الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَوْم فسبّوه وشتموه ورجموه بِالْحِجَارَةِ فَفرق فيهم دَرَاهِم فَلم يرجِعوا فسل مماليكه عَلَيْهِم السيوف فَرَجَعُوا عَنهُ فَأَقَامَ بأطفيح يَوْمًا ثمَّ رَحل طَالبا للصعيد فوصل إلى إخميم فَقدم عَلَيْهِم الْأمان من النَّاصِر وَأَنه أقطعه صيهون فَقبل ذل وَرجع مُتَوَجها إلى غَزَّة فَلَمَّا وصل غَزَّة وجد هُنَاكَ نَائِب الشَّام وَغَيره فقبضوا عَلَيْهِ وسيّروه إلى مصر فَتَلقاهُمْ قَاصد النَّاصِر فقيده وأركبه بغلاً حَتَّى قدم بِهِ إلى القلعة في ذي الْقعدَة فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ عاتبه وَعدد عَلَيْهِ ذنوباً فَيُقَال أنه خنق بِحَضْرَتِهِ بِوتْر حَتَّى مَاتَ وَقيل سقَاهُ سما وَكَانَ مَوْصُوفا بِالْخَيرِ والأمانة وَالتَّعَفُّف وَكَانَ قَتله فِي شهر الْقعدَة سنة 709 وَقد كَانَ تعكست عَلَيْهِ الْأُمُور وكل مادبره عَاد عَلَيْهِ بالخذلان
حرف التَّاء الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة
(112)
تنكر نَائِب الشَّام
جلب إلى مصر وَهُوَ صَغِير فَاشْتَرَاهُ الْأَشْرَف ثمَّ صَار إلى النَّاصِر فَجعله أَمِير عشرَة قبل أَن يعْزل نَفسه ويفر إلى الكرك ثمَّ كَانَ فى صحبته بالكرك يترسل بَينه وَبَين الأفرم وَكَانَ الأقرم إِذْ ذَاك نَائِب الشَّام ففي بِبَعْض الْأَوْقَات اتهمه الأفرم بَان مَعَه كتباً إلى أُمَرَاء الشَّام ففتشه وَعرض عَلَيْهِ الْعقُوبَة فَرجع إلى النَّاصِر وشكى عَلَيْهِ مالاقاه من الإهانة فَقَالَ لَهُ إِن عدت إلى الْملك فأنت نَائِب الشَّام عوضه فَلَمَّا عَاد إلى الْملك جهزه لنيابة الشَّام في ربيع الآخر سنة 712 وَأرْسل مَعَه من ييعرفه بِمَا يحْتَاج إليه فباشر ذَلِك وَتمكن وسلك سَبِيل الْحُرْمَة والناموس الْبَالِغ وَفتح الله على
يَدَيْهِ ملطية فى سنة 715 وَذَلِكَ أَنه اسْتَأْذن السُّلْطَان في ذَلِك فَأذن لَهُ فأظهر أَنه يُرِيد التَّوَجُّه إلى مَحل آخر فَخرج وَخرجت العساكر مَعَه وَهُوَ في دست السلطنة بالعصايب والكوسات وَمَعَهُ الْقُضَاة فَلَمَّا وصل إلى حلب جرد عسكراً إلى مطلية ثمَّ توجّه في أَثَره فنازلها إلى أَن فتحهَا ورحل بأسرى وَغَنَائِم وَمَال كثير فَعظم شَأْنه وهابه الأمراء والنواب قَالَ الصفدي سَار السِّيرَة الْحَسَنَة العادلة بِحَيْثُ لم يكن لَهُ همة في مأكل وَلَا مشرب وَلَا ملبس وَلَا منكح بل فِي الفكرة فى تَأْمِين الرعايا فأمنت السبل فِي أَيَّامه ورخصت الأسعار وَلم يكن أحد في ولَايَته يتَمَكَّن من ظلم أحد وَلَو كَانَ كَافِرًا ثمَّ إن النَّاصِر بَالغ فِي تَعْظِيمه وَتقدم أمره إلى جَمِيع النواب بالبلاد الشامية أَن يكاتبوا