المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - جـ ٧

[ابن عجيبة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الرحمن

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌سورة التحريم

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبأ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌سورة العلق

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من

فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من علم الحديث، ورُمان؛ تغلغل في التفسير، أو: فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية، ورمان تمسك بعلم التصوُّف، الذي هو دواء القلوب، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان، وهي ثمرة العلم النافع، حور مقصورات في الخيام، أي: تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا، لا تظهر إلا لهم، أو: في تلك الجنان الذي هي القلوب، علوم غريبة، لم تكشف لغيرهم، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يفك انغلاقها أحد قبلهم. وفي التسهيل: وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. هـ. متكئين على رَفرفٍ، أي: بساط فكرة الاعتبار، يستخرج بها جواهر العلوم، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم، وفي الحديث:" ساعة من العالِم يتفكر في علمهِ خَيرٌ مِنْ عبادة الجاهل ألف سنة " أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة؛ لكماله في محله. {تبارك اسم ربك} أي: تعاظم قدره {ذي الجلال والإكرام} حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.

ص: 285

‌سورة الواقعة

قال ابن عطية: رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَن دوام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً "، ودعا عثمانُ عبدَ الله بنَ مسعود إلى عطائه، فأبى أن يأخذ، فقيل له: خُذ للعيال، فقال: إنهم يقرؤون سورة الواقعة، وسمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:" مَن قرأها لم يفتقر أبداً " قال ابن عطية: فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفَهْمُ ذلك غِنىً لا فقر معه، ومَن فهِمه شُغل بالاستعداد. هـ. وقال مسروق: مَن أراد أن يعلم نبأ الأولين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا والآخرة؛ فليقرأ سورة الواقعة. هـ.

يقول الحق جل جلاله: {إِذا وَقَعت الواقعةُ} إذا قامت القيامة، وذلك عند النفخة الثانية، ووُصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنها واقعة في نفسها، كأنه قيل: أذا وقعت التي لا بُدّ من وقوعها. ووقوع الأمر: نزوله، يقال: وقع ما كنت أتوقعه، وانتصاب {إذا} بمضمر يُنبئ عن الهول والفظاعة، كأنه قيل: أذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال ما لا يَفي به المقال، أو: بالنفي المفهوم من قوله: {ليس لِوقعتها كاذبةٌ} أي: لا كذب وقت وقوعها، أو: باذكر، أو: بمضمون السورة قبلها، أي: يكون ما ذكر من نعِيم

ص: 286

الفريقين إذا وقعت الواقعة، ثم استأنف بقوله:{يس لوقعتها كاذبةٌ} أي: لا يكون عند وقوعها نَفْسٌ تَكذب على الله، أو: تكذب في نفسها كما تكذب اليوم، لأنَّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، واللام مثلها في قوله:{قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} [الفجر: 24]، أي: ظرفية، أي: ليس عند وقوعها كذب، أو: تعليلية، قال الفراء:{كاذبة} : مصدر، كالعاقبة والعالية، وقيل: صفة لمحذوف، كما تقدّم.

{

خافضةٌ رافعةٌ} أي: هي خافضة لأقوام، رافعة لآخرين، وهو تقرير لِعظمها وتهويل لأمرها، فإنَّ الوقائع العِظام شأنها كذلك، أو: بيان لِما يكون يومئذ من حَطّ الأشقياء إلى الدركات، ورفع السعداء إلى الدرجات، ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها، بنثر الكواكب وتسيير الجبال، كما أبان ذلك بقوله:{إِذا رُجَّتِ الأرضُ رَجّاً} : حُرِّكت تحريكاً شديداً حتى تهدِم كلَّ شيء فوقها، من جبل وبناء، وهو متعلق بخافضه، أي: تخفض وترفع وقت رج الأرض، أي: عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض، أو: بدل من: {إذا وقعت} ، وجواب الشرط:{فأصحاب الميمنة} ، والمعنى: إذا كان كذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم، وما أعظم ما يُجازون به، وما أعظم رتبتهم عند الله في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم. وتقديم الخفض الملتّت، من: بسَّ السويق: إذا لتّه، أو: سِيقت وسُيّرت عن أماكنها، من: بسّ الغنم: إذا ساقها، كقوله تعالى:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: 20] . {فكانت} أي: فصارت بسبب ذلك؛ {هباءً} غباراً {مُنبثاً} منتشراً متفرقاً في الهواء، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يُرى إلاّ في الشمس إذا دخلت في كُوة، {وكنتم} معاشر الخلق، أو: أيتها الأُمة {أزواجاً} أصنافاً {ثلاثة} صنفان في الجنة، وصنف النار، قال قتادة: هي منازل الناس يوم القيامة.

