المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الرحمن يقول الحق جل جلاله: {الرحمنُ علَّمَ القرآنَ} عدّد في - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: ‌ ‌سورة الرحمن يقول الحق جل جلاله: {الرحمنُ علَّمَ القرآنَ} عدّد في

‌سورة الرحمن

يقول الحق جل جلاله: {الرحمنُ علَّمَ القرآنَ} عدّد في هذه الصورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نِعمه الدينية والدنيوية، الأنفسية والآفاقية، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها، وبدأ بتعليم القرآن؛ لأنه أعظمها شأناً، وأرفعها مكاناً، كيف لا وهو مدار السعادة الدينية والدنيوية؟ وإسناد تعليم القرآن إلى اسم " الرَّحْمَان " للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها.

ثم ثنَّى بنعمة الإيمان، فقال:{خَلَقَ الإِنسانَ} أي: جنس الإنسان، أو آدم، أو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بخلقه: إنشاؤه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة. {علَّمه البيانَ} وهو المنطق الفصيح، المُعْرِب عما في الضمير، وليس المراد بتعليمه: تمكينه من بيان ما في نفسه، بل منه ومِن فهم بيان غيره، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن؛ ليعلم إنما خلقه للدين، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير. والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن، وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلك، كثَّرك بعد قِلَّة، فعل بك ما لم يفعل أحدٌ بأحدٍ، فما تُنكر إحسانه؟ .

ص: 266

ثم ذكر النِعَم الآفاقية، فقال:{الشمسُ والقمرُ بحُسْبَانٍ} أي: يجريان بحساب معلوم، وتقدير سويِّ، في بُروجهما ومنازلهما، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويُعلم منها عدد السنين والحساب، ولو كان الدهر كله نهاراً أو ليلاً لبطلت هذه الحكمة، ولم يَدْر أحدٌ كيف يحسب شيئاً، ولاختلّ نظام العالم بالكلية، وقال مجاهد:(بحُسْبان) كحسبان الرحا، يدوران في مثل قطب الرحا، وهو مُؤيِّدٌ لأهل التنجيم. قال بعضهم: إنَّ الشمس قدر الدنيا مائة وعشرون مرة، لأجل ذلك أن الإنسان يجدها قبالته حيث صار. وقال في شرح الوغليسية: إنَّ الشمس قدر الدنيا بمائة ونيف وستين مرة، والقمر قدر الدنيا ثمان مرات، ويُحيط بهما بصر أقل من حبة السمسم، الله أكبر وأعز وأعلا. هـ. ويقال: مكتوب في وجه الشمس: " لا إله إلا الله محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره " وفي وجه القمر مكتوب: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خالق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما مَن يشاء مِن خلقه، فطُوبى لمَن أجرى اللهُ الخير على يديه، والويل لمَن أجرى اللهُ الشر على يديه ".

{والنجمُ والشجرُ يسجدان} النجم: النبات الذي ينجم، أي: يطلع من الأرض ولا ساق له، كالبقول، والشجر: الذي له ساق. وقيل: {النجم} : نجوم السماء وسجودهما: انقيادهما لما يُراد منهما، شُبّها بالساجدين من المكلّفين في انقيادهما، واتصلت هاتان الجملتان بالرحمن بالوصل المعنويّ، لِما علم أنَّ الحُسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له، ولم يذكر العاطف في الجُمل الأُولِ وجِيء به بعدُ؛ لأنّ الأُولَ وردت على سبيل التعديد كما تقدّم، ثم ردَّ الكلام إلى منهاجه في وصل ما يجب وصله؛ للتناسب والتقارب بالعطف وبيان والتناسب: أنَّ الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فعطف أحد المتقابلين على الآخر، وأيضاً: حُسبان الشمس والقمر نوع من الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر. ثم قال تعالى:{والسماءَ رفَعها} أي: خَلَقها مسموكةً مرفوعةً، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومسكن ملائكته الذي يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبّه بذلك على كبرياء شأنه، ومُلكه وسلطانه، {وَوَضَعَ الميزانَ} أي: كل ما يُوزن به الأشياء ويعرف مقاديرها، من ميزان، وقَرَسْطون، ومكيال، ومعيار، والقرسطون - بفتحتين: العدلة التي توزن بها الفضة، أي: خَلَقه موضعاً على الأرض من حيث علّق به أحكام العباد على التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. وقيل: معنى الميزان، العدل، أي: شرع العدل وأمر به حتى يوفّى كل ذي حق حقه، حتى انتظم أمر العالم واستقام، كما قال صلى الله عليه وسلم:" بالعدل قامت السماوات والأرض "، والعدل: ما حكمت به الشريعةُ المحمدية، من كتاب، وسُنة، وإجماع، وقياس. وأمر بذلك {ألَاّ تَطْغَوْا في الميزانِ} أي: لئلا تجوروا في الميزان بعد

