الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البعث، كما في البدور السافرة. والله أعلم بحقيقة الأمر.
{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عِظم شأنها، {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنس وَلَا جانٌّ} لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم، وأمّا قوله تعالى:{فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] ونحوه؛ ففي موقف المناقشة والحساب، فيوم القيامة يوم طويل، وفيه مواطن، يُسألون في موطن، ولا يُسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم. وقيل: لا يُسأل ليَعلم من جهته، ولكن يُسأل للتوبيخ. وضمير {ذنبه} للإنس لتقدُّمه رتبة، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس، والمراد بالجان الجن، فوضع الجان - الذي هو أبو الجن موضع الجن، كأنه قيل: لَاّ يُسأل عَن ذَنبِهِ أنسي ولا جني، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع كثر منافعها؛ فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه.
الإشارة: يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته، من كشف الأسرار، وتوالي الأنوار، فهو دائم سائل مفتقر، لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته، من القوت الحسي، وما يلائمه من ضرورية البشرية، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة، من الاستقامة الظاهرة.
وأشار بقوله: {كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِي شأن} إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين، ورفع قوم وذلّ آخرين، وإعطاء قوم ومنع آخرين، وترقية قوم وخفض آخرين، إلى ما لا نهاية له، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين، ينسخ بعضها بعضاً، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيسيرون معه، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم، وإذا أمسوا كذلك، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم، وحلّت عقدهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون؛ لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم، ليس لهم من الأمر شيء.
وقوله تعالى: {سنفرغ لكم أيه الثقلان} فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة، وبالنفس وصفاتها الذميمة، أي: سنفرغ لإكرامكم، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة، بأن أتجلّى لكم، فتُشاهدوني في كل وقت وحين، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار. والحاصل: أنَّ المدار كله على هذه الدار، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك. ويُقال لأهل النفوس الظلمانية:{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} بفكرة بصائركم فانفذوا، ولا قدرة لكم على ذلك؛ لسجن أرواحكم
في هياكل ذواتكم، وإحاطة دائرة الكون بكم، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ: إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم، فتجذبها إلى عالم الروحانية، بصحبة طبيب ماهر، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان، وتُفضوا إلى فضاء العيان، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان، قال تعالى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين} [الشعراء: 90] ، وقد تقدّم معناه.
{يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس
…
} الخ، قال القشيري: يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية، والشهوات الحيوانية، على الدوام والاستمرار، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر. {فبأي آلاء ربكما تُكذّبان} فإنَّ تعذيب مستحق العذاب، وتنعيم متسحق النعيم، والتمييز بين جن النفس العاصي، وبين إنس الروح، من الآلاء العظيمة. هـ. فإذا انشقت السماء الحسية، أي: ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها، كالدهان: كالزيت المُذاب، حين تذوب بالفكرة الصافية، والحاصل: أنَّ سائر الكائنات، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع ظهور هذه النعمة العظيمة، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس، {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام: لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يبلغ الولي مبلغا يُقال له: افعل ما شئت، أصحبناك السلام، وأسقطنا عنك الملامة. هـ. وهذا بعد محق أوصاف النفس، وبعد التحقق بالفناء والبقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: {يُغْرَفُ المجرمون} أي: الكفرة {بسيماهم} بسواد وجوههم، وزُرقة عيونهم، أو: بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل: هو تعليل لقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} أي: لا يُسألون لأنهم معروفون، {فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام} أي: يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم،
وقيل: تسحبهم الملائكةُ، تارة يُأخذ بالنواصي، وتارة بالأقدام، فالجار نائب الفاعل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} فإنَّ التخويف من هذه الأهوال قبل وقوعها من أجلّ النعم؛ ليقع الزجر عما يُؤدي إليها.
