صاحب الأوتاد، أي: الجنود الكثيرة، وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا، وقيل: كان له أوتاد يُعذّب الناسَ بها، كما فعل بآسية. {الذين طَغَوا في البلاد} ؛ تجاوزوا الحدّ، والموصول إمّا مجرور صفة للمذكورين، أو منصوب، أو مرفوع على الذم، أي: طغى كل طائفة منهم في بلادهم، وكذا قوله تعالى:{فأكثَرُوا فيها الفسادَ} بالكفر القتل والظلم، {فصبَّ عليهم ربُّك} أي: أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد {سوطَ عذابٍ} أي: عذاباً شديداً لا يُدرك غايته، وهو عبارة عما حلَّ بكل واحدٍ منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة، وتسميته سوطاً؛ للإشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف، والتعبير بالصب، للإيذان بشدته وكثرته، واستمراره، أي: عُذِّبوا عذاباً دائماً مؤلماً، والعياذ بالله من أسباب المحن.

الإشارة: أقسم تعالى بأول فجر نهار الإحسان، وتمام قمر نور الإيمان، ليلة العشر، وشفعية الأثر، ووتر الوحدة، لتُسْتَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق والإخلاص، ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد النفس الأمّارة العاتية، الشبيهة بعاد إرم ذات العماد في العتو، التي لم يُخلق مثلُها في البلاد؛ في بلاد القواطع، إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي. القشيري: يشير إلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية، وفرعون ذي الأوتاد، يُشير إلى فرعون القوة الغضبية، وكثرة تباعته، وأنواع عقوباته وتشدداته. هـ. فأكثَروا فيها الفساد، أي: مدينة القلب، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات، ممن أراد الله تأييده وولايته.

ص: 299

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ ربك لبالمرصاد} ، قال ابن عباس: بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء، ولا يفوته أحد، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة، كما أشار إليه بقوله:{فأمّا الإنسان..} الخ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد. هـ. وأصل المرصاد: المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد، أي: الانتظار، مفعال، من: رصَده، كالميقات من وقته، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، قال الطيبي: لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون، حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب، أتبعه قوله:{إِنَّ ربك لبالمرصاد} تخلُّصاً، أي: فعل بأولئك ما فعل، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والنهي عن سفسافها، ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، كما قال:{لَاّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25] .

ثم فصل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم، فقال:{فأمّا الإِنسانُ} ، فهو متصل بما قبله، كأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا {فأمّا الإنسان} الغافل فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها، {إِذا ما ابتلاه ربُّه} أي: عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره {فأكْرَمَه ونَعَّمه} ، الفاء تفسيرية، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء، {فيقول ربي أكرمنِ} أي: فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر، وهو خبر المتبدأ الذي هو " الإنسان "، والفاء لما في " أمَّا " من معنى الشرط، والظرف المتوسط على نية التأخُّر، كأنه قيل: فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء. ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية، فقال: وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء، ثم استشهد بالآية، وقال: والتقدير: فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول. هـ. وقال المرادي: إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما، والثاني مقيد للأول، كتقييده بحال واقعة موقعه، ثم استشهد بما حاصله في الآية: فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول

الخ، فالشرط الثاني في معنى الحال، والحال لا تحتاج إلى جواب. هـ. مختصراً انظر الحاشية الفاسية.

ص: 300

{وأما إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه} أي: ضَيّق عليه رزقُه، وجعله بمقدار بلغته، حسبما تقتضيه ميشئته المبينة على الحِكَم البالغة، {فيقول ربي أهاننِ} ، ولا يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيءٍ بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما، فالواجب لمَن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة، ولا تَهمّه العاجلة، وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني، وفضّلني بما أعطاني، فيرى الإكرام في كثرة الحظّ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر، فَقَدَر عليه رزقه ليصبر، قال: ربّي أهانني، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا؛ لأنه لا يهمه إلَاّ العاجلة، وهو ما يلذّه وينعِّمه فيها، وإنما أنكر قوله:{ربي أكرمن} مع أنه أثبته بقوله: {فأكرمه ونعَّمه} ، لأنه قاله على قصد خلاف ما صحّحه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أن الله أعطاه إكراماً له لاستحقاقه، كقوله:{إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِيا} [القصص: 78] وإنما أعطاه الله ابتلاءً من غير استحقاق منه، فردّ تعالى عليه زعمه بقوله:{كلَاّ} أي: ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلّته، بل الإكرام في التوفيق للطاعة، والإهانة في الخذلان فـ " كلا " ردع للإنسان عن مقالته، وتكذيب له في الحالتين، قال ابن عباس: المعنى: لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك بمحض القضاء والقدر.

وقوله تعالى: {بل لا تُكرِمون اليتيمَ} انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله، والالفتات إلى الخطاب؛ للإيذان بمشافهته بالعتاب، تشديداً للتقريع، وتأكيداً للتشنيع، والجمع باعتبار معنى الإنسان، إذ المراد به الجنس، أي: بل لكم أحوال أشد شرًّا مما ذكر، وأدل على تهالككم على المال، حيث يُكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبّرة به.