ثم فسّر تلك الأزواج، فقال:{فأصحابُ الميمنة} وهم الذي يؤتون صحائفهم بأيمانهم {ما أصحابُ الميمنة} ، تعظيم لشأنهم، و " ما ": استفهام تعجب مبتدأ، و " أصحاب ": خبر، والجملة: خبر المتبدأ الأول، والأصل: فأصحاب الميمنة ما هم؟ أي: أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم؟ فوضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم، ومثله:{الْحَآقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ} [الحاقة: 1، 2] ونظائرها.

{وأصحابُ المشئمةِ} أي: الذين يُؤتون صحائفهم بشمالهم {ما أصحابُ المشئمة} أي: أيّ شيء هم؟ ! تعجيب من حالهم الفظيع، أو: فأصحاب المنزلة السنية؛ وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة، من قولك: فلان مِني باليمين، وفلان مِني بالشمال؛ إذا وصفتهما عندك بالرفعة والوضعة، وذلك لتيمُّنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، وقيل: يُؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين، وبأل النار ذات الشمال. وقال القشيري: أصحاب الميمنة: هم الذين

ص: 287

في جانب اليمين من آدم وقت ذرَّ الذرية من صُلبه، وأصحاب المشئمة الذين كانوا في جانب شماله. هـ. قلت: وكذلك رآهم النبي عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج.

{

والسابقون السابقون} مبتدأ وخبر، على معنى تعظيم الأمر وتفخيمه؛ لأنّ المبتدأ إذا أُعيد بنفسه خبراً دلَّ على التفخيم، كقوله الشاعر:

أنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري

والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالُهم، وعُرفت محاسنهم، أو: والسابقون إلى الخيرات هم السابقون إلى الجنات، وقال أبو السعود: الذي تقتضيه جزالة النظم أنَّ " أصحاب الميمنة ": خبر مبتدأ محذوف، وكذا قوله تعالى:{والسابقون} فإنَّ المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام، وأمّا أوصافها وأحوالها فحقها أن تُبين بعد ذلك بإسنادها إليه، والتقدير: فأحدها أصحاب الميمنة، والآخر أصحاب المشئمة، والثالث السابقون. ثم أطال الكلام في ذلك، فانظره.

واختُلف في تعيينهم، فقيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان، وإيضاحه، عند ظهور الحق من غير تلعْثم ولا توان، وقيل: الذين سبقوا في حيازات الفضائل والكمالات، وقيل: هم الذي صلُّوا إلى القبلتين، كما قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وقيل: السابقون إلى الصلوات الخمس، وقيل: المسارعون في الخيرات. والتحقيق: أنهم السابقون إلى الله بالمجاهدة والمكابدة، حتى أفضوا إلى مقام المشاهدة، وهو مقام الإحسان.

{أولئك المقرَّبون} أشار إليهم بإشارة البُعد مع قُرب العهد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الفضل والشرف، أي: أولئك السابقون إلى الله هم المقربون إلى الله في الكرامة والتعظيم، الذي تلي درجاتهم درجات الأنبياء، وهم {في جنات النعيم} أي: ذات التنعُّم، فتَصْدق بالفردوس، التي هي مسكن المقربين، وإنما أخَّر ذكر السابقين مع كونهم أحق بالتقدُّم في الذكر؛ ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم، ويتخلّص إلى ذكر نعيمهم الآتي، على أنّ إيرادهم بعنوان المسبق مطلقاً مُعْرِبٌ عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الأمور. الإشارة: إذا وقعت الحقيقة المتوقعة للمتوجهين؛ كان من العلوم والأسرار ما لا تُحيط به عامة الأفكار، ووقوع الحقيقة: برزوها معهم، وإشراق أنوارها على قلوبهم،