{هذه جهنمُ التي يُكذِّب بها المجرمون} أي: يُقال لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها، توبيخاً وعقاباً، {يطوف بينهما وبين حميمٍ آنٍ} أي: بالغ من الحرارة أقصاها، فالحميم: المار الحار، " والآنِ ": البالغ في الحرارة، فهم يُعذّبون بين الحرق بالنار وشرب الحميم الحار. قال كَعْب: إن وادياً من أودية جهنم، يجتمع فيه صديد أهل النار، ينغمسون بأغلالهم فيه، حتى يخلع أوصالهم، ثم يُخرجون منها، وقد أحدث اللهخ لهم خلقاً جديداً، فيُلقون في النار، فذلك قوله تعالى:{يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ} ، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ، وقد تقدّم تفسير كون هذا نِعماً مراراً.
الإشارة: فسَّر القشيري " المجرمون " هنا بطائفتين، الأولى: المتشدقون من علماء الكلام، الذي يتكلمون في ذاته وصفاته وأفعاله بما ليس لهم به علمٌ، ويُجادلون أربابَ الكشف والشهود بسبب علومهم الجدلية، ويفوهون بقوة الجبهة وصلابة الناصية، فلا شك أنهم يُجرون على ناصيتهم في نار البُعد والطرد عن مراتب أهل العرفان. الطائقة الثانية: المتصوفة الجاهلة، المنقطعون عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم، بسبب دخولهم في هذه الطريق بالتقليد، من غير إذن شيخ كامل، واصِلٍ مُوصِل، فلا شك أنهم يخرجون بأقدامهم المُعْوَجة عن سلوك طريق الحق إلى نار البُعد والقطيعة. هـ. بالمعنى. والسيما التي يُعرفون بها، إما علو النفس، وغِلظة الطبع، وطلب الجاه، وإما قلقة اللسان، وإظهار العلوم، فالعارف الكامل بعكس هذا كله، متواضع، سهل، لَيِّن، الخفاء أحب إليه من الظهور، لسان حاله أفصح من مقاله. ثم قال تعالى:{هذه جهنم التي يُكذِّب بها المجرمون} المتقدمون، لأنهم ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحسنون صُنعاً، {يطوفون بينها} أي: بين نار القطيعة وحميم التدبير والاختيار، مِن هَمّ الرز، وخوف الخلق، وغم الحجاب: نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
يقول الحق جل جلاله: {ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه} أي: قيامه بين يديه للحساب {يوم يقوم الناس لرب العالمين} أو: قيامه تعالى على أحواله، من: قام عليه، إذا راقبه، كقوله:{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] . قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى، فيدعها من خوفه. قال السدي: شيئا، مفقودان: الخوف المزعج، والشوق المقلق. هـ. أي: للخائف {جنتانِ} أي: بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مسيرة كل بستان: مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ هما بستانان في بستانين، قرارهما لابث، وفرعهما ثابت، وشجرهما نابت "، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة، وقيل: جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته، أو: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو: جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية، أو: جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها، أو: روحانية وجسمانية، أو: جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين، أو: جنة للإنس وجنة للجن؛ لأنّ الخطاب للثقلين، كأنه قيل: لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح، وسيأتي في الإشارة بقيته، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} .
ثم وصف تلك الجنتين بقوله: {ذَوَاتا أفَنانٍ} أغصان، جمع " فَنن "، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق، ومنها تُجنى الثمار، وتعقد الظلال، أو جمع فَنّ، بمعنى النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
{
فيهما} أي: في الجنتين {عينانِ تجريان} حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل، وقيل: بالماء والخمر، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} ، {فيهما من كل فاكهةٍ زوجان} صنفان، صنف معروف وصنف غريب، أو رطب ويابس. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} .
