المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة

المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة الحالات، جنة القلب وجنة الروح، جنة الكرامات وجنة المداناة. هـ. أو: جنة الوصال وجنة الكمال، أو: جنة الكمال وجنة التكميل، أو جنة الفناء وجنة البقاء، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء.

وقوله تعالى: {ذواتا أفنان} يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق، والأسرار والأنوار، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان: صنف حاصل، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس، أو: صنف لعالم الحكمة، وصنف لعالم القدرة، أو: صنف للذات وصنف للصفات، أو: صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة. متكئين على فُرش الأُنس، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود؛ لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده، فشُهوده دائم، وقُربه للحبيب لازم، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية، واستخرجت من يواقيت الحِكَم، وجواهر العلوم، ما لا يُحيط به المفهوم، بخلاف غير المتمكن، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود. قال القشيري: إذ لا لذة في أوائل المشاهدة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة

" الحديث. هـ. فِيهن قاصرات الطرف، أي: أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يمس تلك الحقائق غيرهم، لأنها خاصة بأهل الأذواق، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره، لأنها على حسب الاستعداد. كأنهن - أي: تلك الحقائق - الياقوتُ في صفاء معناها، والمرجان في حسن مبناها، هذا جزاء أهل مقام الإحسان.

{

هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} أي: هل جزاء أهل مقام الإحسان إلَاّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق، أو: هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا، أو: هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي. قال ابن جزي: ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام " أن تعبد الله كأنك تراه " فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويُقوي ذلك: انه جعل هاتين

ص: 281

الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.

يقول الحق جل جلاله: {ومِن دونهما جنتانِ} أي: ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين {جنتان} أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين، ويؤيده حديث أبي موسى، قال في هذه الآية. {ولمن خاف مقام ربه} قال:" جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين " ورَفَعه، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب، خلافاً لمن قال: يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى - وهم السابقون - ما ذكر في الحديث من الفضة، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله:{ومن دونهما} أي: في القُرب إلى العرش، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ، إلى العرش، وبَسَطَ القول في ذلك، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس، واحتج لذلك، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله.

{فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان} خضراوان تميلان إلى السواد، من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار، {فيهما عينان نَضَّاختان} فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح - بالمهملة - وهو الرش، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} .

{فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام؛ لفضلهما، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة: مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث، وقوفاً مع ظاهر العطف، وعندنا الأَيمان مبنية

ص: 282

على الأعراف، وهي تختلف باختلاف الأقطار. {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} ولا شيء منها يقبل الإنكار.

{

فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ} أي: في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء {خيرات} أي: فاضلات الخُلُق، حِسان الخَلْق، وهو مخفف من " خير " بالتشديد، وقرئ (خيِّرات) على الأصل، {فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} . {حُورٌ} بدل من " خيرات " {مَقصوراتٌ في الخيام} قُصِرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقَصُورة، ومقصورة، أي مخدّرة، أو: مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري: قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. هـ. يقلن: نحن الناعماتُ فلا نبأس، الخالداتُ فلا نَبيدُ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر: أن عائشة قالت: " إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ، قالت عائشة: فغلبنهن ". والخيام من الدر المجوف، {فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان} . {لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} .

{متكئين} نصب على الاختصاص، {على رَفْرَفٍ} هو كل ثوب عريض، وقيل: هو الوسائد، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر، يركب فيه أهل الجنة، ويسير بهم حيث شاؤوا، وقوله:{خُضْرٍ} ، وصف لرفرف؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر، والرفرف: إما اسم جنس، أو اسم جمع، واحده: رفرفة. {وعبقريٍّ حِسَانٍ} أي: طنافس، وهي جياد البُسط، كالزرابي وشبهها. والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف، وقال الخليل: كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمر:" فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه " والمراد به الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} قال النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: [ومن دونهما] لأنَّ {مدهامتان} دون {ذواتا أفنان} ، و {نضّاختان} دون {تجريان} ، و {فاكهة} دون {من كل فاكهة زوجان} ، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. هـ.

{تبارك اسمُ ربك} أي: تنزّه وتقدّس، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، {ذي الجلال} ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع، صفة لاسم، {والإكرام} لأوليائه بالإنعام.

