المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر

حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه: أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض:

فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً

ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

يقول الحق جل جلاله: {آمِنوا بالله ورسوله} أي: دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو: أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، {وأَنفِقوا} أي: تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي: جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو: جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، {فالذين آمنوا} بالله ورسوله {منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير} لا يُقادر قدره.

ص: 312

{وما لكم لا تؤمنون بالله} هو حال، أي: أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة، {والرسولُ يدعوكم} ويُنبهكم عيله، ويُقيم لكم الحجج على ذلك، {لتؤمنوا بربكم وقد أخذ} قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر، على الإقرار بالربوبية، والتصديق بالداعي، بعد أن رَكّب فيكم العقول، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان، أو: أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، فانظروا واعتبروا وآمنوا، {إِن كنتم مؤمنين} بأخذ هذا الميثاق، أو: بموجبٍ ما، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه.

{

هو الذي يُنَزِّلُ على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {آيات بيناتٍ} واضحاتٍ، يعني القرآن، {ليُخرجَكم} أي: الله تعالى، أو العبد {من الظلمات} أي: من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة، {وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم} حيث يهديكم إلى سعادة الدارين، بإرسال الرسول، وتنزيل الآيات، بعد نصب الحُجج العقلية.

ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق، بعد توبيخهم على ترك الإيمان، على ترتيب قوله:{آمِنوا} و {إنفِقوا} فقال: {وما لكم ألَاّ تُنفقوا في سبيل الله} أي: أيَ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى، وهو له حقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف؟ {ولله ميراثُ السماوات والأرض} يرث كل شيء فيهما، لا يبقى لأحد شيء من ذلك، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه {في سبيل الله} والله مُهلككم، فوارث أموالكم؟ فتقديمها لله أولى، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة. وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في " لله " لزيادة التقرير، وتربية المهابة.

ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال:{لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ} مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله: {أولئك أعظم درجة

} الخ، والمراد: فتح مكة، أي: لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد لك، {أولئك} الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:" لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه "، فهم {أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا} لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، {وكُلاًّ} أي: كل واحد من الفريقين {وَعَدَ اللهُ الحسنى} وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي: وعده الله الحسنى، {والله بما تعملون خبير} فيُجازيكم على قدر أعمالكم.

{من ذا الذى يُقْرِضُ اللهَ قرضاً حسناً} هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في

ص: 313

سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي: مَن ذا الذي يُنفق مَالَهُ في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر، فإنه كمن يُقرضه. وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، {فيُضاعِفه له} أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله، {وله أجرٌ كريمٌ} وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة! ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.

الإشارة: أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقيا، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال:{وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير: سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي: تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.

وما لكم ألَاّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. {من ذا الذى يُقرض الله قرضاً حسناً} ، قال القشيري: هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر:" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً ". هـ. فيضاعفه له بالترفي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ص: 314

يقول الحق جل جلاله: واذكر {يومَ ترى} أو: لهم أجر كبير {يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم} وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى {بين أيديهم وبأَيمانهم} وقيل: هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهك كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة.

قلت: ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن: يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع: الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي: العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول: جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. هـ. قلت: الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.

وقال مقاتل: يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين {من بين أيديهم وعن إيمانهم} كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.

وتقول لهم الملائكة: {بُشراكم اليومَ جناتٌ} أي: دخول جنات؛ لأنّ البشارة تقع بالإجداث دون الجُثث، {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} . {يومَ} بدل من " يوم ترى " {يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انُظرونا} أي:

ص: 315

‌سورة الليل

يقول الحق جل جلاله: {والليلِ إِذا يغشى} أي: حين يغشى الشمس، كقوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) } [الشمس: 4] أو: كل ما يواريه بظلامه. وقال القشيري: إذا يغشى الأفق وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته. {والنهارِ إِذا تَجَلَّى} أي: ظهر وأسفر ووضح، {وماخَلَقَ الذكَرَ والأُنثى} أي: والقادر الذي خلق الذكر والأنثى من كل ما له توالد مِن ماءٍ واحد، وقيل: هما آدم وحواء، و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية. وقُرىء " والذكر والأنثى " وقرىء " الذي خلق الذكر والأنثى ". جواب القسم:{إِنَّ سعيَكم} أي: عملكم {لشتَّى} ؛ لمختلف، جمع شتيت، أي: إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة.