ص: 288

فتفنى الكائنات وتضمحل الرسوم والإشارات، ويبقى الحيّ القيوم وحده، كما كان وحده، ليس لوقعتها كاذبة؛ لا كذب في وقوعها، ولا شك في إظهارها على مَن توجه إليها، وصَحِبَ أهلها، وحطّ رأسه لأربابها، وامتثل كل ما يأمرونه به، خافضة لمن توجه إليها، وَوَصَلَ لأنوارها، وتحقق بأسرارها. يعني: هكذا شأنها في الجملة، تخفض قوماً وترفع آخرين، وإنما تقع لمَن توجه إليها إذا رُجت أرض النفوس منه رجّاً، أي: تحركت واضطربت، بمنازلة الأحوال، وارتكاب الشدائد والأهوال، وتوالي الأذكار، والاضطراب في الأسفار، فإنَّ كُمون سرها في الإنسان كَكمُون الزبد في اللبن، فلا بد من مخضه لاستخراج زُبده. وبُست جبال العقل منه بسّاً، فكانت هباءً مُنبثاً؛ لأنّ نور العقل يتغطّى بنور شمس العرفان، ويضمحل كما يضمحل نور القمر إذا طلعت الشمس، وكنتم أيها الطالبون المتوجهون أصنافاً ثلاثة: قومٌ توجهوا إليها، ثم قنعوا بما برز لهم من شعاع أنوارها، وهم عامة المتوجهين. وقوم استشرفوا عليها فلم يطيقوا أنوارها، فرجعوا القهقرى، وهم أهل الحرمان، من أهل المشأمه. وقوم أدركوها، وتحققوا بها ذوقاً وكشفاً، ففنوا وبقوا، سَكروا وصحوا، وهم السابقون المقربون في جنات المعارف، ونعيم الشهود، أبداً سرمداً، جعلنا من خواصهم آمين، وسيأتي إن شاء الله في آخر السورة تحقيق الفرق بين المقربين وأصحاب اليمين.

يقول الحق جل جلاله: {ثُلّةٌ} أي: هم ثلة، أي: جماعة كثيرة {من الأولين} والثُلة: الأمة الكثيرة من الناس، {وقليل من الآخِرين} ممن يتأخر من هذه الأمة، والمعنى: أن السابقين في أول الأمة المحمدية كثير، وفي آخرها قليل، وذلك أنَّ صدر هذه الأمة كَثُر فيها خير، وظهرت فيها أنوار وأسرار، وخرج منها جهابذة من العلماء والأولياء، بخلاف آخرها، السابقون فيها قليلون بالنسبة إلى عامة أهل اليمين، ويُؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:" خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "، وصرّح في حديث

ص: 289

آخر أنهم جميعاً من أمته، فقال:" الفرقتان من أمتي "، فسابق أول الأمة ثلة، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل. هـ. من الثعالبي. وقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: الأمة المحمدية، وهو بعيد أو فاسدٌ، واقتصر في نوادر الأصول على أنَّ الثلة الأنبياء، وخُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ومِنْ بعده الأولياء، وعددهم قليل في كل زمان. هـ. وفي المَحلِّي هنا تخليط. انظر الحاشية.

{على سُرُرٍ} جمع سرير، {موضونةٍ} قال ابن عباس:" مرمولة "، أي: منسوجة بقضبان الذهب، وقضبان اللؤلؤ الرطب، طولُ السرير: ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد الجلوس تواضع، فإذا استوى عليه ارتفع، {متكئين عليها} حال من الضمير في الظرف، وهو العامل فيه، أي: استقروا على سُرر متكئين عليها اتكاء الملوك على الأَسِرة، {متقابلين} ينظر بعضهم في وجوه بعض، ولا ينظر بعضهم من أقفاء بعض. وُصفوا بحسن العِشْرة، وتهذيب الأخلاق، وصفاء المودة. وهو أيضاً حال.

