الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: " مَنْ قَتَلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدِهِ
"
4900 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا وَرِمِّيَّا يَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَجَرٍ أَوْ بِسَوْطٍ أَوْ بِعَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَأٍ، وَمَنْ قَتَلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدِهِ، وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَطَعَنَ طَاعِنٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرٍو مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، وَهُوَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَذَكَرَ
⦗ص: 416⦘
مَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنْ طَاوُوسٍ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عز وجل وَعَوْنِهِ: أَنَّ سُفْيَانَ قَدْ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ هَكَذَا بِأخِرَةٍ، وَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا حَدَّثَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَلَوِ اخْتَلَفَا، لَكَانَ سُلَيْمَانُ مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ، ثَبْتًا فِيهَا، مِمَّا لَوْ رَوَى حَدِيثًا، فَتَفَرَّدَ بِهِ، لَكَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِيمَا زَادَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي حَدِيثٍ مَقْبُولَةً زِيَادَتُهُ فِيهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَأَمَّلْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ:" فَقَوَدُ يَدِهِ " فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ كَذَلِكَ الْقَوَدُ لَا مَا سِوَاهُ قَالَ قَائِلٌ: فَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَعْنَى خِلَافَ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَذَكَرَ مَا قَدْ
4901 -
حَدَّثَنَا بَكَّارٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عز وجل عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ
⦗ص: 417⦘
قَتَلَتْ هُذَيْلٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:" مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يُودَى "
4902 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ
⦗ص: 418⦘
فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيهِ ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْتُهُ قَبْلَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْقَوْدُ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ، فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عز وجل وَعَوْنِهِ: أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ كَمَا تُوُهِّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرَ الْوَاجِبِ، وَأَنَّهُ الْقَوَدُ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رُوِّينَاهُ بَعْدَهُ: أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَقْتُلَ، وَهُوَ الْقَوَدُ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَلِكَ عِنْدَنَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - عَلَى أَدَاءِ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، وَقَبُولِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ إِيَّاهَا مِنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الصُّلْحِ مِنَ الدَّمِ عَلَى الدِّيَةِ الَّتِي أُدِّيَتْ إِلَيْهِ ، فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَقَدْ رَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتَ، وَذَكَرَ مَا قَدْ
4903 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْكَعْبِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ
⦗ص: 419⦘
يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " أَلَا إِنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَإِنِّي عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا " قَالَ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخْذُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِلِ، لَا تَبْيِينُ أَنَّ ذَلِكَ بِإِدَامَتِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عز وجل وَعَوْنِهِ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِخِلَافٍ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رُوِّينَاهُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَدَاءً
⦗ص: 420⦘
مِنَ الْقَاتِلِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَخْذُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مِنَ الْقَاتِلِ، فَتَصْحِيحُهُمَا عَلَى أَدَاءٍ مِنَ الْقَاتِلِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْذٍ مِنَ الْوَلِيِّ لِذَلِكَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا فَقَائِلُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَصَحَّحْنَا عَلَيْهِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ جَمِيعًا، وَقَائِلُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَأْخُذُوا الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِلِ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِمَا تَأَوَّلَ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالُوا: عَلَى الْقَاتِلِ اسْتِحْيَاءُ نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَ فَكَانَ جَوَابُنَا لِمَنِ احْتَجَّ بِذَلِكَ: أَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ اسْتِحْيَاءَ نَفْسِهِ كَمَا