ثم فصّله فقال: {فأّمَّا مَن أعطى} حقوق ماله {واتقى} محارمَ الله التي نهى عنها، {وصدَّق بالحسنى} ؛ بالخصلة الحُسنى، وهي الإيمان، أو بالكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو بالملة الحسنى، وهي الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده اللهُ به يوصله إليه، ولا يجري على قلبه خاطر شك، {فسَنُيَسِّره لليُسرى} ؛ فسنهيئه للطريقة التي تؤدي إلى الراحة واليُسر، كدخول الجنة ومبادئه. قال ابن عطية: معناه: سنظهر عليه تيسيرنا إياه بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وحَتْم تيسيره كان في علم الله أزلاً. هـ. يقال: يسَّرَ الفرس، إذا أسرجها وألجمها.

{وأمّا مَن بَخِلَ} بماله، فلم يبذله في سبيل الخير، {واستغنَى} أي: زهد فيما عند الله تعالى، كأنه مستغنٍ عنه فلم يتقه، أو: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة،

ص: 312

{وكَذَّب بالحُسنى} أي: بالخصلة الحسنى، على ما ذكر من معانيها، {فسَنُيَسِّره للعُسرى} أي: للخصلة المؤدّية إلى العسر والشدة، كدخول النار ومقدماته، لاختياره لها. وقال الإمام ـ أي الفخر ـ: كل ما أدّت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة، فذلك اليسرى، وهو وصف كل الطاعات، وكل ما أدّت عاقبته إلى التعب والردى، فذلك العُسرى، وهو وصف كل المعاصي. هـ. {وما يُغني عنه مالُه} الذي بَخِلَ به، أي: لا ينفعه شيئاً {إِذا تَرَدَّى} ؛ هَلَكَ، تفعّل، من الردى، أو تردَّى في حفرة القبر، أو في قعر جهنّم، والعياذ بالله.

الإشارة: أقسم تعالى بليل الحجاب، إذا يغشى القلوبَ المحجوبة، ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب الصافية، وكأنه تعالى أقسم بقهر جلاله، ولُطف جماله، وقدرته على خلق أصناف الحيوانات، إنَّ سعي الناس لشتى، فأمّا مَن أعطى مالَه ونفسَه، واتقى كلَّ ما يشغله عن المولى، فَسنُيَسِّره لسلوك الطريق اليُسرى، التي توصل إلى حضرة المولى. وقال الورتجبي: سهّل له طريقَ الوصول إليه، ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية. وقال القشيري: نُسَهِّلُ عليه الطاعات، ونُكَرِّه إليه المخالفات، ونهيىء له القُربَ، ونُحَبِّبُ له الإيمان، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان. هـ. وأمَّا مَن بَخِلَ بماله ونفسه، واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان، وقنع بمقام الإيمان، فسَنُيسره للعُسرى، وهي طريق البُعد والحجاب، كاشتغاله بحب الدنيا، وجمع المال، وما يُغني عنه ماله إذا تردى في مهاوي البُعد والردى.

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ علينا لَلْهُدى} ؛ إنَّ علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل، وتبيين الشرائع، أو: إن علينا بموجب قضائنا المَبْنيِّ على الحِكَم البالغة، حيث خلقنا الخلق للعبادة، أن نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك مما لا مزيد عليه، حيث بَيَّنَّا حال مَن سلك كلا الطريقين، ترغيباً وترهيباً، فتبيّن أنَّ الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البُغية، لا الدلالة الموصلة إليها حتماً. قاله أبو السعود.

{وإِنَّ لنا للآخرة والأُولى} أي: التصرُّف الكلي فيهما، كيفما نشاء، فنفعل فيهما ما نشاء، فنُعطي الدنيا لمَن نشاء، والآخرة لمَن نشاء، أو نجمع له بينهما، أو نحرمه منهما، فمَن طلبهما مِن غيرنا فقد أخطأ، أو: إنَّ لنا كُلَّ ما في الدنيا والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهُدانا.