{ولا تَحاضُّون على طعام المسكين} أي: يحض بعضُكم بعضاً على إطعام المساكين، {وتأكلون التراثَ} أي: الميراث، وأصله الوُراث، فقلبت الواو تاء، {أكلاً لمّا} أي: ذا لَمّ، وهو الجمع بين الحلال والحرام، فإنهم كانوا لا يُورِثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم، ويأكلون كل ما تركه المُورّث من حلال وحرام، عالمين بذلك، {وتُحبون المالَ حباً جماً} أي: كثيراً شديداً، مع الحرص ومنع الحقوق، {كَلاًّ} ردعٌ عن ذلك، وإنكارٌ عليهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة: إنَّ ربك لبالمرصاد، المطلع على أسرار العباد، العالم بمَن أقبل عليه أو أدبر عنه، ثم يختبرهم بالجمال والجلال، فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكْرَمه ونَعَّمَه في الظاهر، فيقول ربي أكرمني، ويبطر ويتكبّر، وأمّا إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، ويقنط ويتسخّط، كَلَاّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما، وليعلما أنه اختبار من الحق، فمَن شكر النِعم، وأطعم الفير والمسكين، وأبرّ اليتيم والأيم، كان من الأبرار،

ص: 301

وإن عكس القضية كان من الفُجّار، ومَن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومَن عكس القضية كان من البُعداء، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ، وقبضها عنه أحسان، وفي الحكم:" ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك ". ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي، وعن محبة المال الفاني، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة.

يقول الحق جل جلاله: {كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ} أي: زُلزلت {دَكاً دَكاً} أي: دكاً بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً، أو قاعاً صفصفاً، {وجاء ربُّك} أي: تجلّى لفصل قضائه بين عباده، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه، {والمَلكُ صفاً صفاً} أي: نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن، {وجيء يومئذٍ بجهنمَ} ، قيل: بُرِّزت لأهلها، كقوله:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) } [الشعراء: 91] وقيل: يجاء بها حقيقة، وفي الحديث:" يؤتى بجهنم يومئذٍ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها، حتى تنصب عن يسار العرش، لها لغيط وزفير " رواه مسلم.

{يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ} أي: يتّعظ، وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه:(يتذكّر) أي: إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه، {وأنَّى له الذِّكْرَى} أي: ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا، {يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي} هذه، وهي حياة الآخرة، أي: يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية.

{فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ} أي: لا يتولّى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، {ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ} ، قال صاحب الكشف: لا يُعدِّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله. وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء، بالبناء للمفعول، قيل: وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف، وهو الكافر. وقيل: هو أُبيّ بن خلف،

ص: 302

أي: لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده.

ثم يقول الله تعالى للمؤمن: {يا أيتها النفسُ} يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة، أو على لسان ملك، {المطمئنةِ} بوجود الله، أو بذكره، أو بشهوده، الواصلة إلى بَلَج اليقين، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم، وقيل: المطمئنة، أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، ويؤيده: قراءة مَن قرأ: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. ويقال لها هذا عند البعث، أو عند تمام الحساب، أو عند الموت:{ارجعي إِلى ربك} إلى وعده، أو: إلى إكرامه، {راضيةً} بما أُوتيت من النعيم {مرضيةً} عند الله عز وجل، {فادخلي في عبادي} أي: في زمرة عبادي الصالحين المخلصين، وانتظمي في سلكهم، {وادخلي جنتي} معهم. وقال أبو عبيدة: أي: مع عبادي وبين عبادي. أي: خواصّي، كما قال:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] . وقيل: المراد بالنفس: الروح، أي: وادخلي في أجساد عبادي، لقراءة ابن مسعود:" في جسد عبادي " ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته، فدخل في نعشه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره، ولم يُدْرَ مَن تلاها، وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: في خُبيْب بن عدي، الذي صلبه أهلُ مكة، والمختار: أنها عامة في المؤمنين؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الإشارة: إذا دُكت أرض الحس، باستيلاء المعنى عليها، أو أرض البشرية، باستيلاء الروحانية عليها، دكاً بعد دكٍّ، بالتدريج والتدريب، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني، وجاء ربك، أي: ظهر وتجلّى للعيان، والملَك صفا صفا، أي: وجاءت الملائكة صفوفاً، وجيء يومئذٍ بجهنم، أي: بنار البُعد لأهل الفرق، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره، يقول: يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق

والشواغل، ويُقيدهم بقيود البين، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية: يا أيتها النفس المطمئنة، التي اطمأنت بشهود الحق، ودام فناؤها وبقاؤها بالله، ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة، راضية عن الله في الجلال والجمال، مرضية عنده في حضرة الكمال، وعلامة الطمأنينة: أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد. وقال الورتجبي: النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله، فدعاها الله إلى معدنها الأول، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله، راضية من الله بالله، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية. هـ. والنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة، وزاد بعضهم: اللاّمة. والله تعالى أعلم، صلّى الله على سيدنا محمد وآله.

ص: 303