المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون

انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون في ظلمة، فيقولون للمؤمنين: قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم. وقرأ حمزة: " أَنظِرونا "، من الإنظار، وهو التأخير، أي: أَمهِلوا علينا. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني، أي: انتظرني، فتتفق القراءتان. وقيل: من النظر، أي: التفتوا إلينا وأَبْصِرونا {نَقتبس مِن نوركم} لأنَّ نورهم بين أيديهم، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة:{ارجعوا وراءكم} أي: إلى الموقف، إلى حيث أُعطينا هذا النور {فالتمِسوا نوراً} فإنّا هناك اقتبسناه، أو: التفتوا وراءكم، فيلتفتون فيُحال بينهم، {فضُرِبَ} حينئذ {بينهم} بين الفريقين {بسُورٍ} بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار، {له باب} يلي المنافقين، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة، فيزدادون حسرة، {باطِنُه} أي: باطن ذلك السور، وهو الجهة التي تلي المؤمنين {فيه الرحمةُ وظاهرهُ} الذي يلي المنافقين {مِن قِبَلِه العذابُ} أي: العذاب حاصل من قِبَلِه. فالعذاب: مبتدأ، و {مِن قِبَلِه} : خبر، أي: ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة، فيقابله العذاب، فهم بين النار والسور.

{يُنادونهم} أي: ينادي المنافقون المؤمنين: {ألم نكن معكم} في الدنيا؟ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر، {قالوا} أي: المؤمنون: {بلى} كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسَكم} أي: محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر، {وتربصتم} بالمؤمنين الدوائر، {وارتبتم} في أمر الدين {وغرتكم الأمانيُّ} الفارغة، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام، أو: طول الأمل وامتداد الأعمار {حتى جاء أمرُ الله} ؛ الموت، {وغرَّكم بالله} الكريم {الغَرُورُ} أي: الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم، أو: بأنه لا بعث ولا حساب.

{

فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ} فداء {ولا من الذين كفروا} جهراً، {مأواكم النارُ} أي: مرجعكم، لا تبرحون عنها أبداً {هي مولاكم} أي: المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه، أو: هي أولى بكم، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، أو: ناصركم، على طريق:

تحيةٌ بَينِهِم ضَرْبٌ وجِيعُ

فيكون تهكُّماً بهم، {وبئس المصيرُ} أي: النار.

الإشارة: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول،

ص: 316

يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم: بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري: قوله تعالى: {يسعى نورهم

} الخ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم:{المؤمن ينظر بنور الله} ، وقال تعالى:{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22] . وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي: ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.

يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا: انظُرونا والتفتوا إلينا، نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ، قِيلَ: ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فاتلمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم: ألم نكن معكم في عالم الحس؟ وهو عالم الأشباح، قالوا: بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني: المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي: حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.

ص: 317

قلت: {ألم يأن} : مجزوم بحذف الياء، من: أَنَى يأنِي، كمَضَى يمضي: إذا حان وقرب. و {أن تخشع} : فاعل. و {لا يكونوا} : عطف على " تخشع "، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب، فيكون التفاتاً؛ للاعتناء بالتحذير، أو نهياً.

يقول الحق جل جلاله: {ألم يَأْنِ} ألم يحضر، أو يقرب {للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله} أو: ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى، وتطمئن به، ويسارعون إلى طاعته، بالامثال لأوامره والاجتناب لنواهيه. قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء، وأنَّ الجلال هو الجمال، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنه: استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.

وعن أبي بكر رضي الله عنه: إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال:" هكذا كنا حتى قست قلوبنا ". قلت: مراده بالقسوة: التصلُّب والتثبُّت للورادات، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات، يتأثر بأدنى شيء، فإذا استمر مع الأنوار والواردات؛ استأنس بها وتصلّب واشتد، فلا تؤثر فيه الواردات، فيكون مالكاً للأحوال، لا مملوكاً، وهذا أمر ذَوقْي، يرتفع البكاء عن العارفين، ويظهر على الصالحين والطالبين. وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل، كان صاعداً لجارية، فسمع قارئاً يقرأها، فقال: قد آن الخشوع والرجوع، فتاب.

والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ

} [الأنفال: 2] الآية، أو: القرآن، فيكون قوله:{وما نَزَلَ من الحق} عطف تفسير، أو لتغاير العنوانين، فإنه ذِكْرٌ وموعظة، كما أنه حقٌّ نازل من السماء. والمراد بالخشوع: الإنابة والخضوع، ومتابعة الأمر والنهي. {ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ} أي: اليهود والنصارى، {فطال عليهم الأمدُ} الزمن بينهم وبين أنبيائهم، {فقست قلوبُهم} باتباع الشهوات، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له، ورقَّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا.

قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لمَّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم، فاخترعوا كتاباً

ص: 318

من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلَاّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، [وقالوا] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلَاّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومئ إلى صدره، وقال: آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. هـ.

قال تعالى: {وكثيرُ منهم فاسقون} خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي: وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية: الإشارة بقوله: {أوتوا الكتاب} إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال:{من قبل} ، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله:{فطال عليهم الأمدُ} قيل: أمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة. هـ. وقال مقاتل: {الأمد} هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. هـ. قيل: إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا: حدِّثنا، فنزل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وبعد مدة قالوا: لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة.

وهذه الآية {اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلَاّ الالتجاء إلى الله، ونفى الحول والقوة؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك، كما أنه وحده يُحيي الأرض، {قد بينا لكم الآيات} التي من جملتها هذه الآية، {لعلكم تعقلون} كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.

الإشارة: خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق: أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة: انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال: موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال:

ص: 319

إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ

كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ

اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل.

قلت: {المصدقين} مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل، من: تصدّق، أدغمت التاء في الصاد، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق. و {أقرضوا} : عطف على الصلة، أي: إن الذين تصدّقوا وأقرضوا.

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات} أي: المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو: المصدقين بالله ورسوله والمصدقات، {وأقرضوا اللهَ قرضاً حسناً} وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ، بقلب طيب، {يُضاعف لهم} بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة، {ولهم أجرٌ كريمٌ} الجنة وما فيها.

وقد ورد في الصدقات أحاديث، منها: أنها تدفع سَبعينَ باباً من السوء، وتزيد البركة في العمر. رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح، وخرجا من عنده مسرورين، وحضر ملك الموت، فقال: لا تعجب من سرورهما، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب، حتى ذهبت ستة أيام، ثم خمسة أشهر، فعجب من ذلك، فدخل عليه ملك الموت، فسأله عن ذلك، فقال: إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك، فلما خرج من عندك لقيه سائل، فدفع له درهماً، فدعا له بالبقاء، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته. هـ. وانظر عند قوله:{يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} [الرعد: 38] ، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه، فدعا موسى عليه السلام عليه، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف، فنزل الثعبان، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه.

{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} المبالغون في التصديق، أو الصدق، وهو أولى؛ لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً،

ص: 320

‌سورة الضحى

يقول الحق جل جلاله: {والضُحى} ، المراد به: وقت الضحى، وهو حدود النهار حتى ترتفع الشمس، وإنما خُصّ بالإقسام به لأنه الساعة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام، والتي وقع فيها السحرة ساجدين، أو: النهار كلّه؛ لمقابلته بالليل في قوله: {والليلِ إِذا سجى} ؛ سَكَن، المراد: سكون الناس والأصوات فيه، أو ركد ظلامه، من: سجا البحر إذا سكنت أمواجه، وقيل: المراد بالضحى: ساعة مناجاة موسى، وبالليل: ليلة المعراج.

وجواب القسم: {ما ودّعَكَ ربُّك} أي: ما تركك منذ اختارك، {وما قَلَى} أي: وما أبغضك منذ أحبك، والتوديع: مبالغةٌ في الودْع، وهو الترك؛ لأنَّ مَن ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. رُوي أنَّ الوحي تأخّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، فقال المشركون: إنَّ محمداً ودَعَهُ ربُّه وقلاه، فنزلت ردًّا عليهم، وتبشيراً له صلى الله عليه وسلم بالكرامة الحاصلة. وحذف الضمير من " قَلَى " إمّا للفواصل، أو للاستغناء عنه بذكره قبل، أو: للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه تعالى، مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية، وحيث تضمّن ما سبق من نفي التوديع، والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر صلى الله عليه وسلم بأنّ ما سيؤتاه في الآخرة أجلّ وأعظم بذلك، فقيل:{وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولى} ، لأنَّ ما فيها من النِعم

ص: 316

صافية من الشوائب على الإطلاق، وهذه فانية مشوبة بالمضار، وما أوتي صلى الله عليه وسلم من شرف النبوة، وإن كان مما لا يُعادله شرف، ولا يُدانيه فضل، لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض الشاقة على النفس.