{متكئينَ} نصب على المدح للخائفين، أو: حال منهم؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع، {على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ} من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها؟ وقيل: ظاهرها سُندس، وقيل: من نور، وقيل: لا يعلمها إلَاّ الله. والبطائن: جمع بطانة، وهو: ما يلي الأرض، والإستبرق معرَّب، {وجَنَى الجنتين دانٍ} أي: ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري: وفي الخبر المسند: " مَن قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
والله أكبر، غرس له بها ألف شجرة في الجنة، أصلها الذهب، وفرعها الدر، وطلعها كثدي الأبكار، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان، وذاك قوله تعالى:{وجَنَى الجنتين دانٍ} إذا أرادوه أتى إلى أفواههم، حتى يتناولون من غير مشقة، ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. هـ. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ، {فيهن} أي: الجنتين؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، أو: في هذه الآلاء المعدودة، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي، {قاصراتُ الطَّرْفِ} جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، {لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ} أي: لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث: الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. {فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ} أي: تلك الجوار {الياقوتُ} صفاءً {والمَرْجانُ} بياضاً، على أنَّ المرجان صغار الدر، أو: في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل: إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة، فيُرى مُخ ساقها من ورائها، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} .
{هَلْ جزاءُ الإِحسان إِلَاّ الإِحسانُ} هو استئناف مقرر لِمَا فصّل قبله، أي: ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب، قال أنس: قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة " وفي لفظ آخر: " هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي " أو: هل جزاء مَن قال " لا إله إلا الله " إلَاّ الجنة. قال السدي: هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق: هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلَاّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن: هي مسجلة - أي مطلقة - للبر والفاجر، للفاجر في دنياه، وللبَر في عُقباه. هـ. {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} .
الإشارة: {ولمن خاف مَقام ربه} فرَاقَبه، ثم شاهَده، {جنتان} جنة المعارف مُعجّلة، وجنة الزخارف معها مُؤجلة، أو: جنة المعارف لأرواحهم، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري: جنتان: جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب، ومؤجَّلة في الآخرة، وهي جنة الثواب، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. هـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي: جنتان: جنة المشاهدة وجنة المكالمة، جنة
سورة البروج
يقول الحق جل جلاله: {والسماءِ ذات البروج} الأثني عشر، وهي الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. شُبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة، وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر، أو: عُظْم الكواكب، سُميت بروجاً لظهورها، من: التبرُّج، أي الظهور، أو: أبواب السماء، فإنَّ النوازل تخرج منها، {واليومِ الموعودِ} أي: يوم القيامة.
{وشاهدٍ ومشهودٍ} أي: وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد: مَن يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه: ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله، إذا أُريد بالشهود: الحضور، وإذا أريد الشهادة، فيُقَدّر المعمول، أي: مشهود عليه أو مشهود به. وقد اضطربت الأقوال في الشاهد والمشهود، فقيل: الشاهد: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: سائر الأمم؛ لأنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل: الشاهد: عيسى
رُوي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان لبعض الملوك ساحر، فلمّا كبر، قال للملك: قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلّمه السحر، فضمّ إليه غلاماً ليعلّمه، وكان في طريق الغلام راهبٌ، فسمع منه وأعجبه، وكان يحتبس عنده، فيضربه الساحرُ، فقال له الراهبُ: إذاخشيت الساحرَ، فقل له: حبسني أهلي، وإذا خشيتَ أهلك، فقل: حبسني الساحرُ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، وقيل: كانت أسداً، وقيل: ثُعباناً، فأخذ حجراً، وقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، وكان الغلام تعلَّم من الساحر اسم الله الأعظم، فكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، فعمي جليس الملكُ فأبراه، وأبصره الملكُ، فقال: مَن ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فغضب، فعذّبه، فدلّ على الغلام، فعذّبه، فدلّ على الراهب، فلم يرجع عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأبى الغلامُ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا، فرجف بالقوم، فطاحوا، ونجا، فذهب به إلى قُرْقُورة ـ وهي السفينة ـ فلجَجوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأتْ بهم السفينةُ، فغرقوا، ونجا، فقال للملك: لستَ بقاتلي حتى تجمع الناسَ في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول: بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات. فقال الناس: آمنا بربّ الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فخدّ أخدوداً، فملأها ناراً، فمَن لم يرجع عن دينه طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ، فتقاعست، فقال الصبيّ: يا أماه! اصبري، فإنك على الحق، فاقتحمت بصبيها. وقيل لها: قعي ولا تنافقي، ما هي إلاّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم.