تنكر بِجَمِيعِ مَا كَانُوا يكاتبون بِهِ السُّلْطَان وَزَاد في الترقي حَتَّى كَانَ النَّاصِر لَا يفعل شَيْئا إلا بعد مشاورته وَلم يكْتب هُوَ الى السُّلْطَان فى شئ فَيردهُ فِيهِ إلا نَادرا وَلم يتَّفق في طول ولَايَته أَنه ولي أَمِيرا وَلَا نَائِبا وَلَا قَاضِيا وَلَا وزيراً وَلَا كَاتبا إلى غير ذَلِك من جليل الْوَظَائِف وحقيرها برشوة وَلَا طلب مُكَافَأَة بل رُبمَا كَانَ يدْفع إليه المَال الجزيل لأجل ذَلِك فَيردهُ ويمقت صَاحبه وَكَانَ يتَرَدَّد إلى الْقَاهِرَة بإذن السُّلْطَان فيبالغ في إكرامه واحترامه حَتَّى قَالَ النشو مرة أن الَّذِي خص تنكر فِي سنة 733 خَاصَّة مبلغ ألف ألف وَخمسين ألف خَارِجا عَن الْخَيل والسروج وَكَانَ قد سمع الحَدِيث من عِيسَى الْمطعم وأبي بكر بن أَحْمد بن عبد الدايم وَابْن الشّحْنَة وَغَيرهم وَلما حج قَرَأَ عَلَيْهِ بعض الْمُحدثين بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة ثلاثيات البخاري وَمن مُبَالغَة السُّلْطَان فِي تَعْظِيمه أَنه روى عَنهُ الأمير سيف الدَّين أَنه قَالَ لَهُ مرة لي مُدَّة طَوِيلَة
أطلب من النَّاس شَيْئا لَا يفهمونه مني وَهُوَ أَنى لَا أقضي لأحد حَاجَة إلا على لِسَان تنكر ودعا لَهُ بطول الْعُمر قَالَ فنقلت ذَلِك إلى تنكر فَقَالَ بل أَمُوت أَنا فِي حَيَاة السُّلْطَان قَالَ فبلغت السُّلْطَان ذَلِك فَقَالَ لَا قل لَهُ أَنْت إذا عِشْت بعدي نفعتني في أولادي وأهلي وَأَنت إذا مت قبلى ايش أعمل أنامع أولادك أَكثر مِمَّا عملت مَعَهم في حياتك ولتنكر مآثر في دمشق مَسَاجِد ومدارس ورباطات وَحج في سنة 721 وَيُقَال أنه قدم الْقَاهِرَة بعد حجة فَأمر السُّلْطَان الْأُمَرَاء يهادونه وَكَانَت جملَة مَا قدم اليه ثَمَانِينَ ألف دِينَار وَكَانَ النَّاس فِي ولَايَته آمِنين على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وحريمهم وَأَوْلَادهمْ وَكَانَ يتَوَجَّه في كل سنة إلى الصَّيْد ويصيد أَيَّامًا وَكَانَ مثابراً على الْحق وَنصر الشَّرْع إلا أَنه كَانَ كثير التخيل سريع الْغَضَب شَدِيد الحدة وَلَا يقدر أحد على مُرَاجعَته مهابة لَهُ وَإِذا بَطش بَطش بطشة الجبارين وَإِذا غضب على اُحْدُ لَا يزَال ذَلِك المغضوب عَلَيْهِ فِي انعكاس وخمول إلى أَن يَمُوت غَالِبا وَكَانَ يَقُول أي لَذَّة لحَاكم إذا كَانَت رعاياه يدعونَ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ يَخْلُو ليلة من قيام وَدُعَاء وَكَانَ يعظم أهل الْعلم وإذا كَانَ عِنْده أحد مِنْهُم لم يسند ظَهره بل يقبل إليه بِوَجْهِهِ ويؤنسه بالْقَوْل وَالْفِعْل وَكَانَ سليم الْبَاطِن لَيْسَ عِنْده دهاء وَلَا مكر وَلَا يصبر على الْأَذَى