ص: 313

{فَأّنْذَرتكم} ؛ خوَّفتكم {ناراً تلضى} ؛ تتلهب، {لا يَصْلاها إِلاّ الأشقى} ؛ لا يدخلها للخلود فيها إلاّ مَن سبق له الشقاء، {الذي كذَّب وتَوَلَّى} أي: الكافر الذي كذّب الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وتَوَلى عن الإيمان، {وسَيُجنبها} ؛ وسيبعِّدها {الأتقى} ؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي، فلا يحوم حولها، فضلاً عن دخولها، وأمّا مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد هذا البُعد، وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور، فلا يُنافي الحصر المذكور. {الذي يُؤتى مالَه} للفقراء {يتزكَّى} أي: يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يُريد به رياءً ولا سمعةً، من: الزكا، وهو الزيادة، أو: تفعّل من الزكاة، أو: يتطهر من الذنوب والعيوب، وهو حال من ضمير " يؤتى ". {وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى} أي: ليس لأحدٍ عنده نعمة من شأنها تجزى وتكافأ، {إِلَاّ ابتغاءَ وجه ربه} : استثناء منقطع، أي: لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه {الأعلى} أي: الرفيع بسلطانه، المنيع في شأنه وبرهانه.

والآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً في جماعة كان المشركون يؤذونهم، فأعتقهم. ولذلك قالوا: المراد بالأشقى: أبو جهل وأمية بن خلف. وعن ابن عباس رضي الله عنه: عذَّب المشركون بلالاً، وبلالٌ يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ، فمرّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:" ينجيك أحد أحد " ثم أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وقال له:" إنَّ بلالاً يُعذَّب في الله " فعرف مراده، فاشتراه برطل من ذهب، وقيل: اشتراه بعبدٍ كان عنده اسمه " نسطاس " وكان له عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري، وكان مشركاً، فقال له الصدِّيق: أسْلِم ولك جميع مالك، فأبى، فدفعه لأمية بن خلف، وأخذ بلالاً، فأعتقه، فقال المشركون: ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده، فنزلت. رُوي أنه اشتراه، وهو مدفون بالحجارة، يُعَذَّب على الإسلام، قال عروة: أَعتق أبو بكر سبعة، كلهم يُعذب في الله، بلال وعامر بن فهيرة، والنجدية وبنتها، وزِنِّيرة، وبيرة، وأم عُبيس، وأمة بني المؤمِّل. قال: وأسْلَم وله أربعون ألفاً، فأنفقها كلها في سبيل الله. وقال ابن الزبير: كان أبو بكر يشتري الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: لو كنت تبتاع مَن يمنع ظهرك، فقال: مَنْعَ ظهري أريد، فنزلت فيه:{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) } [الليل: 17] الآية. واسمه: عبد الله بن عثمان، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عبد الله.

وقوله تعالى: {ولسوف يرضى} جواب قسم مضمر، أي: والله لسوف نُجازيه فيرضى، وهو وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها، إذ به يتحقق رضاه، وهو كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا (5) } [الضحى: 5] .

الإشارة: إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق، فإنا أنزلنا كتاباً ما فرطنا فيه من شيء، وبعثنا رسولاً يهدي إلى الرشد، وجعلنا له خلفاء في كل زمان،

ص: 314

يهدون بأمرنا إلى حضرة قدسنا، وإنَّ لنا للآخرةَ لِمن طلبها، والأوُلى لِمن طلبها، وأظهرنا أسرار ذاتِنا لمَن طلبها، فأنذرتكم ناراً تلظى، وهي نار البُعد لا يصلاها إلا الأشقى، الذي سبق له البُعد منا. {الذي كذَّب وتولَّى} ، قال القشيري: أي كذَّب الحق في مظاهر الأولياء والمشايخ وأرباب السلوك، وأعْرَض عن قبول إرشادهم ونصائحهم، وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية، وسيُجنبها الأتقى، أي: يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب مَن اتقى السِّوى، الذي يؤتى ماله تقرُّباً إلى الله ليتزكّى من العيوب والأنانية، {وما لأحدٍ عنده من نعمة تُجزى} أي: ليس إحسانه في مقابلة حرف {إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي: إلاّ طلب معرفة ذاته العلية، {ولَسَوف يَرضى} بدوام شهود الذات الأقدس. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 315