واسم الغلام: عبد الله بن الثامر، واسم الراهب: فيميون، واسم الملك: ذو نواس. وقد ذكر القصة الكلاعي بتمامها. وقيل: تعددت قضية الأخدود، فكانت واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، فنزل القرآن في الذي بنجران. انظر التثعلبي. قال سعيد بن المسيب: كنا عند عمر، إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغلام حين حفروا خربة، وأُصْبعه على صُدْغِه كما قتل، فكلما مدت يده رجعت مكانها، فكتب عمر: أن واروه حيث وجدتموه. هـ.
وقوله تعالى: {النارِ} ؛ بدل اشتمال من " الأخدود " فحذف الضمير، اي: فيه، وقيل: قاعدة الضمير أغلبية، و {ذات الوقود} وصَفٌ لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس، {إِذ هم عليها قعودٌ} ؛ ظرف لقُتل، أي: لُعنوا حين حرّقوا المؤمنين بالنار، قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من جنبات الأخدود،
{وهم معلى ما يفعلون بالمؤمنين} من الإحراق {شُهودٌ} يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به، وفوّض إليه من التعذيب، أو:: إنهم {شهود} يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم، وقيل:" على " بمعنى " مع " أي: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، ولا يَرقّون لهم، لغاية قسوة قلوبهم. وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطق به الروايات المشهورة.
وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار، وهم قعود عليها، علقت بهم النار، فاحترقوا، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى:{ولهم عذاب الحريق} .
{وما نَقَمُوا منهم} أي: وما عابوا منهم وأنكروا عليهم، يقال: نقم ـ بالفتح والكسر: عاب، أي: عابوا منهم {إِلَاّ أن يؤمنوا بالله} وهذا كقول الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاع الكتائبِ
وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] وعبّر بلفظ المضارع، ولم يقل: إلَاّ أن آمنوا، مع أنَّ القصة قد وقعت، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم. وقوله تعالى:{العزيزِ الحميدِ} ، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً، يُخشى عقابه، حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ، له جلالة، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي، يستحق أن ينتقم منه بعذابٍ لا يُقادر قدره.
{
الذي له ملكُ السمواتِ والأرضِ} فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له، {واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ} وعيد لهم شديد، يعني: أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
{إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بهم: إمّا أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين: المطروحين في الأخدود، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قال ابن عطية: الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم، ويقويه بعض التقوية: قوله تعالى: {ثم لم يتوبوا} لأنه رُوي: أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية. هـ. مختصراً. {فلهم عذابُ
جهنَّمَ} في الآخرة لكفرهم، {ولهم عذابُ الحريق} في الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو: عذاب الحريق: نار أخرى عظيمة تحرقهم في الآخرة، لسبب فتنتهم للمؤمنين. والجملة: خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط، ولا ضَرَرَ في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك الأخفش. الإشارة: والسماء ذات البروج، أي: سماء الحقائق، صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في ترقِّبه إليها، مَن أرض الشرائع، كمقام التوبة، ثم الصبر، ثم الورع، والزهد، ثم التكُّل، ثم الرضا والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة، واليوم الموعود يوم الفتح الأكبر، وهو وقت الخروج من شهود الكون إلى شهود المكوِّن، وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً، ومشهود، هو عظمة الذات العلية وأسرارها وأنوارها. وقال الورتجبي: الشاهد هو والمشهود هو، يرى نفسه بنفسه، أي: لا يراه أحد بالحقيقة سواه، وأيضاً: الشاهد هو، إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس، والمشهود قلوب العارفين شاهَدَها بنعت الكشف، وأيضاً: اشاهد هو قلوب المحبين، والمشهود لقاؤه، وهو شاهدهم وهو مشهودهم، هو شاهد العارف والعارف شاهده. هـ. قُتل أصحابُ الأخدود، وهم الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا، المعذِّبون لأهل التوجه، وما نقموا منهم إلاّ طلب كمال الإيمان، وتحقيق الإيقان. إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد ولهم عذاب الاحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع.