لَا يداري أحداً من الأمراء وَقدم إلى مصر في سنة 738 فَخرج السُّلْطَان لملاقاته فَلَمَّا رَآهُ ترجل لَهُ فترجل جَمِيع من مَعَه من الامراء فَألْقى تنكر نَفسه من فَوق الْفرس إلى الأرض وأسرع وَهُوَ يقبل الأرض حَتَّى انكب على قدمي السُّلْطَان فقبلهما فأمسك رَأسه بِيَدِهِ وَأمره بالركوب وَقدم فِي سنة 739 فَكَانَت قيمَة تقادمه للسُّلْطَان والامراء
مائتي ألف دِينَار وَعشْرين ألف دِينَار وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامه حَتَّى أخرج لَهُ نِسَاءَهُ فقبلن يَده وَله محَاسِن مِنْهَا أَنه نظر فِي أوقاف الْمدَارِس والجوامع والمساجد والخوانق والزوايا والربط فَمنع أن يصرف لَاحَدَّ جامكية حَتَّى يلم شعثها فعمرت كلهَا في زَمَانه أحسن عمَارَة وَأمر بكسح الأوساخ الَّتِى فِي مقاسم الْمِيَاه الَّتِى تتخلل الدور وَفتح منافذها وَكَانَت انسدت فَكَانَ الوباء يحصل بِدِمَشْق كثيراً بِسَبَب العفونات فَلَمَّا صلح ذَلِك زَالَ مَا كَانَ يعتادهم كل سنة من كَثْرَة الأمراض فَكثر الدُّعَاء لَهُ وأجرى الْعين إلى بَيت الْمُقَدّس بعد أَن كَانَ المَاء بهَا قَلِيلا وَأَقَامُوا في عَملهَا سنة وَأكْثر من فكاك الأسرى وَأعظم ربح التُّجَّار الَّذين يجلبونهم وَجمع الْكلاب فألقاها في الخَنْدَق واستراح النَّاس من أذاها وَلما انْتهى حَظه وَبلغ الْغَايَة في هَذِه الدُّنْيَا أشهر فِي النَّاس أَنه عزم على التَّوَجُّه إلى بِلَاد التتار حَتَّى بلغ ذَلِك السُّلْطَان وَتغَير عَلَيْهِ وتنكر لتنكر وجهز العساكر لإمساكه مَعَ جمَاعَة من الْأُمَرَاء وَلَيْسَ عِنْده خبر فَلَمَّا بلغه الْخَبَر بوصول الْجند والأمراء لإمساكه بهت لذَلِك وَقَالَ مَا الْعَمَل قَالُوا تستسلم فاستسلم وجهز سَيْفه إلى السُّلْطَان وَذَلِكَ فِي ذي الْحجَّة سنة 740 وتأسف أهل دمشق عَلَيْهِ ثمَّ بعد الْقَبْض عَلَيْهِ أحيط بموجوده وَوجد لَهُ مَا يُجَاوز الْوَصْف فَمن الذَّهَب الْعين ثَلَاث مائَة وَثَلَاثُونَ ألف دِينَار وَمن الدَّرَاهِم ألف ألف دِرْهَم وَخمْس مائَة ألف دِرْهَم وَأما الْجَوَاهِر والحوايص والأقمشة والخيول وَنَحْو ذَلِك فشئ كثير جداً ثمَّ لما دخل الْقَاهِرَة أَمر السُّلْطَان جَمِيع المماليك والأمراء أَن يقعدوا لَهُ بالطرقات من حد بَاب القلعة وَأَن لَا يقوم لَهُ أحد وفي بعض الْأَوْقَات