ص: 267

‌سورة المطففين

يقول الحق جل جلاله: {ويل للمطفيين} ، الويل: شديد الشر، أو: العذاب الأليم، أو: واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره، وقيل: كلمة توبيخ وعذاب، وهو مبتدأ، سوّغ الابتداء به معنى الدعاء. والتطفيف: البخس في الكيل والوزن، وأصله: من الشيء الطفيف، وهو القليل الحقير، رُوي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة فوجدهم يُسيئون الكيل جدًّا، فنزلت، فأحْسَنوا الكيلَ، وقيل: قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، وقيل: كان أهل المدينة تُجاراً، يطففون، وكانت بياعتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: " خَمْسٌ بخمس، ما نَقَض قومٌ العهد إلاّ سلَّط الله عليهم عدوّهم، ولا حَكَموا بغير ما أنزل الله إلَاّ فَشَى فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشى فيهم الموت، ولا طَفّفوا الكيل إلَاّ مُنِعُوا النبات، وأُخذوا بالسنين، ولا

ص: 258

مَنَعُوا الزكاة إلَاّ حبس اللهُ عنهم المطر ". ثم فسّر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل، فقال: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفُون} أي: إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة، ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرّهم، ويتحامل فيه عليهم؛ أبدل " على " مكان " مِنْ " للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلّق " على " بـ " يستوفون "، وتقدّم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص، أي: يستوفون على الناس خاصة، وقال الفراء: " مِنْ " و " على " يتعاقبان في هذا الموضع؛ لأنه حقّ عليه، فإذا قال: اكتلت عليه، فكأنه قال: أخذت ما عليه، وإذا قال: اكتلت منه، فكأنه قال: استوفيت منه. هـ.

{

وإِذا كالوهم أو وزنوهم} أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه، فحذف الجار وأوصل الفعل، {يُخْسِرون} ؛ ينقصون، يقال: خَسر الميزان وأخسره: إذا نقصه. وجعلُ البارز تأكيداً للمستكن مما لا يليق بجزالة التنزيل، ولعل ذكر الكيل والوزن في صور الإخسار، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكُّنهم منه عند الكيل؛ لأنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخلاف الوزن، ويحتمل أنّ المطففين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلاّ بالمكاييل لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرف، كما تقدّم، وهذا بعيد، وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا، لتمكّنهم من البخس في النوعين.

{ألَا يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} وهو يوم القيامة، وهو استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والتعجُّب من اجترائهم عليه. وأدخل همزة الاستفهام على (ألَا) توبيخاً، وليست " ألا " هذه للتنبيه، و " أولئك " إشارة إلى المطففين، ووضعه موضع ضميرهم؛ للإشعار بمناط الحُكم الذي هو وصفهم، فإنَّ الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه، وأمّا الضمير فلا يتعرّض لوصفه، وللإيذان بأنهم مُمازون بذلك الوصف القبيح أكمل امتياز، وما فيه من معنى البُعد للإشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد، أي: ألَا يظنُّ أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم ولا يقادَر قدره، ويُحاسبون فيه على قدر الذرّة والخردلة، فإنَّ مَن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفاً لا يكاد يتجاسر على تلك القبائح، فكيف بمَن يتيقنه؟ وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعتَ ما قال الله في المطفّفين ـ أراد بذلك أنَّ المُطَفف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به ـ فما ظنّك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن؟ !. {يومَ يقومُ الناسُ} ، منصوب بـ " مبعوثون "، أي: يُبعثون يومَ يقوم الناس {لرب

ص: 259

العالمين} أي: لحكمِه وقضائه، أو لجزائه بعقابه وثوابه، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه السورة، فلمّا بلغ هنا بكى نحيباً، وامتنع من قراءة ما بعده.