ثم ثنى بأضدادهم، فقال:
يقول الحق جل جلاله: {إِنّ الذين آمنوا} وصبروا على الإيمان {وعَمِلوا الصالحات} من المفتونين وغيرهم {لهم} بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح {جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ} ، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. {ذلك هو الفوزُ الكبير} الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، والفوز: النجاة من الشر والظفر بالخير. والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر، والتذكير لتأويلها بما ذكر، وإمّا إلى ما يفيده قوله: {لهم جنات
…
} الخ، من حيازتهم لها، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً، وما فيه
من البُعد للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الفضل. ومحله: الرفع، وخبره: ما بعده.
{إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ} ، البطش: الأخذ بعنف، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. والمراد: أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام، وهو استئناف، خواطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم. {إِنه هو يُبدىء ويُعيد} أي: هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها. ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه، أو: هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة. {وهو الغفورُ} الساتر للعيوب، الغافر للذنوب، {الودودُ} المحب لأوليائه، أو: الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا، {ذو العرش} أي: خالقه ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: المُلك، أي: ذو السلطة القاهرة {المجيدُ} بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة لذُو، أي: العظيم في ذاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة {فعَّالٌ لما يُريد} بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد، وهو خبر عن محذوف.
{
هل أتاك حديثُ الجنود} أي: قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية. وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة، والكفرة العتاة. وكونه فعال لما يُريد مع تسليته صلى الله عليه وسلم بأنه سيصيب قومه صلى الله عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود. {فرعونَ وثمودَ} ؛ بدل من الجنود؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه. والمراد بحديثهم: ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، أي: قد أتاك حديثهم، وعرفت ما فعل بهم، فذكّر قومك ببطش الله تعالى، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
{بل الذين كفروا في تكذيبٍ} ، إضراب عن مماثلتهم، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم، أو كأنه قيل: ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره، وظهور حاله، بالبينات الباهرة. {واللهُ من ورائهم محيط} ؛ عالم بأحوالهم، قادر عليهم، لا يفوتونه. وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
{بل هو قرآن مجيد} أي: بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية، وفي نظمه وإعجازه، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هو كتاب شريف {في لوح محفوظ} من التحريف والتبديل. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن، والباقي بالجر صفة للوح، أي: محفوظ من
وصول الشياطين إليه. واللوح عند الحسن: شيء يلوح للملائكة يقرؤونه، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هو من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور، وكل شيءٍ فيه مسطور. قال مقاتل: هو عن يمين العرش، وقيل: أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم هـ.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار، يعني العمل الباطني، لهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى. إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، إنه هو يُبدىء ويُعيد، يُبدىء الحجاب للمحجوبين، ويُعيد الشهود للعارفين، وهو الغفور للتائبين المتوجهين، الودود للسائرين المحبين. قال الورتجبي: الغفور للجنايات، الودود بكشف المشاهدات. هـ. ذو العرش: ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية. قال الورتجبي: وصف نفسه بإيجاد العرش، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه، أي: بقوله: {المجيد} إعلاماً بأنه كان ولا مكان، والآن ليس في المكان، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان، والحاجة إلى الحدثان. هـ. قال القشيري: ويجوز أن يكون المراد بالعرش: قلب العارف المستَوي للرحمن، كما جاء الحديث:" قلب العارف عرش الله " هـ.
فعّال لما يُريد، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء. قال القشيري: إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك، وهو عادل في ذلك، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك. هـ. فلذا كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، هل أتاك حديث الجنود، أي: جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، ثم فسّرها بفرعون الهوى، وثمود حب الدنيا، والطبع الدني. بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب، لهذا كله، فلا يُفرقون بين الروح والنفس، ولا بين الفرق والجمع، والله من ورائهم محيط، لا يفوته شيء، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً، بل هو ـ أي: ما يوحي إلى الأسرار الصافية، والأرواح الطاهرة ـ قرآن مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ عن الخواطر والهواجس الظلمانية، وهو قلب العارف. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.