قَالَ لَهُ السُّلْطَان انْظُر من يكون وصيك فَقَالَ لَهُ خدمتك ونصحتك فَلم تتْرك لي صديقاً وَأمر بتجهيزه إلى الإسكندرية فَلم يزل في الاعتقال دون شهر ثمَّ مَاتَ في أَوَائِل سنة 741 إحدى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قَالَ الذهبي في أَوَاخِر كِتَابه سير النبلاء كَانَ ذَا سطوة وهيبة وزعامة وإقدام على الدِّمَاء وَله نفس سبعية وَفِيه عتو وحرص مَعَ ديانَة فِي الْجُمْلَة وَكَانَ فِيهِ حِدة وَقلة رأفة وَكَانَ لَا يفكر فى عَاقِبَة وَلَا رأي لَهُ وَلَا دهاء إلى آخر كَلَامه وَتعقبه الْحَافِظ صَلَاح الدَّين الغلائي فَقَالَ لقد بَالغ المُصَنّف وَتجَاوز الْحَد فِي تَرْجَمَة تنكر وأين مثله وَأعْرض عَن محاسنه الطافحة من الْعدْل وقمع الظلمَة وكف الْأَذَى عَن النَّاس ومحبة إِيصَال الْحق إلى مُسْتَحقّه وتولية الوظايف أَهلهَا وحسبك أَن المُصَنّف يعْنى الذهبي كَانَ فَقِيرا فَلَمَّا خلت دَار الحَدِيث الأشرفية وتربة أم الصَّالح ولى تنكر المزي والذهبي بِغَيْر سُؤال مِنْهُمَا وَلَا ببذل لأنه أعلم بحالهما واستحقاقهما ثمَّ ولي الذهبي دَار الحَدِيث الظَّاهِرِيَّة ثمَّ النفيسية ثمَّ دَار الحَدِيث التنكرية ثمَّ قَالَ الغلائي ذَنْب تنكرانه كَانَ يحط كثيراً على ابْن تَيْمِية وفي هَذِه الإشارة كِفَايَة انْتهى وَهُوَ يُشِير بِهَذَا إلى أَن الذهبي تحيز إِلَى الْحَنَابِلَة
(113)
تيمورلنك بن طرغاي السُّلْطَان الْأَعْظَم الطاغية الْكُبْرَى
الْأَعْرَج وَهُوَ اللّنك في لغتهم كَانَ ابْتِدَاء ملكه أَنَّهَا لما انقرضت دولة بنى جنكزخان وتلاشت في جَمِيع النواحي ظهر هَذَا بتركستان وسمرقند وتغلب على ملكهم مَحْمُود بعد أَن كَانَ أتابكه وَتزَوج أمه فاستبد عَلَيْهِ وَكَانَ فى عصره أَمِير بحارى يعرف بِحسن من أكَابِر الْمغل وآخر بخوارزم يعرف بالحاج حسن الصوفي وَهُوَ من كبار التتر فنبذ إليهم
تيمور بالعهد وزحف إلى بُخَارى فملكها من يَد الْأَمِير حسن ثمَّ زحف إلى خوارزم وتحرش بهَا وَهلك الْحَاج حسن فِي خلال ذَلِك وَولى أَخُوهُ يُوسُف فملكها تيمور من يَده وخربها في حِصَار طَوِيل ثمَّ كلف بعمارتها وتشييد ماخرب مِنْهَا وانتظم لَهُ ملك مَا ورا النَّهر وَنزل إلى بُخَارى ثمَّ انْتقل إلى سَمَرْقَنْد ثمَّ زحف إلى خُرَاسَان وَطَالَ تحرشه بهَا وحروبه لصَاحِبهَا شاه ولي إلى أَن ملكهَا عَلَيْهِ سنة 784 وَنَجَا شاه ولي إلى تبريز وَبهَا أَحْمد بن أويس صَاحب الْعرَاق وأذربيجان إلى أَن زحف عَلَيْهِم تيمور سنة 788 فَهَلَك شاه ولي في حروبه عَلَيْهَا وملكها تيمور ثمَّ زحف إلى أصبهان فأطاعوه طَاعَة ممرضة وخالفه فِي قومه كَبِير من أهل نسبة يعرف بقمر الدَّين فكرّ رَاجعا وحاربه إلى أَن محى أثره واشتغل بسُلْطَان الْمغل وزاحم طقتمش مرَارًا حَتَّى أوهن أمره ثمَّ رَجَعَ إلى أصبهان سنة 794 ثمَّ زحف إلى بَغْدَاد سنة 795 ففرّ مِنْهَا أَحْمد بن أويس المتغلب عَلَيْهَا بعد بني هولاكو وَاسْتولى عَلَيْهَا تيمور ونهبها وبلغه حَرَكَة طقتمش في جَمِيع الْمغل فأحجم وَتَأَخر إلى