ذَكَرَ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا بِالدِّيَةِ، وَبِمَا سِوَاهَا مِمَّا يَمْلِكُ، حَتَّى يَعُودَ بِذَلِكَ حَاقِنًا لِدَمِهِ، وَأَجْمَعُوا جَمِيعًا: أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ لَوْ طَلَبَ مِنَ الْقَاتِلِ دَارَهُ أَوْ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَرْفَعَ الْقَوَدَ عَنْهُ أَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَيْهِ إِنْ أَبَاهُ فَكَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُجْبَرًا عَلَى اسْتِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِهِ، وَلَا مَأْخُوذًا مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ ، فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَلِمَ احْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدَ لَا مَا سِوَاهُ، وَكَانَ الْقَوَدُ وَاجِبًا عَلَى الْقَاتِلِ لَيْسَ لِأَحَدٍ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْهُ، فَخَفَّفَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ فِي ذَلِكَ
كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْقِصَاصُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ دِيَةٌ، فَقَالَ اللهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فَالْعَفْوُ فِي أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 178] ، مِمَّا كَانَ كُتِبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ " فَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِخْبَارًا مِنْهُ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِمَا خَطَبَ بِهِ مِنْ إِبَاحَةِ أَخْذِ الدِّيَةِ فِي الدَّمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى مَنْ قَبْلَ أُمَّتِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِمْ، وَجَعَلَهُ اللهُ عز وجل مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَمِمَّا قَدْ تَعَبَّدَ أُمَّتَهُ بِهِ، فَخَطَبَ بِهِ عَلَى النَّاسِ لِيَعْلَمُوهُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، فَخَالَفَ ابْنَ
⦗ص: 422⦘
عُيَيْنَةَ فِي إِسْنَادِهِ، وَقَصَّرَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ
كَمَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ: كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَأَرْخَصَ لَكُمْ فِي الدِّيَةِ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 178] : قَالَ: مِمَّا كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا عَادَ إِلَى الرُّخْصَةِ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا مِمَّنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ " وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَدَلِيلٌ، وَأَنْ لَا تَضَادَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ
بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ قَوْلِ اللهِ عز وجل فِي آيَةِ الْقِصَاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] ، فَأَعْلَمَنَا اللهُ عز وجل أَنَّ الَّذِي كُتِبَ مِمَّا مَعْنَاهُ فَرْضٌ فِي قَتْلَانَا، فَأَمِنَ عُقُوبَةَ قَاتِلِيهِمْ، هُوَ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ ذِكْرٍ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهُ فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي قَتْلِهِ الَّذِي قَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقِصَاصُ لَا مَا سِوَاهُ، ثُمَّ أَعْقَبَ عز وجل ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ: أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَفْوِ الْمَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَارِئٌ عَلَى الْقِصَاصِ الْمَذْكُورِ وُجُوبُهُ فِيهَا وَمُغَيِّرٌ لَحِقِّ الْقَاتِلِ الَّذِي كَانَ لَهُ مِنَ الْقِصَاصِ إِلَى مَا سِوَاهُ مِمَّا يَتَّبِعُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ،
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الْعَفْوِ، مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ، مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ فِي مُتَّبِعِيهِمْ: إِنَّهُ أَنْ يَعْفُوَ الَّذِي لَهُ الدَّمُ عَنِ الَّذِي هُوَ لَهُ عَلَيْهِ عَلَى شَيْءٌ يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْقِصَاصِ، فَيَتَّبِعُهُ بِهِ بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْقَاتِلَ لَوْ أَبَى ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ لِلَّذِي لَهُ الدَّمَ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي هُوَ لَهُ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ، شَاءَ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَبِي، وَقَالَ آخَرُونَ سِوَاهُ: إِنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ أَنَّهَا تُوجِبُ لَهُ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَيَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ اللهَ عز وجل قَدْ أَوْجَبَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ الدِّيَةَ، وَأَوْجَبَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنَ الدِّيَةِ وَهُوَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ أَغْلَظُ مِنَ الدِّيَةِ، فَاخْتَارَ الَّذِي لَهُ الدَّمُ رَدَّ الْأَغْلَظِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِقَتْلِهِ إِلَى الْأَيْسَرِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ لَهُ لَوْ كَانَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ أَيْسَرَ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي يُوجِبُ لَهُ الْقِصَاصَ، كَانَ قَدْ نَزَلَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبِ لَهُ إِلَى مَا دُونَهُ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْقِصَاصُ شَاءَ الْقَاتِلُ أَوْ أَبَى وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْعَفْوَ مِنَ الَّذِي قَالَ لَهُ الْقِصَاصُ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَهُ عَلَى الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، شَاءَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ أَبَى، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ الْأُولَى بِالشَّافِعِيِّ بِعَقَبِ حِكَايَتِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الدَّمَ الْعَمْدَ لَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَالُ إِلَّا
بِمَشِيئَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ حَيًّا، وَبِمَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا لَا نَعْلَمُ فِي تَأْوِيلِ الْعَفْوَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلًا غَيْرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَتَأَمَّلْنَاهَا لِنَقِفَ عَلَى الْأَوْلَى مِنْهَا بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَبَدَأْنَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ اسْتَحَقَّ الدِّيَةَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ، طَالِبٌ لِبَقِيَّتِهِ فَوَجَدْنَا مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ اللهَ عز وجل أَوْجَبَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ غَيْرَ الَّذِي أَوْجَبَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَلَمْ يَجْعَلْ وَاحِدًا مِنْهُمَا جَزَاءً مِنَ الْآخَرِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، عَقَلْنَا: أَنَّ مَنَ نَزَلَ عَنِ الْمَجْعُولِ لَهُ مِنْهُمَا، فَقَدْ نَزَلَ عَنِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِبْهُ لَهُ، فَكَانَ مَعْقُولًا: أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا بِرِضَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ عز وجل لَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِنُزُولِهِ عَنْ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عز وجل لَهُ مِنَ الْقِصَاصِ يُوجِبُ لَهُ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، لَوَجَبَتْ لَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْعَاقِلَةُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وُجُوبُ بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ ثَنَّيْنَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَفْوَ يُوجِبُ لَهُ الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ شَاءَ أَوْ أَبَى، فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا قَدْ دَفَعَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا فِي حَدِيثِ ذِي النِّسْعَةِ مِنْ قَوْلِهِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ:" اعْفُ عَنْهُ " يَعْنِي قَاتِلَ وَلِيِّهِ فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ:" فَخُذْ أَرْشًا " فَعَقَلْنَا بِذَلِكَ: أَنَّ عَفْوَهُ لَا أَرْشَ مَعَهُ لَوْ عَفَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ لَمَّا أَبَاهُ: " فَخُذْ أَرْشًا "
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا فِي ذَلِكَ مَا قَدْ
4904 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ بِخَبْلٍ يَعْنِي بِالْخَبْلِ الْجِرَاحَ فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: بَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ، أَوْ يَقْتَصَّ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَبَى الرَّابِعَةَ، فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنْ قَبِلَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، ثُمَّ عَدَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَهُ النَّارُ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا "
4905 -
وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ يَعْنِي ابْنَ الْعَوَّامِ ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَهُ
⦗ص: 427⦘
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتَصَّ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَكَانَ مَعْقُولًا فِي ذَلِكَ أَنَّ عَفْوَهُ لَا أَخْذَ دِيَةٍ مَعَهُ، كَمَا أَخْذُهُ الدِّيَةَ لَا عَفْوَ مَعَهُ، فَفَسَدَ بِذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا ثُمَّ ثَلَّثْنَا بِمَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ مِنْ إِيجَابِهِ لِلْوَلِيِّ أَخْذَ الدِّيَةِ مِنَ الْقَاتِلِ شَاءَ أَوْ أَبَى، بَعْدَ وُقُوفِنَا عَلَى مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلَوْنَا، وَهِيَ أَنَّ اللهَ عز وجل إِنَّمَا كَتَبَ عَلَيْنَا فِي قَتْلَانَا الْقِصَاصَ لَا مَا سِوَاهُ، وَكَانَ مَعْقُولًا أَنْ لَا يَتَحَوَّلَ الْحَقُّ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَهُ إِلَى مَا سِوَاهُ إِلَّا بِرِضَا مَنْ يَتَحَوَّلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَفَسَدَ بِذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا وَلَمْ يَبْقَ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ عَنِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَأَنْ لَا يَتَحَوَّلَ إِلَى مَا سِوَاهُ إِلَّا بِرِضَا الْقَاتِلِ، وَمَنْ لَهُ الدَّمُ جَمِيعًا بِذَلِكَ، وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