المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كمسّيك من أمسك. {و} هم أيضاً {الشهداءُ عند ربهم} وظاهره: - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: كمسّيك من أمسك. {و} هم أيضاً {الشهداءُ عند ربهم} وظاهره:

كمسّيك من أمسك. {و} هم أيضاً {الشهداءُ عند ربهم} وظاهره: أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء، وليس كذلك، فينبغي حمل قوله:{آمَنوا} على خصوص إيمان وكماله، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم، ولم يتوقفوا ساعة، أي: سبقوا إلى الإيمان، واستشهدوا في سبيل الله. وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق. وقيل: كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد، أي: ملحق بهما، وإن لم يتساووا في النعيم، كقوله: {وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ

} [النساء: 69] .

والحاصل على هذه العبارة: الترغيب في الإيمان والحث عليه، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه، تقول: فلان هو حاتم بعينه، إذا شابهه في الجود، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مؤمنو أمتي شهداء " قال مجاهد: (كل مؤمن صدّيق وشهيد)، أي: على ما تقدّم، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به، وقال بعضهم: معنى الشهداء هنا: أنهم يشهدون على الأمم. قال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله: " الصدّيقون "، وقوله:" الشهداء " استئناف كلام، أي: والشهداء حاضرون عند ربهم، أو: والشهداء {لهم أجرهم ونورهم} عند ربهم، قال أبو حيان: والظاهر: أن " الشهداء " مبتدأ، خبره ما بعده. هـ.

قلت: الظاهر: أنَّ الآية متصلة، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد، أي: يلحق بهم، وقوله:{لهم أجرهم ونورهم} أي: لهم أجر الصدّيقين ونورهم، على التشبيه، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به. وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام، ويؤيد عدم التقييد: ذكر ضده عقبه، كما هو عادة التنزيل، بقوله:{والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} .

الإشارة: إنَّ المصدّقين والمصدّقات، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً، أي: قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم،

ص: 321

ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله:{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي: هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم؛ لِصدق الفراسة؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة. هـ.

وقال القشيري: الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال: هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء: الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم: ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.

يقول الحق جل جلاله: {اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ} كلعب الصبيان، {وَلَهوٌ} كلهو الفتيان، {وزِينَةٌ} كزينة النسوان، {وتفاخر بينكم} كتفاخر الأقران، {وتكاثرٌ} كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - {في الأموال والأولاد} أي: مباهاة بهما. والتكاثر: الاستكثار، والحاصل: أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال:{كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ} أي: الحُرّاث، من: كَفَرَ الحبَ: ستره، ويقال: كفرت الغمامُ النجومَ: سترتها، أي: أعجب الزراع {نباتُه} أي: النبات الحاصل منه، {ثم يَهيجُ} أي: يجف بعد خضرته ونضارته، {فتراه مُصْفراً} بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل: ثم تراه؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. {ثم يكون حُطاماً} متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو:

ص: 322

الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.

وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري: الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً: طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً: المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. هـ.

{

وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ} لمَن أعرض عن الله، {ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ} لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل: أنّ الدنيا ليست إلَاّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، {وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور} لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور: هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون: يا معشر المريدين؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.

ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال:{سابِقوا} بالأعمال الصالحة {إِلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أو: سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، {وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض} أي: كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلَاّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات! {أُعِدَّتْ} تلك الجنة {للذين آمنوا بالله ورسله} وهو دليل أنها مخلوقة، {ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء} وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في

ص: 323

‌سورة الشرح

يقول الحق جلاّ جلاله: {أَلَمْ نشرحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي: ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب والشهادة، وجمع بين ملَكتي الاستفادة والإفادة، فما صدتك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملِكات الروحانية، وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شهود الحق، وقيل: المراد شرح جبريل صدرَه في حال صباه، حين شقّه وأخرج منه علقة سوداء، أو ليلة المعراج فملأه إيماناً وحكمة. والتعبير عن الشرح بالاستفهام الإنكاري للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يُجِيب عنه بغير " بلى ".

وزيادة " لك " وتوسُّطه بين الفعل ومفعوله للإيذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى الله عليه وسلم ومصالحة، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى الله عليه وسلم وتشويقاً إلى ما يعقبه، ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تمكُّن. وقال في الوجيز: هو استفهام معناه التقرير، أي: ألم نفتح ونُوسِّع لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة. قال في الحاشية الفاسية: والظاهر أنه

ص: 321

إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] ، وأنه بادَاه به من غير طلب، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة، متضمن حمل ثقل تبليغها، لكونه في ذلك بربه، ويناسبه ما بعده من وضع الوزر، وهو لغة: الحمل الثقيل، كما في الوجيز، وشرح الصدر: بسطه بنور إلهي. هـ.

{ووضعنا عنك وِزْرَكَ} ، عطف على مدلول الجملة السابقة، كأنه قيل: قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، أي: حططنا عنك عبأك الثقيل، {الذي أَنْقَضَ ظهرك} أي: أثقله حتى سمع له نقيض، وهو صوت الانتقاض، أي: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، أو: يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها، ووضعه عنه: أن يغفر له. قال ابن عرفة: التفسير السالم فيه: أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد، أو يتجوّز في الوزر، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى: أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك، وإن أريد بالوزر المجازي، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية، فيكون الوضع حقيقة، والوزر مجازاً. هـ. قلت: والظاهر: أنَّ كل مقام له ذنوب، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب، فكأنه صلى الله عليه وسلم خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه، فاهتمّ من أجله، وجعل منه حملاً على ظهره، فأسقطه الحق تعالى عنه، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق؛ ليتخلّى من ذلك الاهتمام.

وزاده شرفاً بقوله: {ورفعنا لك ذِكرك} أي: نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب، ومِن رَفْعِ ذكره صلى الله عليه وسلم أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد، وفي مواضع من القرآن:{أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [النساء: 59]{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، وتسميته رسول الله، ونبي الله، وقد ذكره في كتب الأولين. قال ابن عطية: رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة. هـ. قلت: والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه: مَن أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره. هـ. والخمول للمريد أسلم، والظهور للواصل أشرف وأكمل.

ثم بشّر رسولَه وسلَاّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله: {فإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً} أي: إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل: كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم، ثم قال:

ص: 322

{فإِنَّ مع العسكر يُسراً} كأنه قال: خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله، {إِنَّ مع العسر} الذي أنتم فيه {يُسراً} ، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك تكريره، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها:" لن يغلب عسر يسرين " لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليُسر أعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى: إنَّ مع العُسر يسريْن، وبعضهم يكتبه بياءين، ولا وجه له.

{فإِذا فرغتَ} من التبليغ أو الغزو {فانصبْ} ؛ فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة، ووعدك من الآلاء اللاحقة، أو: فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق، وقيل: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، أو: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة، أي: في سبب استحقاق الشفاعة، {وإِلى ربك فارغبْ} في السؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره. وقُرىء:" فرغِّب " أي: الناس إلى ما عنده.

الإشارة: ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله، حرفاً بحرف، فيقال له: ألم نُوسع صدرك لمعرفتي، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا، أو: وضعنا عنك أثقال السير، فحملناك إلينا، فكنت محمولاً لا حاملاً، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير، فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة، أو: فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك، وارغب في هداية الخلق. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 323