{يطوف عليهم} يَخدمهم {وِلدانٌ} غلمان، جمع وليدٍ، {مُخلَّدون} مُبْقَّوْنَ أبداً على شكل الولدان، لا يتحولون عنه إلى الكِبَر، وقيل: مقرَّطون، والخِلَدَةُ: القُرْط، وهو ما يلقى في الأذن من الأخراص وغيرها. قيل: هم أطفال أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات يُثابون عليها، ولا سيئات يعاقبون عليها. وفي الحديث:" أولاد الكفار خُدّام أهل الجنة " وهذا هو الصحيح. {بأكوابٍ} جمع كوب، وهو آنية لا عروة لها ولا خرطوم، {وأباريقَ} جمع إبريق، وهو ما له خرطوم وعروة، {وكأسٍ} أي: قدح فيه شراب، فإن لم يكن فيه شراب فلا يُسمى كأساً، {من مَعينٍ} من خمر، يجري من العيون، {لا يُصَدَّعون عنها} أي: بسببها، أي: لا يصدر عنها صُداع، وهو وجع الرأس، {ولا يُنزَفُونَ} ولا يسكرون، يقال: نزَف الرجل: ذهب عقله بالسُكر، فهو نزيف ومنزوف. وقرأ أهل الكوفة بضم الياء وكسر الزاي، أي: لا ينفذ شرابهم، يقال: أُنزف القوم: إذا نفد شرابهم. وفي الحديث: " زَمزمُ لا تُنْزَفُ ولا تُذَمّ " أي: لا ينفذ ماؤها.

{

وفاكهةٍ مما يتَخيَّرون} أي: يختارونه ويأخذون خيره وأفضله، يجنونه بأيديهم، وهو أشد نعيماً وسروراً من أخذه مجنياً، {ولحم طيرٍ مما يشتهون} مما يتمنون مشوياً أو مطبوخاً، {وحُورٌ عِينٌ} أي: وفيها حور عين، أو: لهم حور عين، ويجوز أن يعطف

ص: 290

على " ولدان " أي: وتخدمهم حُور عين، زيادة في التعظيم، ومَن قرأ بالخفض عطفه على " جنات النعيم " كأنه قيل: هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم طير وحور {كأماثلِ اللؤلؤ المكنونِ} في الصفاء والنقاء. والمكنون: المصون في صَدفه. وقال الزجاج: كأمثال الدُرِّ حين يخرج من صدفه، لم يُغيرّه الزمان واختلاف الأيدي عليه، {جزاء بما كانوا يعملون} مفعول له، أي: يفعل بهم ذلك لجزاء أعمالهم الصالحة أو: مصدر، أي: يُجزَون جزاء، فنفس الدخول للجنة بمحض الرحمة، وكثرة النعيم والغُرف بالعمل، والترقي باليقين والمعرفة - والله تعالى أعلم - فلا تعارض.

{لا يَسْمَعون فيها} في الجنة {لَغواً} باطلاً {ولا تأثيماً} هذياناً، أو: ما يُؤهم صاحبه لو كف، {إِلَاّ قِيلا} أي: قولاً {سلاماً سلاماً} أي: ذا سلامة. والاستثناء منقطع، و " سلاماً " بدل من " قيلاً " أو: مفعول به لـ " قيلاً "، أي: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً، والمعنى: أنهم يُفشون السلام فيُسَلِّمون سلاماً بعد سلام، أو: لا يسمع كلٌّ من المسلِّم والمسلِّم عليه إلا سلام الآخر بدءاً ورداً. والله تعالى أعلم.

الإشارة: أخبر تعالى أنّ المقربين في الصدر الأول أكثر من الزمان الأخير، وهو كذلك من جهة الكمية، وأما من جهة الكيفية فالمقربون في آخر الزمان أعظم رتبةً، وأوسع علماً وتحقيقاً؛ لأنهم نهضوا في زمان الغفلة، وجدُّوا في زمان الفترة، لم يجدوا من أهل الجدّ إلا قليلاً، ولا من أهل الحق إلا نذراً يسيراً، فحيث نهضوا وحدهم عوّضهم الله مرتبة لم يعطها لغيرهم، ويشهد لهذا قوله عليه السلام:" اشتقت إلى إخواني " قال أصحابه، نحن إخوانُك يا رسول الله؟ قال:" أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون بعدي، مِن نعتهم كذا وكذا " ثم قال: " يعدل عمل واحد منهم سبعين منكم " قالوا: يا رسول الله منهم؟ قال: " منكم " قيل: بماذا يا رسول الله؟ قال: " إنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً، وهم لم يجدوا عليه أعواناً " وفي حديث آخر، رواته ثقات: قالوا: يا رسول الله؛ هل أحد خير منا؟ قال: " قوم يجيئون بعدكم، فيجدون كتاباً بين لوحين، يؤمنون بما فيه، ويؤمنون بي، ولم يروني، ويُصَدِّقون بما جئتُ به، ويعملون به، فهم خير منكم "، ولا يلزم من تفضيلهم مِن جهةٍ تفضيلهم مطلقاً.