{كلَاّ} ردع وتنبيه، أي: ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه، ثم علل الردع المذكور، فقال:{إِنَّ كتابَ الفُجَّار} أي: صحائف أعمالهم {لفي سِجّينٍ} ، جمهور المفسرين أنَّ " سِجين " موضع تحت الأرض السابعة، كما أنَّ " علِّيين " موضع فوق السماء السابعة، وفي القاموس: عليون جمع " عِلِّيّ " في السماء السابعة، تصعد إليه أرواح المؤمنين، و " سجّين " موضع في كتاب الفجار، ووادٍ في جهنم، أو حجر في الأرض السابعة. هـ. وفي حديث أنس صلى الله عليه وسلم قال:" سجين أسفل سبع أرضين " وقال أبو هريرة: قال صلى الله عليه وسلم: " الفلق: جُب في جهنم مغطى، وسِجين: جُب في جهنم مفتوح " والمعنى: إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين. هو علم منقول من الوصف " فعيل " من السجن؛ لأنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه، وهو منصرف لوجود سبب واحدٍ فيه، وهو العلميّة، لأنه علم لموضع.

ثم عَظَّم أمره فقال: {وما أدراك ما} هو {سِجّينٌ} أي: هو بحيث لا يبلغه دراية أحد، وقوله تعالى:{كتاب مرقوم} ، قال الطيبي: هو على حذف مضاف، أي: موضع كتاب مرقوم. هـ. أو: فيه كتاب مرقوم، وهو بدل من " سِجّين " أو: خبر عن مضمر، بحذف ذلك المضاف، وأمّا مَن جعله تفسيراً لسجّين، بأن جعل سجيناً هو نفس الكتاب المرقوم؛ فلا يصح؛ إذ يصير المعنى حينئذ: إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب، ولا معنى له. {ويل يومئذٍ للمكَذّبين} هو متصل بقوله:{يوم يقوم الناسُ لرب العالمين} وقيل: ويل يوم يخرج ذلك المكتوب للمكذّبين {الذين يُكَذِّبون بيوم الدين} ؛ الجزاء والحساب، {وما يُكَذِّب به} ؛ بذلك اليوم {إِلَاّ كُل معتدٍ} ؛ مجاوِز للحدود التي حدّتها الشريعة، أو مجاوِز عن حدود النظر والاعتبار حتى استقصر قدرة الله على إعادته، {أثيمٍ} ؛ مكتسب للإثم منهمك في الشهوات الفانية حتى شغلته عما وراءها من اللذة الباقية، وحملته على إنكارها، {إِذا تُتلى عليه آياتُنا} التنزيلية الناطقة بذلك {قال} : هي {أساطيرُ الأولين} أي: أحاديث المتقدمين وحكايات الأولين، والقائل: قيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: النظر بن الحارث، وقيل: عام لمَن اتصف بالأوصاف المذكورة.

{كلَاّ} ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له، {بَلْ رانَ عَلَى قُلُوبِهِم ما كانوا يكسِبون} ، هو بيان لما أدّى بهم إلى التفوُّه بهذه العظيمة، أي: ليس في آياتنا ما يصحح أن يُقال فيها هذه المقالات الباطلة، بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا

ص: 260

يكسبون من الكفر والجرائم حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم:" إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء، حتى يسوّد قلبه.. " الحديث، أي: ولذلك قالوا ما قالوا. والرين: الصدأ، يقال: ران عليه الذنب وغان ريناً وغيناً.

{كلَاّ} ردع وزجر عن الكسب الرائن {إِنهم عَن رَّبِّهِمْ يومئذٍ لمحجوبون} لَمَّا رانت قلوبهم في الدنيا حُجبوا عن الرؤية في الآخرة، بخلاف المؤمنين، لَمّا صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم. قال مالك: لَمّا حجب الله أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه. هـ. وقال الشافعي: في هذه الآية دلالة على أنَّ أولياء الله يرونه. هـ. وقال الزجاج: في هذه الآية دليل أن الله يُرى يوم القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولمَا خصّصت منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله. انظر الحاشية. {ثم إِنهم لصالُو الجحيم} أي: داخلو النار، و " ثم " لتراخي الرتبة، فإنّ صَلي الجحيم أشد من الإهانة، والحرمان من الرؤية والكرامة. {ثم يُقال} لهم:{هذا الذي كنتم به تُكَذِّبون} في الدنيا فذُوقوا وباله. وبالله التوفيق.

