الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّبَبِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَتْ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
4616 -
حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ قَالُوا: مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ قَالُوا: عَصَاهُ وَيَدُهُ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوَا النَّصَارَى فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى فِيكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهُ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَتَوَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا بِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ، فَلْيَتَفَكَّرُوا فِيهَا "
⦗ص: 31⦘
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانَ مِنْ سُؤَالِ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوَ اللهَ عز وجل أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَدُعَاؤُهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللهَ تبارك وتعالى أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ
4617 -
مَا قَدْ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ عِمْرَانَ السُّلَمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَإِنْ أَصْبَحَ ذَهَبًا اتَّبَعْنَاكَ، فَدَعَا رَبَّهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمْ ذَهَبًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَهُ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا أَلِيمًا لَمْ أُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ قَالَ:" بَلْ يَا رَبِّ التَّوْبَةَ وَالرَّحْمَةَ "
⦗ص: 32⦘
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْيِيرُ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللهِ سبحانه وتعالى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاخْتِيَارُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمَا مَا ذُكِرَ فِي اخْتِيَارِهِ مِنْهُمَا فَعَقَلْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا اخْتَارَهُ مِنْ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا، هُوَ كَرَاهِيَةُ أَنْ يَخْتَارَ السَّبَبَ الْآخَرَ مِنْهُمَا، فَتَكْفُرُ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُصِيبُهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي أَوْعَدَهُمُ اللهُ بِهِ، إِنْ فَعَلَ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَهُ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمُ الْآيَاتِ الَّتِي كَانُوا سَأَلُوهَا مِنْهُ، وَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لَهُمُ الْمَعْنَى الْآخَرَ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَهُمَا؛ نَظَرًا لَهُمْ وَرَأْفَةً
⦗ص: 33⦘
بِهِمْ، وَاخْتِيَارًا لَهُمْ، خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ، احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ، وَتَنْبِيهًا لَهُمْ، وَإِعْلَامًا مِنْهُ إِيَّاهُمْ أَنَّ مَعَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ عز وجل مَا هُوَ أَكْبَرُ مِمَّا سَأَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَدَلُّ عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مَعَهُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالتَّصْدِيقَ لِرَسُولِهِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَمِنِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، الَّذِي يَرَوْنَهُ مُنْذُ خَلَقَهُمْ، وَيَرَاهُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا قَامَتِ الْحُجَّةُ لَهُ عز وجل، لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ مَا ذَكَرْنَا غَنُوا بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، مِمَّا هُوَ دُونَهُ، لَا سِيَّمَا مَا لَوْ جَاءَهُمْ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعَقِبِهِ تَلَاهُ هَلَاكُهُمْ، كَمَا قَدْ كَانَ مِنْهُ عز وجل فِي أَمْثَالِهِمْ لَمَّا سَأَلُوا أَنْ يَرَوْا مَا أُرُوا، فَلَمْ يَرْعَوُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَصَابَهُمْ مِنْ عَذَابِهِ مَا أَصَابَهُمْ بِهِ، وَعَاجَلَهُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ بِمَا عَاجَلَهُمْ بِهِ، حَتَّى لَا يُرَى لَهُمْ بَاقِيَةٌ
4618 -
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيُّ ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ:" دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنهم وَهِيَ فِي خِدْرِهَا، فَقَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَالَتْ: يَا عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ، أَنْتَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعُونَا مِنْ بَاطِلِكُمْ هَذَا، حَدِّثِينَا بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتِ مِنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ كَانَ عَجَبًا، أَتَانِي ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ دَخَلْتُ فِرَاشِي، فَدَخَلَ مَعِي حَتَّى لَصَقَ جِلْدَهُ بِجِلْدِي، ثُمَّ قَالَ: " يَا عَائِشَةُ ائْذَنِي لِي أَتَعَبَّدْ لِرَبِّي عز وجل " قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ هَوَاكَ،
⦗ص: 34⦘
قَالَتْ: فَقَامَ إِلَى قِرْبَةٍ فِي الْبَيْتِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ دُمُوعَهُ بَلَغَتْ حُبْوَتَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَدَعَا وَبَكَىَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ دُمُوعَهُ بَلَغَتْ حُجْزَتَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ، وَجَعَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ دُمُوعَهُ قَدْ بَلَغَتِ الْأَرْضَ، ثُمَّ جَاءَهُ بِلَالٌ بَعْدَمَا أَذِنَ، فَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الْآيَةَ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا، ثُمَّ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا، وَيْحَكَ يَا بِلَالُ أَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا "
⦗ص: 35⦘
وَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنْزَالُ اللهِ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا عِنْدَ عَائِشَةَ، وَكَانَ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل مَا كَانَ، وَإِخْبَارُهُ عَائِشَةَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِعْلَامُهُ إِيَّاهَا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا فَوَيْلٌ لَهُ ، فَقَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا بِخِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَيْتَهُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِنْزَالَ اللهِ تَعَالَى كَانَ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَسُولِهِ لِلسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها هَذَا إِنْزَالُهُ إِيَّاهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ مِنْ صَلَاتِهِ وَرِقَّةِ قَلْبِهِ عِنْدَهَا فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلَا تَضَادَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ ذِكْرُ سُؤَالِ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا ذُكِرَ مِنْ سُؤَالِهَا إِيَّاهُ فِيهِ وَتَخْيِيرِ اللهِ عز وجل إِيَّاهُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَاخْتِيَارِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَائِلِيهِ مَا هُوَ فِي الْعَاقِبَةِ أَحْمَدُ، وَمَآلُهُمْ فِيهِ السَّبَبُ الَّذِي يَكُونُ إِيصَالًا لَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ،
⦗ص: 36⦘
وَفَوْزًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَكَانَ إِنْزَالُ اللهِ عز وجل الْآيَةَ الَّتِي أَقَامَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِيهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَجْلِهِ نُزُولُهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقَدَّمَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَعَادَ بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ جَمِيعُ الْآثَارِ الَّتِي رُوِّينَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى انْتِفَاءِ التَّضَادِّ لَهَا، وَالِاخْتِلَافِ عَنْهَا، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