ثم وصف المقرّبين بكونهم على سُرر الهداية، منسوجة بالعِز والعناية، محفوفة بالنصر والرعاية، متكئين عليها، راسخين فيها، متقابلين في المقامات والأخلاق، أي: يواجه بعضهم بعضاً بقلوبهم وأسرارهم، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد، تطوف عليهم الأكوان وتخدمهم، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن، فإذا شهدت المُكوِّن كانت الأكوان معك ": يُسقون بأكوابٍ وأباريق من علم الطريق، وكأس من خمر الحقيقة، فلا

ص: 291

‌سورة الأعلى

يقول الحق جل جلاله: {سَبّح اسمَ ربك} أي: نزّه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه، بالتأويلات الزائغة، وعن إطلاقه على غيره بوجهٍ يوجب الاشتراك في معناه، فلا يُسمى به صنم ولا وثن ولا شيء مما سواه تعالى، قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] فلا يُقال لغيره تعالى: رب وإله، وإذا كان أَمَر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى، أو: نزّه اسمه عن ذكره لا على وجه الإجلال والإعظام، أو: نزّه ذاته المقدَّسة عما لا يليق بها، فيكون " اسم " صلة. و " الأعلى " صفة لرب، وهو الأظهر. وعُلوه تعالى: قهريته واقتداره، أو: تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول، فلا يُحيط به وصف واصف أو علم عارف، لا علو مكان. أو صفة للاسم، وعلوه بعلو مسماه، وقيل: قل: سبحان ربي الأعلى. لمّا نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) } [الواقعة: 74] قال صلى الله عليه وسلم: " اجعلوه في ركوعكم " فلما نزل: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: " اجعلوه في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع: لك ركعت، وفي السجود: لك سجدت، فجعلوا هذا مكانه.

{الذي خلق فسَوَّى} أي: خلق كل شيء فسَوَّى خلقه، ولم يأتِ به متفاوتاً غير متلائم، ولكن على إحكام وإتقان، دلالةً على أنه صادر عن عالم حكيم، أو: سَوَّاه على ما يتأتى به كماله ويتيسّر به معاشه، {والذي قَدَّر فهدى} أي: قّدَّر الأشياء في أزله، فهدى

ص: 285

كل واحد إلى ما سبق له من شقاوة وسعادة، ورزقٍ وأجل، أو: ما قَدَّر لكل حيوان ما يُصلحه، فهداه إليه، وعرَّفه وجه الانتفاع به، فترى الولد بمجرد خروجه من بطن أمه يلتمس غذاه، وكذا سائر الحيوانات، فسبحان المدبِّر الحكيم:{الذي أخرج المرعى} أي: أنبت ما ترعاه الدواب غضًّا طريًّا، {فجعله} بعد ذلك {غُثاءً} يابساً هشيماً {أحوى} ؛ أسود، فـ " أحوى " صفة لغُثاء، وقيل: حال من المرعى، أي: أخرجه أحوى من شدة الخضرة، فمضت مدة، فجعله غثاءً يابساً. وهذه الجمل الثلاث صفة للرب. ولمّا تغايرت الصفات وتباينت أتى لكل صفة بموصول. وعطف على كل صلة ما يترتب عليها.