الإشارة: التطفيف يكون في الأعمال والأحوال، كما يكون في الأموال، فالتطفيف في الأعمال عدم إتقانها شرعاً، ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما: الصلاة مكيال، فمَن وَفَّى وُفِّي له، ومَن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين. هـ. فكل مَن لم يُتقن عملَه فعلاً وحضوراً فهو مطفف فيه. والتطفيف في الأحوال: عدم تصفية القصد فيها، أو بإخراجها عن منهاج الشريعة، قال تعالى: {ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون

} الخ، قال القشيري: يُشير إلى المقصّرين في الطاعة والعبادة، الطالبين كمال الرأفة والرحمة، الذين يستوفون من الله مكيال أرزاقهم بالتمام، ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران، ذلك خسران مبين، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد، مهيب المحضر، فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم. هـ. يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يكثر فيه الهول، ويعظم فيه الخطب على المقصّرين، وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين.

{كلَاّ} ليرتدع المقصّر عن تقصيره؛ لئلا ينخرط في سلك الفجار، {إن كتاب الفجّار لفي سجين} المراد بالكتاب هنا: كتاب الأزل، وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم، قال صلى الله عليه وسلم:" السعيد مَن سعد في بطن أمه، والشقي مَن شقي في بطن أمه "

ص: 261

و {وما أدراك ما سجين} فيه {كتاب مرقوم} لأهل الشقاء شقاوتهم. {ويل يومئذ للمُكَذِّبين} بالحق وبالدالين عليه، {الذين يُكَذِّبون بيوم الدين} وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم، {وما يُكَذِّب به إلاّ كل معتد أثيم} ؛ متجاوز عن الذوق والوجدان، محروم من الكشف والعيان، {إذا تُتلى عليه آياتنا} الدالة علينا {قال أساطيرُ الأولين} أي: إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على الله قال: خرافات الأولين. وسبب ذلك: الرانُ الذي ينسج على قلبه، كما قال تعالى:{كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون} لمّا رانت قلوبهم، وتراكمت عليها الحظوظ والهوى، حُجبوا عن شهود الحق في الدنيا، ودام حجابهم في العقبى إلَاّ في أوقات قليلة، قال الحسن بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. هـ. قال الواسطي: الكُفار في حجابٍ لا يرونه البتة، والمؤمنون في حجاب يرونه في وقتٍ دون وقتٍ. هـ. أي: والعارفون يرونه كل وقت، ثم قال: ولا حجاب له غيره، وليس يسعه سواه، ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط، ولا فارقت عنه. هـ.

وقال في الإحياء: النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء الله تعالى، وعند الحجاب تتسلط عليهم نار جهنم، إذ النار غير متسلطة إلاّ على محجوب، قال تعالى:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم} فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب، وألم الحجاب كافٍ من غير عِلاوة النار، فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه! هـ. وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف الحقيقة، فكل من طهّر قلبه من ران الهوى، وغسله بأنوار الذكر والفكر لاحت له أنوار المشاهدة وأسرار الحضرة، حتى يشاهد الحق في الدنيا والآخرة، ويكون من المقربين أهل عليين، وكل مَن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوباً في الدارين من عامة اليمين. وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست: ران الكفر، وران العصيان، وران الغفلة، وران حلاوة الطاعات، وران حس الكائنات، فإذا تصفّى من هذه كلها أفضى إلى مقام العيان، ولا طريق لرفع الران بالكلية إلَاّ بصُحبة المشايخ العارفين. وبالله التوفيق.

يقول الحق جل جلاله: {كلَاّ} ، ردع للمكذبين، ثم بيّن حال الأبرار، فقال:{إنَّ كتاب الأبرارِ} أي: ما كتب من أعمالهم، والأبرار: المؤمنون المطيعون، لأنه ذُكر في