قلاع الأكراد وأطراف بِلَاد الروم وأناخ على قراباغ وَرجع طقتمش ثمَّ سَار إليه تيمور أول سنة 799 وغلبه على ملكه وَأخرجه من سَائِر أَعماله فلحق ببلغار وَرجع سَائِلًا الْمغل الَّذين كَانُوا مَعَه إلى تيمور فأضحت أُمَم الْمغل والتتر كلهَا في جملَته وصاروا تَحت لوائه وَالْملك لله فَلَمَّا بلغه موت الظَّاهِر برقوق فَرح وَأعْطى من بشره بذلك خَمْسَة عشرَة ألف دِينَار وتهيأ للمسير إلى بِلَاد الشَّام فجَاء إلى بَغْدَاد فَأَخذهَا ثَانِيًا فإنها كَانَت استرجعت نَائِبه ثمَّ قصد سيواس في آخر سنة 802 فحاصرها مُدَّة
وَلم يَأْخُذهَا ثمَّ إلى عين تَابَ فأجفل أهل الْقرى بَين يَدَيْهِ وَأهل الْبِلَاد الحلبية وَاجْتمعَ عَسَاكِر المماليك الشامية بحلب وَوصل تيمور مرج دابق وجهز رَسُولا إلى حلب فَأمر سدون نَائِب حلب بقتْله ثمَّ نزل في يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول سنة 803 على حلب ونازلها وحاصرها فَخرج النواب بالعسكر إلى ظَاهرهَا من جِهَة الشمَال وتقاتلوا يَوْم الْخَمِيس وَيَوْم الْجُمُعَة فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت حادي عشر الشَّهْر ركب تيمور فِي جمع وحشدوا الفيلة تقاد بَين يَدَيْهِ وهى فى مَا قيل ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ وَكَانَ مَعَه جمع لَا يُحْصِيه إلا الله من ترك وتركمان وعجم وأكراد وتتار وزحف على حلب فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ من بَين أَيْديهم وَجعلُوا يلقون أنفسهم من الأسوار والخنادق والتتار في أَثَرهم يَقْتُلُونَهُمْ ويأسرونهم إلى أَن دخلُوا حلب عنْوَة بِالسَّيْفِ فلجأت النِّسَاء والأطفال إلى الْجَوَامِع والمساجد فَلم يفد ذَلِك شَيْئا وَاسْتمرّ الْقَتْل والأسر فِي أهل حلب فَقتلُوا الرِّجَال وَسبوا النِّسَاء والأطفال وَقتل خلق كثير من الْأَطْفَال تَحت حوافر الْخَيل وعَلى الطرقات وأحرقوا الْمَدِينَة ثمَّ في يَوْم الثُّلَاثَاء تسلّم قلعتها بالأمان وَصعد إليها فِي الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ وَجلسَ فِي أَبْوَابهَا وَطلب الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء للسلام عَلَيْهِ فامتثلوا أمره وجاؤا إليه لَيْلَة الْخَمِيس فَلم يكرمهم وَجعل يتعنتهم بالسؤال وَكَانَ اخر ماسألهم عَنهُ أن قَالَ مَا تَقولُونَ في مُعَاوِيَة وَيزِيد هَل يجوز لعنهما أم لَا وَعَن قتال علي وَمُعَاوِيَة فَأَجَابَهُ القاضي علم الدَّين القفصي المالكي بَان علياً اجْتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَمُعَاوِيَة اجْتهد فأحطأ فَلهُ أجر فتغيظ من ذَلِك ثمَّ أجَاب الشرف أَبُو البركات الأنصاري الشافعي بَان مُعَاوِيَة لَا يجوز لَعنه لِأَنَّهُ صحابي فَقَالَ تيمور مَا حد الصحابي فَأجَاب