{

سنُقرئك فلا تنسى} أي: سنعلمك القرآن فلا تنساه، وهو بيان لهدايته تعالى الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم، إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته، وهي هدايته صلى الله عليه وسلم لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين، مع ضمانه له. والسين إمّا للتأكيد، وإمّا لأنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئذٍ وما سيوحى إليه، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء، أي: سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام، أو: سنجعلك قارئاً فلا تنسى أصلاً، من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أُمِّي لا تدري ما الكتاب وما القراءة، ليكون ذلك آية أخرى لك، مع ما في تضاعيف ما تقرأ من الآيات البينات من حيث الإعجاز، ومن حيث الإخبار بالمغيبات. وقوله تعالى:{إلَاّ ماشاء اللهُ} : استثناء مفرغ من أعم المفاعيل، أي: فلا تنسى شيئاً من الأشياء إلَاّ ما شاء الله أن تنساه؛ بأن ننسخ تلاوته، وهذا إشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي، فلا يتفلت منه شيءٌ، إلَاّ ما شاء الله نسخه، فيذهب به عن حفظه، ويرفع حُكمه وتلاوته. قال الكواشي: إلَاّ ما شاء اللهُ أن ننسيكه على سبيل النسخ، أو تنساه ثم تذكره بعد. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة، فظنّ أُبي أنها نُسخت، فسأله، فقال:" نسيتها "، قال الشيخ السنوسي: والمحققون على منع النسيان لشيءٍ من الأقوال البلاغية قبل التبليغ، لإجماع السلف، وأما بعد التبليغ، فجائز؛ لأنه من الأعراض البشرية. هـ. وفي الحديث:" إنما أنا بشَرٌ، أنسى كما تَنْسَوْن، فإذا نسيتُ فذكِّروني " الحديث. فالسهو في حق الأنبياء جائز، لأنه من قهرية الربوبية، لتتميز به العبودية من الربوبية، فليس بنقصٍ في حقهم، بل كما، ليحصل التشريع والاقتداء. وقيل:" لا " ناهية، وإثبات الألف للفاصلة، كقوله:{السَّبِيلاْ} [الأحزاب: 67] أي: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه، إلَاّ ما شاء الله أن ينسيك

برفع تلاوته، وهو ضعيف.

{إِنه يعلم الجهرَ وما يخفى} أي: يعلم ما ظهر وما بطن، التي من جملتها ما أوحى

ص: 286

إليك، فينسى ما شاء اللهُ إنساءه، ويبقى محفوظاً ما شاء إبقاءه، أو: يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلُّت، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، أو: ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان، وما تجهر به، أو: يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وما بطن من أحوالكم. قال الورتجبي: السر والعلانية عنده تعالى سواء، إذا هو يبصرهما ببصره القديم، ويعلمهما بالعلم القديم، وليس في القِدم نقص، بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن؛ إذ هناك الظاهر هو الباطن، والباطن هو الظاهر؛ لأنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته، والباطن من باطنيته. هـ.

{

ونُيسّرك لليُسرى} ، معطوف على " سنقرئك " وما بينهما اعتراض، أي: ونوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع، أو: نوفّقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل بابٍ من أبواب الدين، علماً وتعليماً، هداية واهتداءً، فيندرج فيه تلقي الوحي والإطاحة بما فيه من الأحكام التشريعية السمحة، والنواميس الإلهية، مما يتعلق بتكميل نفس صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره، كما يفصح عنه قوله:{فذَكِّر..} الخ. وتخصيص التيسير به عليه السلام، مع أنه يسري إلى غيره، للإيذان بقوة تمكنه صلى الله عليه وسلم من اليسرى والتصرُّف فيها، بحيث صار ذلك ملكة راسخة له، كأنه عليه السلام جُبل عليها. قاله أبو السعود.

الإشارة: نزِّه ربك أن ترى معه غيره، وقدِّسه عن الحلول والاتحاد، قال القشيري: أي: سبِّح ربك بمعرفة أسمائه، واسبَح بسرّك في بحر عطائه، واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به عند مدحه من ثنائه. هـ. قال الورتجبي: أي: نزِّه اسمه عن أن يكون له سميًّا، من العرش إلى الثرى، حتى يكون بقدس اسمه مقدساً عن رؤية الأغيار، ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس الصفات، ثم إلى رؤية قدس الذات. هـ. (الأعلى) فوق كل شيء، والقريب دون كل شيء، فهو عليٌّ في قربه، قريب في علوه، ليس فوقه شيء، وليس دونه شيء، الذي خلق؛ أظهر الأشياءَ فسوَّى صورتها، وأتقن خلقها. والذي قدّر المراتب، فهدى إلى أسباب الوصول إليها، والذي أخرج المرعى، أي: ما ترعى في بهجته وحسن طلعته الأرواح من مظاهر الذات، وأنوار الصفات، فجعله غثاءً أحوى، فتلوّن من طلعة الجمال إلى قهرية الجلال. قال القشيري: أخرج المرعى: أي: المراتع الروحانية لأرباب الأرواح والأسرار والقلوب، لِيَرْعَوا فيها أعشاب المواهب الإلهية والعطايا اللاهوتية، وأخرج المراتع الجسمانية لأصحاب النفوس الأمَّارة والهوى المتبع، ليرتعوا فيها من كلأ اللذات الحيوانية الشهوانية. هـ. سنقرك: سنلهمك من العلوم والأسرار ما تعجز عنه العقول، فلا تنسى، إلاّ ما شاء اللهُ أن تنساه، إنه يعلم الجهر، أي: ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم، وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله. ونُيسرك للطريقة اليُسرى، التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى. قال القشيري: أي: طريق السلوك إلى

ص: 287

الله وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين. هـ. فحينئذ تصلح للدعاء إلى الله والتذكير به.

يقول الحق جل جلاله: {فَذَكِّرْ} الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية، كما كنت تفعل، أي: دُم على تذكيرك. وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم، حرصاً على إيمانهم، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلَاّ نفوراً، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً، ممن طَبع اللهُ على قلبه، فهو كقوله:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [قَ: 45] وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىا عَن ذِكْرِنَا} [النجم: 29] وقيل المعنى: ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف المقابل، كقوله:{تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ، واستبعده ابن جُزي؛ لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم، كقوله: عظ زيد إن سمع منك، تريد: إن سماعه بعيد، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق، قلت: الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً، والقرائن تكفي في ذلك.

{سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} ؛ سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى {ويَتجنَّبُها} أي: يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها {الأشقى} الذي سبق له الشقاء، أو: أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. {الذي يَصْلَى النارَ الكبرى} أي: الطبقة السفلى من طبقات جهنم، وقيل: الكبرى نار جهنم، والصغرى: نار الدنيا، لقوله عليه السلام:" ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم "، {ثُمَّ لَا يموتُ فِيهَا} حتى يستريح {ولا يحيا} حياة تنفعه، و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة؛ لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ.

{

قد أفلحَ} أي: نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه {مَن تَزَكَّى} أي: تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك، {وذَكَرَ اسمَ ربه} بقلبه ولسانه {فصَلَّى} ؛ أقام الصلوات الخمس، أو: أفلح مَن زكَّى ماله، وذكر الله في صلاته، كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ

ص: 288

لِذِكْرِيا} [طه: 14] فيكون تفعَّل من الزكاة، أو: أفلح مَن تزكّى: أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام، فصَلّى صلاةَ العيد، وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مدنية، أو: إخباراً بما سيكون، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر، ولا صىلا العيد إلَاّ بالمدينة.

{بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا} على الآخرة، فلا تفعلون ما به تفلحون، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية، فتسعون لتحصِيلها، وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة، {والآخرةُ خير وأبقى} أي: خير في نفسها، لنفاسة نعيمها، وخلوصه من شوائب التكدير، وأدوم لا انصرام له ولا تمام. والخطاب للكفرة. بدليل قراءة الغيب، وإيثارها حينئذ: نسيانها بالكلية، والإعراض عنها، أو: للكل، فالمراد بإيثارها: هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي، إلاّ القليل. قال الغزالي: إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان، قَلَّ مَن ينفك عنه، ولذلك قال تعالى:{بل تؤثرون الحياة الدنيا} . وجملة: {والآخرة

} الخ: حال من فاعل {تُؤثرون} مؤكد للتوبيخ والعتاب، أي: تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والأمر بالعكس. هـ.

وقوله تعالى: {إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى} الإشارة إلى قوله: {قد أفلح مَن تزكى} إلى قوله: {وأبقى} ، قال ابن جزي: الإشارة إلى ما ذكر قبلُ من الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة، أو: إلى ما تضمنته السورة، أو: إلى القرآن، والمعنى: إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين. هـ. وقوله تعالى: {صحف إِبراهيمَ وموسى} بدل من " الصُحف الأُولى ".