ص: 262

مقابلة الفُجَّار، وعن الحسن: البرّ: الذي لا يؤذي الذرّ، {لفي عليين} ، قال الفراء: هو اسم على صيغة الجمع لا واحد له، وقيل: واحده " عِلِّيّ "، و " علِّيه " وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة، يسكنه المقربون. قال ابن عمر رضي الله عنه: إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى، فإذا أشرف رجل أشرقت له الجنة، وقالوا: قد اطلع علينا رجل من أهل عليين، وقال في البدور:" إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ عليين ليخرج فيسير في ملكه، فلا تبقى خيمة من خيام الجنة إلا ويدخلها ضوء من وجهه، حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون: واهاً لهذه الريح الطيبة.. " الحديث.. وتقدّم قوله صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البُله، وعليون لذوي الألباب " وانظره في سورة المجادلة، وفي حديث البراء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليون في السماء السابعة تحت العرش " وفيه ديوان أعمال السعداء، فإذا عمل العبدُ عملاً صالحاً عرج به وأثبت في ذلك الديوان، وقد رُوي في الأثر:" أن الملائكة تصعد بصحيفةٍ فيها عمل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال: اجعلوه في سجين ". ثم نوّه بقَدْره فقال: {وما أدراك ما عليون كتابٌ مرقومٌ} أي: موضع كتاب، أو فيه كتاب مرقوم {يشهده المقربون} أي: الملائكة المقربون، أو أرواح المقربين؛ لأنَّ عليين محل الكروبيين وأرواح المقربين. {إِنَّ الأبرار} من أهل اليمين {لفي نعيمٍ} عظيم، {على الأرائك} ؛ على الأسِرة في الحِجال، {ينظرون} إلى كرامة الله ونِعمه التي أولاهم، أو: إلى أعدائهم يعذّبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدْراك، {تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم} أي: بهجة التنعُّم وطراوته ورونقه. والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب للإيذان بأنَّ حالهم من أثر النعمة وأحكام البهجة، بحيث لا يختص برؤيته راءٍ دون راءٍ.

{

يُسقون من رحيقٍ} ؛ شراب خالص لا شوب فيه، وقيل: هو الخمر الصافية، {مختومٌ} ؛ مغلق عليه، {ختامه مِسْكٌ} أي: مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، كما يفعل أهل الدنيا بأوانيهم إذا أرادوا حِفظها وصيانتها، ولعله تمثيل لكمال نفاسته، أو: أخره وتمامُه مسك، أي: يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك. وقُرىء " خاتِمَه " بكسر التاء وفتحها. {وفي ذلك} الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان {فليتنافس المتنافسون} ؛ فليرغب الراغبون، وليجتهد المجتهدون، أو فليسبق المستبقون، وذلك بالمبادرة إلى الخيرات، والكفّ عن السيئات. وأصل التنافس: التغالب في الشيء النفيس، وهو من النفس لعزتها، وقال البغوي: وأصله: من الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس، ويريده كل أحد لنفسه، وينفَسُ به على غيره، أي: يضِنُّ به.

ص: 263

قوله تعالى: {ومِزَاجُه من تسنيمٍ} : عطف على (خِتامه) صفة أخرى للرحيق، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، أي: ما يمزَج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم، والتسنيم اسم لعين بعينها في الفردوس الأعلى، سُميت بالتسنيم الذي هو مصدر من " سنّمه " إذا رفعه، لأنها أرفع شراب في الجنة، ثم فسّرها بقوله:{عيناً} ، فهو منصوب على المدح أو الاختصاص، أو على الحال مع جمودها لوصفها بقوله:{يشربُ بها} أي: منها {المقربون} ، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: فيشربها المقربون صِّرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. هـ. والمقربون هم أهل الفناء في الذات، أهل الشهود والعيان، والأبرار أهل الدليل والبرهان، وهم أهل اليمين، وذلك أنَّ المقربين لَمّا أخلصوا محبتهم لله، ولم يُحبوا معه شيئاً من الدنيا خلُصَ لهم الشراب في الآخرة، وأهل اليمين، لَمّا خلطوا في محبيتهم خلّط شرابهم، فالدنيا مزرعة الآخرة، فمن صَفّا صُفيَ له، ومَن كَدّر كُدّر عليه.

فإن قلتَ: لِمَ أمر بالتنافس في الرحيق، ولم يأمر به في التسنيم، مع كونه أرفع؟ قلتُ: قال بعضهم: إشارة إلى أن شربه لا يُنال بسبب، بل بالسابقة، وقيل: إنه مُقدّم من تأخير، وإن التنافس حاصل في الجميع، أو يؤخذ بالأحْرى؛ لأنه إذا أمرَ بالتنافس في المفضول كان التنافس في الأفضل أحرى. والله تعالى أعلم.