القاضي شرف الدَّين أَنه كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ تيمور فاليهود وَالنَّصَارَى رَأَوْا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَأجَاب بَان ذَلِك بِشَرْط كَون الرائي مُسلما وَأجَاب القاضي شرف الدَّين الْمَذْكُور أَنه رأى فِي حَاشِيَة على بعض الْكتب أَنه يجوز لعن يزِيد فتغيظ لذَلِك وَلَا عتب عَلَيْهِ إذا تغيّظ فالتعويل فِي مثل هَذَا الْموقف الْعَظِيم في مناظرة هَذَا الطاغية الْكَبِير فِي ذَلِك الامر الَّذِي مَا زَالَت الْمُرَاجَعَة بِهِ بَين أهل الْعلم فِي قديم الزَّمَان وَحَدِيثه على حَاشِيَة وجدهَا على بعض الْكتب مِمَّا يُوجب الغيظ سَوَاء كَانَ محقاً أَو مُبْطلًا وَقد سألهم في هَذَا الْموقف أَو فى موقف اخر بمسئلة عَجِيبَة فَقَالَ مَا مضمونه أنه قد قتل منا ومنكم من قتل فَمن في الْجنَّة وَمن في النَّار هَل قَتْلَانَا أَو قَتْلَاكُمْ فَقَالَ بعض الْعلمَاء الْحَاضِرين وَهُوَ ابْن الشّحْنَة كَمَا سيأتي إِن شَاءَ الله هَذَا سُؤال قد سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله فاستنكر تيمور ذَلِك وَقَالَ كَيفَ قلت قَالَ ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن قَائِلا قَالَ لرَسُول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَا رَسُول الله الرجل يُقَاتل حمية وَقَاتل شجاعة وَيُقَاتل ليرى مَوْضِعه فَقَالَ من قَاتل لتَكون كلمة الله هي الْعليا فَهُوَ في الْجنَّة أَو كَمَا قَالَ فَلَمَّا سمع تيمور هَذَا الْجَواب أعجبه وأطربه وَللَّه در هَذَا الْمُجيب فَلَقَد وَفقه الله في هَذَا الْجَواب وَهَكَذَا فلتكن جوابات الْعلمَاء لَا كَمَا قَالَه القاضي شرف الدَّين أنه رأى فِي حَاشِيَة ثمَّ إن تيمور توجه إلى قاعة السُّلْطَان الكائنة بقلعة حلب وَأمر بِطَلَب دَرَاهِم مِمَّن بالقلعة من الحلبيين فَكتب أَسمَاء النَّاس وَقبض عَلَيْهِم وعوقبوا بانواع من الغذاب بِحَيْثُ لم يسلم من الْعقُوبَة إلا الْقَلِيل ونهبوا القلعة وَأخذُوا من الأموال والأقمشة
مَا أذهل التتار وَلم يظفروا فِي مملكة بِمثلِهِ ثمَّ رَحل يَوْم السبت مستهل ربيع الآخر إلى جِهَة دمشق وَترك بحلب طَائِفَة من التتار بالقلعة وبالمدينة فوصل إلى دمشق وَقد كَانَ وصل اليها النَّاصِر فرج بعساكر الديار المصرية لدفع التتار وَحصل بَينهم قتال أياماً ثمَّ إنه وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْعَسْكَر المصري وداخلهم الفشل فانكسروا وولوا رَاجِعين إلى جِهَة مصر واقتفى التتار آثارهم يسلبون من قدرُوا عَلَيْهِ أَو لحقوه وَرجع