الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ رَوَاهُ من طريق إسماعيل عن عَيَّاشٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هذا الوجه بل هو موضوع قَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عبد الرحمان عن ابن عابد أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ المقدس فذكره قال الحافظ بن عَسَاكِرَ وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَشْبَهُ. قُلْتُ وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ وَهَذَا مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْبَتُولِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قال كَذلِكِ قال رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. 19: 16- 37 ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قِصَّةِ زَكَرِيَّا الَّتِي هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا وَالتَّوْطِئَةِ قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ 21: 89- 91
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا جَعَلَتْهَا أُمُّهَا مُحَرَّرَةً تَخْدِمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ كَفَلَهَا زَوْجُ أُخْتِهَا أَوْ خَالَتِهَا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَكَرِيَّا عليه السلام وَأَنَّهُ اتَّخَذَ لَهَا مِحْرَابًا وَهُوَ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا سِوَاهُ وَأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتِ اجْتَهَدَتْ فِي الْعِبَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَظِيرُهَا فِي فُنُونِ الْعِبَادَاتِ وَظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ مَا غَبَطَهَا بِهِ زَكَرِيَّا عليه السلام وَأَنَّهَا خَاطَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ لَهَا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا وَبِأَنَّهُ سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا زَكِيًّا يَكُونُ نَبِيًّا كَرِيمًا طَاهِرًا مُكَرَّمًا مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 19: 35 فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَلِمَتْ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا فَإِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِسَبَبِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَعَقُّلٍ وَكَانَتْ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا أَوْ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا مِنَ اسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ تَحْصِيلِ غِذَاءٍ فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا قَدْ خَرَجَتْ لِبَعْضٍ شُئُونِهَا (وانْتَبَذَتْ 19: 16) أَيِ انْفَرَدَتْ وَحْدَهَا شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِذْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عليه السلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) 19: 17 فَلَمَّا رَأَتْهُ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) 19: 18. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَاسِقٌ مَشْهُورٌ بِالْفِسْقِ اسْمُهُ تَقِيٌّ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ (قَالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) 19: 19 أَيْ خَاطَبَهَا الْمَلَكُ قَائِلًا إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ ربك لَسْتُ بِبَشَرٍ وَلَكِنِّي مَلَكٌ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَيْكِ (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) 19: 19 أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) 19: 20 أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ أَوْ يُوجَدُ لِي وَلَدٌ (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) 19: 20 أَيْ وَلَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ (قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) 19: 9 أَيْ فَأَجَابَهَا الْمَلَكُ عَنْ تَعَجُّبِهَا مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَائِلًا (كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ) 19: 9 أَيْ وَعَدَ أَنَّهُ سَيَخْلُقُ مِنْكِ غُلَامًا وَلَسْتِ بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) 19: 9 أَيْ وَهَذَا سَهْلٌ عَلَيْهِ وَيَسِيرٌ لَدَيْهِ فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) 19: 21 أَيْ وَلِنَجْعَلَ خَلْقَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ (وَرَحْمَةً مِنَّا) 19: 21 أَيْ نَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته بِأَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُنَزِّهُوهُ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَقَوْلُهُ (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) 19: 21. يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ جِبْرِيلَ مَعَهَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَحَتَّمَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون قوله (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) 19: 21 كِنَايَةً عَنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ من رُوحِنا 66: 12. فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَنَزَلَتِ
النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا. وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي فَمِهَا أَوْ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا هُوَ الرُّوحُ الَّذِي وَلَجَ فِيهَا مِنْ فَمِهَا فَقَوْلُهُ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَانْسَلَكَتْ فِيهِ كَمَا قال تعالى فَنَفَخْنا فِيهِ من رُوحِنا 66: 12 يدل عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ لَا فِي فَمِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلَا فِي صَدْرِهَا كَمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَحَمَلَتْهُ 19: 22 أي حملت ولدها فَانْتَبَذَتْ به مَكاناً قَصِيًّا 19: 22 وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ عليها السلام لَمَّا حَمَلَتْ ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا وَعَلِمَتْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مِنْهُمْ كَلَامٌ فِي حَقِّهَا فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهَا لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَطِنَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَعِبَادَتِهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ فَقَالَ يَا مَرْيَمُ هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ قَالَتْ نَعَمْ فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ. ثُمَّ قَالَ فَهَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا مَطَرٍ قَالَتْ نَعَمْ فَمَنْ خَلَقَ الشَّجَرَ الْأَوَّلَ ثُمَّ قَالَ فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ قَالَتْ نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى قَالَ لَهَا فَأَخْبِرِينِي خَبَرَكِ فَقَالَتْ إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَنِي (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمن الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمن الصَّالِحِينَ) 3: 45- 46 وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ زَكَرِيَّا عليه السلام أَنَّهُ سَأَلَهَا فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَرْيَمَ دَخَلَتْ يَوْمًا عَلَى أُخْتِهَا فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى فَقَالَتْ مَرْيَمُ وَشَعَرْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ لَهَا أُمُّ يَحْيَى إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ الله) 3: 39 وَمَعْنَى السُّجُودِ هَاهُنَا الْخُضُوعُ وَالتَّعْظِيمُ كَالسُّجُودِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِلسَّلَامِ كَمَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وقال أبو الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ابْنَا خَالَةٍ وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عليه السلام لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَتْ مَرْيَمُ كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي وَكَلَّمَنِي وَإِذَا كُنْتُ بَيْنَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ وَيَضَعْنَ لِمِيقَاتِ حَمْلِهِنَّ وَوَضْعِهِنَّ إِذْ لَوْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَذُكِرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ بِهِ فَوَضَعَتْهُ قَالَ بَعْضُهُمْ حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) 19: 22- 23 وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ لِقَوْلِهِ (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) 22: 63 وَكَقَوْلِهِ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ 23: 14 وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ كُلِّ حَالَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
قال محمد بن إسحاق شاع وَاشْتَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهَا حَامِلٌ فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آل بيت زَكَرِيَّا. قَالَ وَاتَّهَمَهَا بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ بِيُوسُفَ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَارَتْ عَنْهُمْ مَرْيَمُ وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَانْتَبَذَتْ مَكَانًا قَصِيًّا وَقَوْلُهُ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ 19: 23 أَيْ فَأَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ وَهُوَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَالْبَيْهَقِيُّ باسناد وصححه عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِبَيْتِ لَحْمٍ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الرُّومِ فِيمَا بَعْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ هَذَا الْبِنَاءَ المشاهد الهائل (قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) 19: 23 فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَهَا وَلَا يُصَدِّقُونَهَا بَلْ يُكَذِّبُونَهَا حِينَ تَأْتِيهِمْ بِغُلَامٍ عَلَى يَدِهَا مَعَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُجَاوِرَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْمُنْقَطِعَاتِ إِلَيْهِ الْمُعْتَكِفَاتِ فِيهِ وَمِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالدِّيَانَةِ فَحَمَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْهَمِّ مَا تَمَنَّتْ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ أَوْ كَانَتْ نَسْياً مَنْسِيًّا 19: 23 أَيْ لَمْ تُخْلَقْ بالكلية. وقوله فَناداها من تَحْتِها 19: 24 وقرئ من تحتها عَلَى الْخَفْضِ وَفِي الْمُضْمَرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جِبْرِيلُ قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى إِلَّا بِحَضْرَةِ الْقَوْمِ وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ هُوَ ابْنُهَا عِيسَى وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَوْلُهُ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا 19: 24 قِيلَ النَّهْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ ابْنُهَا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا 19: 25 فَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَلِهَذَا قَالَ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً 19: 26. ثُمَّ قِيلَ كَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يَابِسًا وَقِيلَ كَانَتْ نَخْلَةً مُثْمِرَةً فاللَّه أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَخْلَةً لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً إِذْ ذَاكَ لِأَنَّ مِيلَادَهُ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَلَيْسَ ذَاكَ وَقْتَ ثَمَرٍ وَقَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) 19: 25. قال عمرو بن ميمون ليس شيء أجود لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الأنصاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ وليس من الشجر شيء يُلَقَّحُ غَيْرَهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تحتها
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ سَعِيدٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَسْرُورِ بْنِ سَعْدٍ. وَالصَّحِيحُ مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَلَمْ أَسْمَعَ بِذِكْرِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَرْوِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَنَاكِيرَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ يَرْوِيهَا. وَقَوْلُهُ (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) 19: 26. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا قَالَ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ من الْبَشَرِ أَحَداً) 19: 26 أَيْ فَإِنْ رَأَيْتِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ (فَقُولِي) 19: 26 لَهُ أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْإِشَارَةِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً 19: 26 أَيْ صَمْتًا وَكَانَ مِنْ صَوْمِهِمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالطَّعَامِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) 19: 26 فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ صَمْتُ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا 19: 27- 28 ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَمَّا افْتَقَدُوهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا فَمَرُّوا عَلَى مَحِلَّتِهَا وَالْأَنْوَارُ حَوْلَهَا فَلَمَّا وَاجَهُوهَا وَجَدُوا مَعَهَا وَلَدَهَا فَقَالُوا لَهَا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا 19: 27 أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا مُنْكَرًا. وَفِي هَذَا الَّذِي قَالُوهُ نَظَرٌ مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ يَنْقُضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يدل على أنها حملت بِنَفْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ قَالَ ابن عباس وذلك بعد ما تعلت مِنْ نِفَاسِهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا تَحْمِلُ مَعَهَا وَلَدَهَا قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا 19: 27 وَالْفِرْيَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ الْمُنْكَرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ. ثُمَّ قَالُوا لَهَا يَا أُخْتَ هارُونَ 19: 28 قِيلَ شَبَّهُوهَا بِعَابِدٍ مِنْ عُبَّادِ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تُسَامِيهِ فِي الْعِبَادَةِ وَكَانَ اسْمُهُ هَارُونَ وَقِيلَ شَبَّهُوهَا بِرَجُلٍ فَاجِرٍ فِي زَمَانِهِمُ اسْمُهُ هَارُونُ. قاله سعيد بن جبير وقيل أرادوا بهرون أَخَا مُوسَى شَبَّهُوهَا بِهِ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ نَسَبًا فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الدُّهُورِ الطَّوِيلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَرُدُّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ وَكَأَنَّهُ غَرَّهُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْتَ مُوسَى وَهَارُونَ ضَرَبَتْ بالدف يوم نجا اللَّهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ مُطَوَّلًا وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا وَتَحْرِيرِ أُمِّهَا لَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ سِوَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ أَبِي يذكره عن سماك عن علقمة ابن وَائِلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هارُونَ) 19: 28 وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا قَالَ فَرَجَعْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ) وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وفي رواية (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بِأَسْمَاءِ صَالِحِيهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ) وَذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كانوا يكثرون من التسمية بهرون حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ حَضَرَ بَعْضَ جَنَائِزِهِمْ بَشَرٌ كثير منهم ممن يسمى بهرون أَرْبَعُونَ أَلْفًا فاللَّه أَعْلَمُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا يا أُخْتَ هارُونَ 19: 28 وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ نَسَبِيٌّ اسْمُهُ هَارُونُ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ وَلِهَذَا قَالُوا (مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) 19: 28 أَيْ لَسْتِ مِنْ بَيْتٍ هَذَا شِيمَتُهُمْ وَلَا سَجِيَّتُهُمْ لَا أَخُوكِ وَلَا أُمُّكِ وَلَا أَبُوكِ فَاتَّهَمُوهَا بِالْفَاحِشَةِ الْعُظْمَى وَرَمَوْهَا بِالدَّاهِيَةِ الدَّهْيَاءِ فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا بِهَا زَكَرِيَّا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَلَحِقُوهُ وَقَدِ انْشَقَّتْ لَهُ الشَّجَرَةُ فَدَخَلَهَا وَأَمْسَكَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَنَشَرُوهُ فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنِ اتَّهَمَهَا بِابْنِ خَالِهَا يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ النَّجَّارِ فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَانْحَصَرَ الْمَجَالُ وَامْتَنَعَ الْمَقَالُ عَظُمَ التَّوَكُّلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ وَلَمْ يبق إلا الإخلاص والاتكال (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) 19: 29 أَيْ خَاطِبُوهُ وَكَلِّمُوهُ فَإِنَّ جَوَابَكُمْ عَلَيْهِ وَمَا تبغون من الكلام لديه. فعندها قالُوا 19: 29 مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَبَّارًا شَقِيًّا كَيْفَ نُكَلِّمُ من كانَ في الْمَهْدِ صَبِيًّا 19: 29 أي كيف تحيلينا فِي الْجَوَابِ عَلَى صَبِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَضِيعٌ فِي مَهْدِهِ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَحْضٍ وَزَبَدِهِ وَمَا هَذَا مِنْكِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِنَا وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ لَنَا وَالِازْدِرَاءِ إِذْ لَا تَرُدِّينَ عَلَيْنَا قَوْلًا نُطْقِيًّا بَلْ تُحِيلِينَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَعِنْدَهَا (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) 19: 30- 33. هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مَرْيَمَ فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله 19: 30 اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ فَنَزَّهَ جَنَابَ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ بَلْ هُوَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا بِسَبَبِهِ بقوله آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 19: 30 فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً 4: 156 وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْكِبَارِ وَلِهَذَا قَالَ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ 19: 31 وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَزَّهَ جَنَابَهُ عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 19: 31 وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبِيدِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بِالصَّلَاةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيقَةِ بِالزَّكَاةِ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى طَهَارَةِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِالْعَطِيَّةِ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْقَرَابَاتِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ. ثُمَّ قال وَبَرًّا بِوالِدَتِي
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا 19: 32 أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي وَذَلِكَ أَنَّهُ تَأَكَّدَ حَقُّهَا عَلَيْهِ لِتَمَحُّضِ جِهَتِهَا إِذْ لَا وَالِدَ لَهُ سِوَاهَا فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَبَرَأَهَا وَأَعْطَى كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا 19: 32 أَيْ لَسْتُ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا يَصْدُرُ مِنِّي قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا 19: 33. وهذه الأماكن الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليهما السلام. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّتَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ قَالَ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 19: 34- 35 كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ 3: 58- 63 وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ وَيَؤُولُ أَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ هُمْ أَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ وَهُمْ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ فَجَعَلُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَابْتِدَاءَ خَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمِّهِ مِنْ قَبْلِهِ وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُبَاهِلَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا نَكَصُوا وَامْتَنَعُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ وَعَدَلُوا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَادَعَةِ وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خبر صاحبكم ولقد علمتم أنه مالا عن قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَإِنَّهَا لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلُوهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً وَأَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ في السيرة النبويّة إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَالْمَقْصُودُ أن الله تعالى بَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ قَالَ لِرَسُولِهِ (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) 19: 34 يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ (مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 19: 35 أي لا يعجزه شيء ولا يكترثه وَلَا يَؤُودُهُ بَلْ هُوَ الْقَدِيرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 36: 82 وقوله إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ 19: 36 هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى لَهُمْ فِي الْمَهْدِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُ وإلههم وأن هذا هو السراط الْمُسْتَقِيمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ 19: 37