ووجه اتصال الآية بما قبلها: أنه لمَّا كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ الله يُواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبر أن ما له في الآخرة أعظم وأشرف، وذلك لتقدُّمه على الأنبياء في الشفاعة الكبرى، وشهادة أمته على الأمم، ورفع درجات المؤمنين، وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تُحيط بها العبارة.

وقوله تعالى: {ولَسَوْفَ يُعطيك ربُّك فَتَرْضى} وَعْد كريمٌ شاملٌ لِما أعطاه الله تعالى في الدنيا، من كما اليقين، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره، وإعلاء دينه بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة، وإعلاء منار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلَاّ الله عز وجل، وقد أنبأ ابنُ عباسٍ عن شيء منها، حيث قال:" أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك ". وفي الحديث: لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: " أنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار " قال بعضهم: هذه أرجى آيةٍ في القرآن. ودخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة، وعليها ثياب من صوف وشعر، وهي تطحن وتُرضع ولدها، فدمعت عيناه، وقال:" يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة " ثم تلا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} . واللام للقسم، وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل.

الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول، عند انتشار شمس روحه على بشريته، وبِلَيل بشريته عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه لغلبة سلطان الحقيقة، ما ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك، وما قَلَى بقطع فيض الولاية عن قلبك، {وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} يعني: أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة، ويترقّى في مقامات القٌرب والكرامة. هـ. ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين، الدعاة إلى الله. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله: {أَلمْ يَجِدْكَ يتيماً} من أبويك {فآوى} أي: ضمَّك إلى جدك، ثم إلى عمك أبي طالب. رُوي أنَّ أباه مات وهو جنين، قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكلفه أولاً جدُّه عبد المطلب، فلما مات جده كَفَلَه عَمُّه أبو طالب، فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه، وقال القشيري: ويُقال: بل آواه إلى ظل كَنَفِه، وربَّاه بلطف رعايته. هـ.

والحكمة في يُتمه صلى الله عليه وسلم: ألاّ يكون عليه منّة لأحدٍ سوى كفالة الحق تعالى. وقيل: هو من قول العرب: دُرة يتيمة إذا لم يكن لها مِثل، أي: ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك، لا نظير لك فآواك إلى حضرته.

{وَوَجَدَك ضالا} ؛ غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول، {فَهَدَى} ؛ فهداك إليها، كقوله:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ} [الشورى: 52] . وقال القشيري: أي: ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها، وعَرَّفناك تفصيلَها. هـ. أو: ضالاً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة، ولم يقل أحد من المفسرين: ضالاًّ عن الإيمان. قاله عياض: وقيل: ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل: ضلّ مرة أخرى، وطلبوه فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرّع إلى الله، فسمعوا هاتفاً يُنادي من السماء: يا معشر الناس، لا تضجُّوا، فإنَّ لمحمدٍ ربَّا لا يخذله ولا يُضيّعه. وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالإغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته، وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريلُ عليه السلام، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند، وردّه إلى القافلة. وقوله تعالى:{فَهَدَى} أي: فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى إليك من الكتاب المبين، وعلَّمك ما لم تكن تعلم. {ووجدك عائلاً} ؛ فقيراً من حس الدنيا، {فأَغْنَى} ؛ فأغناك به عما سواه، وزوّجك خديجة، فقامت بمؤونة العيش، أو بما أفاء عليك من الغنائم، قال صلى الله عليه وسلم:

" جعل رزقي تحت ظل رمحي ". {فأمَّا اليتيمَ فلا تقهرْ} ، قال المفسرون: أي: لا تغلبه على ماله وحقه، لأجل ضعفه، وأذكر يتمك، ولا تقهره بالمنع من مصالحه، ووجوه القهر كثيرة، والنهي يعم جميعها، أي: دُم على ما أنت عليه من عدم قهر اليتيم. وقد ورد في الوصية باليتيم

ص: 318

أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى الله " وأشار بالسبابة والوُسطى، وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة "، فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه وأعطاه شيئاً. وقال أنس:" مَن ضمّ يتيماً، فكان في نفقته، وكفاه مؤنته، كان لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار يوم القيامة، ومَن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ".

{وأمَّا السائِلَ فلا تنهرْ} أي: لا تزجره ولا تعبس في وجهه، ولا تغلظ له القول، بل ردّه ردًّا جميلاً، قال إبراهيم بن أدهم: نِعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يمنعنّ أحدُكم السائلَ وإن في يديْه قُلْبَين، من ذهب " أي: سوارين. وقال أيضاً: " أَعْطِ السائِلَ ولو على فرسه " وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رددت السائل ثلاثاُ فلم يرجع عليك أن تَزْبُرَه " وقال الحسن: المراد بالسائل هنا: السائل عن العلم.

{وأمَّا بنعمةِ ربك فحدِّث} بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها، يرد ما أفاضه الله تعالى عليه من فنون النِعَم، التي من جملتها المعدودة والموعودة، والنبوة التي آتاه الله تأتي على جميع النِعم، ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:" التحدُّث بالنِعَم شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول: لقد أعطاني الله كذا، ولقد صلَّيتُ البارحة كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وجه الشكر، أو ليُقتدى به، فأمّا على وجه الفخر والرياء فلا يجوز. هـ.

ص: 319

انظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا، فقال في قوله:{ألم يجدك يتيماً} بقوله: {فأمّا اليتيم فلا تَقْهَر} وقابل قولَه: {ووجدك ضالاً} بقوله: {وأمّا السائل فلا تَنْهَر} على مَن قال: إنه طالب العلم، وقابل بقوله:{وأمّا بنعمة ربك فَحَدِّث} على القول الآخر، وقابل قوله:{ووجدك عائلاً فأَغْنَى} بقوله: {وأما السائل فلا تَنْهر} على القول الأظهر، وقابله بقوله:{وأمَّا بنعمة ربك فحدِّث} على القول الآخر هـ. من ابن جزي.

ولمَّا قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الضحى كبّر في آخرها، فسُنَّ التكبير آخرها، وورد الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها في رواية البزي.

الإشارة: ألم يجدك يتيماً فرداً من العلائق، مجرداً مما سوى الله، فآواك إليه، وهي طريقة كل متوجه، لا يأويه الحق إليه حتى يكون يتيماً من الهوى، بل بقلبٍ مُفرد، فيه توحيد مجرد. قال القشيري: ويُقال فآواك إلى بساط القربة، بحيث انفردْتَ بمقامِك، فلم يُشاركك فيه أحد. هـ. {ووجدك ضالاًّ} قيل: متردداً في معاني غوامض المحبة، فهداك بلطفه لها، أو: وجدك مُتحيراً عن إدراك حقيقتنا، فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا، وفي هذا ملاءمة لمعنى الافتتاح. قال القشيري: ويُقال: ضالاًّ عن محبتي لكن فعرَّفْتُك أني أُحبك، ويقال: جاهلاً شرفَك فعرَّفْتُك قَدْرَكَ. هـ. ووجدك عائلاً فقيراً مما سواه، فأغناك به عن كل شيء، إلاّ طلب الزيادة في العلوم والعرفان، فلا قناعة من ذلك، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] . وفي القوت: إنما أغناه بوصفه، لا بالأسباب، وهو أعز على الله من أن يجعل غناه من الدنيا أو يرضاها له. هـ. وكما أنَّ الله تعالى غَنِيّ بذاته، لا بالأعراض والأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم غَنِيّ بربه لا بالأعراض. قاله في الحاشية. قلت: وكذلك الأولياء رضي الله عنهم سَرَى فيهم اسمه تعالى " الغَنيِّ " فصاروا أغنياء بلا سبب، وما وصّى به الحقٌّ تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم يُوصَّى به خلفاؤه من قوله: {فأمّا اليتيم فلا تقهر

} الخ. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 320