السُّلْطَان إلى مصر فَأخذ تيمور دمشق وَفعل بِأَهْلِهَا أعظم من فعله بحلب فقصد من بالقلعة أَن يمتنعوا مِنْهُ فَأمر بالأخشاب وَالتُّرَاب وَالْحِجَارَة وَبنى برجين قبالة القلعة فأذعنوا حِينَئِذٍ ونزلوا فتسلمها وَنهب الْمَدِينَة وخربها خراباً فَاحِشا لم يسمع بِمثلِهِ وَلم يصل التتار أَيَّام هولاكو إلى قريب مِمَّا فعل بهَا التتار أَيَّام تيمور وَاسْتمرّ بِدِمَشْق إلى شعْبَان ثمَّ رَجَعَ إلى نَاحيَة حلب قَاصِدا بِلَاده وَلما وصل الى بِلَاده اسْتَقر إلى السنة الثَّانِيَة ثمَّ قصد بِلَاد الروم فَجمع سلطانها بايزيد عسكره وَتقدم كل من الْفَرِيقَيْنِ إلى الآخر فحصلت مَقْتَله عَظِيمَة انْكَسَرَ فِيهَا صَاحب الروم وَأسر وتفرق شَمل عسكره فَأخذ تيمور مايلى أَطْرَاف الشَّام من بِلَادهمْ وأخذ برصا وهي كرسي مملكة الروم ثمَّ رَجَعَ إلى بِلَاده وَمَعَهُ أَبُو يزِيد صَاحب الروم معتقلاً فتوفي في اعتقاله من تِلْكَ السنة ثمَّ دخل تيمور بِلَاد الْهِنْد ونازل مملكة الْمُسلمين حَتَّى غلب عَلَيْهَا وَالْحَاصِل أَنه دوّخ الممالك وَاسْتولى على غَالب الْبِلَاد الإسلامية بل والعجم وَجَمِيع ماوراء النَّهر وَالشَّام وَالْعراق وَالروم والهند ومابين هَذِه الممالك وَمن أحب الِاطِّلَاع على ماوقع لَهُ من الْمَلَاحِم وَكَيف صنع بالبلاد والعباد فَعَلَيهِ بِالْكتاب والمؤلف فِي سيرته وَهُوَ مُجَلد لطيف
وَقد قدمنَا الإشارة إليه عِنْد تَرْجَمَة مُؤَلفه ابْن عرب شاه وَقد وصف فِيهِ من عجائب تيمور وغرائبه مَا ينبهر لَهُ كل من وقف عَلَيْهِ وَيعرف مِقْدَار هَذَا الْملك الَّذِي لم يَأْتِ قبله وَلَا بعده مثله فان جنكزخان ملك التتار وإن كَانَ قد أهلك من الْعباد والبلاد زِيَادَة على مَا أهلك هَذَا الا ان ذَاك لم يُبَاشر مابا شَره هَذَا وَلَا بعضه وَلَا كَانَ جَمِيع مافعله في حَيَاته بل الْغَالِب بعد مَوته في سلطنة أَوْلَاده وأحفاده وَأما هَذَا الطاغية فَهُوَ الْمُبَاشر لكل فتوحاته الْمُدبر لجَمِيع معاركه وَلَقَد كَانَ من أَعَاجِيب الزَّمن في حركاته وسكناته وَكَانَ شَيخا طَويلا مهولاً طَوِيل اللِّحْيَة حسن الْوَجْه أعرج شَدِيد العرج سلبت رجله أَوَائِل أمره وَمَعَ ذَلِك يصلى من قيام مهاباً بطلاً شجاعاً جباراً ظلوماً سفاكاً للدماء مقداماً على ذَلِك أفنى فِي مُدَّة سلطنته من الْأُمَم مَالا يحصيهم الا الله وَخرب بلدانا كَثِيرَة تفوت الْحصْر وَكَانَ جهير الصَّوْت يسْلك الْجد مَعَ الْقَرِيب والبعيد وَلَا يحب المزاح وَيُحب الشطرنج وَله فِيهِ يَد طولى ومهارة زَائِدَة وَزَاد فِيهِ جملاً وبغلاً وَجعل رقعته عشرَة في أحد عشر بِحَيْثُ لم يكن يلاعبه فِيهِ إلا أَفْرَاد وَيقرب الْعلمَاء