ص: 283

قيل: لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله: {ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام} ختم نِعم الآخرة بقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى، إذ ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة، وهي الخير والزيادة، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته.

روَى جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن، فقال:" ما لي أراكم سكوتاً، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً، ما أتيتُ على قول الله: {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} إلَاّ قالوا: ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب، فلك الحمد ولك الشكر ". وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبوب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها، على عدد أبوب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم. قاله النسفي.

الإشارة: ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة، أو: جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم، وأخرى بعد البعث لأشباحهم، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين. وقوله:{مُدْهامتان} شديدة خضرتها؛ لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها، ويقفون معها، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم، بخلاف أهل الباطن، أهل الفناء والبقاء، لا ترى منهم إلاّ النيران؛ لفرارهم من الخلق، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى، لقوله تعالى:{وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] ، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر، ولا يعتبره أهل الباطن؛ إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان، وتحقيق عين العيان. وفي كتاب شيخ شيوخنا، سيدي " علي العمراني " رضي الله عنه قال: علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه.

ص: 284

‌سورة الطارق

يقول الحق جل جلاله: {والسماءِ والطارقِ} ، عظّم تعالى قَدْر السماءِ في أعين الخلق؛ لكونها معدن رزقهم، ومسكن ملائكته، وفيها خلق الجنّة، فأقسم بها وبالطارق، والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهُب التي يُرجم بها، لعِظم منفعتها، ثم عظَّمه ونوّه به، فقال:{وما أدراك ما الطارقُ} بعد أن فخّمه بالإقسام به، تنبيهاً على رفعة قدره بحيث لا يناله إدراك الخلق، فلا بد من تلقَّيه من الخلاّق العليم، أي: أيّ شيء أعلمك بالطارق، ثم فسّره بقوله:{النجمُ الثاقبُ} ؛ المضيء، فكأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل، كما يُقال للآتي ليلاً: طارق، أو: لأنه يطرق الجنِّيَّ، أي: يُصكّه. وقيل: المراد به كوكب معهود، قيل: هو الثريا، وقيل زُحل، وقيل الجدي.

ثم ذكر المقسَم عليه، فقال:{إِن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظٌ} ، " إن " نافية، و " لَمَّا " بمعنى " إلاّ " في قراءة مَن شدّدها، وهي لغة هذيل، يقولون:" نشدتك الله لمّا قمت " أي: إلاّ قمت، أي: ما كل نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن رقيب، وهو الله عز وجل، كما في قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: 52] أو: مَن يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، كما في قوله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) } [الانفطار: 10] أو: مَن يحفظها من الآفات، ويذب عنها، كما في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ

ص: 281

يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:" وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إن كل نَفْس..} الخ. و " ما ": صلة في قراءة من خفف، أي: إنه، أي: الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.

{

فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق} ، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً، أمره بالنظر في أوّل نشأته، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به، ولا يملي على حافظه ما يُرديه، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل، أي: إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات، أو يكتبون أعماله، خيره وشرها، دقيقها وجليلها، وأنه لم يُخلَق عبثاً، ولم يُترك سُدى، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً، فيعبده ولا يشرك به شيئاً، ثم فسَّر أصل نشأته فقال:{خُلق من ماء دافقٍ} ، فهو استئناف بياني، كأنه قيل: مِمَّ خُلق؟ فقال: خُلق من ماء دافق، والدفق: صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة، والدفق في الحقيقة لصاحبه، والاستناد إلى الماء مجاز، ولم يقل: من ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما. {يَخرج مِن بَيْنِ الصُلب والترائب} أي: صُلب الرجل وترائب المرأة، وهي عِظام صدرها، حيث تكون القلادة، وقيل: العظم والعصب من الرَجل، واللحم والدم من المرأة، وقال بعض الحكماء: إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن، فالدماغ أعظم معونة في توليدها، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه، وله خليفة هو النخاع، وهو في الصلب، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المَني، فلذا خُصّا بالذكر، فالمعنى على هذا: يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وهو الأحسن، وبه صدر ابن جزي.