الإشارة: قال الورتجبي: كتاب الأبرار كتابٌ مرقوم برقم الله، رقمه بسعادتهم الأزلية، وولايتهم الأبدية، وذلك الكتاب عنده لا يطلع عليه إلَاّ المقربون المخاطبون بحديثه وكلامه، المكاشفون بالحقائق الغيبية، قال أبو عثمان المغربي: الكتاب المرقوم: هو ما يُجري اللهُ على جوارحك من الخير والشر، رقمها بذلك، وهو لا يخاف ما رقم به، وذلك الرقْم معلّق بالقضاء والقدر عن القدرة بمشيئته تعالى عليه، ولا نزوع عن ذلك ولا حيلة له فيه، فهو في ذلك معذور في الظاهر، غير معذور في الحقيقة، هذا لعوام الخلق، وأمّا للخواص والأولياء وأهل الحقائق فإنه رقْم الله على كل شيء أوجده، لم يُشْرف على ذلك الرقْم إلَاّ المقربون، فهم أهل الإشراف، فمَن شاهد ذلك الرقْم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الولاية والعداوة، فيُخبر عنه، وهو الإشراف والفراسة، كما كان لعُمر حين أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: " كان في الأمم مُكلَّمون

" الحديث، أي: فعُمر ممن أشرف على حقائق الرقْم، وعلى معاني الكتاب المرقوم، فمَن كان بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بلا واسطة. قال الجريري: رقْمٌ رَقَم اللهُ به قلوبَ عباده بما قضى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة، وبذلك الرقْم خَفي في أسرار العباد، وظهر على هياكلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له ".

ص: 264

والحاصل: أنَّ الكتاب المرقوم: هو ما سطر لكل أحد في الأزل، فإن رقم له بالسعادة جعلَ في عليين، إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به، وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين، إشارة إلى لحوق صاحبه به. وقوله تعالى:{يشهده المقربون} أي: يشهدونه بعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم، وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب، وهؤلاء هم المكلَّمون، وفي الحديث:" قد كان في الأمم مكلَّمون، وإن يكُن في أمتي فعُمر " والمقربون هم أهل الفناء والبقاء.

ثم قال تعالى: {إنَّ الأبرار لفي نعيم} لذة الطاعات وحلاوة المناجاة، على أرائك المقامات ينظرون ما يفعل الله بهم. وقال القشيري: ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية والقلبية، لكل منهم روضة مخصوصة. هـ. ولعل نظرهم علمياً لا ذوقياً، لأنَّ الذوق للمقربين، تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم، وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة، ولعل المراد بالأبرار هنا السائرون، ولذلك قال:{يُسقَون من رحيق} خمرة المحبة الأزلية، الصافية من كدر الهوى، مختوم عليه في قلوب العارفين. قال القشيري: أواني ذلك الشراب هي قلوب الأصفياء والأولياء، خِتامه مسك، وهو محبة الحق، لا يشرب من تلك الأواني المختومة إلَاّ الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى الله. هـ. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فمَن فاته حظه من هذه الخمرة فهو محروم، كما قال ابن الفارض:

علَى نَفْسِه فَلْيبْك مَن ضاعَ عُمْرُه

وليسَ لَهُ مِنْها نَصيبٌ ولا سَهْمٌ

وقال القشيري: وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ من الأخلاق الدنية، وجولان الهمم في الملكوت، واستدامة المناجاة. هـ. ومِزاجه من تسنيم، وهو عين بحر الوحدة الصافية، التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي الله عنه: وأغرقني في بحر الوحدة.. الخ، ولذلك فسّرها تعالى بقوله:{عيناً يشرب بها المقربون} فالمقربون يشربونه صرفاً في الدنيا والآخرة، ويمزج لغيرهم، قال بعضهم: لأنه ليس مَن احتمل حمل الصفات كمن قَوِي على مشاهدة الذات، وشربها المقربون صرْفاً لحملهم الذات والصفات جميعاً. هـ. ولأنهم صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى، فصفّى شرابهم في دار البقاء، وفي هذا المقام ينبغي التنافس الحقيقي، كما قال الشاعر:

فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً

وإن غبتَ فالدنيا عليّ محابسُ

إذا لم أنافس في هواك ولم أغر

عليكَ ففي مَن ليت شعري أنافس

فلا تمقتن نفسي فأنت حبيبُها

فكل امرىء يصبو إلى مَن يجانس

فتنافس الأبرار في حيازة النعيم، وتنافس المقربين في حيازة المنعِم، تنافسُ الأبرار

ص: 265

في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ، ذلك هو الفوز العظيم، جعلنا الله مِن أهل التنافس فيه وفي شهوده، آمنين.

يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ الذين أجرموا} ؛ كفروا، كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل وأضرابهم، {كانوا من الذين آمنوا} كعمَّار وصُهيب وخبَّاب وبِلال {يضحكون} استهزاء بهم، {وإِذا مَرُّوا بهم يتغامزون} ؛ يُشير بعضهم إلى بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل: جاء عليٌّ في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، وقالوا: أترون هذا الأصلع؟ فنزلت قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية على هذا مدنية، {وإِذا انقلبوا إلى أهلهم} أي: إذا رجع الكفار إلى منازلهم {انقلبوا فاكهين} ، متلذذين بذكرهم بالسوء، أو متعجبين، وقرأ حفص:{فكهين} بالقصر، أي: أشرين أو فرحين، وقال الفراء: هما سواء كطاعن وطعن.

{وإِذا رَأَوهم} أي: رأى الكافرون المؤمنين {قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون} أي: مخدوعون، أي: خدع محمدٌ هؤلاء فضلُّوا وتركوا اللذّات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا العاجل بالآجل، والحقيقة بالخيال، وهذا عين الضلال، ولم يشعر هؤلاء الكفرة أنَّ ما اغترُّوا به وانهمكوا فيه هو عين الضلال، قال تعالى:{وما أُرسلوا عليهم حافظين} أي: وما أرسل الكفّار على المسلمين، يحفظون أعمالهم، ويرقبون أحوالهم. والجملة حال، أي: قالوا ذلك والحال أنهم ما أُرسلوا من جهة الله تعالى موكّلين بهم، مهيمنين على أعمالهم، يشهدون برُشدهم وضلالهم، بل أُمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم.

{فاليومَ الذين آمنوا من الكفارِ يضحكون} ، حين يرونهم مغلولين أذلاء، قد غشيتهم فنون العذاب والصغَار بعد العزة والاستكبار، وهم {على الأرائك} آمنون، ووجه ذلك: أنهم لمَّا كانو أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم، وقال كعب: بين الجنة والنار كُوَىً، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه، دليله:{فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55] فضحكوا منهم في الآخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزاءً وفاقاً. {على الأرائك ينظرون} حال، أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال، وقيل: يُفتح إلى الكفار باب إلى

ص: 266

الجنة، فيُقال لهم: هَلمُّوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً، ويضحك المؤمنون، ويأباه قوله تعالى:{هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون} فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا، فلا بد من المجانسة والمشاكلة. والتثويب والإثابة: المجازاة، أي: ينظرون هل جُوزي الكفار بما كانوا يفعلون من السخرية بالمؤمنين أم لا؟

ويحتمل أن يكون مفعول: " ينظرون " محذوفاً، أي: ينظرون إلى أعدائهم في النار، أو إلى ما هم فيه من نعيم الجنان، ثم استأنف بقوله:{هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون} أي: هل جُوزوا بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين، و " هل " على هذا للتقرير، قال الرضي: وتختص " هل " بحكمين دون الهمزة، وهما: كونها للتقرير في الإثبات، كقوله تعالى:{هل ثوب الكفار} أي: ألم يَثوبوا، وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها " إلَاّ " قصداً للإيجاب، كقوله تعالى:{هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقول الشاعر:

وهل أنا إلاّ مِن غُزَيّةَ إن غوت

غَويتُ، وإن تُرشَدْ غزية أرشد

الإشارة: ما قاله الكفرة في ضعفاء المسلمين قاله أهل الغفلة في المنتسبين الذاكرين، حرفاً بحرف، وما أُرسلوا عليهم حافظين، فإذا تحققت الحقائق، ورُفع الذاكرون مع المقربين، وبقي أهل الغفلة مع الغافلين في أهل اليمين، يضحكون منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى الطريق، وصلّى الله عليى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 267