والصلحاء والشجعان والأشراف وينزلهم مَنَازِلهمْ وَلَكِن من خَالف أمره أدنى مُخَالفَة استباح دَمه فَكَانَت هيبته لَا تدانى بِهَذَا السَّبَب وَمَا أخرب الْبِلَاد إلا بذلك فإنه كَانَ من أطاعه من أول وهلة أَمن وَمن خَالفه أدنى مُخَالفَة هلك وَله فكر صائب ومكايد في الْحَرْب عَجِيبَة وفراسة قلّ أَن تخطأ وَمَعْرِفَة بالتواريخ لإدمانه على سماعهَا وَعدم خلو مَجْلِسه عَن قِرَاءَة شئ مِنْهَا سفراً وحضراً وَكَانَ مغرى بِمن لَهُ معرفَة بصناعة مَا إِذا كَانَ حاذقاً فِيهَا مَعَ كَونه أميالا يحسن الْكِتَابَة وَلَا الْقِرَاءَة وَله حذق باللغة
الفارسية والتركية والمغلية ويعتمد قَوَاعِد جنكزخان ويجعلها أصلاً وَلذَلِك أفنى الْعَالم مَعَ تظهره بالإسلام وشعائره وَكَانَ لَهُ جواسيس في جَمِيع الْبِلَاد الَّتِى ملكهَا والتي لم يملكهَا فَكَانُوا ينهون إليه الْحَوَادِث الكائنة على جليتها ويكاتبونه بِجَمِيعِ مَا يروم فَلَا يتَوَجَّه إِلَى جِهَة إلا وَهُوَ على بَصِيرَة من أَهلهَا وَبلغ من دهائه أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ قصد جِهَة جمع أكَابِر الدولة وَتَشَاوَرُوا إلى أَن يَقع الرأي على التَّوَجُّه في الْوَقْت الفلاني إِلَى الْجِهَة الْفُلَانِيَّة فيكاتب جواسيس تِلْكَ الْجِهَات أَهلهَا فَيَأْخُذُونَ الحذر ويأمن غَيرهم فإذا ضرب النفير وَأَصْبحُوا سائرين ذَات الشمَال عرّج بهم ذَات الْيَمين فيدهم الْجِهَة الَّتِى يُرِيد وَأَهْلهَا غافلون مَاتَ وَهُوَ مُتَوَجّه لأخذ بِلَاد الخطا بِسَبَب ثلوج تنزلت مَعَ شدَّة برد وَكَانَ لَا يُسَافر فِي أَيَّام الشتَاء فَلَمَّا أَرَادَ الله هَلَاكه قوي عزمه على هَذَا السفر وَكَانَ مَوته يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر شهر شعْبَان سنة 807 سبع وثمان مائَة وَلم يكن مَعَه من بنيه وأحفاده سوى حفيده خَلِيل بن ميران شاه بن تيمور فاتفق رَأْيهمْ على اسْتِقْرَار خَلِيل الْمَذْكُور فِي السلطنة مَعَ كَون أَبِيه وَعَمه موجودين وبذل لَهُم أَمْوَالًا عَظِيمَة وَرجع إِلَى بِلَاده سَمَرْقَنْد فإنها كَانَت كرسي مملكة تيمور فَلَمَّا قرب مِنْهَا تَلقاهُ من بهَا وَعَلَيْهِم ثِيَاب الْحداد وهم يَبْكُونَ وجثة تيمور في تَابُوت أبنوس وَجَمِيع الْمُلُوك والأمراء مشَاة مكشوفة رُؤْسهمْ وَعَلَيْهِم ثِيَاب الْحداد حَتَّى دفنوه وَأَقَامُوا عَلَيْهِ العزاء أَيَّامًا قَالَ السخاوي وَلَعَلَّه قَارب الثَّمَانِينَ فإنه قَالَ للقاضي شرف الدَّين الأنصاري وَغَيره كم سنكم فَقَالَ لَهُ الشرف سني الْآن سبع وَخَمْسُونَ سنة وَأجَاب غَيره بِنَحْوِ ذَلِك فَقَالَ أَنا أصلح أَن أكون والدكم وَكَانَت لَهُ همة عَظِيمَة