{إِنه} أي: الخالق، لدلالة " خُلِق " عليه، أي: إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة، {على رَجْعِه} ؛ على إعادته بعد موته {لقادرٌ} بيّن القدرة. وجِيء بـ " إنّ " واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلَاّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد، {يومَ تُبلى السرائرُ} أي: تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويتبين ما طاب منها وما خبث. والسرائر: القلوب، هو ظرف لـ " رَجْعِه "، أي: إنه لقادر على رده بالبعث في هذا

ص: 282

اليوم الذي تُفضح فيه السرائر، {فما له مِن قوةٍ} في نفسه يمتنع بها {ولا ناصرٍ} ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى. ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان، وإمّا بنصر غيره له، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة.

الإشارة: أقسم تعالى بقلب العارف، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية، ثم نوّه بذلك الطارق، فقال:{وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} أي: هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق. إن كُلُّ نفس لما عليها حافظ، وهو الله، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً. فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته، خُلق من ماء دافق، يخرج من محل البول ويقع في محل البول، فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه، مَن تواضع رفعه الله. وفيه روح سماوية قدسية، إذا اعتنى بها وزكّاها، نال عز الدارين وشرف المنزلين " مَن عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربه " فالإنسان من جهة بشريته أرضي، ومن جهة روحانيته سماوي، والحُكم للغالب منهما. إنه على رجعه: أي: رده إلى أصله، حين برز من عالم الغيب، بظهور روحه، لقادر، فيصير روحانيًّا سماويًّا، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء، ليقع الدواء عليها، فتذهب، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلَاّ مِن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول الحق جل جلاله: {والسماءِ ذات الرجع} أي: المطر، لأنه يرجع حيناً بعد حين، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً، {والأرضِ ذات الصَّدْع} أي: الشق، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار، لا بالعيون كما قيل، فإنَّ وصف السماء بالرجع، والأرض بالشق، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور، حسبما ذكر في مواضع من القرآن، لا في تشققها بالعيون. {إِنه} أي: القرآن {لَقَولٌ فَصْلٌ} ؛ فاصل بين الحقّ والباطل، كما قيل له: فرقاناً، وصفَه بالمصدر، كأنه نفس الفعل، {وما هو بالهزلِ} أي: ليس في شيء منه شائبة هزل، بل كله جد محض، ومِن حقه ـ حيث وصفه الله بذلك ـ أن يكون مُهاباً في الصدور، معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه، ويهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العُتاة.

ص: 283

{إِنهم} أي: أهل مكة {يَكيدون} في إبطال أمره، وإطفاء نوره {كيداً} على قدر طاقتهم {وأكيدُ كيداً} أي: أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده، فأسْتدرجهم إلى الهلاك من حيث لا يعلمون. فسمي جزاء الكيد كيداً، كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداءً وسيئة، وإن لم يكن اعتداءً وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلَاّ على وجه المشاكلة، كقوله:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] إلى غير ذلك {فَمَهِّل الكافرين} أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تشغل بالانتقام منهم، بل اشتغل بالله يكفِك أمرهم {أمهِلهم رُويداً} أي: إمهالاً يسيراً، فـ " أمهِلهم ": بدل من " مَهِّل "، وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير. و " رويداً ": مصدر أرود، بالترخيم، ولا يتكلم به إلَاّ مصغراً، وله في الاستعمال وجهان آخران: كونه اسم فعل، نحو رُويد زيداً، وكونه حالاً، نحو: سار القوم رويداً، أي: متمهلين.

الإشارة: اعلم أنَّ الحقيقة سماء، والشريعة أرض، والطريقة سُلّم ومعراج يصعد إليها، فمَن لا طريقة له لا عروج له إلى سماء الحقائق، فأقْسَم تعالى بسماء الحقائق، وأرض الشرائع، على حقيّة القرآن، ووصف الحقيقة بالرجع، لأنه يقع الرجوع إليها بالفناء، ووصف أرض الشريعة بالصَدْع؛ لأنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها، ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل، فمَن طلب الحق من غيره أضلّه الله. ووصفه أيضاً بالجدّ غير منسوب لشيء من الهزل، فينبغي للقارىء عند تلاوته أن يكون على حال هيبة وخشوع، لا يمزج قراءته بشيء من الهزل أو الضحك، كما يفعله جهلة القراء.

ثم أمر بالغيبة عن الأعداء، والاشتغال بالله عنهم بقوله:{فَمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً} ، قال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بإذاية مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم. هـ.

وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

ص: 284