وفي حديث أبي ذر: قلت: يا رسول الله: كم كتاباً أنزل اللهُ؟ قال: " مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " قال: قلت: يا رسول الله: ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام؟ قال: " كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسلّط المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر. وكان فيها: وعلى العاقل أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يُفكر في صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألَاّ يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزور لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب

ص: 289

كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه " قلت: يا رسول الله؛ فما كانت صُحف موسى عليه السلام؟ قال: " كانت عِبَراً كلها؛ عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ـ أي يتعب، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل " قلت: يا رسولَ الله؛ وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك، قال:" نعم، اقرأ يا أبا ذر: {قد أفلح مَن تزكى..} الآية إلى السورة " ثم قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. قال:" أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه رأس أمرك " قلت: زدني، قال:" عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عز وجل، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض " قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال:" إياك وكثرة الضحك، فإنه يُميت القلب، ويذهب بنور الوجه "، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال:" عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي "، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال:" عليك بالصمت إلَاّ مِن خير، فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دنياك " هـ.

وعن كعب الأحبار أنه قال: قرأتُ في العشر صحف التي أنزل اللهُ على موسى عليه السلام سبعة اسطار متصلة، أول سطر منها: مَن أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على الله، الثاني: مَن كانت الدنيا أكبر همه نزع اللهُ خوف الآخرة من قلبه، الثالث: مَن شكى مصيبة نزلت به كأنما شكى الله عز وجل، الرابع: مَن تواضع لِمَلِك مِن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه، الخامس: مَن لا يبالي من أي الأبواب أتاه رزقه لم يُبال اللهُ من أي أبواب جهنم يدخله ـ يعني من حلال أو حرام، السادس: مَن أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي، والسابع: مَن جعل حاجته إلى آدمي جعل اللهُ الفقر بين عينيه. هـ.

الإشارة: فَذكِّرْ أيها العارف الدالّ على الله إن نفعت الذكرى؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك، فإن تحققتَ عدم النفع فلا تتعب نفسك في التذكير، فربما يكون بطالة، كتذكير العدو الحاسد لك، أو المعاند، أو المنهمك في حب الرياسة، فتذكير هؤلاء ضرب في حديد بارد. وينبغي للمذَكِّر أن يكون ذا سياسة وملاطفة، قال تعالى: {ادْعُ إِلِىا سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

} [النحل: 125] الخ، والحكمة: هي أن تٌقر كلَّ واحد في حكمته، وتدسه منها إلى ربه، فأهل الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد الله، وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على بَذلها، وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على الإخلاص وبذل المجهود في نشره، وأهل الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر

وهكذا، فإن رأيتَ أحداً تشوّف إلى مقام أعلى مما هو فيه فدُلّه عليه، وأهل التذكير لهم عند الله جاه كبير، فأحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله، كما في الحديث. وفي

ص: 290

حديث آخر: " إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليَّ مَن يحبني إلى عبادي، ويحبِّب عبادي إليّ، ويمشي في الأرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السلام:

{سَيذَّكَّر مَن يخشى} أي: ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله، وسبقت له العناية، ويتجنّبها الأشقى: أي: ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء. قال القشيري: الشقي: مَن يعرف شقاوته، والأشقى: مَن لا يعرف شقاوته، الذي يصلى النار الكبرى، وهي الخذلان والطرد والهجران، والنار الصغرى: تتبع الحظوظ والشهوات. هـ. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى، أي: لا تموت نفسه عن هذا، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء. قد أفلح مَن تَزَكَّى، أي: فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات، وقلبه من الغفلات والدعوات، وروحه من المساكنات إلى الغير، وسره عن الأنانية، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى، وهذا الأمر، وهو التزهيد في الدنيا، والتشويق إلى الله، في صُحف الرسل والأنبياء، قال القشيري: لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع. هـ. وقال الورتجبي: (إنَّ هذا) أي: الخروج عما سوى الله بنعت التجريد، في صحف إبراهيم، كما قال:{إِنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] والإقبال على الله، بقوله:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] الخ. وفي صحف موسى: سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات: بقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] . هـ. أي: وبقوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا} [طه: 84] . وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

ص: 291